تأليف : امل شانوحة
الحرب العبثيّة
في جنوب لبنان ، مساءً .. سمعت زوجها يصرخ في مكتبه غاضباً!
وعندما دخلت ، رأته يشتم بصوتٍ شبه مسموع :
- الملاعين تخلّوا عني ! وطالما أحرقوا ورقتي ، فسيقتلونني حتماً
- ماذا حصل ؟
- لابد ان اهرب ، وبأسرع وقتٍ ممكن
وخرج باتجاه غرفة النوم .. وهناك أخرج حقيبة من الخزانة ، وبدأ بحزم ثيابه.. واضعاً رزمة من الدولارات في حقيبته اليدويّة
زوجته بقلق : ماذا تفعل ؟!
- سأهرب للعراق قبل ان يقتلني الحزب او اسرائيل
- انت من اعضاء الحزب المُهمّين ، ولك الحق ان تخاف من اسرائيل بظلّ الحرب الراهنة.. لكن لماذا انت خائف من الحزب ؟!
الزوج بعصبيّة : لأني عميلٌ مزدوّج ، هل فهمتِ الآن ؟!!
بصدمة : أتقصد .. خائن ؟!
- ولما تقولينها باشمئزاز ؟
الزوجة : لأنه من السّفالة ان تخون بلدك لأجل اسرائيل ! ..رجاءً لا تقلّ انك تسبّبت في مقتل قادة الحزب والمقاومين ؟
الزوج : وهل تظني انني العميل الوحيد بالبلد ؟ ثم انت لم تعترضي حينما اشتريت هذه الفيّلا ، وملأت خزنتك بالذهب والمجوهرات ، لم تسأليني وقتها من اين أحضرت كل هذا المال !!
- ولوّ كنت سألتك ، هل ستجيبني ؟ لطالما منعتني من التدخل بعملك.. ولوّ علمت انه مالٌ حرام لكنت ..
مقاطعاً بتهكّم :
- وكأن الأمر متوقفاً على المال ، ألا أُعتبر ضالّاً حسب ديانة اهلك ؟
الزوجة : أهذا ذنبي لأني تزوّجتك رغماً عنهم ، وبسببك قاطعوني سنتيّن.. حتى انهم لم يروا ابني حتى الآن !
- أتدرين عزيزتي ، امي معها حقّ .. كان عليّ الزواج من طائفتي ، لا من طائفة اعدائي
الزوجة بدهشة : الآن اصبحت عدوّةً لك !
الزوج بضيق : إسمعيني جيداً !! لا وقت لديّ للجدال ، فحياتي بخطر ..وعليّ السفر برّاً من طرقٍ غير شرعيّة للوصول للعراق ، قبل ان يقتلني الحزب او تتخلّص مني اسرائيل بعد انكشاف أمري
- وماذا عني وعن ابنك ؟!
الزوج : الم ينتقل اهلك للشام مع بداية الحرب ؟ إذهبي اليهم
- لا اظنهم يستقبلونني ! على الأقل خذّ ابنك معك
- هل انت غبيّة ؟!! سأذهب برّاً لمسافةٍ طويلة ، فهل سأفضح نفسي بصراخ ابنك الرضيع ؟!
الزوجة بحنف : أفهم من هذا إنك ستتخلّى عن طفلك ؟!!
- هذا ان كان ابني اصلاً
فصفعته بقوة :
- انتم من لديكم المتعة وليس نحن ، ايها الحقير !!
الزوج بحزم : إلتزمي حدودك !! يكفي انني تركت لك رزمة من الدولارات في الخزنة.. ووصّيت حارسي الشخصيّ الإهتمام بكما ، فهو سوري الجنسيّة ويمكنه إيصالك الى اهلك بسلام
وهنا رن هاتفه ..
الزوج : ((نعم نعم .. انا جاهز))
وأغلق المكالمة.. قائلاً لزوجته على عجل :
- سائقي بانتظاري ..عليّ الإبتعاد من هنا في عتمة الليل.. وأنصحك بترك الفيّلا قبل قصفها
ثم خرج من منزله مُسرعاً ، دون توديع ابنه النائم !
