الأحد، 31 ديسمبر 2017

ارواح في مهب الريح

تأليف : امل شانوحة


إجتمعنا بأسوء الظروف !

بعد ان انتهت من وضع بعض الحاجيات الضرورية في قبوها تحسّباً للعاصفة القادمة .. انتبهت (بعدما نظرت من نافذة الصالة) أنها لم تركن السيارة في مرآب بيتها ! فأسرعت للخارج دون ان تقفل باب المنزل .. حيث كانت الرياح في الخارج تُنذر بقُرب الإعصار من منطقتها  

وبعد ان اطمأنت على سيارتها , عادت الى الداخل .. 
لكن قبل ان تنزل لتحتمي في القبو , سمعت صوتاً قادماً من مطبخها ! 
فاقتربت ببطأ وهي تحمل عصا البيسبول , فوجدت هناك رجلاً مشرّداً يتناول بعض الخبز الذي أخرجه من الثلاجة .. 

فصرخت بخوف وهي تلوّح بالعصا امامه : 
- هاى انت !! ماذا تفعل في بيتي ؟!
فرفع يديه محاولاً تهدأتها : 
- إهدأي سيدتي واخفضي العصا ! فأنا لم آتي لأؤذيك
- هيا اخرج من هنا حالاً , والاّ اتصلت بالشرطة !!

وفي هذه اللحظات .. بدأت النوافذ ترتجّ لقرب العاصفة من الحيّ الذي تسكن فيه .. 
المشرّد بقلق : سيدتي ..ان خرجت الآن , فسيقتلني الأعصار ..هل يرضيك ذلك ؟

ومع إزدياد هبوب الرياح , كانت السيدة في حاجة ماسّة الى خطةٍ سريعة لإخراج هذا المتطفّل بثيابه القذرة من منزلها ! وما ان سمعت مواء قطة , حتى إدّعت امامه أنها نسيتها في الخارج ..
- حسنا لا تبكي سيدتي , سأنقذها لك
فقالت وهي تتظاهر بالبكاء : ارجوك بسرعة , قبل ان تقذفها العاصفة بعيداً وتموت 

وما ان خرج المشرّد من بيتها حتى أقفلت بابها بإحكام .. 
وبعد عودته مع القطة الصغيرة , تفاجأ بها تشير اليه (من خلف زجاج بابها) بأن يرحل بعيداً ! 
وكان الرجل يحاول ان يحمي وجهه من شدّة الرياح , حاضناً القطة الخائفة بكلتا يديه , فترجّاها قائلاً : 
- حسناً سأذهب .. لكن ارجوك إنقذيها حتى لوّ لم تكن قطتك ..واعدك بأن أذهب في طريقي .. عليك ان تثقي بكلامي

ولم تتحمّل السيدة منظر القطة الصغيرة الخائفة , فأمسكت بقبضة بابها وهي مازالت ترفع عصا البيسبول مُهدّدة :
- سأفتح الباب وآخذها منك , لكن ان قمت بأيّةِ حركة مفاجئة فسأضربك بالعصا ..أفهمت ؟!!
فأومأ المشرّد برأسه إيجاباً..

وبعد ان أعطاها القطة .. غطّى رأسه بقبعة جاكيته الممزّق , وابتعد بخطواتٍ متثاقلة من امام بابها وهو لا يدري اين يختبأ مع إقتراب الخطر 
فشعرت السيدة بتأنيب الضمير , وعادت ونادته : 
- هاى انت !! تعال بسرعة .. لندخل قبل قدوم العاصفة

فركض مسرعاً نحو البيت , وهو يشكرها على منحه فرصة للنجاة
وبعد ان أقفلت باب منزلها .. قالت له :  
- لن اسمح بأن تموت بسببي .. هيا بنا !! من الأفضل ان نختبأ داخل القبو المصنوع من الحجر الصلب فهو أقوى من الجدران الخشبية .. لكن ايّاك ان تضع يدك الوسخة على فرش بيتي الجديد !! 

فكتم المشرّد امتعاضه من كلامها الجارح , لأن العاصفة بإمكانها قلع المنزل بما فيه , لكن حتى في ظلّ هذه الظروف الإستثنائية مازالت تشمئزّ منه , كما يفعل معظم الناس تجاه المشردين !
وأكملت قائلة بنبرة تهديد ناتجة عن شعورها بالخوف تجاه هذا الغريب : 
- وان قمت بأيّ عملٍ خاطىء , فسأرديك قتيلاً بهذا المسدس 
ووضعت يدها على جانب قميصها , فابتسم الرجل لأنه يعرف بأنها لا  تحمل سلاحاً , لكنه فضّل السكوت والموافقة على كلامها 

ثم بسرعة نزلا نحو القبو بعد ان اهتزّ المنزل بعنف أرعب كُلاً منهما 
***

وكان القبو مُهيّئاً للطوارىء حيث وضعت به السيدة بعض الطعام والمعلّبات وكذلك البطّانيات ومياه الشرب وكشّافات النور 
المشرّد بدهشة : هذا جيد ! يبدو انك تهيّأتِ جيداً للعاصفة ؟
- طبعاً ..الم ينذرونا بقدومها في الأخبار منذ ايام ؟
- أحقاً ! انا اليوم فقط حتى عرفت بالأمر 
- الا تشاهد التلفاز ؟!
- انا مشرّد يا سيدتي .. ولوّ لم اسمع بالصدفة الناس تتكلّم في الطريق عن هذا الخطر , لبقيت في الشارع مُعتقداً انها عاصفة عادية وستمرّ كغيرها! 
- الم تحذركم البلدية ؟! 
فأجاب بحزن : لا احد يهتمّ بالمشردين سيدتي , ولوّ فعلوا لما تركونا نعاني من برد الشتاء 
- أعانكم الله .. خذّ هذه البطانية وتدفأ جيداً
- شكراً لك 

السيدة : سأعدّ لنا بعض القهوة ..
- عليك ان تسرعي قبل انقطاع الكهرباء
- لا تقلق فلديّ مولّد .. لكنه فوق بالمطبخ 
- كان من الأفضل لوّ خبأته هنا 
- زوجي مسافر منذ الأيام , وهو ثقيلٌ عليّ لأحمله 
- عفواً على سؤالي .. لكن لما لم تذهبين مع زوجك ؟ 
- هو مسافر منذ شهر تقريباً .. وعندما عرف بقدوم العاصفة , فضّل البقاء هناك 
بدهشة : يا ساتر ! أفضّل النجاة بنفسه على إنقاذ زوجته ؟!
- لا تحكم عليه .. فهو ارسل لي بطاقة سفر , لكن جميع الرحلات متوقفة منذ البارحة , ولهذا عدّت من المطار الى بيتي 
- والله لوّ كان يريدك معه لفعل ذلك مُسبقاً , لا ان ينتظر حتى آخر لحظة
- ماذا تقصد ؟!
- لا يهمّ ..

ثم عمّ الصمت بينهما , الى ان ظهر صوتٌ قوي من فوقهم .. 
فقال المشرّد :
- أسمعتي ؟ اظنّ ان العاصفة أصبحت فوقنا تماماً !

واذا بأركان المنزل ترتجّ بقوّة , مما أخاف السيدة كثيراً حيث صارت تصرخ بخوف : 
- لا اريد ان اموت !! لا اريد ان اموت !!!
فرفع صوته قائلاً :
- تعالي بقربي وابتعدي عن السلالم.. هيا !!!! 

لكنها تجمّدت في مكانها , فاضطر المشرّد لشدّها من يدها ليبعدها عن الدرج .. وما ان فعل ذلك , حتى تساقطت بعض الأحجار من فوق في نفس المكان الذي كانت تجلس فيه !
فقالت له بارتباك وهي واقعة بالقرب منه : يا الهي ! كان رأسي سيُشجّ حتماً بتلك الحجارة ..شكراً لك يا .. 
- اسمي جاك
- وانا اسمي جاكلين .. 
وابتسمت في وجهه لأوّل مرّة ! 
***

وبعد قليل .. تفاجآ بانقطاع الكهرباء , وكردّة فعلٍ منها : صرخت بخوف مُبتعدةً عنه , وهي تترجّاه بخوف : 
- ارجوك لا تؤذيني يا جاك !!
فقال بدهشة وضيق : بالطبع لن اؤذيك ! هل تظنينني رجل عصابات ؟! (وبنبرة غاضبة من شكوكها اتجاهه) .. هيا أضيئي كشّافات النور , وكفّي عن الدراما يا امرأة !

وبعد ان استردّت انفاسها مع إنارتها لنور الكشّاف الخافت , قامت بالإعتذار منه قائلة : 
- آسفة .. لا ادري لما صرخت كالمجنونة هكذا ؟!
يحاول كتم غيظه : لا بأس سيدة جاكلين .. أتفهّم خوفك من غرباء .. (ثم وقف قائلاً) .. سأحاول الصعود الى فوق لأشعال المولدّ , فالجوّ سيصبح بارداً هنا مع انقطاع المدفأة الكهربائية 
- لا !! انتظر قليلاً حتى تهدأ العاصفة .. فالكشّافات والبطانيات تكفينا الآن

ثم اعطته كشّافاً يدوياً .. فأخذه وبدأ يستكشف به القبو للبحث عن ايّ شيء يستفيدان منه ..فانتبه لوجود موقدٍ حديدي قديم مركوناً بأحدى الزوايا ..وعندما انتبهت جاكلين على اهتمامه بالموقد , قالت له :
- لقد اشتراه زوجي من احدى المزادات التي تُقام للأشياء القديمة ..  وفي يومها تشاجرت معه بسبب هذه الخردة , وبالنهاية رميتها هنا 
- بل من الجيد انه اشتراه , فهو يعمل بالحطب .. ويمكنني استخدام بقايا الدرجة الخشبية التي حطمتها الأحجار لتدفأتنا 
- لكن انا وزوجي حاولنا قديماً إشعاله وفشلنا  
- لا تقلقي , فأنا لديّ خبرة بالأشياء القديمة 

وبالفعل استطاع بمهارة اشعال الموقد الحديدي القديم , الذي لم يستخدمانه فقط لتدفئة المكان بل للشواء عليه بعض النقانق المعلّبة
جاكلين بدهشة : من اين تعلّمت كل هذا ؟
- في الجيش علّمونا الكثير من المهارات التي تُبقينا أحياءً , فبالأضافة لفنّ الأسلحة نتعلّم ايضاً الإسعافات الأولية وطريقة إيقاد النار ومهارات ربط الحبال , وكذلك صنع ..
مقاطعة : لحظة لحظة ! هل كنت تعمل في الجيش ؟! 
- نعم , وبالفرقة الخاصة ايضاً
- وكيف أصبحت مشرّداً ؟!

فسكت قليلاً وهو يتذكّر اليوم الذي تغيّرت فيه حياته : 
- لقد اعطوني امراً بضرب منشأة تابعة للإرهابين , لكني رفضت تنفيذ قرار التفجير بعد معرفتي بوجود عائلات للاجئين تسكن بداخله ..ولرفضي تنفيذ الأوامر تم طردي من الجيش دون ايّ تعويض مالي , حتى انهم منعوني من العمل بأيّ فرعٍ عسكريّ آخر ! 
- يا الهي ! ماهذا الظلم ؟!
بحزن : هذا ما يُسمّى بقانون الغاب , سيدتي

- ولما لم تعدّ الى منزل اهلك ؟
- انا يتيم الوالدين , وتربّيت في دور الرعاية الإجتماعية .. وعندما انهيت مرحلة المتوسطة التحقت بالثانوية العسكرية , وكنت متفوقاً على الجميع ..وظننت بأن الدنيا ستبتسم لي اخيراً , لكني عدّت الآن الى نقطة الصفر !
- ولما لم تبحث عن وظيفةٍ أخرى ؟
- أتقصدين خارج السلك العسكري ؟!
- نعم
- لم افكّر يوماً بذلك !

