الأحد، 28 يوليو 2019

المول المهجور

تأليف : امل شانوحة

 
الأرواح المسجونة !

أوقف أحمد سيارة أجرة فور خروجه من المطار .. ليلاحظ بعد نصف ساعة ان السائق إنحرف عن الطريق باتجاه طريقٍ فرعيّ 

أحمد مستفسراً : عفواً ! لما ذهبت من هذا الطريق ؟
السائق : انه طريق مختصر , لا تقلق

وبعد قليل.. مرّا داخل بناءٍ مهجور عملاق ! 
فسأله أحمد بدهشة : ما هذا الشيء ؟!
- انه مول مهجور مبني على شكل قوس , والنفق في وسطه يوصلنا للطريق العام 
- لكني لا ارى سيارات أخرى ! 
السائق بسخرية : لأنهم يصدّقون إشاعة أنه مسكون بالأرواح

أحمد : ومنذ متى توقف العمل به ؟ 
السائق : منذ عشر سنوات .. بعد ان خفّض المقاول مواد البناء لبيعها لشركةٍ أخرى , ثم هرب بالمال الى الخارج .. وحين كشف المفتّش على الدعامات , وجدها لا تتحمّل ثقل المول.. فرفع تقريره لرئيس البلدية بضرورة هدم البناء بالكامل , ممّا أصاب صاحب المشروع بأزمةٍ قلبية أدّت الى وفاته .. ومن بعدها اختلف ابنائه بين إكمال المشروع وإنهائه .. وهم ينتظرون الآن قرار المحكمة للحصول على ارض المشروع وتقسيمها بينهم
أحمد : مسكين صاحب المشروع .. فبسبب فساد مقاوله , تحطّمت أحلامه قبيل اللمسات الأخيرة لافتتاح المول ! .. لكن أليس خطيراً ان نمرّ من تحته , طالما ان بنيانه متصدّع كما تقول؟!
السائق : من وجهة نظري .. بناءه صلب ويتحمّل لمئة سنة , لكن اعتقد إن المفتّش متعاون مع ذاك المقاول أو أحد الورثة , والله أعلم 

في هذه الأثناء .. ابطأ السائق امام تحويلة لمطعمٍ مهجور (موجود اسفل المول , حيث بابه الخارجي باتجاه النفق) .. ليلاحظ أحمد بعض ادوات المطبخ وماكينات كهربائية متروكة هناك .. فسأل السائق : 
- غريب ! لما تركوا كل شيء ورائهم , الا يكفيهم ما خسروه عند إغلاق المشروع ؟!  
- يبدو ان الأمر أثار انتباهك 
أحمد : نعم ..فأنا طباخ , وأعلم تكلفة تلك الأدوات  
السائق بابتسامة : ما رأيك ان تنزل وتعاينها ؟ وانا سأبقى في انتظارك .. وان وجدّت شيئاً نافعاً , خذه لك.. فلا احد سيمانع

فنزل احمد باتجاه المطعم المهجور .. 
وبعد معاينته للطناجر وجدها صدئة , والأدوات الكهربائية جميعها معطّلة.. فقال في نفسه :
((الآن فهمت لما تركوها هنا .. حسناً لأعود , فقد تأخّرت على زوجتي))

وقبل وصوله الى سيارة الأجرة , تفاجأ بالسائق يتحرّك فور جلوس شخصٍ بجانبه يشبهه تماماً ! 
فركض أحمد خلفه محاولاً إيقافه , صارخاً بعلوّ صوته :
- توقف !! هذا ليس انا ! 
لكن السيارة ابتعدت عن المكان..
أحمد بدهشة وقلق : يا الهي مالذي حصل ! ومن ذلك الرجل الذي يشبهني كثيراً ؟!

وهنا سمع أصواتاً تقترب من خلفه , وحين ادار وجهه .. وجد اربعة رجال وعجوز وصبيّة , يقفون قرب المطعم المهجور ! 
أحمد بخوف : من انتم ؟! ومن اين خرجتم ؟!
فقال أحدهم : ما كان عليك ان تنزل من السيارة
أحمد : نزلت لأتفقّد المحل
العجوز : يعني تماماً كما حصل معنا .. وماذا رأيت في الداخل ؟ فهو فارغ كما ترى ..
فعاد أحمد الى المطعم وهو لا يصدّق بأنه خاليٍ تماماً !
أحمد بخوف : لا أصدّق هذا ! كانت هناك طناجر وادوات كهربائية , قمت بمعاينتها بنفسي .. 
فسأله شاب : أقلت طناجر ؟ يبدو انك طباخ 
أحمد : نعم , انا الطبّاخ أحمد زكي , وأعمل في الخارج .. لكن كيف عرفت مهنتي ؟!

فأجابه الشاب : دعني أعرّفك بنفسي اولاً .. انا كمال , وأعمل في ناديٍ رياضيّ .. وفي ذلك اليوم المشؤوم , نزلت من سيارة الأجرة لأعاين ملابس رياضية متروكة في المحل المهجور .. وهذه نسرين عاينت المحل ايضاً , حين لمحت في واجهته أدوات الزينة .. والعجوز رأى صيدلية مهجورة , وفيها بعض الأدوية .. والصحفي سعيد , رأى حواسيب مهملة ..والخيّاط مروان رأى أقمشةً فاخرة.. اما التاجر فؤاد , فرأى خردة متروكة في زاوية هذا المحل الذي يبدو انه سحر أعيننا لرؤية البضاعة التي تثير اهتمامنا! 
أحمد : هذا ليس الشيء الوحيد الغريب في الموضوع , فهناك رجل يشبهني أخذ سيارة الأجرة دون استئذان !
فأجابه سعيد : يبدو ان نفس الأحداث تتكرّر مع الجميع ! 
أحمد : وكيف تفسرون وجود اشخاص تشبهنا لهذا الحدّ ؟!
نسرين : ربما هي اشباح المول
العجوز : او ارواحنا

فؤاد بغضب : لا هذا ولا ذاك !! .. بل أكاد أجزّم إن المول اللعين يسلخنا عن قرائننا .. لنعلق نحن , ويعيشوا هم حياتنا 
أحمد بفزع : لم أفهم شيء !
فاقترب منه مروان , قائلاً بهدوء : 
- أخ أحمد .. من رأيته يجلس بالسيارة مكانك , هو قرينك .. وصرخاتك التي سمعناها جميعنا , لم يسمعها سائق التاكسي لأنك أصبحت خفياً بالنسبة له .. وان كنت لا تصدّقني , أنظر الى إنعكاسك في زجاج المحل.. 

وحين نظر أحمد الى الواجهة , لم يرى شكله !
أحمد بفزع : مصيبة ان كان كلامكم صحيحاً
العجوز : نعم للأسف , أصبحنا غير مرئيين للعالم .. فهناك سيارات مرّت بالصدفة من النفق في الفترة الماضية , وجميعهم لم يروننا حين اعترضنا طريقهم .. وأخشى ان نكون ميتين !
فؤاد بغضب : كم مرة أفهمتك ايها العجوز بأن القرائن العالقة بداخلنا إستغلّت هذا المول لتستبدل الأماكن .. وربما يعيشون الآن مع عائلاتنا الذين لم يلاحظوا اصلاً إختفاءنا !

أحمد : ومتى تعود القرائن لنستبدل الأدوار من جديد ؟
فأجابه سعيد : وهل تظنها ستعود بعد ان شعرت بالحرّية ؟
كمال بقلق : المشكلة ان القرائن عادةً تكون شريرة , وربما تقوم الآن بتدمير سمعتنا وعلاقتنا بالأقارب والأصدقاء 
أحمد : ولما لم تفكّروا بالخروج من النفق ؟
العجوز بيأس : ومن قال اننا لم نفعل , لكن كل الطرق تعيدنا الى هنا.. وكأننا نمشي في دوامةٍ لعينة !! 

