السبت، 19 أكتوبر 2024

شعاع النور

تأليف : امل شانوحة 

طريق الأمان


مشى بنعاله الشبه مُهترئ فوق رصيف الشارع العام ، وهو يحمل صندوق البسكويت وقارورة ماءٍ صغيرة .. وقد عقد العزم على متابعة المسير طوال الليل ، للوصول الى النور الأخضر (المُشعّ من بعيد) لساعة الحرم المكّي ..

قائلاً بنفسه بتعبٍ وخوف :

((لن يلحقني زعيم الشحاذين بعد ابتعادي كل هذه المسافة عن اولاد الشوارع.. يارب أعطني القوّة للوصول لبيتك الحرام ، فهو هدفي الأول لترك بلادي))


كان هذا محمد (الولد اليمنيّ ، ذوّ 13 عاماً) الذي كان يلعب الكرة قبل شهر قرب منزله مع اولاد الجيران ، عندما ناداهم شابٌ سعودي بحماس :

- هايّ يا اولاد !! من يريد الذهاب معي الى مكة ، لرؤية الحرم؟!!


فركب عشرون ولداً معه في حافلته الصغيرة ، مُتوجهيّن بطرقٍ صخريّةٍ وعرة ! حيث نوى الشاب تهريبهم بطريقٍ غير شرعيّ لإدخالهم المملكة ، وإجبارهم على الشحاذة لحساب عصابته التابع لها .. غير مُكترثاً بأهالي الأولاد الذين بحثوا عنهم لشهورٍ طويلة ، دون معرفتهم برحيلهم خارج اليمن !


لكن هذه الليلة .. قرّر محمد الوصول للحرم عن طريق تتبّعه الشعاع الأخضر الذي ظهر جليّاً بسماء الشارع الذي أوقفه فيه رئيس العصابة لبيع البسكويت للسيارات ، والتي أكل معظمها لإعطائه الطاقة لمتابعة المسير

^^^


وقد وصل اخيراً قبيل الفجر الى الحرم .. ورغم تعبه الشديد بعد مشيه طوال الليل لعشرات الكيلومترات ، إلاّ ان حماسه لرؤية الكعبة لأوّل مرة بحياته جعله يهرّول بقدمه المُدمّاة (بعد تمزّق نعاله) لداخل الحرم .. 


وما ان وصل للكعبة ، حتى خرّ ساجداً وهو يبكي من شدّة الفرح.. واثناء سجوده دعى لوالديه المتوفيّن : فأمه ماتت بعمر السابعة ، اما والده فتوفيّ اول العام .. تاركاً زوجته الحقودة تصبّ كل لؤمها عليه ، بجعله خادماً لولديّها الّلذين يشابهانها بطباعها الصعبة ! لذلك لم يندم على ترك اليمن .. لكنه قلقاً على اخته الصغرى ، فهي الوحيدة التي تشبهه بالطباع ..والتي تركها بعمر ٦ سنوات ، لهذا كان لها النصيب الأوفر من دعائه .. ومن شدة تعبه ، غفى فوق بلاط الحرم البارد.. 


ليشعر بعد قليل بيدٍ تهزّه : 

- إستيقظ يا بنيّ ، لتصلي الفجر مع الجماعة

وبعد أن دلّه الرجل على مكان الوضوء ، عاد للوقوف بجانبه.. فالحرم في ذلك الوقت من السنة ، لم يكن مُكتظّاً بالمصلّين

^^^


وبعد انتهاء الصلاة ، سأله الرجل :

- هل انت وحدك هنا ؟!

محمد : نعم يا عمّ

وأخبره بقصته..

الرجل : يمكنني أخذك للشرطة ، لترحيلك لليمن والعودة لعائلتك

- لا احد لي هناك ، بعد وفاة والدايّ

- وكيف ستعيش هنا ، بعد هربك من العصابة ؟

محمد : لا ادري يا عمّ ! أظنني سأبحث عن تاجر يوظّفني ، مقابل الطعام والنوم في محلّه مساءً

- وإن لم تجد ؟! 

- لقد وكّلت امري لله ، وهو سيتكفّل بي

فربت الرجل على كتفه بحنان ، وهو يتلوّ الآية :

- ((قد أوتيت سؤلك يا موسى))  

محمد باهتمام : ماذا تقصد ؟!

- لديّ محل ملابس قريب من الحرم .. وعاملي الهندي عاد قبل شهر الى بلاده ، وأحتاج من يساعدني بترتيب البضاعة الجديدة في المحل

فقبّل محمد يده ، وهو يترجّاه :

- احلف أن اكون طوع أمرك إن وظّفتني لديك

- اذاً تعال معي

^^^


وخرجا من الحرم باتجاه أحد المطاعم..