- الا تجيد اموراً أخرى ؟
- بل أجيد كل شيءٍ يدويّ
- اذاً لماذا لا تنضمّ للكشّافة المدرسية ؟
- تقصدين ان اكون مسؤولاً عن تنظيم الرحلات البرّية لطلاب المدارس ؟
- بالضبط .. فهم سيتعلّمون منك الكثير من المهارات التي اكتسبتها من عملك في العسكرية  

فسكت المشرّد قليلاً وهو يفكّر بالأمر , ثم قال لها بابتسامة : اتدرين سيدة جاكلين.. كلامك جعلني أتخيّل نفسي اجلس في البريّة برفقة المراهقين , واخبرهم بآخر الليل عن بطولاتي التي خضّتها في المعارك .. 
تبتسم له : اظنّ ان هذا سيعجبهم 
- اعدك أن افكّر بالموضوع , في حال خرجنا من هنا احياءً ..
***

وبعد قليل.. تناولا الطعام الذي قام المشرّد بشوائه في الفرن القديم .. ثم جلست جاكلين تراقبه وهو يأكل طعامه بالشوكة والسكين كرجلٍ محترم 
وانتبه هو على نظراتها المندهشة , فابتسم قائلاً : 
- لقد تعلّمت اصول الأتيكيت بإحدى الدورات العسكرية , فحلمي كان الإنضمام الى الفرقة الملكية البريطانية .. فبالرغم انني عشت معظم حياتي في أميركا , لكن الميتم اخبرني ان امي من اصولٍ بريطانية 

- وهل تعرف من هي امك ؟! 
- نعم .. فأنا يتيم ولست لقيطاً .. فوالدي توفيّ بحادث عندما كانت امي حاملاً بي .. اما هي فقد توفيت بالسرطان وانا في عمر الثالثة  
- آسفة لحدوث ذلك
- لا تهتمي .. (تنهد بضيق) لقد حاولت كثيراً البحث عن اقارب امي في بريطانيا لكن دون جدوى .. ربما كانت يتيمة هي الأخرى , من يدري ! اساساً تعوّدت على خيبات الأمل , وظلم الناس لي 

- لا تلمّ نفسك .. فأنت لم تفعل ايّ شيءٍ خاطىء ..بل رفضك لأوامر العسكرية الجائرة دليلٌ على روح الإنسانية التي تمتلكها.. وسيأتي يوم ويعوّضك الله عن كل آلامك .. كل ما عليك فعله الآن هو التخطيط لمستقبلك والبدأ من جديد
- معكِ حق .. واعدك أن احاول من جديد فور تخطّينا لأزمة العاصفة 

وهنا انتبه على وجود مذياعٌ قديم مرمياً في زاوية القبو..
- هل يعمل ذلك الراديو ؟ 
جاكلين : لا ادري , لم أجرّبه ! 
- يبدو ان زوجك من مُحبّي الأشياء القديمة
- نعم , وهذا ما يغضبني منه !
- بل هذا من حسن حظنا , فالجوّالات مُعطّلة الآن بسبب العاصفة , لهذا دعينا نستمع الى النشرة الجوية من المذياع
- حسناً اعطني ايّاه  

وأخرجت بعض البطاريات من إحدى الكشّافات الثلاثة , ووضعتها في الراديو القديم .. ثم جلسا يستمعان لتحذيرات الحكومة للمواطنين في ظلّ هذه الأزمة , وهما يشربان الشايّ ويأكلان بعض الحلويات لتدفأتهما , بالأضافة للبطانيات السميكة التي يتلحّفون بها 
***

وقد امضيا الوقت وهما يلاعبان القطة الصغيرة التي تعوّدت سريعاً عليهما , والتي ما ان شربت بعض الحليب حتى نامت في حضن المشرّد الذي وضعها جانباً بعد ان غطّاها بشاله القديم .. 
ثم قال للسيدة : 
- أسمعتي ؟! 
- انا لا اسمع شيئاً 
بارتياح : بالضبط ! يبدو ان العاصفة هدأت اخيراً
- اظن ذلك .. الحمد الله .. هل نصعد الآن الى فوق ؟
المشرّد : دعيني اولاً أُبعد هذه الأحجار عن الأدراج المتكسّرة  

ومن ثم فتحا الباب الحديدي السميك للقبو الذي كان يفصله عن باقي المنزل 
***

ولحسن حظها لم يتحطّم سوى نوافذها الزجاجية , بعكس منازل الجيران التي تهدّم جزءٌ كبير من جدرانهم !
المشرّد وهو يتفحّص البيت : إحمدي ربك سيدة جاكلين فوضع بيتك سليم
- وماذا عن النوافذ ؟ كيف سأنام في هذا البرد ؟!
- لا تقلقي , سأساعدك بتغطيتها بالأخشاب ..لكن ما ان تُفتح الطرقات ويهدأ الوضع بالبلد , حتى تحضرين بعض العمّال ليصلحوها لك ..لا تنسي ذلك
- أكيد 

ثم اخرجت من جيبها مفتاح المرآب واعطته ايّاه ..
- ستجد في المرآب بعض الألواح الخشبية , كما ماكينة التقطيع .. فزوجي يهوى النِجارة
- ممتاز !!
- هل تعرف كيف تدير الماكينة ؟ 
- اخبرتك سيدتي بأنني اتقن جميع الأعمال اليدوية.. وسأبدأ فوراً بالعمل 

وقام في البداية بأخذ مقاسات النوافذ .. ثم ذهب الى المرآب وبدأ بقصّ الواح الأخشاب الكبيرة لأحجامٍ مُناسبة .. ثم اغلق بها النوافذ المُحطّمة مُستخدماً مسدس المسامير .. 

وبعد ان انتهى.. قال لها مُمازحاً : 
- صار بإمكانك النوم بطمأنينة دون القلق من دخول مُتطفّل يُعكّر صفوَ يومك
- معاذ الله يا جاك .. بل ارسلك اهل  ليّ لتساعدني في هذه المحنة , وسامحني ان كنت قسيت عليك في البداية 
- لا الومك ابداً .. (ثم بدأ بلمّلمة العدّة) .. سأعيدها الى المرآب , ومن ثم اذهب في طريقي 

- ما رأيك ان تستحمّ اولاً , وانا سأعطيك من ملابس زوجي التي ستدفأك اكثر من الملابس الرقيقة التي تلبسها , فالجوّ مازال بارداً في الخارج 
- لكني لا اريد اتعابك 
- هذا أقل ما يمكنني فعله لردّ الجميل
***

وبعد قليل .. صعد المتشرّد الى الطابق العلوي ليستحمّ بعد ان أعطته المنشفة والملابس..
وفي هذه الأثناء ..قامت جاكلين بوضع بعض الأغراض الضرورية داخل الحقيبة التي كان يستخدمها زوجها في رحلاته البرّية , بالإضافة لسريرٍ بلاستيكي تابع للكشّافة , كما صنعت لجاك بعض السندويشات لتساعده في رحلته ..

وعندما نزل من فوق , تفاجأت به بعد ان حلق شعره وذقنه الطويلة ! حتى انه بدا لها بثيابه الجديدة وكأنه رجلٌ من الطبقة الراقية !
- يا الهي يا جاك ! والله لم اعرفك ..تبدو وكأنك ممثل هوليوود! 
مبتسماً : لا تبالغي سيدة جاكلين .. (وبعد ان شاهد الحقيبة الكبيرة) .. مالذي في يدك ؟!
- وضعت فيها بعض الحاجيات لك 
- ولما اتعبت نفسك ؟
- ليتني استطيع مساعدتك اكثر 
- لا تقلقي عليّ , لأني فكرت قبل قليل باستغلال موضوع الإعصار لتحسين وضعي 
- لم افهم !

- سأذهب غداً الى البلدية واخبرهم بأن اوراقي الرسمية التي كنت سأقدّمها للوظيفة الجديدة طارت جميعها مع منزلي الذي اكتسحه الأعصار , وانني بحاجة ماسّة الى سكنٍ ووظيفة
- يعني تختلق لهم قصة !
- اعرف انها كذبة , لكنها ستكون بداية لإنطلاقة جديدة .. واظن ان ثياب زوجك ستساعدني كيّ ابدو لهم كرجلٍ محترم
- وانت بالفعل كذلك يا جاك
- شكراً لذوقك ..واعدك بأن لا اتكاسل في الحصول على وظيفةٍ محترمة , فلا يأس مع الحياة
- جميلٌ ان اسمع منك هذا الكلام المتفائل

وهنا ! سمعا صوت امرأة تقول لجيرانها بصوتٍ عالي , وهي تقف في الشارع :
- الحمد الله !! لقد عادت خدمة الجوّالات 
وبسرعة أخرجت جاكلين جوالها لتتأكّد من الخبر
- نعم الحمد الله , هاهو يرنّ
- هل تتصلين بزوجك ؟
فهزّت برأسها موافقة .. 

وكان هو على وشك الذهاب , لكنه توقف بعد سماعها تقول بارتباك :
- الو .. من انتِ ؟! ولما جوال زوجي معك ؟!
ثم سمعها تقول غاضبة :
- اريك ايها اللعين !! اتركتني اعاني وحدي في العاصفة لتقوم انت بخيانتي ؟! ..ماذا تقول ؟ لا اسمعك ..لمن صوت بكاء الطفل هذا ؟!

ثم سكتت قليلاً وهي تستمع الى إجابة زوجها .. ومن ثم بدأت الدموع تنهمر على خدّيها , مما اقلق جاك كثيراً والذي سمعها تقول لزوجها بعصبية :
- يعني الا يكفي انك مدمن عمل , وتمتلك قلباً قاسياً .. والآن تخبرني بأن لديك طفلاً من حبيبتك ! .. اللعنة عليك يا اريك !! ..لا !! اصمت واسمعني جيداً !! فور عودتك الى هنا سأطالبك بالطلاق ..ماذا ! لا تريد العودة .. هذا أفضل !! اذاً سأدعّ المحامي يُنهي اوراق زواجنا , ايها الخائن اللعين !!

ثم اغلقت الهاتف وهي مصدومةٌ تماماً ..فحاول جاك تهدأتها : 
- سيدة جاكلين .. ارجوك اهدأي
وهي تمسح دموعها بعصبية : اللعين يخونني يا جاك , أتصدّق ذلك ؟! 

ثم أسندت رأسها فوق صدر جاك بعد ان انهارت بالبكاء المرير , فربت على ظهرها بحنان وهو يقول لها :
- الن تعطه فرصة ثانية ؟!
- كيف يا جاك , كيف ؟! أبعد ان أصبحت لديه عائلة ! .. (ثم تنهدت بضيق) وما يؤلمني اكثر انه منعني من الإنجاب لعشرة سنوات بحجة ان عمله يتطلّب الهدوء والتركيز , لكن الغريب ان هذه المشكلة اختفت مع ابن حبيبته ! ..آه يا جاك .. لقد حرمني من ان اصبح اماً رغم معرفته جيداً بعشقي للأطفال ورغبتي في انجاب الكثير منهم ! 

- اذاً برأيّ عليك الحصول على ملكية هذا البيت كتسوية طلاقك من ذلك السافل
- بالتأكيد سأفعل !! فهذا المنزل من حقّي , لأنه هو من خانني وليس انا
- أحسنتِ يا فتاة !!

ثم حمل الحقيبة (التي أعدّته له) وهو يقول بتردّد : مع اني والله لا اريد ان اتركك وانت بهذه الحالة , لكن عليّ الذهاب قبل مغيب الشمس
- لحظة !! انتظرني قليلاً 


ثم صعدت بسرعة الى فوق ..وعادت ومعها محفظتها ..
لكن وقبل ان تخرج منها المال , أوقفها قائلاً :
- لا !! انا لن آخذ منك مالاً .. يكفي ما أعطيتني إيّاه من اغراض  
- هيا خذها يا جاك , ولا تعاندني .. فهي ستفيدك في بحثك عن الوظيفة 
- لا اريد يا جاكلين .. اقصد سيدة جاكلين

الاّ انها عادت وأوقفته قبل خروجه من المنزل , قائلةً :  
- جاك توقف !! إعتبرهم ديناً ترُدّه لي لاحقاً ..على الأقل هذا سيعطيني الأمل لرؤيتك مجدّداً 
فابتسم لها بحنان .. ثم أخذ منها المال بتردّد :
- حسناً , واعدك بأن أردّهم لك قريباً .. وشكراً لك على كل شيء .. إعتني بقطتنا الصغيرة , سيدة جاكلين

ثم ودّعها وذهب .. بينما قامت هي بالإتصال بمحاميها لحلّ مشكلتها مع زوجها الخائن 
******

وبعد مرور سنة .. تفاجأت جاكلين برجلٍ محترم بلباسه الرسمي يقف امام بابها , فقالت له دون ان تنظر اليه :
- لا شكراً , لا اريد شراء شيء
وقبل ان تغلق الباب في وجهه , قال لها :
- انا لست بمندوب مبيعات يا جاكلين !
بدهشة : من ؟ جاك ! آسفة لأني لم اتعرّف عليك .. تفضّل بالدخول 

وفي الداخل .. أخبرها بأنه أخذ بنصيحتها وعمل في كشّافة المدارس .. وبخلال سنة اصبح المنظّم الرسمي لرحلات عدّة مدارس , مما سمح له بشراء منزلٍ صغير في الشارع المقابل لمنزل جاكلين ..
جاكلين : هذا رائع يا جاك !! انا سعيدة لأن امورك تحسّنت بشكلٍ ملحوظ 
جاك : الحمد الله .. ماذا عنك ؟
- لقد طلّقته اخيراً , وحكم لي القاضي بالمنزل بعد ثبوت خيانة زوجي ..واعمل حالياً في المكتبة القريبة من هنا 

- ولما لا تعملين في جمعيتنا ؟
- تقصد في تنظيم الرحلات المدرسية ؟
فأجابها بحماس : نعم !! وبذلك نعمل سويّاً 
- وهل سيقبلونني ؟
- عزيزتي , انا مدير الجمعية .. بالتأكيد سأقبلك 
- حسناً .. اعدك بأن افكّر بالأمر
- اتدرين يا جاكلين .. انا ممتنٌّ جداً لك لسماحكِ بإختبائي في منزلك يوم العاصفة  
فقالت له ممازحة : لم يكن لأجلك يا جاك , بل لأجل القطة ..هل نسيت ؟ 
فضحك قائلاً : نعم صحيح , واين المشاغبة الآن ؟! 