***
في منتصف الليل.. إستيقظت السيدة على صوت مُسيّرة (طائرة درون) تُحلّق على ارتفاعٍ منخفض ! فأسرعت بإيقاظ الحارس الذي يسكن في ملحق الفيّلا :
- علينا الهرب بسرعة من هنا !!
الحارس : وهذا رأيّ ايضاً .. فمعلمي أخبرني بانكشاف أمره للحزب ، لهذا ستقوم اسرائيل بتصفيّته قريباً
السيدة : وهل كنت تعلم بخيانته للوطن ؟!
- لا سيدتي ، أخبرني بذلك قبل رحيله
- هرب الجبان ، وتركنا وحدنا !
- لا تقلقي ، سأجهّز السيارة بالحال
السيدة : تعال اولاً لحمل ابني دون ايقاظه ، وانا سأحضّر بعض الأغراض المهمّة.. ودعنا نخرج من هنا بأسرع وقتٍ ممكن
^^^
وما أن ابتعدوا عن محيط المنزل ، حتى دوّى إنفجارٌ هائل خلفهم ! حوّل الفيّلا الفخمة الى ركام ، خلال ثوانيٍ قليلة !
السيدة بفزع : يا الهي ! هربنا بآخر لحظة.. رجاءً إسرع !! اخاف ان يلحقوا بسيارتنا ، ظنّا بأن طليقي معنا
الحارس باستغراب : طليقك !
- نعم ، فاللعين ترك ورقة الطلاق في الخزنة ! حتى انه لم يجرأ على إخباري بذلك قبل هربه المُشين
- لا تحزني سيدتي ، فهو خائنٌ حقير.. ولوّ كنت اعلم بذلك ، لما عملت عنده..
- وما كنت تزوّجته ، وأغضبت اهلي لأجله ! رحمك الله يا جدتي ، كانت تقول دائماً : ((يلّي بياخد من غير ملّتو ، بيموت بعلّتو)) .. ولم افهم المثل إلاّ الآن!
الحارس : وماذا تنوين فعله ؟
- إنتقل اهلي للشام قبل اسبوعين .. سنتوجّه اليهم ، مع العلم مُسبقاً انهم سيرفضون استقبالي !
- ربما يحنّون بعد رؤية حفيدهم
السيدة بحزن : لن يعترفوا به اصلاً ، طالما من طائفة والده
- هو مازال صغيراً ، ويمكنك تربيّته على ديننا
السيدة بدهشة : ديننا ! الست من ..
الحارس مقاطعاً : لا .. أخبرت زوجك بذلك لحصولي على الوظيفة ، بعد هربي من قصف حلب
فتنهّدت بارتياح : الآن تأكّدت انني بأيدٍ أمينة
- لا تقلقي لشيء ، المهم ان نخرج من البلد.. وطالما زوجك شخصيّةً معروفة بالحزب .. فالأفضل الإبتعاد عن الحدود ، كيّ لا نعلق لساعات بتحقيقات الحرس المُتعبة
السيدة : وماذا سنفعل ؟
- اولاً نسير باتجاه شمال لبنان .. ومن هناك ، نسلك طريقاً غير شرعيّ لسوريا.. مع إبتعادي قدر الإمكان عن المناطق المُستهدفة من العدوّ
- حسناً ، إفعل ما تجده مناسباً .. المهم ان لا تعرّضني انا وطفلي للخطر
الحارس : بالتأكيد لن افعل ، فأنا حارسك الأمين
^^^
ومن حدود لبنان الشماليّة .. قاد سيارته في طريقٍ صخريّ ، بعيداً عن الطريق المعتادة بين الدولتيّن ..مُغلقين نوافذهم بعد زيادة البرودة في فصل الخريف .. وهما يراقبان من بعيد ، خط السير الطويل المليء بسيارات النازحين !