أحمد : وكم بقيتم هنا ؟ 
فأجابه فؤاد : العجوز علق منذ سبعة سنوات , وهو اول المتورّطين فينا .. يليه كمال منذ اربعة سنوات .. ثم مروان منذ سنتين .. ثم الصحفي سعيد منذ تسعة شهور .. وانا علقت منذ ثلاثة اشهر .. وقبلك بشهر وثلاثة ايام , وصلت نسرين الينا 
فقالت الفتاة بلا مبالاة : بصراحة لا امانع وجودي هنا , فأنا أعشق التسوّق

أحمد باستغراب : لكن المول مهجور !
نسرين : من قال ذلك ! كيف تظننا بقينا احياءً دون طعام ؟
أحمد : كنت على وشك طرح هذا السؤال عليكم
نسرين بحماس : اذاً دعني أريك العالم الرائع خلف هذه الخرابة .. وانتم ايضاً تعالوا , فأنتم لم تتناولوا غدائكم بعد

ودخلوا جميعاً من البوّابة المحطّمة الى الداخل .. ليتفاجأ أحمد بمول مجهّز بالكامل وكأنه على أتمّ الإستعداد ليوم الإفتتاح .. حتى إن البالونات وقصاصات الزينة معلّقة في مكانها , وهو أمر خارج عن الإستيعاب المنطقي !

أحمد : ما أراه مستحيلاً ! فالمحلّات مجهّزة بكافة الثياب وأدوات الزينة .. والمكيفات مضاءة , وكذلك السلالم الكهربائية .. والشلاّل ينساب بروعة وجمال في الوسط .. ورائحة الطعام الطازجة تخرج من المطاعم , رغم انني لا أرى عمّال او موظفين .. فمن يدير المول ؟ ..ولما شكله مهجور من الخارج ؟ ولما لا يوجد غيرنا هنا ؟!!!!

العجوز : إهدأ يا احمد قبل ان تفقد عقلك 
أحمد بارتباك : أوشكت بالفعل على الجنون , فما يحصل غير طبيعي بالمرةّ ! 
نسرين : برأيّ يا شباب لا تفسدوا جمال الموقف بتفكيركم الزائد , ولتستمتعوا مثلي بالبضائع المجانية .. فماذا يريد الإنسان اكثر من ذلك ؟
أحمد : الا تقلقين على اهلك ؟

الصبية بنبرةٍ حزينة : ابي ضعيف الشخصية , وزوجته إنسانة حقودة وشريرة .. وهربت منها بعد إقناعها ابي بعريسٍ تافهٍ لي .. وكنت في ذلك اليوم متوجهة للمطار , قبل ان يوصلني السائق الأصلع ثقيل الدم الى هنا , بحجّة الطريق المختصر
أحمد بدهشة : وهذا ما حصل معي ايضاً ! وكان السائق بذات المواصفات التي ذكرتها , بالإضافة الى سنّه المكسورة
نسرين : نعم تذكّرت ! كان سنّه الأمامي مكسور , وبقيّة اسنانه صفراء بسبب الدخان

كمال : غريب ! هو نفسه السائق الذي أحضرني الى هنا
مروان : وانا كذلك ! 
سعيد : وهآقد أمسكنا بطرف الخيط لحلّ لغزنا الغامض , فذلك السائق اللعين على علمٍ مُسبق بما سيحصل لنا  
أحمد : إذاً علينا الإيقاع به , لأنه حتماً سيجلب ضحيةً ثانية الى هنا
العجوز : لكن قد ننتظره سنوات !
أحمد : وربما ايام .. لذا علينا مراقبة النفق جيداً ..وحين نراه , ننقضّ عليه لنعرف اسباب أذيته لنا ..
فؤاد : اذاً سنتناوب على مراقبة الطريق 
أحمد : إتفقنا 
***

وبعد شهر من الإنتظار المملّ ..
أحمد بحزن : صار عمر ابني شهر , ولم اره بعد ! أكاد أنفجر
نسرين : كان الله في عونك , فهو ابنك البكر
وهنا صرخ فؤاد من بعيد : 
- لقد وصل السائق اللعين !!

وأسرع الرجال بالإختباء خلف الأعمدة .. وحين ابطأ السائق امام تحويلة المحل المهجور .. إنقضّوا عليه دفعةً واحدة , وأجبروه على الوقوف 
فصرخ السائق بفزع : لا تأذوني رجاءً !!
فؤاد بغضب : إذاً انت ترانا  
السائق : بالطبع اراكم  
أحمد بعصبية : وهل تذكّرتنا ؟
السائق بخوف : كنت مُجبراً على ترككم هنا 
فؤاد بغضب : يعني إعترفت ايها الحقير , أحضروه الى الداخل 
وسحبوه بالقوة الى المول .. 
***

داخل المول .. سأله أحمد : 
- ماذا ترى هنا ؟
السائق : مول مهجور , برائحة رطوبةٍ عفنة ..
نسرين : أحقاً ! اذاً كيف تفسّر رؤيتنا له كمول كامل التجهيزات ؟ 

وحين التزم السائق الصمت , عاجله الرياضي كمال بضربةٍ قوية على بطنه , أجبرته على الإعتراف .. فأجاب وهو يتألّم :
- انتم ترونه هكذا , لأنكم أصبحتم نصف احياء بعد إنسلاخ قرائنكم عنكم .. فهذا المكان بُنيّ فوق مقبرة دون موافقة اهالي الموتى .. لهذا لم يتفاجأ أحد بتوقف البناء , واعتبروه إنتقاماً من الأرواح الغاضبة 

فؤاد بعصبية : لا تغير الموضوع !!.. لما أحضرتنا الى هنا ؟
السائق بتردّد : لأنني ساحر 
الجميع بدهشة : ماذا !
السائق : نعم .. ولكيّ أحصل على خدمة من الجن , عليّ تحرير قرائنكم الشيطانية لتعيش في واقعكم , بينما تختفون انتم عن الأنظار
فؤاد : تماماً كما توقعت !! هل صدّقتموني الآن ؟

أحمد بعصبية : انا لا تهمّني هذه التخاريف .. كلّ ما اريده هو الخروج من هنا بأسرع وقتٍ ممكن , لهذا سآخذ سيارة الغبي وأعود الى بيتي .. فمن يريد الذهاب معي ؟!!
العجوز : جميعنا طبعاً 
نسرين : اما انا , فلا أرغب بالرحيل .. وأفضّل ان تعاقب قرينتي زوجة ابي , لأنهما متساويتان في الشرّ .. بينما استمتع هنا بالتسوّق المجانيّ 
أحمد : كما تشائين .. هيا يا رجال

السائق بخوف : وماذا عني ؟
فؤاد : انت ستبقى هنا !! ..لكن الفرق : انك لن تستمتع بخدمات المول المجانية مثلنا , الاّ اذا حرّرت قرينك اللعين ايضاً .. هيا بنا يا اصدقاء

وقاد أحمد سيارة الأجرة وبجانبه العجوز , بينما حشر الرجال الأربعة أنفسهم بالخلف ..

وبعد ذهابهم , قالت نسرين للسائق : 
- لا تحزن , سأحضر لك الطعام من الداخل .. إنتظرني في المحل المهجور .. 
السائق باستغراب : ولما تساعدينني ؟ 
نسرين بسعادة : لأني لست ناقمة عليك مثلهم , بل انا راضية بقدري الجميل .. إنتظرني قليلاً .. أنا متأكدة ان طعام المول سيعجبك كثيراً
***

ما ان ظهر نور الشمس في آخر النفق الطويل , حتى تنفّس الرجال الصعداء لخروجهم من هذا المأزق الذي دام لشهور وسنواتٍ طويلة .. 
وقام أحمد بتوصيلهم جميعاً الى مناطقهم .. 