فنادت جاكلين القطة (بعد ان كبر حجمها) والتي نزلت من فوق الأدراج .. ..وفور رؤيتها لجاك حتى قفزت في حضنه !
جاكلين بدهشة : يا الهي .. مازالت تذكُرك ! 
وهو يلاعب القطة : بالطبع .. فأنا من انقذتها من العاصفة , والحيوانات وفيّة لأصحابها ..(ثم سكت قليلاً) .. اتدرين يا جاكلين .. عندما التقيت بك اوّل مرّة كنت مُحطّماً ويائساً من الحياة , وليس عندي هدف اعمل لأجله .. لكن بسببك تغيّرت كل حياتي ..فشكراً جزيلاً لك

- لا تبالغ يا جاك , فأنا لم افعل شيئاً .. بل انني مُمّتنة لعودتك الى هنا 
- بالتأكيد سأعود لأردّ ديني ... أنسيتي ؟
- لا تقلّ هذا .. كان مبلغاً زهيداً
- بل دينٌ كبير , ولأجله عملت ليل نهار .. وجاء اليوم لأردّه لك .. لكني سأحتاج الى سنواتٍ طويلة لأوفّيه كاملاً لك ..هذا في حال قبلتي بعرضي 
باستغراب : ايّ عرض ؟! 

وفاجأها بأن جثا على ركبته , رافعاً اليها الخاتم ..وهو يقول بارتباك : 
- هل تتزوجيني يا جاكلين ؟
فسكتت من شدّة الصدمة ! مما زاد من ارتباكه : 
جاك : اعرف ان حجم الماسّة صغير , لكني اعدك بأن أحضر لك في المرّة القادمة ..

فإذا بها تضمّه بحنان , قائلةً : 
- لوّلم تعرض عليّ الزواج الآن , لفقدّت ثقتي بجميع الرجال 
- أحقاً ! ظننت انك لن تقبلي برجلٍ التقيت به مشرّداً  
- بل انت لم تذهب يوماً من خيالي , وكنت البطل الذي أعانني في اسوء يومٍ مرّ بحياتي .. ومعدن الرجال الحقيقي لا يظهر الاّ في تلك الظروف الصعبة .. 

وبعد ان حضنها , وضع الخاتم في يدها .. 
فقالت له : من كان يُصدّق ان العاصفة ستكون سبب سعادتنا ؟!
- ستكون قصةً مثيرة نحكيها لأولادنا في المستقبل 
جاكلين بدهشة : ابنائنا ! 
فأجابها بابتسامة أنارت وجهه : نعم !! الكثير والكثير من الأطفال الذين سندلّلهم كثيراً , ونكون أفضل والدين لهم .. اعدك بذلك حبيبتي جاكلين  

فارتمت في صدره وهي تبكي دموع الفرح بعد ان تحقّقت امنيتها بالزواج من زوجٍ شهم ووالدٌ حنون لأولادها التي لا تطيق صبراً لإنجابهم .

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

المُتهمة الصغيرة !

تأليف : امل شانوحة


 
ارجوك إنقذني من هؤلاء الوحوش  

وصل جاك (الطبيب النفسي) الى العنوان المحدّد الذي أعطاه ايّاه صديقه الصحفي الذي طلب منه القدوم الى هناك لرؤية فتاةٍ تعاني من عقليّة أهل قريتها المُتخلّفة (لكنه لم يوضّح له مشكلتها معهم) 

ورغم اتصالات جاك المتكرّرة الا ان جوّال صديقه ظلّ مُغلقاً بعد تخلّفه عن الموعد المتفق بينهما ! لذا قرّر الطبيب الدخول الى القرية وحده لمعاينة حالة الفتاة النفسية التي ستكون (على حسب اقوال صديقه) مادةً دسمة في كتابه الطبّي الذي يقوم بتأليفه هذه الأيام .. 

وقد عبَرَ اولاً الغابة الكثيفة , الى ان وصل الى اكواخٍ خشبية .. لكن الأصوات كانت قادمة من بعيد , فتوجّه نحوها .. ليجد سكّان القرية مجتمعين في ساحةٍ تبدو وكأنها سوقهم الشعبي , وكانوا يقومون بتزينها تحضيراً لحفلٍ ما ! 
لكنهم صمتوا جميعاً فور رؤيتهم للشاب الغريب الذي اقتحم مكانهم السريّ دون استئذان ! لهذا لم يردّوا عليه السلام بل اكتفوا بالتحديق به بغضب لعدم احترامه خصوصيتهم .. 

وما ان وقف الطبيب في منتصف الأسواق حتى شاهد المفاجأة التي كان أخبره عنها صديقه (الذي إختفى دون مبررّ !)  
حيث وجد فتاةٌ (تبدو وكأنها في الثانية عشر من عمرها) تطلّ من نافذة بأعلى منزلٍ مهجور , وتنظر ناحية السوق الذي اكتظّ بأهل قريتها الذي لا يتجاوز عددهم المئة شخص .. 
فتسمّرت عينا جاك على نظراتها الحزينة اتجاهه وكأنها تترجّاه ليفكّ عنها الرباط القماشي الذي التف حول جسمها بإحكام , وكأنها بقيت مُقيدة هناك لمدةٍ طويلة !
***

وهنا وصل رجلٌ يبدو وكأنه رئيس القرية , لأنهم أحنوا رؤوسهم احتراماً له عند اقترابه منّي ..  وسألني مستفسراً : 
- مالذي أتى بك الينا ايها الغريب ؟ وكيف عرفت بمكاننا ؟!
فردّدت على سؤاله بسؤال : ولما تحاولون الإختباء داخل الغابة ؟! 
فأجابني أحد الرجال بنبرةٍ غاضبة : لكيّ نُبعد الطّفيليين امثالك عنّا !! فنحن تعاهدنا على العيش هنا دون وسائل التكنولوجيا المضرّة 
وأكمل رئيسهم قائلاً : نعم ..لقد قرّرنا جميعنا ترك الحضارة وراءنا , ولهذا اخترنا هذا المكان البعيد عن أعين الجميع , وخاصة الصحافة

فأجبته : لكن صديقي الصحفي هو من أخبرني عن مكانكم هذا , وأكيد سينشر قريباً مقالاً .. 
فقاطعني قائلاً بحزم : لقد حللّنا هذه المشكلة 
فسألته بدهشة وقلق : ماذا تقصد ؟! 
- دعك منه الآن , واخبرنا .. مالذي أتى بك الينا ؟

فأشرت الى الفتاة الصغيرة التي كانت تبكي بصمت وهي تحدّق بي بحزن .. وقلت لرئيسهم : 
- لقد أتيت لأجلها 
فشهقت إحدى النسوة المجتمعات حولي , قائلةً بفزع : 
- أأتيت لتنقذ الشيطانة ؟!

وقد ضايقني كلامها جداً , فقلت بنبرة تهديد : شيطانة ! انها فتاةٌ صغيرة .. واريد ان اعرف الآن سبب عقابكم لها , والاّ سأبلّغ عنكم الشرطة !! 
فضجّت الجموع الغاضبة , لكن رئيسهم استطاع تهدئتهم بإشارةٍ منه .. وقال لي : بل هي شيطانة بالفعل !! لأنها ابنة مشعوذة , ووالدها أحد الشياطين 

وهنا لم استطع تمالك نفسي وضحكت ساخراً من سخافتهم , مما زاد من غضبهم .. وقلت لهم : ان كانت شيطانة كما تقولون , فلما لم يأتي ابليس ويحرقكم جميعاً وينقذها منكم ؟!! 
فشدّني رئيسهم من قميصي بعنف , وقال لي بنظرةٍ أرعبتني : 
- هذه الفتاة التي تراها هناك .. تبلغ من العمر 35 سنة .. فهي عاشت معنا لسنواتٍ عديدة , لكن شكلها لم يتغير ابداً !

وهنا فهمت كل المشكلة , فأنا بالنهاية دكتور .. وقلت لهم : 
- لحظة لحظة ! الم تكونوا يوماً من سكّان المدينة , قبل ان تقرّروا العودة مئة سنة الى الوراء ؟ 
فقال رئيسهم : نعم , لقد تركنا مدينتنا منذ زمنٍ طويل 
- اذاً الم تسمعوا يوماً بمرض يدعى ((الخللّ في هرمون النمو)) ؟ 
فقالت لي احدى النسوة : لكنها ليست قزمة 
فقلت في نفسي : ((يا الهي ! ما كل هذا الغباء)) 

ثم بدأت بالشرح لهم :
- اسمعوني جيداً .. انا طبيبٌ نفسي , ودرست عن هذه الحالات النادرة ..والفتاة التي تخافون منها لا تشكو من ايّ خللٍ في عقلها , كل ما هنالك ان جسمها توقف عن النمو في عمر 12 سنة .. فهل يُعقل ان لا احد منكم قرأ او شاهد في التلفاز او الإنترنت عن هذا المرض ؟! 

فأشاروا برؤسهم (بلا) .. فأخرجت جوالي كيّ أريهم بعض الأشخاص الذين عانوا من نفس مشكلتها حول العالم , لكنه لم يكن هناك انترنت في هذا المكان المعزول .. والأسوء انهم استنكروا إخراجي لجوالي امامهم , فهم يعتبرونه من المحرّمات في عقيدتهم المتخلّفة .. حين قال لي رئيسهم بنبرة تهديد : 
- الأفضل ان تضعه في جيبك قبل ان أحطّمه لك !! 

ثم عمّ السكوت المُقلق بيننا , الى ان قطعه صوت رجلٍ عجوز يقول لي :
- انت تقول انها بشريّة وليست شيطانة , اليس كذلك ؟ 
فقلت له : نعم يا عمّ , هي انسانة مثلي ومثلك
ففاجأني قائلاً : اذاً كيف تفسّر انها لا تدخل الحمام او تأكل او تشرب منذ سنواتٍ طويلة ؟

فضجّت الجموع الموافقين على كلام العجوز .. لكني بالطبع لم اصدّق هذه الخرافة , بل اظنّ ان رئيسهم (الذي أخذ على عاتقه مهمّة مراقبة الشيطانة) كان يطعمها بالسرّ لكيّ يسيطر عليهم بأفكاره الغبية , هذا اذا لم يكن يستغلّ جسدها الصغير ايضاً .. 
فقلت في نفسي : ((من الأفضل ان أتوقف عن مجادلة الحمقى , الى ان أجدّ طريقة أحرّر فيها المسكينة من قبضتهم)) 
وقلت لهم مُصطنعاً الغباء : 
- حقاً ! طالما انها لا تأكل ولا تقوم بأفعال البشر , فهي اذاً شيطانة .. لكن عندي فضول لأعرف الطريقة التي قبضتم بها عليها ؟ 

فأجابني رئيسهم وعلى وجهه ابتسامة المُنتصر : انا من سجنتها بعد مراقبتي لها لفترةٍ طويلة , فهي تعوّدت على الخروج ليلاً لزيارة قبر والدتها والتكلّم معها بكلامٍ غير مفهوم .. وكأنها لغةٌ شيطانية ! فعرفت حينها انها ليست ببشريّة
- مع انني لا ارى مشكلة في زيارة البنت لأمها التي افتقدتها .. لكن اخبروني.. مالذي فعلته امها بالضبط كيّ تلقبوها بالمشعوذة ؟ 
فقالت لي احدى النسوة : الجميع يعرف بأن والدتها تمتهنّ الشعوذة , وهي اساساً لم تنكر ذلك وقت إحراقنا لها  

فأصابتني الدهشة والخوف : ماذا ! أأحرقتم الأم ؟! ... هذا إجرام !!! 
فقال رئيسهم : هي التحقت بجماعتنا عندما كانت حاملاً .. ثم انجبت هذه الطفلة .. ومن بعدها اختفت لشهرين فقط , لتعود الينا وابنتها بهذا الحجم الذي تراه  
وأشار الى الفتاة التي مازالت تنظر الينا من فوق ..