السائق : مع ذلك الزحام لن نصل لوجهتنا الا بعد يومين ، اتمنى ان لا تلاحقنا دوريّة الحدود لسلكنا الطريق الجبليّ الغير شرعيّ
السيدة بحزن : هاهم هجّرونا من جديد ! فريقٌ ذهب للعراق وفريقٌ للشام .. وبعضهم لتركيا والأردن
- انه التهجير الحديث ، هدف اسرائيل لبناء دولتهم الجديدة .. اعاننا الله وإيّاكم على خططهم الشريرة
وهنا بكى طفلها جوعاً ، فقالت بضيق وهي تحاول تهدأته :
- لم أُحضر ما يكفي من الحليب لهذه الرحلة الطويلة ، ماذا افعل الآن؟!
الحارس : هناك خيام على مقربة منا ، ربما تعود لعرب او غجر .. وأكيد لديهم غنم ، سأطلب منهم بعض الحليب .. لكن إبقي الأبواب ونوافذ السيارة مُغلقة ، ولا تفتحي لأحد .. فنحن نسلك طريق المُهرّبين ، والخارجين عن القانون
- معي ٥٠ دولاراً ، أعطه لهم مقابل طعامٍ لنا
- ٢٠ دولار تكفي ، فهناك فرق عملة بين الدولتيّن
وبالفعل وافق البدوّ على هذا المبلغ البسيط ، لإعطائهم قارورة حليب وبعض خبز الصاجّ الذي أكلته السيدة والحارس بشهيّة بعد سيرهم لساعاتٍ طويلة بأرضٍ مُقفرّة
***
وقبل وصولهم لسوريا ، عصراً .. حصل انفجارٌ ضخم في منطقة الحدود بين الدولتيّن ، أفزعت الصغير الذي بكى بعلوّ صوته .. فحاول الحارس تهدئة الأم بصعوبة :
- القصف بعيدٌ عنا .. رجاءً اهدأي لأجل طفلك ، فصراخك يرعبه
وهي تمسح دموعها بفزع : ظننتهم يلاحقوننا !
الحارس : اليهود لديهم خبراء بتتبّع خطوط الجوّالات .. وأكيد عرفوا بهرب طليقك للعراق.. هذا إن لم يقتلوه ، قبل وصوله الى هناك..
- لا يهمّني مصير اللعين !! المهم ان نصل آمنين للشام
- إن شاء الله نصل للعاصمة مساءً ، فأنا اقود بسرعةٍ معتدلة كيّ لا الفت الأنظار اليّ .. حاولي إطعام الصغير ، كيّ يهدأ قليلاً
***
وفي الساعة الثامنة ليلاً ، وصلوا اخيراً للمنطقة المنشودة بسوريا .. بعد ان امضوا ساعات طويلة بالطريق الوعرة ..
وخلال ذلك اليوم الطويل ، شعرت السيدة بحرص حارسها وخوفه عليها على طفلها ((خاصة عندما حاول بعض اللصوص سرقتهم ! لكنهم هربوا بعد تعاركه معهم بالأيديّ ، مما تسبّب له برضوض وخدوش .. فقامت بتضميد جروح الحارس من علبة الإسعافات الموجودة بسيارته.. حينها قال حارسها بألم :
- لا تقلقي عليّ.. فأنا مستعد للموت ، على السماح لهم بلمسك او خطف ابنك
فردّت بحزن : لن انسى شهامتك ابداً.. فديّتني بنفسك ، في الوقت الذي فضّل فيه طليقي النجاة بنفسه ! الله عوّضني بك ، وإلاّ لما عرفت كيف سأتصرّف بعد انفجار بيتي
- المهم ان أُوصلك لأهلك سالمة ، فهذه مهمّتي وواجبي اتجاهك))
كانت تلك المحادثة تُشغل تفكيرها ، حينما أخبرها وهو يتثاءب بنعاس :
- بقيّ شارعان ، ونصل لمنزل اهلك
السيدة : دعني أقود عنك ، فأنت لم تنمّ منذ البارحة
- اوصلك لبيت اهلك اولاً ، ثم استريح بالسيارة .. وبعدها ابحث عن مكان انام فيه
- انت سوري ، اليس لديك بيتٌ هنا ؟!