وكان اول الواصلين الى بيته الشعبي .. الرجل العجوز الذي عاش وحيداً هناك.. والذي غضب لرؤية قرينه يشاهد التلفاز على كرسيه المفضّل , فحصلت مشادة كلامية بينهما .. ولم يتحمّل القرين كل هذه الشتائم , فقام بدفع العجوز بقوة ليسقط على رأسه .. وبعد عدّة إنتفاضات سريعة , توقف عن الحراك .. فابتسم القرين لتخلّصه النهائي من نسخته الأصلية .. وأخفى العجوز في الحمام , لدفنه لاحقاً بحديقة المنزل بعد حلول المساء ! 
***

اما الرياضيّ كمال ..وفور وصوله الى حارته , تباعدت الناس عن طريقه بوجوههم المُتجهمة , وكأنهم يتحاشون الكلام معه !
فقال كمال في نفسه بيأس :  
((على الأقل يرونني , ولم أعدّ شبحاً كما كنت)) 

وحين صعد الى شقته .. وجد رجلاً آخر يعيش هناك ! 
فصرخ بغضبٍ شديد : ماذا تفعل في بيتي يا حقير ؟!! .. سعاد !! اين انت يا خائنة ؟!!
فاقتربت زوجته برداء النوم : كمال ! مالذي أتى بك الى بيتي ؟! 
كمال بعصبية : هذا بيتي انا !!.. كيف سمحتي لهذا الرجل ان يعيش هنا ؟!
سعاد بدهشة : هل فقدّت عقلك ؟ لقد تطلّقنا منذ سنتين , وتزوجت سمير قبل اربعة شهور .. حتى انك حضرت عرسي لتغيظني , الا تذكر ؟!

وهنا قال عريسها سمير بعصبية : مازلت أمسك نفسي عن ضربك , ايها السافل !! 
كمال بتهكّم : ماذا قلت ؟
سمير بحزم : سعاد أصبحت زوجتي .. وإن حاولت أذيتها من جديد , أقتلك .. أسمعت ؟! ولا تظن ان عضلاتك تخيفني كما تخيف الآخرين 
كمال : انا لم أؤذي أحداً في حياتي
سعاد : بل أذيت الكثيرين من ابناء حارتنا , وحطّمت بعض المحال التجارية .. حتى بات الجميع يكرهك .. وانا طلّقتك بعد ان شهد الناس على إدمانك المخدرات ؟
فتمّتم كمال بقهر : ذلك الحقير أفسد سمعتي ؟
سعاد باستغراب : من تقصد ؟!
كمال : سأجد شبيهي وأقتله ..
ونزل الأدراج غاضباً , دون ان تفهم طليقته شيئاً !
***

اما سعيد .. وبما انه شابٌ أعزب , فقد ذهب مباشرةً الى دار الصحافة التي يعمل بها .. لكنه تفاجأ بطرده قبل شهرين , بعد نشره مقالاً يشتم فيه إدارته .. ولم يتقبّل مديره الإعتذار , وطلب من الحرس إخراجه من الشركة 
فخرج حزيناً وهو يقول : عليّ إيقاف قريني قبل ان يتسبّب باعتقالي
***

اما الخيّاط مروان ولأنه رجلٌ حذر , فقد ذهب اولاً الى قهوة إنترنت للبحث عن اسمه , فهو مصممّ ازياء معروف .. لهذا اراد معرفة ما حصل خلال السنتين التي غاب فيها عن عالمه .. 
فإذّ به يتفاجأ بعشرات المقالات ضدّه , والتي تتهمه بسرقة رسومات ازياء لمصمّمٍ أجنبي مشهور الذي قام برفع قضية ضدّه 
- يا الهي ! يبدو ان قريني اللعين دنّس سمعتي التي بنتيها لسنوات .. مالعمل الآن ؟
*** 

اما احمد فلم يجد أحداً في بيته ! فذهب الى منزل عائلة زوجته التي استقبلته بالدموع وهي تحمل ابنها الرضيع..
زوجته بحزن : واخيراً حنّ قلبك لرؤيتنا
أحمد بشوق : ابني حبيبي .. دعيني أحمله

وهنا اقتربت حماته غاضبة :
- الآن اعترفت بإبنك يا حقير !!
أحمد بدهشة : حماتي ! ما الأمر ؟
ام زوجته : كيف تشكّك بنسب حفيدي , وانت تعرف محبة ابنتي واخلاصها لك ؟
أحمد بصدمة : ماذا ! بالطبع لم أفعل
الحماية : بل فعلت أكثر من ذلك ..(وأخذت الطفل من يده بالقوة).. لهذا لن ترى حفيدي , قبل ان يصدر قرار المحكمة
أحمد باستغراب : أيّةِ محكمة ؟ أنا لم أطلّق ابنتك ! 

وهنا تقدّم عمه قائلاً : نحن من طلبنا الطلاق , بعد ان تشاجرت معنا في مستشفى التوليد , وانت تتهمّ ابنتي الشريفة بالخيانة .. لهذا ابتعد فوراً من هنا قبل ان أطلب لك الشرطة !!
أحمد بترجّي : ريم حبيبتي , ذلك الشخص لم يكن انا .. بل..
حماته مقاطعة بسخرية : بل ماذا , توأمك من العالم الآخر .. هيا أذهب من هنا !! 
وأغلقت الباب في وجهه ...

فتمّتم أحمد بقهر : ((قريني اللعين دمّر عائلتي .. وإن وجدته , سأخنقه بيديّ هاتين !!))
***

وبعد مرور شهر من بحث الرجال المتواصل عن قرائنهم .. لم يجتمع سوى مروان مع قرينه , بعد تنكّره لدخول حفلة مصمّم ازياء صغير .. 

وهناك وجد قرينه يجلس بكامل اناقته , دون المبالاة بالقضية التي عليه .. فسحبه مروان (بلحيته التنكرية) جانباً .. 
مروان معاتباً بعصبية : كيف تحضر الحفلة , وهناك دعوى مُقامة ضدّنا ؟ 
القرين بابتسامةٍ ماكرة وبثقة : كوني شيطان , استطيع تغير شكلي كما اشاء .. ولهذا لن تستطيع الشرطة القبض عليّ .. لكنهم حتماً سيقبضون عليك إن وجدوك هنا ..

فحاول مروان إقناعه بالعودة الى المول .. لكن القرين نصحه هو بالعودة قبل ان يتمّ إعتقاله , فشخصية الضعيفة لن تتحمّل عذاب السجن .. 
فخرج مروان من الحفلة , وهو يفكّر جدّياً باقتراح القرين !
***  

اما فؤاد .. فقد رفض التجّار العمل معه مجدداً , بعد ان باعهم قرينه خردة صدئة .. وبذلك خسر تجارته التي عمل فيها منذ ان كان مراهقاً .. 