وهنا قال رجلٌ من الجموع : طبعاً , فأولاد الشياطين يكبرون بسرعة 
فقلت لهم بعصبية : ما هذا التخلّف ؟!! ربما كانت هذه ابنتها الكبرى التي كانت تعيش مع طليقها مثلاً ..
امرأة : واين طفلتها اذاً ؟ 
- ربما ماتت ولم تخبركم عنها !!

وهنا قالت لي امرأة اخرى : انا كنت القابلة التي ولّدتها .. والطفلة التي انجبتها تحمل نفسم الوحمة التي على ذراع هذه الفتاة , ومن المستحيل ان تملك الأختان نفس الوحمة وفي نفس المكان ! 
الرئيس : لأنها نفس الطفلة , لكنها كبرت بسرعة .. ومن ثم توقف نموها بعد ذلك .. فهل تعلّمت في الطبّ ما يُفسّر هذه الظاهرة الغريبة ؟
الطبيب : اعتقد انها تعاني من خللٍ هرموني نادر .. دعوني آخذها معي لأفحصها عند طبيب الغدّد ..

لكني تفاجأت بالرئيس يوجّه مسدسه نحو رأسي ! ويقول مهدداً :
- اذا اقتربت منها , سأقتلك وادفنك قرب والدتها .. فنحن بالكاد استطعنا السيطرة على هذه الشيطانة التي حوّلت حياتنا الى جحيم 
فقال رجلٌ آخر : نعم .. فبسبب هذه الحقيرة , ذبُلَ محصول ارضي بالكامل
وقالت امرأة بحزن : ومات طفلي بعد رميه لحجرةٍ صغيرة عليها , واطفال القرية يشهدون على ذلك
ورجلٌ آخر : كما انتشرت الأمراض بيننا دون سبب ! وقد تعبنا كثيراً الى ان عرفنا انها مصدر تلك الأوبئة 

ثم قالت سيدة لي : وبعد ان سجنّاها في تلك العلّية , لم تعدّ تصيبنا ايّة مشكلة 
رئيسهم : هذا صحيح ..لقد عانينا الأمرّين الى ان اكتشفنا بأنها مصدر تعاستنا , وسُجنُها كان قراراً جماعيّاً ..
فصرخت عليهم بغضب : يا الهي ! كفّوا عن هذه الخرافات !! 

وإذّ بالأصوات ترتفع مُطالبين رئيسهم بقتلي لحفظ اسرار القرية .. وحينها اعتراني خوفٌ كبير ! 
لكن لحسن حظي انتهى الموقف المُربك بعد قدوم الأطفال الينا .. حيث قال احد الصغار للرئيس : 
- سيدي اين الحفلة ؟! الم تخبرنا ان نأتي بهذا الوقت لنحتفل جميعنا ؟
وكان رئيس القرية أسرع في إخفاء مسدسه بعد حضور الأطفال , ثم همس لي قائلاً :
- إحمد ربك ان لدينا اليوم احتفالاً شعبي , والاّ لقتلتك على الفور !! 
ثم رفع صوته قائلاً للجميع :
- حسناً يا اصدقاء !! دعونا نحتفل اولاً , ثم نحلّ مشكلة هذا المتطفّل المزعج 
***

والغريب في الموضوع انهم سمحوا لي بالإحتفال معهم ! حتى انهم قدّموا لي الغداء .. 
في البداية رفضت تناول ايّ شيء لخوفي ان يدسّوا به السمّ .. وقد فهم الرئيس سبب تردّدي , فأخذ قطعة لحم من صحني وأكله امامي ..ثم همس لي قائلاً :
- نحن لا نعاقب احداً دون محاكمةٍ عادلة ..فتناول طعامك قبل ان يبرد 
وقد أربكتني نظراته الحادّة ممّا أجبرني على الإحتفال معهم , لأني لم أرغب في تحدّيهم أكثر من ذلك 

وبصراحة اللحم لم يُعجبني بالمرّة ! فقد كان صعب المضغ ومالحاً للغاية .. لكن الطباخة العجوز برّرت لي ذلك بإنه لحم غزال كبيرٌ في السنّ ..فشكرتها وأكملت طعامي مُجبراً ..
***

وقد طال زمن الإحتفال الى ان حلّ المساء .. فانتظرت حتى انشغل الجميع بالحفل الموسيقي .. ثم تسلّلت من بينهم ناحية المنزل المهجور .. واقتحمت بابه الخشبي الذي لم يتطلّب مني سوى دفعتين قويتين بالكتف لكسر قفله الصدىء .. 

وصعدت مباشرةً للعلّية , فوجدّت المسكينة نائمة فوق فراشٍ من القشّ , ويداها مربوطتان للخلف بالقماش , وكانت شديدة الهزال .. 
فحملتها بين ذراعيّ ونزلت بها الأدراج , مُبتعداً عن الكوخ .. 
وكنت أدعي ربي بخوف أثناء توغّلي داخل الغابة المظلمة , الى ان وصلت اخيراً الى سيارتي المركونة على جانب الطريق.. 

ثم وضعت الصغيرة النائمة بالمقاعد الخلفية .. وانطلقت كالمجنون لأبتعد قدر المستطاع عن القرية المجنونة التي أنوي ذكر قصتهم في كتابي الذي سأنشره قريباً 
***

ووصلت مع تباشير الصباح الى محطة بنزين , امامها مطعمٌ صغير .. فقلت في نفسي , وانا انظر اليها من خلال مرآتي :
((المسكينة ! مازالت نائمة الى الآن , يبدو ان الجوع أنهك قوتها .. سأحضر لها الطعام)) 

وما ان طلبت الطعام حتى تذكّرت انني لم افكّ قيودها بعد ! لأن كل همّي كان الإبتعاد عن ذلك المكان المخيف .. فقلت في نفسي :
((عليّ الإسراع بطلب الطعام قبل ان يراها احد مُقيدة في سيارتي ويظنّ بأنني اختطفتها ! .. من الجيد انني ركنت سيارتي بعيداً عن عمّال المحطة)) 

لكن الغريب انني فور خروجي من المطعم , وجدتها تجلس بهدوء في المقعد الأمامي , ومن دون قيود ! 
فطالما انها تستطيع تحرير نفسها , فلما لم تفعل ذلك وهي محتجزة بتلك الغرفة ؟! .. او ربما كانت خائفة من عقاب رئيس القرية في حال فعلت ! ..حسناً لا يهمّ .. لأذهب واعطيها الطعام .. 

ثم جلست بجانبها بالسيارة وبدأنا بتناول قطع الدجاج المقلي ..لكنها أنهت طعامها قبلي بعد ان تناولته بنهمٍ شديد.. فسألتها بشفقة :
- منذ متى لم يطعموك ؟
- منذ وقتٍ طويل 
- الملاعين !!

وقبل ان اكمل المسير , قلت لها :
- عزيزتي .. إدخلي الحمام قبل ان نتحرّك , فرحلتنا ما تزال طويلة 
- لقد دخلت قبل قليل
- متى ؟!
- عندما دخلت المطعم
- آه فهمت !

وبعد ان مشينا عدّة امتار , اقتربت من حاوية نفايات موجودة على جانب الطريق .. وابطأت السرعة لكيّ نرمي به بقايا الطعام .. وقد لمحتها لثوانيٍ وهي ترمي بصحنها البلاستيكي الذي بدا لي فارغاً ! بعكس صحني الذي امتلأ ببقايا الدجاج .. فهل أكلت العظام ايضاً ؟! .. لا طبعاً , هذا مستحيل .. لكن يبدو ان كلام اهل القرية الأغبياء أثّر في تفكيري .. لأكمل طريقي بهدوء..
***

ثم عمّ الصمت بيننا طوال الرحلة .. الى ان حلّ المساء , وحينها سألتها : 
- كم كان عمرك حين توفيت امك ؟
- هي لم تتوفّى , بل احرقوها امام عيني
- أحقاً ! يالهم من مجرمين .. وكم كان عمرك وقتها ؟!
- بعمري الحالي

ورغم انني لم افهم قصدها ! الاّ انني فضّلت السكوت بعد ان بدا الحزن واضحاً على وجهها ..
فقلت في نفسي : ((والله سأبلّغ عنهم الشرطة فور وصولي للمدينة))
لكنها فاجأتني قائلة : لا تفعل !! فهم سيختفون جميعاً من هناك

وقد أربكني جوابها كثيراً ! فأولاً : كيف سمعت ما يدور في ذهني ؟! وثانياً : ماذا تقصد بيختفون ؟! هل قصدها انهم سيغيّرون مكانهم بعد إكتشافهم لرحيلنا ؟ .. لا ادري ..المهم الآن ان أُوصلها لمؤسسةٍ ما تهتم بها.. لأنه في حال إفترضنا انها بالفعل امرأة بالغة بجسمٍ صغير ! فمن الخطأ ان تعيش معي خوفاً من ان تقع في حبي , وأتورّط انا لاحقاً بتهمّة الإعتداء على طفلة , فهي بالنهاية لا تملك اوراقاً رسمية تُثبت عمرها الحقيقي .. هذا في حال كان كلام رئيس القبيلة عنها صحيحاً !
وبينما انا شاردٌ بأفكاري , تفاجأت بقولها : 
- ليس مسموحاً لي أن احبك , لأن ابليس سيعاقبني ان فعلت

وهنا تجمّد الدم في عروقي ! 
وما ان التفتّ اليها , حتى رأيت عينيها قد تحوّلتا لعينيّ قطة ! 

ولا ادري ما حصل بعدها .. فكلّ ما اتذكّره هو انني خرجت من سيارتي المحطّمة وانا انزف من جبيني وانفي بعدما ارتطمت بقوة في سور الجسر .. لكن الأسوء هو ما رأيته في جنح الظلام .. حيث كانت الطفلة تقف فوق حافّة السور وكأنها تنوي الإنتحار ! 
فاقتربت منها ببطأ , وانا ارتجف قائلاً :
- لا تقفزي ارجوك .. يا 
فأجابتني بهدوء وهي تُمعن النظر في البحر الموجود اسفل الجسر
- اسمي انجيلا 
- لا تقفزي يا انجيلا .. ستموتين ان فعلتي
لكنها لم تجيبني .. 

فقلت لها :
- لا ادري ما فعله الحقير بك , ولا افهم ما حصل لنا قبل قليل .. لكني اعتذر منك , فقد فقدّت السيطرة على السيارة بعدما تخيّلت عينيك ..
فأكملت عني قائلة : ما رأيته كان حقيقياً 

ثم قفزت بخفّة ناحيتي , مُبتعدةً عن السور .. وأمسكت يدي بقوةٍ تُشابه قوة الرجال ! وقالت لي : 
- لا تنظر اليّ هكذا , فأنا لست شيطانة كما يقولون عني  
- أعرف هذا .. لكنك..
فقاطعتني مُبتسمة : بالحقيقة .. انا مجرّد جنّية صغيرة
فصرخت بصدمة : ماذا !