الحارس بحزن : بيت اهلي تهدّم بحرب حلب .. وامي للأسف ، توفيّت تحت ركامه.. مما أفقد ابي اعصابه ، فصار يشتم الدولة.. فقبضوا عليه المخابرات ، ومات تحت التعذيب في سجونهم.. الملاعين ، لم يرحموا كبر سنه !
- آسفة ، لم أقصد تذكيرك بماضيك الحزين
الحارس : نحن السوريين نعاني منذ سنواتٍ طويلة من الحكم الجائر.. نتمنى ان يرحمنا الله وإيّاكم من هذه الحياة الصعبة
- آمين.. (ثم اشارت بيدها) .. آه ! هناك .. المبنى الأصفر.. ذلك منزل عمي الذي انتقلوا اليه اهلي بعد الحرب
الحارس بارتياح : الحمد الله على السلامة
وبعد قليل .. نزلت من السيارة ، وهي تقول :
- إذهب لتستريح ، فقد أديّت مهمّتك على أكمل وجه
^^^
وشاهدها وهي تصعد المبنى ، حاملةً رضيعها وحقيبتها .. لكنه شعر بأن عليه الإنتظار قليلاً ، فهي على خلاف شديد مع اهلها بعد زواجها من طائفةٍ أخرى
وكان ظنه في محله ، فلم تمضي نصف ساعة حتى شاهدها تنزل باكية برفقة طفلها.. فأطلق بوق السيارة للفت نظرها.. فتوجّهت اليه ، غير مُصدّقة بعدم رحيله بعد !
وعندما ركبت ، اخذ منها طفلها النائم وهو يحاول تهدأتها :
- ماذا حصل ؟
فأجابت بقهر : طردوني ! قالوا انهم عدّوني ميتة بعد عصياني امرهم بزواجي من ذلك الفاسد ، خاصة بعد سماعهم إشاعة عمالته لإسرائيل !
الحارس : توقعت ذلك.. حسناً ، إمسكي ابنك..
- الى اين سنذهب ؟
- اليس معك ما يكفي من الدولارات ؟
السيدة : هل ستستأجر منزلاً لي ؟
- منزل مع محل صغير ، أحوّله لمطعم شاورما ..فهذه مهنتي قبل انتقالي الى لبنان.. وسأنام بالمحل لحين انتهاء عدّتك .. وفي حال وافقتي على الزواج بي ، أتكفّل بإبنك طوال حياتي.. فمالا تعرفينه عني : انني تطلّقت مرتيّن بسبب عقمي ! لهذا سأعدّه ابني .. طبعاً في حال وافقتي على الزواج من فقيرٍ مُفلس
- وهل تظنني غنيّة بعد تخلّي طليقي عني بماله الحرام ، ورفض اهلي الإعتراف بي وبحفيدهم ؟ ..على الأقل ، سيكون مالك حلالاً
الحارس بسعادة : يعني موافقة ؟!
- انت أثبتّ بأن الرجولة مواقف.. فوالد ابني هرب للعراق ، وتركني اواجه الموت مع طفله ..لولا شجاعتك بتهريبنا الى هنا
- اعدك بعد زواجنا ان اكون زوجاً واباً جيداً لإبنك الذي لن نخبره شيئاً عن والده الحقيقي الخائن
السيدة : لا يشرّفني ان يعرفه اصلاً.. (ثم نظرت لجوالها) .. حتى انه لم يتصل ليخبرني إن وصل سالماً للعراق ، او يطمئن على خروج ابنه حيّاً من لبنان !
الحارس : لا تقلقي لشيء ، فنحن في بلد الخير .. الا تعلمين ان الشام هي موطن الخلافة الإسلاميّة القادمة ، بينما العراق سيظهر فيها جبل الذهب الذي سيبيدون بعضهم لأجله ؟
- أتظن الخلافة ستكون بزماننا ؟!
فربت على ظهر طفلها النائم :
- إن لم تكن بزماننا ، فستكون حتماً بزمان البطل الصغير .. لهذا سنحرص على تربيّته على الدين الصحيح
فأومأت برأسها موافقة ، وهي تبتسم لحارسها الأمين بحنانٍ وامتنان!