ولأن زوجته تعشق المال , فقد رفعت عليه قضية خلع بعد علمها بإفلاسه .. فذهب الى بيت اهلها لإقناعها بسحب القضية .. وأخبرها بتفاصيل ما حصل معه .. 
زوجته بدهشة : أحقاً ما تقول ! مول ضخم مجانيّ 
فؤاد معاتباً : أهذا ما لفت انتباهك من القصة !
- طبعاً , أليس جميلاً ان تتسوّق ما تشاء دون مال ؟ ..لوّ كنت مكانك لما خرجت ابداً من هناك 
- أمازلتي المرأة الغبية التي لا تهمّها سوى الثياب المبهرجة؟!
زوجته بلا مبالاة : قلّ ما شئت .. فأنا لم تعدّ تهمّني تعليقاتك الجارحة التي تعوّدت عليها في الفترة الماضية .. ما يهمّني الآن هو عنوان ذلك المول 
- وفي حال أخبرتك , هل ستتنازلين عن القضية ؟
زوجته بابتسامةٍ ماكرة : بالتأكيد عزيزي 
*** 

بعد ايام .. إلتقى احمد صدفةً بقرينه في إحدى المطاعم .. فأمسك بخناقه بقوة .. وحاولت الناس إبعادهما عن بعض , قائلين لأحمد :
- لا تقتل اخاك التوأم يا رجل ! 
القرين محاولاً تحرير نفسه من قبضته : أترك رقبتي يا احمد !!
أحمد بإصرار : لن أتركك قبل ان تذهب معي الى زوجتي , لتنهي المشكلة التي بيننا
القرين وهو يختنق : حسناً قبلت  

وتوجها معاً الى منزل اهل زوجة احمد الذين تفاجأوا بالقرين .. والذي عرّفهم عليه احمد : بأنه أخاه التوأم الشرير الذي عاد من الخارج ..
***

في اليوم التالي .. عادت زوجته مع ابنه الرضيع الى بيتهم القديم .. بعد ان قام بالإتفاق سرّاً مع قرينه : بأن يعيش في مكانٍ بعيداً عنه , بعد فشله في إقناعه بالعودة للمول المهجور .. 

وبذلك يكون احمد الوحيد الذي تمكّن من الإتفاق مع قرينه على حلٍّ سلمي 
***

وفي المول .. عاد الخيّاط مروان حزيناً الى هناك , لتستقبله نسرين والسائق بدهشة :
- لما عدّت الى هنا ؟!
مروان بيأس : قريني اللعين أنهى مستقبلي .. ولكيّ لا أعيش بقية عمري في السجون , فضّلت العودة الى هنا ..(ثم تنهّد بضيق).. سأدخل المول لأشرب شيئاً ساخناً , فرأسي يكاد ينفجر 

وبعد دخوله بدقائق.. تفاجأت نسرين بسيدة تنزل من التاكسي الذي سرعان ما أكمل طريقه , وبجانبه سيدة ظهرت من العدم ! 
واقتربت منها وهي تلوّح بيدها : مرحباً آنسة نسرين !!
نسرين بدهشة : كيف عرفتي اسمي ؟!
السيدة بابتسامة : زوجي أخبرني عنك ..
السائق : ومن هو زوجك ؟
السيدة : فؤاد , تاجر الخردة .. كما أخبرني عن سرّ المول .. لهذا أتيت الى هنا في عجل

نسرين بحماس : وهل انت مهوسة بالتسوّق مثلي ؟
السيدة بفرح : بالطبع !! فمن من النساء لا تعشق ذلك 
نسرين بسعادة : جميل !! كنت أشعر بالملّل وحدي .. هيا تعالي معي لأريك جمال المول
السائق : لحظة ! هي ستراه مهجوراً مثلي 
السيدة : لا .. فأنا ذهبت الى المشعوذة البارحة , وطلبت منها تحرير قرينتي فور وصولي الى هنا .. وأظنها هي من ركبت مع السائق قبل قليل , الم تريا الشبه بيننا ؟ 
نسرين : يبدو انك مجنونة أكثر مني .. وأظننا سنتفق !
السيدة بحماس : اذاً هيا بنا الى الشوبينج المجاني !!
وضحكتا سويّاً ..
السائق بازدراء : كان الوضع ينقصه مجنونة أخرى !
***

في صباح اليوم التالي .. قرّر الصحفي سعيد كتابة كل ما حصل بالمول في مدونته .. لعلّ مقاله الغريب يُعيده الى العمل , بعد رفض دور الصحافة توظيفه لسوء ألفاظه بمقالاته الأخيرة التي كتبها قرينه ..

وبالفعل لم تمضي ايام .. حتى انتشرت مقاطع من تلك المقالة في وسائل التواصل الإجتماعي .. لتتزايد معها الإشاعات حول المول المهجور .. وسرعان ما توجه اليه بعض المغامرين ومحبّي الأشباح .. ليعودوا لاحقاً الى اهاليهم بقرائنهم الشريرة , دون ان تدرك عائلاتهم بقاء اولادهم في المول الذي زادت فيه اعداد الأرواح العالقة مع الأيام ..

وبعد وصول الخبر الى رئيس البلدية , طلب من القضاء الإسراع بقرار الهدم الذي انتظره ورثة صاحب المشروع مدّةً طويلة..
***

ورغم إعتراض احمد وكمال وسعيد وفؤاد على قرار الهدم بحجّة وجود النسخ الأصلية بالداخل , الا ان الشرطة لم تصدّق روايتهم لعدم وجود بلاغات إختفاء لأشخاصٍ في المنطقة .. 

وتمّ هدم البناء في الوقت المحدّد .. لتتحرّر القرائن الشريرة للأبد , بعد ان دُفنت اجسادهم الطيبة تحت ركام المول المهجور !  

الأربعاء، 24 يوليو 2019

خارج المألوف !

تأليف : امل شانوحة


مهمّاتٌ طاهرة

في أمسيةٍ هادئة .. واثناء إحتفال جيم مع عائلته بخبر حمل زوجته , سمع صوت خرير الماء في إذنه , فأغلق عيناه ليشاهد شيئاً غيّر ملامح وجهه !
فقالت له زوجته : يمكنك الذهاب
- لن اتأخّر عزيزتي 
وخرج سريعاً من البيت ..

فسألتها ابنتها المراهقة : الى اين يذهب ابي فجأة , كل مرة ؟!
الأم : لديه عملٌ مستعجل 
فقالت ممازحة : امتأكدة انها ليست امرأة أخرى ؟ 
فأجابت الأم بحزم : تناولي طعامك بهدوء !! 
***

في شارعٍ فرعيّ .. كادت سيارة مسرعة ان تنحرف عن الطريق باتجاه عامود النور .. بعد ان أكثرت الأم من شرب الكحول , مُتناسية نوم ابنها الرضيع في مقعده الخلفيّ ! 

وقبل ارتطامها بلحظات , تفاجأت بجيم يسيطر على المقوّد ! ويبعدها بثوانيٍ عن موتٍ محقّق ..
وقد أرعبها ظهوره المفاجىء بجانبها , ممّا أفقدها الوعيّ ! 

وبعد ان أوقف السيارة جانباً .. نظر للطفل الصغير الذي مازال نائماً :
- أتمنى ان تستعيد امك رشدها بعد هذه الحادثة , لتهتم بك أكثر يا صغيري
ثم ابتعد جيم عن السيارة ..
***

وفي عطلة الأسبوع .. أصرّت ابنتهما المراهقة على الذهاب مع اصدقائها برحلةٍ مدرسية بحريّة , للتخييم في إحدى الجزر ..

وبعد ذهابها بساعات , واثناء تحضير زوجته الغداء .. توقف جيم فجأة عن مساعدتها بعد سماعه لخرير الماء الذي يُنذره دائماً بمصيبةٍ قادمة 

وهنا لاحظت زوجته إصفرار وجهه : مابك يا جيم ؟
- كيف أرسلنا ابنتنا الى البحر في هذا الجوّ العاصف ؟
- الأرصاد لا تنذر بشيء !
جيم : بل هناك عاصفة قوية في طريقها اليهم
- يا الهي ! إذهب وانقذها حالاً يا جيم
وخرج سريعاً من المنزل , تاركاً زوجته في غاية القلق
***

وفي المساء .. وصل الطلّاب سالمين الى المرفأ .. لتستقبلهم الأهالي بالقبلات والدموع بعد العاصفة الهوجاء التي واجهتم عصر هذا اليوم..