وحاولت إبعاد يدي , لكنها كانت تقبض عليها بقوة .. وقالت لي :
- لا تخف منّي يا جاك .. فأنا تطوّعت للبحث عنك 
فسألتها بخوف : ماذا تقصدين ؟!
فتنهّدت بضيق ثم قالت : المشكلة ابتدأت مع تلك المشعوذة الغبية
- تقصدين امك ؟!
- ليست امي ... بل امك انت !!
- ماذا تهلوسين يا فتاة ؟! فأهلي توفيا في حادث ..
فأكملت عني قائلة : بحادث سيارة فوق هذا الجسر بالذات ..وتحديداً في المكان الذي ارتطمت به سيارتك قبل قليل .. اليس كذلك ؟

وقد صدمني كلامها جداً ! لأني تذكّرت الآن ما قاله لي ذلك الشرطي الذي قدِمَ الى غرفتي في المستشفى الذي أعمل فيها 
الفتاة : اتريد ان تعرف ما حصل لهما ؟ 

فالتزمت الصمت , بعد ان شلّ كلامها الغير منطقي تفكيري تماماً ! فأجابتني قائلة : 
- والدك شاهدني ايضاً لكن بشكلي الحقيقي المخيف , وكنت أقف في منتصف هذا الجسر , فارتبك المسكين وارتطم بسور الجسر , لكن حادثته كانت اقوى من حادثتنا بسبب الأرض الزلقة من المطر الذي تساقط بغزارة ذلك اليوم .. فمات هو ووالدتك على الفور 
فسألتها بغضب : ولما قتلتهما ؟!!
- لأنهما كانا سيُصعّبان عليّ مهمّة إعادتك الى بيتك الحقيقي 
- انا لا افهم شيئاً !
- على كلٍ لا تحزن كثيراً عليهما , فهما ليسا والداك الحقيقيين .. بل اهلك بالتبني ..وقبل ان تقاطعني , سأخبرك القصة كاملةً ..

فاستمعت اليها وقلبي يرتجف بقوة , لأنه طوال سنوات مهنتي في الطب لم أقابل يوماً فتاةً مريضة نفسية بهذا الشكل المخيف ! 
الفتاة : امك الحقيقية كانت من نسلٍ نادر من الجن , حيث أُبيد جميع شعبها بحروبٍ قديمة مع ابناء ابليس ..ولكيّ لا تُفنى هذه السلالة نهائياً قام ابليس بالزواج من امك , لكنها هربت من مملكتنا بعد حملها بك , لأن حلم حياتها كان ان تعيش كبشريّة ! ولكيّ لا نقتفي أثركما قامت بوضع تعويذة داخل قلادتها وقلادتك التي تلبسها في رقبتك الآن 
- هذه كانت هدية من والدي !

- لا ليس صحيحاً .. والآن إخبرني .. هل أزلت يوماً هذه القلادة من رقبتك ؟
- لا .. وكلما حاولت , أغيّر تفكيري فجأة !
- طبعاً فأمك تُجيد الشعوذة , لكنها كانت غبية جداً عندما قرّرت التخلّي عن هويتها الشيطانية 
- لنفترض ان كلامك صحيح , فأين هي امي الآن ؟
- ماتت كامرأةٍ فقيرة , وتمّ ارسالك الى دار الأيتام حيث تبنّاك والداك .. المهم دعني أكمل لك القصة .. (وتنهّدت قليلاً) .. يبدو ان أمك وضعت تعويذة أخرى في عقدك تمنعك من إزالتها من رقبتك 

فقاطعتها قائلاً : لا هذا غير صحيح , فصديقي الصحفي أخذها مني قبل عدة ايام
بابتسامةٍ ماكرة : وجيد انه فعل .. أتذكر اين ازالها ؟ 
ففكّرت قليلاً ثم قلت : كنّا حينها نسبح في البحر  
- هذا صحيح , فالبحر يُلغي جميع التعويذات السحرية .. وعندما ازال قلادتك لبعض الوقت استطعنا سماع حديثكما بوضوح , وكان يخبرك وقتها عن اهل قرية الذي صادفهم اثناء رحلته , والذين يكرهون التكنولوجيا ويختبئون داخل غابةٍ سرّية .. وعلى الفور أرسلني ابليس مع اصدقائي الجنّ للسيطرة على اهل القرية قبل وصولك اليهم 

- أتقصدين ان جميعهم ملبوسين من قِبَل الشياطين ؟!
- نعم .. وقد حبست نفسي داخل الغرفة , وارسلت اليك رسائل ضمنية عن طريق التخاطر لكي تأتي وتنقذني من هناك 
- يعني كل قصتك كانت مُختلقة ؟
- هذا صحيح .. لكن فضول صديقك الصحفي كان على وشك ان يفسد علينا المخطط حينما وصل الى القرية قبلك
فسألتها برعب : وماذا حصل له ؟!
فأجابتني بابتسامةٍ مُستفزة : إخبرني انت .. كيف كان طعم لحم الغزال ؟ مالحٌ قليلاً , اليس كذلك ؟

فأمسكت ذراعها وهززّتها بعنف : ماذا تقصدين ؟!! هل قتلتموه ايّها الملاعيين ؟
بابتسامةٍ ماكرة : نحن قتلناه فقط , لكنك الوحيد الذي أكل من لحمه ايّها المتوحّش !
وقبل ان أعيّ هذا الكمّ من الخزعبلات في عقلي الذي يكاد ينفجر , فاجأتني بإمساكها يديّ بقوة .. 

وبخلال ثوانيٍ .. وجدت نفسي أقفز معها , لأقف مندهشاً قربها عند حافّة الجسر ! حيث كان جسمي يترنّح من شدّة الرياح , وانا احاول التوازن  بصعوبة .. فقلت لها بصوتٍ مرتجف وبخوفٍ شديد :
- توقفي يا انجيلا !! فأنا لا اريد الإنتحار

- ومن قال اننا سنموت .. انا فقط سآخذك الى والدك .. فإبليس مُشتاقٌ اليك كثيراً , وينتظرك منذ سنواتٍ طويلة .. وإحدى قصوره تقع تحت هذه البقعة من البحر تحديداً 
وأشارت ناحية البحر المظلم الهائج .. 

فصرخت بعلوّ صوتي , وانا احاول التحرّر من قبضتها العنيفة : 
- اتركيني يا مجنونة !!! انا انسانٌ عادي , ولست شيطاناً مثلك .. انا انسان .. انسسسسسسسسسسسسان !!!!!
***

وكانت تلك صرخة الشاب الأخيرة قبل ان يختفي أثره معها بين الأمواج العاتية .. فهل كان ذلك انتحاراً لطبيبٍ نفسيّ برفقة طفلةٍ مجنونة , ام انها أتمّت مُهمّتها بنجاح وأعادته الى والده ابليس بعد طول انتظار ؟!

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2017

رسالة الإنتحار المرعبة !

تأليف : امل شانوحة

ضميري يقتلني !!!

((لا استطيع تحمّل المزيد !!!! فلم يعدّ هناك مكاناً كافياً لدفن الجثث !  وبرُغم أعدادهنّ الكثيرة الاّ ان ليندا وحدها تصرّ على ملاحقتي , مع انها قُتلت منذ سنواتٍ طويلة ! فلما لا أرى من بين تلك النسوة , سوى وجهها الشاحب المخيف ؟! حقاَ لم يعدّ في إمكاني تحمّل تأنيب الضمير , لهذا قرّرت اليوم ان ألتقي بهنّ جميعاً في الجحيم .. الوداع ايتها الدنيا التعيسة بكلّ ما أعطيتني من ذكرياتٍ لعينة))

قرأ المحقق هذه الرسالة الورقية مرّاتٍ عدّة دون ان يفهمها ! فلما كتبها هذا الشاب قبل ان يشنق نفسه مباشرةً عبر شاشة الفيسبوك , حيث شاهدها الآلاف ؟! لكن لا احد من متابعين قناته المريبة قرأ مضمون رسالة انتحاره التي أربكت جهاز الشرطة التي أعطت الإذن بتفتيش منزل الشاب تفتيشاً دقيقاً للبحث عن بقايا الضحايا الذي أعترف ضمنياً في رسالته بقتلهنّ ... فأين يا ترى أخفى جثث النساء , ومن يكونوا ؟!
***

ومرّ شهرٌ كامل .. تمّ البحث فيه بكل جزءٍ من منزل الشاب المنتحر , حتى انهم حفروا قبو بيته لثلاثة امتار , وكسروا كل الجدران الداخلية , لكنهم مع هذا لم يجدوا أثراً لأيةِ جثة ! 
فلما كذب في رسالته الأخيرة ؟ امّ انه قام بدفنهنّ في مكانٍ آخر ؟! 
وهذا ما كان يخطر في بال المحقق , خاصة ان منزل الشاب يقع قرب غابةٍ صغيرة مُهملة (موجودة بأطراف القرية) .. 
وقد حصل المحقق على الإذن بتفتيش الغابة مُستعيناً بفرقة خاصة من الشرطة مع كلابها المدرّبة .. لكنهم ايضاً لم يجدوا ايّ شيءٍ مريب هناك ! 
***

وبمرور الوقت .. أُغلقت القضية من قِبل ادارة الشرطة بحجة ان المنتحر كان مضطرباً عقلياً , لكن مع هذا ظلّ حدس المحقق يقنعه بأن ما كُتِبَ في رسالة الإنتحار صحيحاً .. 
***

وبعد يومين من اغلاق القضية .. ذهب المحقق مجدداً الى الغابة التي تمّ نبش ارضها بالكامل , وهناك اقترب منه رجلاً كبير في السن :
- هل بامكاني سؤالك .. مالذي كانت تفعله الشرطة بالغابة طوال الشهرين الماضيين ؟

لكن المحقق لم يرغب في اخباره بفرضيّة الجثث لأنه لم يُردّ إثارة البلبلة في القرية , مع انعدام وجود الأدلة .. فسأل العجوز قائلاً :
- إخبرني اولاً ..هل انت من السكّان القدامى للقرية ؟ فأنا نُقلت الى مركزكم منذ وقتٍ قصير ..
العجوز : نعم انا عشت هنا طوال حياتي , وأعرف تقريباً كل شخصٍ فيها
- جيد .. وهل تعرف الشاب الذي انتحر منذ ثلاثة اشهر ؟ 
العجوز : نعم , لكنه كان قليل الكلام .. وهو اصلاً غريب عن القرية
المحقق باهتمام : ماذا تقصد ؟!

- هو قِدمَ الينا منذ سنة فقط .. من القرية المجاورة , على ما اعتقد ..لكنه كان منعزلاً عن الجميع .. حتى ايام الاعياد كان يحبس نفسه في المنزل !
- وماذا كان يعمل ليعيش ؟ 
- سألته مرة .. وقال ان عمله كلّه على الإنترنت , ولهذا لا يخرج كثيراً !

فشكره المحقق على هذه المعلومات المهمّة .. وعاد الى مكتبه في مركز الشرطة للبحث عن عنوان منزل الشاب في القرية الثانية .. وقد وجده بعد بحثٍ طويل 
***

وفي اليوم التالي .. ذهب المحقق الى هناك.. وبعد ان وصل الى مكتب رئيس البلدية في القرية الثانية , سأله عن هويّة الشاب المنتحر .. فعرف منه معلوماتٍ غريبة ! 
فالشاب كان لقيطاً تم تبنّيه من قِبل زوجين لا يُنجبان .. وقد توفيت امه في عمر الخامسة , وظلّ يعيش مع والده بالتبني الى ان رحل من منزله دون رجعة !

المحقق : أتقصد ان والده توفي , ام انه رحل من القرية ؟!
رئيس البلدية : لا احد يعلم ما حصل له , ولا حتى ابنه ! .. اساساً هو كان رجلاً سكّيراً ووالداً قاسياً , لهذا اصبح ابنه مضطرباً نفسياً .. ولذلك لم أتفاجىء حين أخبرتني بانتحاره لأنها النتيجة المتوقعة لتربية والده العنيفة معه , هذا عدا عن موقع منزلهما المخيف !  
المحقق باهتمام : ماذا تعني ؟!
- كانت عائلته في البداية تعيش في وسط القرية كأغلبية السكّان , لكن بعد وفاة ام الصبي انتقل الأب مع ابنه الصغير الى بيتٍ مهجور موجود قرب حقول الذرة  
المحقق : غريب ! وبيت الشاب في القرية التي أعمل بها موجوداً ايضاً قرب غابةٍ مهجورة ..فلما يختارا دائماً الأماكن البعيدة عن البشر ؟!