محمد باستغراب : الم تقل انك تملك محل ملابس ؟!

الرجل : تبدو جائعاً ، دعنا نفطر سويّاً


وبعد الطعام ، أخذه للمحل.. وأول شيء طلبه منه : هو تكنيسه قبل وصول الزبائن.. دون علم محمد بأن التاجر رمى ٥٠٠ ريال في زاوية المحل.. ثم جلس يشرب الشايّ في الخارج ، كامتحانٍ له


ولم تمضي دقائق ، حتى عاد محمد وهو يقول :

- يا عمّ ، وجدت هذا المال على الأرض .. ربما أضاعها زبونٌ ما ! 

الرجل بارتياح : أحسنت !! نجحت بامتحان الأمانة .. الآن يمكنني تركك تنام بالمحل.. لكن عليك تغيّر ملابسك القديمة.. ومن حسن حظك ان لديّ جميع المقاسات.. لكن اولاً عليك الإستحمام.. سآخذك الى حمامٍ عام للمعتمرين ، كيّ تلبسهم على نظافة..


وكم كانت فرحة محمد كبيرة بملابسه الجديدة .. فهو لا يتذكّر آخر مرة اشترى له والده اشياء جديدة ، بعد زواجه من امرأةٍ سيئة أنجبت له اولادها الثلاثة ! 

***


وبمرور الأيام .. أصبح محمد خبيراً بجوّدة البضاعة والأسعار ، وبوقتٍ قياسيّ أذهلت التاجر من شدّة ذكائه وفطنته ، ولباقته بالحديث مع الزبائن وقدرته على إقناعهم بالشراء ! كأنه مشروع تاجر ، بخبرةٍ تتزايد بشكل تصاعديّ 


وفي عطلة نهاية السنة .. إجتمع محمد لأول مرة مع عبد الله (الإبن الوحيد للتاجر ، الذي يصغره بعامين) ومن دون مقدّمات ، نمت صداقة جميلة بينهما ..حيث سمح لهما التاجر بلعب الكرة امام محله ، والذهاب معاً للمول 

***


ومرّت السنوات ، الى ان اصبح محمد شاباً يافعاً.. وفي ذلك الوقت أُصيب التاجر بالسرطان ، فتكفّل محمد الإهتمام بالمتجر الذي ازدهر بحسن تدبيره وخبرته التجاريّة التي تفوق عمره بأشواط !


وقبل وفاة التاجر ، جمع محمد مع ابنه والمحامي.. مُستأذناً وريثه الوحيد بتوكيل المحل لمحمد ، لخبرته بهذا المجال .. بعكس ابنه المُنشغل بإكمال دراسته الجامعيّة.. فوافق عبد الله على هذا التوكيل ، لثقته بصديقه

***


وفي يوم .. استأذن محمد صديقه للسفر الى اليمن ، لرؤية عائلته.. فأعطاه عبدالله عطلة شهر ، مع ارباحه عن الأعوام السابقة


وفي أول وصوله لليمن ، زار قبر والدته التي حدّثها باكياً :

- أتذكرين حين قلت لي قبل وفاتك : بأنني سأصبح انساناً ناجحاً ، بسبب منامٍ شاهدته اثناء حملك بي ؟ هآ انا اصبحت من التجّار المهمّين بالسعودية بفضل دعائك ورضاك عليّ ، وسأبذل قصارى جهدي للإهتمام بإخواني رغم شبههما الكبير بأمهما السيئة ! والتي أظنها مدفونة هنا ، قرب قبر ابي كما سمعت .. استأذنك لرؤيتهما.. الوداع يا امي الغالية


وذهب لقبر والده اولاً :

- لقد سامحتك على التفريق بيني وبين ابنائك ، رغم كوني ابنك البكر وسندك وظهرك ، كما كنت تقول لي قبل زيجتك الفاشلة .. لكنه قرارك ، ولا الومك عليه .. سامحك الله على كل كسرةٍ وجرح في قلبي الذي سيظلّ يدعو لك بالمغفرة طوال حياتي  


ثم نظر لقبر زوجة ابيه :

- اما انت !! فلا سامحك الله على قساوتك معي.. فرغم تنفيذي لجميع اوامرك ، إلاّ انك أخرجتني من المدرسة لتلبيّة طلبات المنزل وتنظيفه ، والإهتمام بأبنائك.. وليت هذا منعك من ضربي وإهانتي امام اخوتي الصغار والجيران ! لكنك الآن بين يديّ الرحمن العادل ، وهو سيتكفّل بعقابك

^^^


ثم توجّه لمنزل والده القديم .. ووقف شارداً حزيناً وهو يتأمّل الحارة التي خُطف منها مع بقيّة الأولاد .. ليجد جارته وقد أصبحت مجنونة القرية ، بعد اختفاء ابنها الذي خُطف معه من قبل عصابة الشحاذين ! والتي ما أن رأته ، حتى أسرعت اليه بعكّازتها :

- محمد !! .. أهذا انت ؟! عرفتك من حرق جبينك الذي تسبّبت فيه زوجة ابيك الملعونة !