وفي اليوم التالي .. نشرت الصحافة الخبر .. وفي مقابلةٍ تلفزيونية , قال قبطان الرحلة : انه تفاجأ بسفينةٍ ضخمة تقترب منهم , وتمدّهم بالمساعدة قبل غرقهم بلحظات .. وفي إتصالٍ مباشر مع قائد السفينة التجارية , الذي أجاب على السؤال : إنه استجاب لرسالة إستغاثة من السفينة السياحية الصغيرة , بعد ان حدّد قبطانها مكانهم بدقة .. 
فاستغرب قبطان الرحلة المدرسية من الأمر , ونفى بعثه لتلك الرسالة بسبب عطلٍ في جهاز إرساله ! 
وأنهى المذيع المقابلة بالقول : يبدو ان ملاكاً أنقذ الطلّاب من الغرق !
***

من جهةٍ أخرى .. كانت عائلة المراهق (الذي غرق في الرحلة , قبل ساعة من عملية الإنقاذ) تستشيط غضباً , لكون ابنهم الوحيد الذي لم ينجو من العاصفة .. وقاموا بتعين محقّق حوادث , لمعرفة تفاصيل ما حصل 

وفي المنزل .. وبعد سماع زوجة جيم , كلام الأب الغاضب في التلفاز , ورغبته في معاقبة المسؤول عن وفاة ابنه .. قالت لزوجها بقلق :
- أخاف ان يكشفك المحقّق 
جيم : لا يوجد إثبات انني قمت بكتابة رسالة الإستغاثة لقبطان السفينة التجارية ليقوم بعملية الإنقاذ , فاطمئني عزيزتي.. المهم ان ابنتنا بخير ..وكان الله في عون الأب المكلوم
***  

في ظهر أحد الأيام .. كان جيم يقود سيارته برفقة زوجته فوق الجسر , حين سمع خرير الماء .. فقال لزوجته :
- هذا الضباب سيتسبّب في حادثةٍ ضخمة 
وقبل ان يعالج الموضوع , سمعا أصوات لعدّة تصادمات امامهما !
جيم بخيبة امل : اللعنة ! لقد تأخّرت .. 
فسألته زوجته بقلق : انا لا ارى شيئاً من الضباب , فكم سيارة تحطّمت هناك ؟
- أكثر من 20 سيارة .. وعليّ إنقاذ الأحياء منهم ..
ثم ركن سيارته جانباً , وأسرع بالخروج ..
***

وفي المساء .. عرض المذيع الخبر في برنامجٍ مسائيّ .. بعد ان قامت كاميرات الجسر بتصوير ما حصل .. 
وقام مُعدّ النشرة بتقريب الصورة على شخصٍ مجهول قام بإنقاذ المصابين بسرعةٍ فائقة ! 

وحاول الطبيب الجرّاح (الذي كان ضيف المقابلة) شرح ما يحصل للمشاهدين .. حيث راقب معهم مهارة جيم في إعادة الأطراف المكسورة الى مكانها بحركاتٍ بسيطة .. وكيف حوّل الجروح الغائرة الى سطحية بلمسة من يده .. وكيف أعاد أحشاء أحدهم الى بطنه .. وكل ذلك فعله اثناء فقد المصابين لوعيهم الذين استعادوه فور شفاء جروحهم الخطيرة !

وبعد انتهاء الشريط المصوّر , قال الطبيب باستغراب : ما فعله ذلك الرجل مستحيل من الناحية الطبّية !
المذيع : اذاً كيف تبرّر للمشاهدين ما حصل ؟
الطبيب بدهشة وتردّد : يبدو انه أحد ملائكة الرحمة .. فأنا لا أجد تفسيراً علمياً لمهارته الغريبة !
***

بعد هذه المقابلة , ضجّت الصحافة بالخبر .. وتناقلت وسائل التواصل الإجتماعي صور جيم مع المصابين .. وصورة لرقم سيارته التي التقطتها كاميرا الجسر ..

ولم تمضي ايام .. حتى عرف الناس عنوان منزل الملاك الذي سكن بينهم منذ أعوام !
وتجمّعوا صباحاً حول بيته , مُطالبينه بحلّ مشاكلهم الإجتماعية والصحيّة , وهم يهتفون : 
- جيم !! أدعو لنا ربك لمساعدتنا , ايها الملاك الطاهر !!
***

وفي داخل المنزل .. إقتربت المراهقة من والديها في ذهول لتسألهما :
- لماذا يصرّون بأنك ملاك يا ابي ؟! 
لكن والدها إمتنع عن الإجابة .. فقالت امها :
- انهم يهذون يا ابنتي 
- كيف امي .. لقد رأيت الفيديو بنفسي .. وما فعله ابي على الجسر خارج عن قدرات البشر .. لذا رجاءً ابي أجبني ؟!!

فقال والدها : غداً ينسون أمري , لا تقلقي 
ابنته : هذا مستحيل !! من ينسى وجود ملاك بيننا ؟ هذا ان كنت ملاكاً بالفعل يا ابي !
جيم بضيق : انا أملك بعض القدرات الخارقة التي حاولت إخفائها عن الجميع , وهذا كل شيء .. (ثم نظر لزوجته) .. سأذهب لأنام قليلاً , فرأسي يؤلمني كثيراً
- إذهب عزيزي

وبعد دخوله الغرفة , أغرقتها ابنتها بالأسئلة .. لكن الأم لم تعطها جواباً شافياً 
***

وبحلول المساء , واثناء العشاء .. قال جيم لزوجته وابنته :
- وأخيراً عادت الناس الى بيوتها , وتركونا وشأننا
ابنته : غداً يتجمّعون من جديد

وفجأة ! كسرت حجرة نافذة الصالة .. فاختبأوا خائفين تحت الطاولة ..
وسمعوا شباباً يهتفون بغضب من خارج المنزل :
- اللعنة عليك ايها الملاك !! ابليس سيقتلك قريباً 
وبدأوا برميّ الحجارة والقاذورات على منزلهم ..
فسألته زوجته من تحت الطاولة بخوف : من هؤلاء يا جيم ؟
- يبدو من هيئتهم انهم عبّاد شياطين !
زوجته : ارجوك أهرب من هنا قبل ان يأذوك
- وكيف أترككما في هذا الظرف العصيب ؟ ..أخاف ان يتأذّى حملك عزيزتي
زوجته : الله سيحمينا .. هيا أخرج من الباب الخلفي .. بسرعة يا جيم !!