رئيس البلدية : لا ادري , لكن جارتي أخبرتني يوماً : بأنها رأت الشاب يخرج من حقل الذرة ليلاً , وبيده مجرفة .. ومن بعدها لم نعد نرى والده  في القرية !
- أتظنّ انه قام بدفنه هناك ؟!
- من الأفضل ان تستعين بالكلاب المدرّبة لتعرف هذا الجواب 
- سأفعل .. سؤال أخير .. هل هناك فتيات في منطقتكم إختفينّ خلال السنوات الماضية ؟

ففكّر رئيس البلدية قليلاً , ثم أجاب : 
- نعم .. فتاتين .. منذ سبعة سنوات تقريباً .. وكانتا سيئتا السمعة .. وكنّ نلقبهما ((بمشاغبتيّ القرية)) 
- آه فهمت .. وهل هناك مفقودات غيرهما ؟ 
- نعم .. فقبل سنواتٍ طويلة .. لا أدري متى بالضبط .. أتت الينا حافلة مُحمّلة بالبنات الرخيصات للإحتفال برأس السنة عندنا .. وقد أحدث هذا بلبلة وغضب لدى العائلات المحترمة في قريتي
- وماذا حصل لهنّ ؟

- أختفت من بينهنّ فتاةٌ آسيوية ! مما أرعب الباقيات , فهربنّ من منطقتنا قبل يومٍ واحد من الإحتفال المُنظّم .. وقد ارتاح الجميع من رحيلهنّ المفاجىء , حتى انني سمعت أحدهم يقول : بأن هذا سيعلمهنّ درساً كيّ لا يفكّروا ثانيةً بتوسيخ سمعة بلدتنا  
- وهل تذكر من قال هذه العبارة بالضبط ؟
فسكت رئيس البلدية قليلاً , ثم قال : 
- آه نعم , تذكّرت !! .. لقد قالها والد الشاب المنتحر !  
المحقق بابتسامة وبارتياحٍ شديد : وهذا ما أردّت معرفته !!
***

وقد استطاع المحقق فتح القضية من جديد بعد اكتشافه لهذه المعلومات الجديدة المهمّة , لكنه وعد مديره بأنه سيغلق الموضوع ثانيةً في حال لم يجد ايةِ جثة خلال شهرين .. 

ومع بداية الأسبوع .. بدأ تفتيش عناصر الشرطة لمنزل والد الشاب , كما في حقل الذرة القريب من منزلهما المهجور ..
وبعد اربعة ايام فقط .. وجدوا أول جثة مدفونة في الحقول , وكانت لفتاةٍ رخيصة اختفت منذ مدة !
وبعدها بأيام .. وجدوا فتاةً ثانية ..

وبنهاية الشهرين .. لم تجد الشرطة فقط الجثث الثلاثة , بل ايضاً 17 جثة  اخرى ! وقد أرسلت عظامهنّ الى المشرحة لمعرفة هويتهنّ .. 
كما تمّ نشر هذه المعلومات في كافّة مراكز الشرطة القريبة من منطقة الجريمة لمعرفة اسماء المفقودات من النساء , فوالد الشاب كان يعمل سائق شاحنة لنقل المنتجات الغذائية من المدينة الى القرى المجاورة , وربما أقلّ معه تلك الفتيات ليقوم لاحقاً بالإعتداء عليهنّ , ومن ثم قتلهنّ ودفنهنّ بالحقل القريب من منزله ..
وفي حال كان هذا صحيحاً , فما هو دور الإبن ؟ هل كان يساعده بالإعتداء والقتل ؟ ام انه إكتفى بالتخلّص من الجثث ؟ كما رأته الجارة يفعل ذلك المساء ! 

وقد ظهرت الإجابة مع اكتشاف جثةً مدفونة في قبو منزل والده , حيث أظهر التشريح إنها الأقدم بين الجثث , وقتلت منذ عشرين سنة ! 
وهذا يؤكّد بأن الوالد هو من قام بقتلهنّ , لأن الشاب حينها كان مايزال في الخامسة من عمره .. لكن هل شهِدَ مقتلها , بما انها الوحيدة التي دُفنت في قبو المنزل ؟! .. ولمن تعود صاحبة الجثة الأولى ؟ 

وهنا تذكّر المحقق مضمون رسالة المنتحر , فسأل الشرطي الذي يعمل معه :
- هل هناك فتاة ليل فُقدت منذ عشرين سنة , اسمها ليندا ؟
- سأقوم بالبحث فوراً , سيدي

وبالفعل وجدوا تقريراً قديماً للشرطة في مركز المدينة , حيث ابلّغ فيه القوّاد عن ضياع أحد بنات مرقصه اثناء تواجدهم في هذه القرية قبيل احتفالات رأس السنة (كما اخبره سابقاً رئيس البلدية) وهي من اصولٍ آسيوية واسمها ليندا.. 
المحققّ وهو ينظر الى صورتها : يبدو ان روحها لاحقت الشاب طوال حياته , الى ان أجبرته أخيراً على الإنتحار !  
الشرطي : لكنه كان طفلاً حين ماتت , فهل يُعقل ان يقوم الوالد بتعذيبها وقتلها امام ناظريّ ابنه الوحيد ؟! 
المحقق : لا تنسى انه ابنه بالتبني , وكما قالت لي جارتهم : انه اخبرها مرّة بأنه كرِه تماماً فكرة التبنّي , لكن زوجته المرحومة هي من أرغمته على تحمّل هذه المسؤولية المتعبة !  

الشرطي : وبعد وفاة زوجته وجد نفسه عالقاً مع طفلٍ صغير , خاصة ان عمله يتطلّب منه السفر طوال الوقت
- نعم صحيح .. ولهذا كان يضعه عند جارته التي أخبرتني : بأنه كان صبياً مشاكساً , يحب قلع رؤوس الدمى لبناتها .. حتى انه مرّة رمى بقطتهم من اعلى السلم دون احساسٍ بالذنب !
- أتظنّه كان يحاول تقليد والده ؟! 
المحقّق : لا ادري .. لكني مازلت اشعر بأن الشاب لم يقتل احداً بل قام فقط بدفنهنّ , ولهذا لم نجد جثثاً في منزله الثاني بقريتنا .. وسأحاول إثبات هذه الفرضية للجميع
***

وقد عاد المحقق الى القرية (التي يعمل بها) كيّ يبحث في غرفة الشاب التي انتحر فيها .. فوجد من ضمن اغراضه : دفتراً صغير كتب عليه بعض مذكراته ..وكان أهم ما قاله هو عن ضحية والده الأولى :

(( اللعنة !! لقد رأيت ليندا مجدداً ! فلما لم تبقى الملعونة بمنزل والدي ! وكيف عرفت بعنواني الجديد ؟! 
فقد رأيتها البارحة في منامي , وهي تعاتبني مجدداً لأنني لم اساعدها ..لكن كيف افعل وانا كنت وقتها ولداً صغيراً ! هل كانت تظن انه بإمكاني التبليغ عن والدي خلال سجنه لها لأسبوعاً كاملاً في قبو منزلنا ؟! الا يكفي انني كنت مُجبراً على سماع صراخها المرعب طوال الليل ! 
ووالله حاولت انقاذها اكثر من مرة , وترجّيته كثيراً لكيّ يتركها في حال سبيلها , لكنه دائماً كان يجيبني : بأنه لابدّ التخلّص من الفتيات الرخيصات لتطهير مجتمعاتنا من هذه القذارة .. 

لكن ما يحزنني حقاً هو انني شاهدت لحظة موتها ! 
كان ذلك في منتصف ليلةٍ باردة , حين نزلت الى القبو لأطلب من والدي التوقف عن تعذيبها كيّ انام قليلاً , فشاهدتها تفلت من بين يديه لتحبو بألم على الدرج , وقد امتلأ وجهها بالدماء بعد ان فقأ ابي عينها .. لكنها سقطت فجأة قرب قدمي حين غرز فأسه في رأسها !  
ومازلت أتذكّر الى اليوم نظرة عينها الواحدة , قبل ان تتحوّل الى عينٍ بيضاء بعد خروج روحها .. 
يا الهي كم اكره والدي !! فهو من أجبرني على دفنهنّ الواحدة تلوّ الأخرى .. وقد امتلأ الحقل بجثثهنّ المشوّهة ! 
والأسوء انني كلما حفرت قبراً جديداً , كنت أجد ليندا واقفة بقربي وهي تراقبني بعينها التي لم تفقأ ! 

وحتى بعد قتلي لوالدي , لم تسامحني ! فماذا عسايّ ان أفعل كيّ تتركني ليندا بسلام ؟ وما ذنبي ان أعيش في الجحيم بسبب افعال والدي السكّير ..فأنا لم اقتل في حياتي سوى هذا المجرم .. فلما لا يرتاح ضميري ؟!
كم اتمنى ان يساعدني احد , قبل ان اموت بذنبٍ ليس بذنبي !))

وبعد قراءة المحقق لهذه المذكرات , أصدر أمراً لفريقه بالعودة الى تلك القرية من جديد للبحث عن جثة والد الشاب المفقودة (بعد ان تذكّر ما قاله له رئيس بلديتها عن يوم اختفاء الوالد)..

وقد وجدوه بعد ساعاتٍ من البحث مدفوناً خلف المنزل المهجور , على بعد امتارٍ قليلة من حقل الذرة 
لكن الغريب في الأمر انه لم يكن مقتولاً , بل أظهر تقرير التشريح انه توفيّ بسبب افراطه بشرب الخمور الذي أتلف كبده ! 
فلما كان الشاب يعترف بمذكراته بشيءٍ لم يفعله ! 

وكانت الإجابة عن هذا السؤال عند الطبيب النفسي التابع لمركز الشرطة , حيث أخبر المحقق قائلاً :
- يبدو ان الشاب كان يشعر بتأنيب الضمير لعجزه عن ايقاف الأعمال الإجرامية لوالده , ومع الوقت صار يتخيّل بأنه هو من قام بقتلهنّ جميعاً .. وبعد وفاة والده بشكلٍ طبيعي صار يُقنع نفسه بأنه تصرّف كالأبطال بقتله لوالده الظالم .. لكنه بالحقيقة لم يرتكب ايّ ذنب سوى إخفاء الجثث , مُجبراً من قِبل والده

المحقق : بل ذنبه اكبر من ذلك , لأنه كان بإمكانه ابلاغ الشرطة لتوقيف والده عند حدّه , لكنه فضّل السكوت .. وهذه ايضاً جريمة تستوجب العقاب .. فكما تعرف .. الضحايا لم تكنّ جميعها لبنات الليل , بل بعضها يعود الى فتياتٍ قاصرات هربنّ من منزل عائلاتهنّ لسببٍ او لآخر , وسوء حظهنّ جمعهنّ بوالد الشاب على الطريق السريع .. ولوّ كنّا استطعنا القبض عليهما , لكنّا عاقبنا كلا الوالد والإبن على هذه الجرائم 

الطبيب : وهو عاقب نفسه بالفعل عن طريق الإنتحار ..
فأوما المحقق برأسه موافقاً وهو يقول : هذا صحيح .. (ثم يتنهد بضيق).. اعتقد بأن ليندا وصاحباتها ينتقمنّ الآن منه ومن والده في الجحيم .. 
الطبيب بحسرة : وهذه قصة من بين آلاف القصص التي يدفع فيها الأبناء اخطاء آبائهم .. فيالها من دنيا قاسية وغير عادلة التي نحياها !
***

وقد تم لاحقاً إغلاق القضية ببراءة الشاب , وإسناد جميع الجرائم والتهمّ الى والده الذي كان محظوظاً بأنه لم تنلّ منه يدّ العدالة .. لكنه حتماً سيُنفّذ به حكم العدالة الإلهيّة في يوم الحساب .

الخميس، 14 ديسمبر 2017

الزواج في الغربة

تأليف : امل شانوحة


 
كان إرتباطي به خَاطِئاً !

في إحدى الليالي وفي بلدةٍ صغيرة بإلمانيا .. عرف احمد بأن ابنته المراهقة (18عام) ذهبت ثانيةً الى البار مع اصدقائها رغم انه عاقبها في المرّة الأولى .. لكنه يدرك تماماً بأن امها الأجنبية (طليقته) تحاول إفسادها بالسماح لها (في وقت مبيتها عندها) بمواعدة الشباب وشرب الكحول كنوع من الإنتقام من والدها الملتزم دينياً !