محمد : نعم يا خالة ، هذا انا

- اين ابني صالح ، يا محمد ؟ كان يلعب معك آخر مرة

محمد بصدمة : أمعقول انه لم يُعد الى هنا ، بعد ان اصبح شاباً ؟! فقد التقيت بموسى قبل قليل ، وأخبرني ان معظم الأولاد المُختطفين بتلك الحادثة ، عادوا الى هنا بسن المراهقة !

الأم بحزن : ماعدا ابني ! رجاءً إبحث عنه في السعودية

- سأفعل يا خالة.. أعدك بذلك

^^^


بعدها ذهب لإمام الجامع العجوز ، لسؤاله عن أخويّه .. فأخبره ان كبيرهما في السجن ، بعد دهسه احد المارّة بسيارته المُسرعة ، جعله مُقعداً طوال حياته .. 

فتوجّه لأهل المعاق ، واتفق معهم على مبلغ التعويض مقابل تنازلهم عن الخمس سنوات المتبقيّة من محكوميّة اخيه.. وبالفعل تمكّن من إطلاق سراحه !

***


بعدها بإسبوع .. ذهبا معاً ، لزيارة اخيه الأصغر في مشفى الإدمان ! والذي وعدهما بإكمال علاجه للخروج من مصيبته.. فبشرّه محمد بفتح متجرٍ له ، كما فعل مع اخيه (المُتسرّح حديثاً من السجن) للوقوف على قدميهما ، ومتابعة حياتهما باستقامة

***


بعدها توجّه محمد للقرية المجاورة لزيارة اخته الصغرى ، بعد علمه بزواجها من رجلٍ عجوز !


وتحدّث معها على انفراد ، بعد خروج زوجها من المنزل ..

محمد باستغراب : لا اصدّق ان زوجة ابي ظلمتك ايضاً ، فأنت ابنتها الوحيدة ؟!

اخته بحزن : كانت تكرهني ، لشبهي بطباع والدي !

- بالفعل !! انت الوحيدة التي تشبهينني من اخوتي

- رجاء اخي ، خلّصني من زوجي.. فقد ضاعت ست سنوات من حياتي مع ذلك العقيم ، وأخاف أن يحرمني الأمومة

محمد : اعدك بذلك


وبالفعل وافق زوجها البخيل بأخذ مبلغٍ مجزّي من محمد مقابل الطلاق ! بعدها سافرت أخته معه الى السعودية

***


وهناك سأل عن صديقه المُختطف ، المجهول المصير .. ليعلم من أحد الباعة المتجوّلين : بمحاولة صالح تقليده ، والهرب من العصابة التي تمكّنت من اللحاق به.. والذي حاول مقاومتهم بكل قوته ، لكنهم طعنوه حتى الموت ! 

فعلم محمد كم كان محظوظاً بالنجاة من إجرامهم ووحشيّتهم ! 


ثم ارسل خطاباً لأم صالح يخبرها : بأن ابنها توفيّ قبل سنوات ، بعد توقف قلبه اثناء إعتماره بالحرم (لأنه لم يستطع إخبارها بموته قتلاً).. 

وعندنا سمعت الأم الخبر ، وزّعت الحلوى على الجيران لحسن خاتمة ابنها بعد استعادتها جزءاً من رشدها !


اما اخت محمد ، فجمعها مع عبد الله (ابن التاجر الذي كان أخبره عنها بصغرهما) لأنه يتمنى ان لا يسافر للغربة وحده ، لإكمال الدكتوراه.. ولهذا سمح لهما بالتحدّث هاتفيّاً للتعارف بنيّة الخطبة ، على ان يكون كلامهما ضمن حدود الأدب والأخلاق. 