وحينما رأوه الشباب يهرب بسيارته , تبعوه بدرّاجاتهم النارية باتجاه الغابة 
الأبنة بخوف , وهي تراقب ما يحصل من النافذة المكسورة :
- انهم يلاحقون أبي !
الأم : لا تقلقي عليه , فهو يستطيع تدبير اموره .. والآن ساعديني لتظيف هذه الفوضى
ابنتها صارخة بغضب : امي !!! تتكلمين وكأن الأمر عادي .. الا ترين ما يحصل ؟ .. في الصباح كادت الناس ان تعبد والدي , والآن أوشك بعضهم على قتله .. فكيف انت هادئة هكذا ؟! 
ففكّرت الأم قليلاً , قبل ان تقول : 
- يبدو انني لا استطيع إخفاء السرّ أكثر من ذلك .. إجلسي لأخبرك بكل شيء

وبعد ان جلسا .. تنهّدت الأم طويلاً , قبل ان تقول : 
- عندما كنت في عمرك , كنت فتاة مغامرة تهوى السفر .. وذهبت وحدي الى افريقيا .. وأردّت رؤية الحيوانات البرّية دون مرشدٍ سياحيّ .. وذهبت بسيارةٍ مستأجرة نحو النهر ... واثناء عبوري الجسر الخشبي , تفاجأت بفرس النهر يُسرع باتجاهي .. والأسوء ان عجلة السيارة علقت بين خشبتيّ الجسر .. وخلال ثوانيٍ , استطاع تحطيم باب السيارة .. وإذّ به يعضّ خاصرتي ليشدّني الى الماء .. وقبل ان أستوعب ما حصل , ظهر والدك فجأة امامي ! وقام بضربه بقوة على رأسه بالعصا , جعلته يبتعد عني ..ثم أغميّ عليّ بعد ان غرقت بدمائي .. واستيقظت بالمستشفى , لأجد والدك يجلس بجانبي .. فسألته : من انت ؟ .. فتفاجأ من رؤيتي له في الغرفة وارتبك كثيراً , واراد الخروج .. لكني أصرّيت على معرفة كيف وصل اليّ باللحظة المناسبة , رغم انني كنت وحدي بالبراري .. فأجابني بحزن : انه ملاكي الحارس , وكان عليه مراقبتي من بعيد .. لكنه لم يستطع مشاهدة موتي , فتدخّل لمساعدتي ..رغم ان هذا ممنوع بقانون الملائكة .. وبما انه لم يعدّ خفياً كما كان , فهذا يعني انهم عاقبوه ببقائه على الأرض .. ومع مرور الأيام , أحببنا بعضنا وتزوجنا وأنجبناك .. وفي كل مرة يسمع فيها خرير الماء , تكون عليه مهمّةً جديدة لإنقاذ بعض البشر , ممّن لم يحنّ أجلهم بعد

ابنتها وهي تبكي : لا أصدّق انني نصف ملاك !
- لا تتهوري يا ابنتي .. فالقدرات الخارقة خاصة بوالدك , ولم يستطع توريثها لك 
المراهقة بخيبة امل : يا خسارة , كان بودي مساعدة الناس ايضاً
الأم بحزم : يمكنك فعل ذلك بالطرق العادية .. مفهوم ؟!!
فأومأت ابنتها برأسها إيجاباً ..
*** 

وصل جيم الى الغابة , بعد ان أضاع عبّاد الشياطين أثره .. ونزل من السيارة , مُتعمّقاً في الغابة المهملة .. وهناك جثا على ركبتيه ورفع رأسه للسماء , وبدأ يدعو ربه طالباً الغفران.. 

وفجأة ! إخترق نورٌ ظلام الليل .. فنظر الى الأعلى , ليرى ملاكين ينزلان اليه .. حيث قال احدهم :
- أخيراً استغفرت لذنبك 
الملاك الآخر ساخراً : يبدو ان حياة الدنيا أعجبتك
جيم : بالعكس , أشتقت يومياً الى الجنة 
- اذاً ماذا تنتظر ؟ 
جيم بدهشة : أحقاً ! هل سمحوا لي بالعودة ؟

الملاك : نعم , طالما انك استغفرت عن ذنبك السابق 
الملاك الثاني : لقد اخطأت حين تدخلت لإنقاذها .. فمهمّتك كملاكٍ حارس هو الدعاء لها فقط
جيم : لم استطع رؤيتها تموت امامي 
- ألذلك تزوجتها ؟
جيم : دعكما من الماضي .. انا خائفٌ الآن عليها وعلى ابنتي من عبّاد الشياطين 

فتهامس الملاكان جانباً , قبل ان يقولا له :
- حسناً .. يمكننا ان نُنسي الجميع أمرك , فيما عدا عائلتك طبعاً .. لكن بشرط !!
جيم باهتمام : ماهو ؟
ملاك : ان تعود معنا الآن الى الجنة , دون العودة الى هنا مجدّداً
الملاك الثاني : ولا تقلق , فيمكنك الدعاء لعائلتك من الأعلى .. هيّا هات يدك .. وحين تصل الى الجنة , نعيد لك جانحيك
فمدّ يداه نحوها بتردّد , ليُسرعا بنقله الى السماء ..
*** 

بعد امضاء جيم عدة ايام في الجنة .. إقتربت منه إحدى الحوريات , قائلةً: 
- أمازلت تفكّر بهم ؟
جيم بحزن : انا دائم القلق على عائلتي  
- هذا ان بقوا احياءً
جيم بفزع : ماذا تقصدين ؟! هل أذاهم احد ؟
- يبدو ان حياتك على الأرض أنستك كل شيء .. فالزمانين مختلفين 
- آه فعلاً , نسيت ! اربعة ايام في الجنة , كم تساوي عندهم ؟
الحوريّة : ثمانين سنة تقريباً
جيم بارتباك : ماذا ! يا الهي .. عليّ الذهاب اليهم حالاً
- أستخالف الأوامر ثانيةً ! 
- رجاءً لا تخبري احداً , سأنزل واصعد في ثوانيٍ 
الحورية : حسناً , حاول ان تعود سريعاً قبل ان يلاحظ كبار الملائكة غيابك
*** 

وهبط جيم وسط الغابة , مساءً .. وبعد ان أخفى جناحيه , توجّه الى الشارع العام.. 
وبعد نصف ساعة , وافق سائق على توصيله مجاناً الى منطقته القديمة .. 

وفور وصول جيم الى هناك , لاحظ تغيرٌ كبير في المنطقة والمنازل .. لكن بيته مازال مكانه , وإن كان أصبح قديماً ومتهالكاً 

وحين طرق الباب , فتح له رجلٌ عجوز متكأً على عصاه .. 
فسأله جيم : عفواً , أهذا منزل عائلة جيم ؟ 
- نعم , من انت ؟
- هل يمكنني الدخول لوّ سمحت , فأنا عشت هنا منذ فترةٍ طويلة 
- تفضّل 

وبعد دخول جيم المنزل , قال بدهشة :
- يبدو كل شيء مكانه , رغم مرور الزمن ! 
العجوز : نعم , فأمي أوصتني ان لا أغيّر شيئاً في المنزل 
- امك ! .. هل انت ابني الذي لم أرى مولده ؟!

فتراجع العجوز الى الوراء بدهشة , قائلاً : 
- لحظة ! كانت امي تردّد دائماً قبل وفاتها : بأن والدي الملاك سيعود يوماً للإطمئنان عليّ .. وأخبرتني بتفاصيل قصته , حتى انها أرتني قصاصات قديمة لجرائد تتحدّث عن بطولته على الجسر في حادثة الضباب .. لكني ظننت انها فقدت عقلها !
جيم بحماس وشوق : لا هذا انا , والدك جيم !! 
- لن أصدّق ذلك , قبل ان تثبت لي انك ملاك ..

فأظهر جيم جناحيه , التي لم يستطع العجوز رؤيتهما لشدّة نورهما:
- رجاءً أعدهما مكانهما , أكاد أفقد بصري
وبعد ان أخفاهما مجدّداً .. قال العجوز بارتباك :
- لا أصدّق ما رأيت , ابي حقاً ملاك ! كانت اختي رحمها الله على حقّ ..
- أأبنتي توفيت ايضاً ؟!
العجوز : ابي .. ان كان طفلك أصبح في الثمانين من عمره , وأختي تكبرني ب 18 سنة .. فأكيد توفيت , لكنها بالحقيقة ماتت بعمر الخمسين في حادث سيارة

جيم بحزنٍ وشوق : رحمها الله , كم اشتقت لها ولزوجتي .. آه صحيح , لما لم تتزوج انت ؟
- بل تزوجت .. لكن زوجتي توفيت منذ سنتين , ولديّ احفاد .. الا انهم يعيشون مع والدهم في الخارج .. وآراهم في العطل الصيفية .. (ثم سعل بقوة) ..
جيم بقلق : لا تبدو بخير يا بنيّ ! 
العجوز بتعب : صحتي تدهوّرت مؤخراً , ومللّتُ العيش وحدي .. لهذا أتمنى ان تأخذني معك الى السماء يا ابي
جيم : أحقاً تريد الموت ؟!
- نعم , رجاءً لا تتركني وحدي هنا ..
ففكّر والده قليلاً , قبل ان يقول : اذاً هات يدك ..