فذهب غاضباً الى هناك لإعادة ابنته السكرانة الى بيته , وهناك رأى شيئاً غريباً ! فقد وجد امرأة محجبة تبكي داخل البار بعد ان التفّ حولها ثلاثة من الشبّان الإلمان الحاقدين (بوشومهم النازيّة) وبدأوا يضايقونها باللمس والشتائم العنصرية .. وبدت له خائفة جداً , وهي تتلفّت حولها بقلق وكأنها تبحث عن شخصٍ ما ! 
فطلب احمد من ابنته انتظاره بالسيارة , وقد رضخت للأمر لأنها لا تريد إغضابه أكثر ..

ومن بعدها توجّه ناحية المرأة المحجبة ليُبعد عنها الشباب المشاكسين , وقد تركوها بعد رؤيتهم لجسم أحمد الرياضي الضخم  
ثم اقترب منها وسألها باللغة الإلمانية :
- مالذي احضرك الى هذا المكان القذر ؟!
لكنها نظرت اليه والدموع في عينيها , وكأنها لم تفهم ما قاله ! 
فعاد وسألها باللغة العربية :
- هل انت عربية ؟
فابتسمت بارتياحٍ شديد وقالت له :
- نعم !! نعم انا عربية .. الحمد الله انني وجدت أحداً يتكلّم بلغتي !

- ومالذي أتى بك الى البار ؟!
فقالت بحزن : زوجي دخل الى هنا منذ ساعتين , وتركني وحدي في السيارة .. وقد خفت كثيراً بعد اغلاقه لجواله ! فدخلت لأناديه , لكني لم أجده بالداخل ! والمشكلة انني أتيت معه الى المانيا منذ مدّةٍ قصيرة , ولا أتقن لغتهم بعد  
- سامحه الله .. متزوج بكِ حديثاً , ويأتي الى هنا لمصاحبة البنات !
- لا !! فزوجي قال بأنه سيحضر بعض السجائر من هذا المحل
- هنا لا يوجد سوى خمور ونساء رخيصات .. تعالي معي لأسأل لك عنه .. هل لديك صورة له على جوالك ؟
- نعم .. 

ثم سأل احمد نادل البار عن زوج السيدة .. وبعد ان رأى النادل الصورة من جوالها , قال لهما :
- رجلٌ بملامح عربية .. نعم عرفته .. كان هنا منذ قليل , لكنه ذهب مع إحدى فتيات البار الى فندقٍ ما , ولا ادري ان كان سيعود الى هنا او سيبيت معها حتى الصباح

ففضّل احمد ان لا يخبر السيدة العربية بما قاله النادل الإلماني , بل قال لها : زوجك خرج من هنا .. فاعطيني عنوان منزلك كيّ اعيدك اليه 

فاجتاحت المرأة مشاعر مختلطة بين الغضب والقهر والقلق الشديد , وقد لاحظ احمد إرتباكها فأسرع قائلاً :  
- ابنتي المراهقة ستكون معنا في السيارة , فاطمئني .. فقط إخبريني بعنوان منزلك ؟
السيدة بقلق : انا لا اعرف سوى اسم المنطقة التي اعيش فيها 
- الا تعرفين اسم الحيّ ؟!
- اعرف شكله الخارجي فقط .. وإذا أخذتني الى هناك , فأظنّني سأعرف الطريق الى بيتي
***

وما ان وصلوا لذلك الحيّ , حتى قالت السيدة بارتياح :
- نعم هذا هو بيتي .. هناك !!
احمد : غريب ! انه قرب بيتي .. يبدو اننا جيران
- أحقاً ! من جيد ان جارنا عربيٌّ مثلنا .. تشرّفت بمعرفتك أخ احمد
وقبل ان تنزل من سيارته , قال لها :
- سيدة هدى .. زوجك ليس بالشخص الجيد , فانتبهي على نفسك .. وان حصل شيءٌ مماثل فلا تلحقي به , فقط اتصلي بي وانا سأبحث لك عنه .. هذه بطاقتي , وإعتبريني اخوك في الغربة

فأخذت بطاقته وهي تشكره لطيب اخلاقه , ثم ودّعته وعادت الى بيتها مكسورة الجناح ..

اما هو فقد انشغل بمساندة ابنته التي كانت تترنّح من السِكر حتى أوصلها الى فراشها , وهو يقول لها :
- عقابك سيكون في الصباح .. (ثم تنهّد بغضب) .. ولي حديث مطوّل مع امك الغبية !!
***

في ظهر اليوم التالي .. وأثناء مرور احمد من منزل هدى سمع بالصدفة صراخها بعد ان عاد زوجها الى بيته , ويبدو انها عرفت بأنه خانها البارحة .. فصارت تشتمه وتطلب منه ان يُعيدها الى اهلها , وبأنها أخطأت كثيراً حين قبلت الزواج منه .. وكلام من هذا القبيل !
فقال احمد في نفسه : كان الله في عونك , سيدة هدى .. (وتنهّد بضيق).. وعوني انا ايضاً 
ثم ذهب الى طليقته ليُعاتبها على تربيتها الخاطئة لإبنتهما ..
*** 

وفي إحدى الأمسيات الباردة .. استيقظت هدى على ضحكات زوجها وهو يتكلّم مع فتاةٍ ما على الهاتف .. وبعد ان انهى مكالمته , قدمت اليه لتتكلّم معه عن مشاكلهما التي تزايدت في الآونة الأخيرة .. 
- لؤيّ .. لابد ان نتحدّث
فأجابها بتأفّفٍ وضجر : ليس ثانيةً !
- اسمعني اولاً .. الا تذكر كيف أحببنا بعضنا لسنتين على الفيسبوك ؟ وأخبرتني وقتها : انك بعد الزواج ستهتم بي فقط وتترك جميع صديقاتك 
- وقد فعلت ذلك لشهرين كاملين .. لكن ما ذنبي ان كنت أمِلُ بسرعة .. فأنا كالطائر المهاجر لا يحب السجن

- وانا لا أسجنك ! اذهب مع اصدقائك الذكور الى النوادي الرياضية او في نزهاتٍ برّية .. لكن لا داعي ان تصاحب البنات ! اصلاً مالفرق بين فتاةٍ واخرى ؟!
بابتسامةٍ ماكرة : الفرق كبير يا عزيزتي , فكل واحدة منهنّ تتميز عن الأخرى بشيءٍ ما , وانا أحب تجربة كل ملذّات الحياة .. لا تنظري اليّ هكذا !! لقد أخبرتك منذ بداية تعارفنا ان لديّ الكثير من العلاقات , ولم أكذب عليك بهذا الشأن

- صحيح , لكنك وعدّتني ان تتغير
فيضحك ساخراً : وهل تصدّقين بهذه الخرافة ؟! لا أحد بالدنيا يُغير طباعه , وبالتأكيد ليس انا .. (ثم قال بنبرةٍ آمرة مُستفزّة) ..والآن اذهبي فوراً واحضري لي القهوة !!
- قهوة في المساء !
- نعم .. فصديقتي ستكلّمني بعد قليل على النت , وسأسهر معها حتى الصباح
هدى بغضب : وتقول هذا دون حياء ؟!!!
فأجابها بلؤم : الم أتعرّف عليك انت ايضاً بهذه الطريقة ؟ فلا تدّعي الطهارة أمامي

فردّت بعصبية : انت تعرف تماماً انك الشخص الوحيد الذي حادثته في حياتي !
- ربما .. لكنك لست الوحيدة في حياتي , وهذه حقيقة عليك تقبّلها .. 
وهي تمسح دموعها : كان عليّ موافقة اهلي عندما رفضوك 
- لكنك لم تفعلي , أتدرين لماذا ؟ لأنك فتاةٌ غبيّة , واصطيادك كان متعةً بالنسبة لي .. لكنّي مللت منك الآن .. وان كنت تريدين العودة لأهلك , فلا مانع عندي 
- انت تعرف انهم لا يكلّمونني بعد أن غصبتهم عليك !!

فاقترب منها صارخاً : اذاً لماذا تفتحين هذا الموضوع دائماً , طالما انك تدركين بأنك عالقةً معي ؟!! لذا عليك تقبّل كل أفعالي بصمت وطيب خاطر.. وأحمدي ربك انني أعود في كل مرّة الى هذا البيت الكئيب ! 
فذهبت هدى الى غرفتها باكية , وهي تلعن اليوم الذي تعرّفت به عليه
***

وبعد شهر , وفي ليلةٍ باردة  .. أيقظت الفتاة المراهقة والدها وهي تقول بفزع :
- ابي !! هناك شباب يكسرون نوافذ جارتنا هدى !

فخرج احمد بسرعة ناحية منزلها وهو يحمل العصا .. وقد وصل اليهم باللحظة الحاسمة بعدما استطاعوا كسر قفل الباب الخارجي .. لكن وقبل ان يقتحموا منزلها , صرخ احمد في وجههم بغضب :
- ابتعدوا من هنا , والاّ ضربتكم بالعصا !!!
فقال له احد الشبان الثلاثة بحقد : سيأتي يوم ونخرجكم جميعاً من بلادنا , ايها الطفيليون العرب !!
احمد وهو يلوّح بالعصا : قلت ابتعد من هنا , ايّها النازيّ الحاقد !!

وبعد ان ذهبوا وهم يلعنون احمد ويشتمون العرب .. دخل الى منزل هدى فوجدها تبكي في ركن غرفتها .. وما ان رأته واقفاً امامها , حتى صرخت بخوف :
- لا تؤذيني ارجوك !!
فقال احمد مُهدّئاً : هذا انا سيدة هدى !
- احمد ! الحمد الله انك أتيت

- اين هو زوجك ؟!
وهي تمسح دموعها : سافر منذ اسبوع في رحلة عمل 
- وتركك وحدك ؟!
فعادت الى البكاء ..فأمسك يدها بحنان قائلاً : 
- إهدئي ارجوك .. هيا تعالي معي الى بيتي , فالعاصفة على وشك ان تبدأ ومعظم زجاج منزلك مُحطّم .. وأنا لن أتركك وحدك , خوفاً من عودة المشاغبين الى هنا
فقالت بتردّد : لكن ..
- ابنتي معي في المنزل وستنامين في غرفتها .. هيّا بنا
***  

وفي منزله .. وبعد ان قدّمت لها ابنته الشايّ لتتدفأ قليلاً , سألها احمد :
- الم اعطك بطاقتي لتتصلي بي في غياب زوجك ؟
- هو وعدني ان يعود منذ ثلاثة ايام , لكن الرحلات تعطّلت بسبب العاصفة , ولهذا سيبقى هناك لإسبوعٍ آخر ! والمشكلة ان جوالي تعطّل البارحة عندما برقت السماء وانا أشحنه , ولا أعرف أيّاً من محلاّت الصيانة !
- طالما انك لا تعرفين اللغة الإلمانية , ولم يعلّمك زوجك الأرعن قيادة السيارة ولا تعرفين عناوين الأسواق , فكيف يتركك لوحدك ؟! ماذا لوّ انتهى الطعام عندك ؟
- لقد انتهى فعلاً البارحة 
- الم تأكلي شيئاً ؟!
- فقط الشايّ وبعض الكعك 
بشفقة : يا الهي ! ... اذاً سأحضّر لك الطعام
ثم طلب من ابنته مساعدته في تحضير العشاء..