***


وبالفعل لم يمضي شهر ، حتى كُتب كتابهما.. ليُفاجأ عبد الله محمد بتسجيل المحل بإسمه ، كمهر اخته التي سافرت معه لأوروبا ، لمتابعة دراسته العليا والعمل هناك


وبذلك اصبحت فرحة محمد فرحتيّن : زواج اخته من صديق طفولته (ابن التاجر الطيّب) وحصوله رسميّاً على المتجر الذي أمضي فيه سنوات مراهقته وشبابه

***


وحالياً يُعتبر محمد تاجراً ناجحاً بعد حصوله على الجنسيّة ، عقب زواجه من سعودية أنجبت له ابناً صالحاً يساعده بالمتجر ، ويؤدّي الصلوات معه بالحرم  


وقد اعتاد محمد بكل صلاة على شكر الله الذي اعطاه القوّة والشجاعة تلك الليلة للمخاطرة بحياته والهرب من العصابة المُسلّحة ، مُتتّبعاً الشعاع الأخضر لحرم الأمن والأمان !


هناك 8 تعليقات:

  1. قصة السعودي الذي خطف الأولاد اليمنيين للشحاذة هي قصة حقيقية ، قرأتها بالإنترنت .. وتمنّيت وقتها لوّ تمكّن احد الأولاد من الهرب من العصابة ، والعودة لأهله باليمن .. فخطرت ببالي هذه القصة ، اتمنى ان تعجبكم

    ردحذف
  2. القصة جميلة.. جعلتِ جزءًا من جوانبها مشرقاً بخيالك..

    ما أخبار القصة التي أرسلتها لكِ؟
    ألن تخرج إلى النور؟!

    تحياتي..

    ردحذف
    الردود
    1. تقصد رغوة القهوة ؟ اخبرتك انني كتبت قصة مثيلة من قبل
      وإن كنت تقصد قصة ثلجيّة ، فمازلت أفكّر بكتابتها قريباً بإذن الله

      حذف
    2. ما اسم القصة المثيلة؟
      سأعيد قراءتها

      حذف
    3. عاشق القهوة
      https://www.lonlywriter.com/2019/04/blog-post_26.html

      حذف
  3. احسنتم احسنتم ..واجدتم ونصحتم ..
    افتتاحيات قصصك مذهله ..لاحظتها في اكثر من قصه ..تدخل القاريء في عمق القصه وفهم عام للاحداث مباشرۃ بلا اخلال ..
    وشعاع النور ..ايضا موح ومعبر ..وملخص ..
    علی كثرۃ من قرات لهم لم اظفر بكاتب خاصۃ في هذا الزمان ..ظل مداده نقيا ..ولم يميد
    كمن مادوا وسقطوا فهلكوا ..
    فلم تتلونين برغم كثرۃ الالوان والزخارف والبهارج..
    اتذكر الراحل احمد خال توفيق كم ظل قلمه عفا طيلۃ 20 عاما.. حتی وقع في الفخ ..وجاء ببعض الخزايا اشارۃ ..في بعض قصصه .. ..لا يفطن اليها الا كل متمرس اريب.. ليواكب التيار ..في اخر حياته ..ويكاءن لم يرد الله فتنته فعجل بقبضه لطفا ورحمۃ ..
    وبرغم ان القصص الهادفه التربويه .. جمهورها
    شحيح وعزيز .. بل صار نادرا كندرۃ الكبريت الاحمر ..في اليوم الاغبر ..
    في الحقيقه.. اي امل .. حالتك ككاتبه ..فريده من نوعها تستحق الدراسه ..
    اي وربي وانه لحق مثل ما انكم تنطقون ..
    فهنيءا لكم ذاك الصبر والجلد ..
    عسی ان تجدين شعاع النور ..يوم النشور..
    ويوم يبعثر ما في القبور ..ويحصل ما في الصدور ..
    🌺🌻🌹🍀🌷🌸💐

    ردحذف
    الردود
    1. انا انتظر تعليقك يا استاذ ياسر مع كل قصة .. لأنني لا اعلم ان كنت أحسنت الكتابة الا من وراء نقدك البنّاء .. فشكراً لإخلاصك لمدونتي المتواضعة التي اتمنى ان تبقى دائماً تربويّة وبما يرضي الله لآخريوم في عمري بإذن الله

      حذف
  4. واستدراكا علی انفسنا ..حتی لا نغضب مجامع اللغه العربيه ..والدراعمه ..فان الصحيح لغۃ ..
    مرودك ..بدلا من مدادك ..وان كان بعض الادباء استخدموا كلا اللفظتين ..من باب دلالۃ الجزء علی الكل ..

    ردحذف

ذريّة إبليس

تأليف : امل شانوحة  العقوبة المُضاعفة قبل خروج إبليس من الجنة (بعد رفضه السجود لآدم) وعند البوّابة الذهبيّة ، طلب من جبريل التجوّل في قصره ا...