واستند على والده بخطواته المتثاقلة , الى ان خرجا من الباب الخلفيّ .. واستغلّ جيم ظلمة الليل ونوم الجيران , للطيران بإبنه العجوز الى فوق
***

حين وصلا الى الجنة .. وفور دخول ابنه البوّابة العملاقة الذهبيّة , تحوّلت هيئته الى شابٍ وسيم في مقتبل العمر , والذي تفاجأ مع ابيه برؤية أمه واخته تنتظراهما هناك ..
جيم بدهشة : اين كنتما ؟!
زوجته التي عادت صبية : بعد ان أنهينا حسابنا , أحضرونا الى هنا 
جيم : كم اشتقت اليكم جميعاً , يا احبائي الأعزّاء 

وحضنهم جميعاً , لتختلط ضحكاتهم بدموع الفرح للقاء بعد طول فراق .. وعاشت العائلة الصغيرة في نعيم الجنة وملذّاتها لأبد الآبدين .

الخميس، 18 يوليو 2019

الموهبة الدفينة

تأليف : امل شانوحة

لا تتخلّى عن احلامك

اثناء إنشغال فؤاد ببيع الخردة مع عمّاله , سلّمه ساعي البريد دعوة لحضور حفل لمّ شمل طلّاب الثانوية القدامى في مدرسته القديمة 
وبعد قراءته البطاقة , أحسّ بغصّة في قلبه بعد استعادته لذكرى مؤلمة حصلت له منذ ثلاثين سنة..

فقال فؤاد في نفسه بحزن :
- أكيد اصدقائي أصبح منهم الطبيب والمهندس , وانا كل ما فعلته هو إدارة محل والدي .. ياله من إنجاز !
ومزّق الدعوة وهو يحبس دموعه ..
***

في المساء .. قادته رجلاه بغفلةٍ منه الى مدرسته القديمة التي وجد بابها مفتوحاً , حيث كان البوّاب وابنه يقومان بتزين المدرسة إستعداداً للحفل الذي سيُقام بنهاية الأسبوع .. وحين أخبر الحارس بأنه أحد الطلاّب القدامى , أذن له بالدخول ..

فصعد فؤاد الى صفّه القديم وجلس على طاولته , لتعود ذاكرته الى الوراء , وتتوقف عند اليوم الذي تغيّر فيه حياته , حين طلب منه الأستاذ أحمد قراءة موضوع التعبير .. 

فوقف فؤاد (المراهق) امام اصدقائه , قائلاً بثقة :
- أعذرني استاذ , لكني فضّلت كتابة الواجب بطريقة شعرٍ ألّفته بنفسي 
الأستاذ احمد باندهاش : أحقاً ! .. إذاً إسمعنا إيّاه
وبعد إلقائه القصيدة , قال أحدهم ساخراً :
- أتسمي كلماتك المبعثرة شعراً , ليتك لم تحلّ الواجب اصلاً
وضحك التلاميذ عليه .. 

فنظر فؤاد الى استاذه بنظرات استغاثة , لكنه تفاجأ به يبتسم لتعليقاتهم الساخرة ! وكانت صدمة كبيرة له , فهو قدوته واستاذه المفضّل 

فأعاد فؤاد كرّاسته الى حقيبته غاضباً , وخرج من الصفّ قائلاً :
- لن أعود الى هنا مجدداً !! فشكراً لتدميركم مستقبلي 
وقد حاول الإستاذ اللحاق به , لكنه ركض هارباً من المدرسة ..
***

قبل وصول فؤاد الى منزله , وجد محل والده مغلقاً ! 
فسأل جاره الذي أخبره بشفقة : 
- امك صدمتها سيارة , وهي في المستشفى بحالةٍ حرجة ..فاذهب لتطمئن عليها يا بنيّ

فرمى فؤاد حقيبته بالشارع , وركض مسرعاً باتجاه المستشفى ..
وهناك أخبرهم الطبيب انها بحاجة الى عدّة عمليات للنجاة بحياتها .. لهذا رضخ فؤاد لاقتراح والده بالعمل معه لتوفير المال .. وقرّر ترك المدرسة نهائياً رغم انه من اوائل الطلاّب , وأكثرهم تميزاً بمواد اللغة العربية ..
***

الا ان امه توفيت في العناية المشدّدة .. وأكمل فؤاد حياته بالعمل مع والده في تجارة الخردة .. 

وحين أصبح شاباً توفي والده , واستلم عنه إدارة المحل ..
ومع الأيام .. إكتسب قساوة والده مع العمّال , وأصبح تاجراً معروفاً في المنطقة .. وكانت حياته تسير على ما يرام , الى ان وصلته تلك الدعوة التي أعادت الغصّة الى قلبه ..

واثناء سرحانه في ذكريات الماضي (وهو يجلس على طاولته في صفّه القديم) إقترب منه ابن البوّاب قائلاً :
- آسف استاذ , لكن الوقت تأخّر وعلينا إغلاق المدرسة
فؤاد : آه فهمت , سأخرج حالاً
- هل ستأتي الى الحفلة ؟
فتنهّد فؤاد بضيق : لا أظن ذلك 
المراهق : لماذا ! الا تريد رؤية زملائك واساتذتك ؟
- ليس حقاً ..فأنا تركت المدرسة قبل التخرّج
المراهق بحزن : وانا ايضاً أفكّر بترك المدرسة , فأصدقائي يعايرونني دائماً بأني ابن البوّاب

فؤاد بحزم : إيّاك ان تفعل , أسمعت !! ستندم كثيراً .. فأنا مثلاً لوّ أكملت دراستي , لكنت أصبحت شاعراً مهمّاً .. ربما رجلاً فقيراً , لكني سأكون أسعد من الآن .. لهذا لا تهتم بأقوال الآخرين , فعدم حصولك على شهادة ستبقى غصّة في قلبك للأبد
المراهق : أهذا يعني انك ستحضر الحفل ؟
ففكّر فؤاد قليلاً , قبل ان يقول :
- لا ادري ... ربما أفعل  
وخرج من المدرسة وهو مشوّش التفكير
***

في يوم الحفلة .. حاول فؤاد تجنّب الجميع الذين حضروا بأطقمهم الرسمية الفخمة التي تُظهر بأنهم حصلوا على أعلى الشهادات والوظائف .. وترك الجُموع , ليذهب الى صفّه القديم .. 
وبعد ان جلس هناك , أسند رأسه على طاولته وهو يقول بيأس :
- لما أتيت الى هنا اصلاً ؟!

بعد قليل .. سمع صوت عكّاز يقترب منه ! 
وحين رفع رأسه , وجد رجلاً عجوزاً يقف قربه ويقول :
- تلميذي النجيب ... فؤاد ! عرفتك من وحمة يدك .. 
فؤاد بدهشة : من ! الأستاذ احمد ؟ .. يا الهي ! لم اكن اعرف انك.. (وسكت)
فأكمل الأستاذ بابتسامة : انني مازلت حياً 
- لم أقصد ذلك , أطال الله عمرك
وقام وقبّل رأسه .. 