وبعد ان تناولوا طعامهم .. ذهبت هدى مع ابنته لتنام في غرفتها .. بينما ذهب احمد الى غرفته وهو يفكّر بحلّ لمشكلة جارته المسكينة 
***

وفي اليوم التالي .. إستفاق احمد على رائحة الفطور العربي الذي لم يتناوله منذ سنوات بعد ان قامت هدى بتحضيره , وقد أسعده ذلك كثيراً 

وبعد حضور عمّال الصيانة .. ذهب احمد معهم لترميم ما تهدّم من منزل هدى بعد ان حطّمت العاصفة بعضاً من أثاثها عبر مرورها من الزجاج المكسور ..ولم يقبل ان تدفع له هدى قرشاً , بل قام أحمد بإصلاح ما تضررّ على حسابه الخاص !
*** 

وعندما عاد قبيل غروب الشمس الى منزله , تفاجىء بأجمل منظر شاهده في حياته ! حين رأى ابنته لأوّل مرة تصلي مع هدى التي يبدو انها أمضت النهار كلّه بتعليمها بعض الأمور الدينية .. 
وبعد ان انتهيا من الصلاة .. اقترب منهما وقد اغرورقت عيناه بالدموع , وقبّل رأس ابنته وهو يقول لها بفخر :
- كم انت جميلة يا جاكلين بالحجاب ! لطالما تمنّيت رؤيتك بهذا المنظر يا ابنتي العزيزة  
ثم قال لهدى :
- شكراً لك , لقد حقّقتِ أغلى أمنياتي
هدى بابتسامة : لا داعي للشكر أخ احمد .. 
احمد باستغراب : لكن كيف تفاهمتما ؟! 
هدى : من الجيد ان ابنتك تتكلّم الإنجليزية , وانا أتقن بعضها .. فتفاهمنا بهذه الطريقة

احمد : هذا جيد .. تفضلي المفاتيح , لقد اصلح العمّال منزلك قبل قليل , لكني لن اسمح بذهابك الى هناك قبل عودة زوجك من سفره .. وتفضلي هذا ايضاً !! لقد اصلحته لك بعد ان وجدته في صالون منزلك
واعطاها جوّالها بعد ان اشترى لها بطارية جديدة.. 
هدى بامتنان : لا ادري كيف اشكرك .. لقد ارسلك الله لي لتساعدني بهذه الغربة القاسية
احمد بقلق : كما انني فعلت شيئاً آخر , لكني خائف من ردّة فعلك

ثم أخبرها انه اثناء تواجده في منزلها مع عمّال التصليح وجد رسالة ورقية من امها , وعرف منها عنوان عائلتها .. فقام باتصالاته مع صديقه الذي يعمل في السفارة العربية بإلمانيا .. وبخلال ساعات , اعطاه رقم هاتف عائلتها .. ومن ثم تكلّم احمد مع والد هدى وأخبره بما تعانيه ابنتهم مع زوجها الفاسد 
هدى بضيق : لما فعلت ذلك سيد احمد ؟! أكيد سيتشمّتون بي الآن!  
- يبدو انك لا تعرفين أهلك جيداً 
- ماذا تقصد ؟!
- هم سيرسلون لك قريباً تذكرة طائرة وبعض المال كيّ تعودي اليهم 
- لكن زوجي لن يوافق ابداً

- هم يريدونك ان تعودي قبل عودته من السفر , وعندما تصلين منزل اهلك سيرفعون عليه قضيّة خلع .. وبرأيّ عليك ان توافقي على ذلك فزوجك ليس بالإنسان الجيد فهو يسكر ويخونك طوال الوقت .. كما انه تركك وحدك في بلدٍ لا تعرفين لغته , ولم يترك معك المال او الطعام , ولولا لطف الله وانقاذي لك من النازييّن في الوقت المناسب لكانوا اعتدوا عليك او حتى قتلوك .. لهذا من الأفضل ان تعودي الى بلدك يا هدى .. اسمعي كلامي 
- انا خائفة ان يؤذيك زوجي اذا عرف انك ساعدتني على الرحيل !
- لا تقلقي عليّ , فأنا استطيع حماية نفسي جيداً .. فكّري في نفسك فقط
***

وقد أمضت هدى عدة ايام تفكّر بإيجابيات وسلبيات زوجها , لكن دائماً كانت ترجّح كفّة السلبيات : فرغم انها عاشت معه أقل من سنة الاّ انه لم يكن جيداً معها سوى بأول شهرين , ومن بعدها ظهر على حقيقته الفاسدة 

فبدأت هدى تتساءل في نفسها بقلق :
((هل هذا هو الرجل الذي سأقضي معه بقيّة عمري ؟! وهل في إمكاني الوثوق به كلما خرج من المنزل او تأخّر في المساء ؟! وهل سيكون قدّوةً حسنة لأطفالي ؟! ..(ثم تنهّدت بضيق) .. آه كم انا مشتاقة لأهلي وبلدي ولغرفتي الصغيرة وحياتي الهادئة , ولصوت القرآن خارجاً من مذياع امي , ولصلاتي مع اخوتي خلف ابي .. اشتقت لتلك الروحانيات في بيتي ولطهارة معيشتنا .. (ثم قالت بتصميم بعد ان إتخذت قرارها النهائي) .. نعم سأعود !! واللعنة على حب وسائل التواصل الإجتماعي المزيّف ! فالحب الحقيقي لا يأتي الا بالزواج التقليدي .. كان كلامك صحيح يا امي .. كم اخطأت بحقكما يا والديّ الحنونين ! 
***

وقبل يومين من عودة زوجها من سفره , كانت هدى واحمد وابنته في طريقهم نحو المطار .. لكن هدى كانت صامتة طوال الطريق ودموعها تسيل على خدّيها..
وبعد ان رآها احمد بهذه الحالة , قال لها مُهدّئاً : 
- هدى ارجوك لا تحزني , فطلاقك منه هو خيرٌ لك
لكنها لم تجيبه ! فقالت له ابنته بالإلمانية :
- ابي .. هي طلبت مني هذا الصباح ان آخذها الى الصيدلية , وقد اشترت شيئاً لم أره .. وبعد عودتنا الى منزلها , تغيّر حالها فجأة ! 

فسأل هدى : هل انت مريضة ؟
هدى وهي تمسح دموعها : لقد اشتريت فاحص الحمل
احمد بقلق : هل انت حامل ؟!
فأجابته هدى بحزن : نعم للأسف 
احمد بجدّية (وباللغة العربية كيّ لا تفهم ابنته الكلام) : ايّاك ان تخبري زوجك بالأمر والاّ أخذ طفلك منك .. انظري الى حالتي .. فزوجتي الأجنبية تربّي ابنتي عكس ديني فقط لتغيظني , وهي لا تدرك بأنها تؤذي اخلاق ابنتنا .. لا تفعلي مثلي , فهو لن يكون والداً جيداً لإبنك  

هدى بتردّد : من يدري ؟ لربما تغيّر بعد ان يصبح والداً ؟!
احمد بحزم : هذا النوع من الرجال لا يُغيّره ايّ شيء !! فهناك الإنسان الفاسد الذي يستحي من ذنوبه , وهذا ممكن اصلاحه ..لكن زوجك من النوع الآخر الذي يتفاخر بأعداد النساء اللآتي إستغلّهنّ في حياته , وهذا صعبٌ توبته .. سافري لأهلك يا هدي , وحاولي هناك إجهاض جنينه 
- لا لن افعل !! هذا ابني وسأربّيه بمفردي
احمد وهو يتنهّد بضيق : ماذا عسايّ ان اقول ؟ ... كان الله في عونك
***

وبخلال أشهرٍ قليلة , تغيّر كل شيء .. فهدى عادت الى حياتها الطبيعية بعد ان وافق زوجها أخيراً على خلعِها , لكن هذا كلّف اهلها مبلغ كبير من المال .. 
وبالنسبة لطليقها لؤيّ : فهو إرتاح من زنّها المتواصل وكآبتها الغير محتملة , وعاد أخيراً الى حرّيته (على حسب كلامه في آخر مكالمة بينهما) .. 
***

لكن بعد شهرين .. تفاقم الأمر بعد ان أخبره صديقه العربي داخل البار بخبر ولادة طليقته (لأن اهله جيران اهلها في البلد) .. 
فقال لؤيّ بغضب : الملعونة ! لما لم تخبرني بحملها قبل الطلاق ؟!
فقال صديقه وهو يربت على كتفه : لا تفرح كثيراً , فهو ليس ابنك
فهجم عليه لؤيّ بغضب : ماذا تقصد ؟!.. تكلّم !! 
فقال صديقه بمكر : سمعت انها باتت في منزل جارك احمد , وربما لهذا هربت قبل عودتك من السفر 
لؤيّ بغضب : ولما لم تخبرني بالأمر ؟! 

فأجابه : قلت بما انك طلقتها فلا داعي لإخبارك .. لكني لا اريد ان يأتي يوم من الأيام ويبتزّونك اهلها كيّ تصرف على ولدٍ ليس بإبنك .. لا تنظر اليّ هكذا ! ان كنت لا تصدّقني , فسأل جيرانك عن الموضوع .. جميعهم شاهدوا جارك الشهم وهو يصلح بيتك بعد العاصفة
***

وعلى الفور !! انطلق طليق هدى الى منزل احمد كالمجنون .. وبدأ يتشاجر معه .. وقد حاول احمد إفهامه الأمر , لكن لؤيّ بادره بطعنةٍ غادرة في بطنه .. ثم لاذ بالفرار

ومن بعدها تعالت صرخات جاكلين بعد رؤيتها لوالدها ينزف على الأرض بغزارة !
***

وفي اليوم التالي .. وبعد ان انتهت هدى من إرضاع طفلها وصلها اتصال على جوالها من ابنة احمد , والتي قالت لها بالإنجليزية بغضب :
- طليقك طعن ابي !! 
هدى بصدمة  : ماذا تقولين ؟!
الفتاة وهي تبكي : كلّه بسببك .. سمعته يقول لأبي انه والد ابنك
- اللعنة ! كيف عرف الحقير بحملي ؟! 
الفتاة بقلق : هل كلامه صحيح ؟ هل كنتِ تزورين والدي اثناء مبيتي عند امي ؟!
هدى بعصبية : ماهذا الكلام يا جاكلين ؟! انا لم آتي الى بيتكم الاّ مرةٍ واحدة , بعد ان عرفت بوجودكِ هناك .. ولوّ كان والدك يعيش وحده , لكنت فضّلت البقاء  في منزلي المحطّم , ولوّ اثناء العاصفة  

- آسفة سيدة هدى , لكني غاضبة جداً 
- وكيف حال والدك الآن ؟
- خرج قبل قليل من غرفة العمليات , بعد ان قطّب الطبيب معدته المجروحة 
- شافاه الله وعافاه .. الم تبلّغوا عن طليقي اللعين ؟!
- بلى .. وقد قبضت الشرطة عليه , وهو الآن في السجن .. وأظنّه سيُحبس من سبعة الى عشر سنوات في محاولته للقتل 
- هو استحق ذلك .. (ثم تنهّدت بضيق) .. ارجو يا جاكلين ان تطمأنيني عن والدك دائماً 

وبعد ان اغلقت الهاتف , قالت هدى في نفسها : 
((سامحني يا احمد , لقد ورّطك في مشاكلي التي لا تنتهي !)) 
ثم نظرت لطفلها النائم وقالت بحسرة : 
((ليت هذا الشهم كان والدك الحقيقي))
***

لكن كما يقولون : ((رُبّ ضارةٍ نافعة)) .. فالشهر الذي ظلّ فيه احمد بالمستشفى تحسّنت علاقته بإبنته المراهقة التي وعدته أن تطيع اوامره , كما طلبت منه ان يُعلّمها أكثر عن دينهما .. حتى انها فاجأته برغبتها في ارتداء الحجاب فور تخرّجها من الجامعة , وكم أسعده هذا الأمر 
***

وبعد اربع سنوات .. تفاجأت هدى بأحمد قادماً الى بلدتها لخطبتها بعد ان تخرّجت ابنته من الجامعة , وقبولها بالعيش معه في بلدٍ عربي .. 

وقد وافقت هدى الزواج منه بكل سرور , لأنه الإنسان الوحيد الذي ساعدها بأسوء مرحلة مرّت في حياتها ..
والأجمل ان طفلها تعلّق كثيراً بجاكلين وكأنها اخته الكبيرة بالفعل ! وهي بالمقابل أحبّته كأخيها الصغير ..
***

وفي إحدى الليالي .. أمسكت هدى يد زوجها احمد , وقالت له بحنان : 
- لقد وضعك الله في طريقي لحمايتي , فماذا كنت سأفعل هناك لولا وجودك بجانبي ؟!
- بل انا الذي كنت بأشدّ الحاجة الى حنانك , بعد الذي عانيته في الغربة
- أتدري يا احمد .. لطالما تساءلت في نفسي : مالحكمة من زواجي من طليقي الأحمق ؟ لكني عرفت الآن ان سفري الى المانيا لم يكن سوى للقاء بك , لأنك كنت منذ البداية .. قدري ونصيبي
فأجابها بابتسامةٍ حنونة : بل انتِ الحبّ الذي طال انتظاره
***

وقد عاشت هدى وابنها مع احمد وابنته في تفاهمٍ وسعادةٍ غامرة , بعيداً عن قساوة الغربة ومتاعبها 

طبيب الأسنان المشبوه

فكرة : اختي اسمى كتابة : امل شانوحة    جنّية الأسنان جلست سلمى على كرسي طبيب الأسنان وهي ترتجف رعباً ، فهي المرّة الأولى التي تخلع فيها سن ا...