فأخرج الأستاذ من حقيبته دفتراً قديماً , وأعطاه لفؤاد : 
- أتدري انني اقترحت على المدير فكرة الحفلة لكيّ أراك وأعيد كرّاستك اليك 
وحين تصفّح فؤاد الدفتر , قال باستغراب : 
- آه ! هذا دفتري الذي كنت أكتب فيه الشعر وانا طالب
الأستاذ : نعم , نسيته في درجك حين هربت من المدرسة .. 
- كنت جمعت فيه أجمل اشعاري , ونويت إهدائه لك بعد ان تمدحني امامهم , لكنك ... (وسكت)
الأستاذ بنبرةٍ حزينة : خذلتك
فؤاد بقهر : كنت أنوي الغياب ليومين .. لكن عدم مساندتك لي ذلك اليوم , أفقدني حماسي للدراسة .. فأنت كنت مثلي الأعلى في الحياة 

الأستاذ : وقتها تردّدت في مدحك لوجود أخطاء أدبية وإعرابية في شعرك , لكنه كان مميزاً بالنسبة لعمرك , كما بقيّة اشعارك التي قرأتها لاحقاً .. ولم ادرك انك تركت المدرسة نهائياً الا متأخراً , فقد أسرع والدك بسحب ملفك , لهذا لم استطع الوصول اليك .. ومازلت الى اليوم أشعر بالذنب حيالك .. وأرغب حقاً في سماع إنك سامحتني , ليرتاح ضميري !
فسكت فؤاد بقهر , وهو يشيح بنظره بعيداً .. 

فقال الأستاذ :
- على الأقل لا تترك الشعر , فهي موهبتك الحقيقية .. وحاول الكتابة مجدّداً , كيّ لا تبقى حسرة في قلبي يا بنيّ .. 
فأومأ فؤاد برأسه إيجاباً , وقبّل رأس استاذه .. 
ثم خرج من المدرسة وهو يكتم دموعه ..
***

في تلك الليلة .. أعاد فؤاد قراءة اشعاره القديمة مراراً , مُتعجباً من فصاحته في عمر المراهقة ! ممّا شجّعه على المحاولة من جديد 
وسهر حتى الصباح في كتابة ابياتٍ شعريّة , لكنه لم يستطع تنظيم بيتين متتاليين .. 

وبعد ان تملّكه اليأس والتعب , مزّق اوراقه وهو يقول بقهر : 
- يبدو ان موهبتي ضاعت ذلك اليوم , ولن تعود ثانيةً
ثم نظر لساعته : اللعنة ! لقد تأخّر الوقت , ولديّ غداً إجتماعاً مهم مع تجّار الخردة..
فوضع دفتره القديم في الدرج وهو يقول : كانت موهبةً جميلة , لكن الدنيا تصرّ على هدم احلامي .. وهذا هو قدري 

ثم ذهب لينام , محاولاً تجاهل كلمات استاذه التي أثّرت به كثيراً .. ومسح دمعته بعد ان أيقن عجزه عن تحقيق حلم إستاذه بقراءة قصيدة جديدة له , كما وعده !
***

خلال الأسابيع التالية .. حاول الأستاذ احمد الإتصال به اكثر من مرة , لكن فؤاد لم يجيبه لأنه يعرف مُسبقاً ما سيطلبه منه 

وفي آخر إتصالٍ منه , أطفأ فؤاد جوّاله بغضب وهو يقول : 
- يالا عنادك يا استاذ ! ثلاثة شهور وانت تلاحقني , متى ستستلم وتتركني وشأني , فطالبك اللعين لم يعد شاعراً !!!
***

في اليوم التالي .. وصله إتصال من رقمٍ لا يعرفه ! وحين ردّ عليه , كان ابن الأستاذ احمد يخبره بوفاة والده .. 

وانهار فؤاد باكياً بعد معرفته بأن استاذه إتصل عليه قبل دخوله العملية التي توفي فيها !
***

في الصباح الباكر , ذهب الى المقبرة .. وبعد دفن الأستاذ احمد , جلس في صالة العزاء التي اكتظت بطلاّبه القدامى من اصدقاء فؤاد الذين تعرّفوا عليه ..

وبعد ساعة .. لم يجد نفسه الا وهو يقف امامهم , لتتفتّق قريحته بأبيات رثاءٍ عن معلمه , لاقت صدى طيباً عند المستمعين 
فتوجّه اليه ابن الأستاذ أحمد والدموع تترقرق في عينيه , وقبّل رأسه وهو يقول :
- كانت ثقة ابي في مكانها حين قال عنك : بأنك تلميذه الموهوب الذي سيرفع رأسه بين الناس 

فخرج فؤاد مسرعاً من العزاء وقد اختلطت عليه المشاعر .. 
وعاد الى بيته وكلّه تصميم على تطوير موهبته التي استعادها أخيراً , بعد إلقائه لتلك القصيدة المؤثرة التي لم ينظّمها مُسبقاً !  
***

مع بداية السنة .. شارك صديقه بتجارة الخردة كي يتفرّغ للكتابة .. وفتح مدونة على الإنترنت لكتابة قصائده , التي سرعان ما حصلت على الكثير من التعليقات المؤيدة لمحبيّ الشعر

وبعد نشر ديوانه الأول الذي كان الأكثر مبيعاً بين كتب الأدب , حصل على مقابلته التلفزيونية الأولى التي لم ينسى فيها شكر الأستاذ احمد الذي اعاده الى جادة الصواب ..
***

وبعد المقابلة , توجّه مباشرةً الى المقبرة .. ووضع نسخة عن كتابه فوق قبر استاذه والدموع تسيل على وجنتيه.. 

وبعد قراءته الفاتحة , قال بصوتٍ متهدّج :
- هآقد بدأت مسيرتي الأدبية , ونشرت كتابي الأول الذي بإذن الله لن يكون الأخير .. وكتبت الإهداء لك كما وعدتك .. فارقد بسلام , فقد سامحتك دنيا وآخرة يا استاذي الفاضل 

الأحد، 14 يوليو 2019

سمعةٌ مُدمّرة

كتابة : امل شانوحة


المخدرات في المدارس

كان أحمد (المدير السابق لمدرسة الثانوية المختلطة) يقود سيارته مع ابنته الجامعية , وهو مازال مغتاظاً من المدير الجديد .. 
حيث قال غاضباً :
- لا أصدّق انهم أجبروني على التقاعد المُبكّر , لكي يضعوا سمير مكاني ! لطالما كان ناظراً بليداً ومهملاً , وسيُفسد نظام مدرستي  الذي بنيته في 30 سنة ؟!
- ابي اهدأ رجاءً , لا اريد ان تصيبك نوبة قلبية جديدة .. انت قمت بواجبك على أتممّ وجه , والجميع يعلم بسمعتك النظيفة .. لكنه حان الوقت لترتاح من هذا العناء , فأنا وامي بالكاد كنّا نراك لإنشغالك الدائم بحلّ مشاكل الطلاّب داخل وخارج المدرسة 

في هذه الأثناء .. مرّت امامهما سيارة جديدة , فلمح أحمد سائقها .. فقال لإبنته باستغراب :
- ارأيت ذلك الرجل , انه يشبه بوّاب مدرستي !
- العم نجيب ! مستحيل ابي .. فهو رجلٌ فقير يعيش مع امه , فمن اين له المال لشراء هذه السيارة الفخمة .. ربما شخصٌ يشبهه
الأب : أمعقول ان لديه أخاً توأماً ميسور الحال ؟! 
- بدأت تهلوّس بالمدرسة يا ابي , رجاءً حاول نسيانها ..ودعنا نعود سريعاً الى البيت , فخطيبي قادمٌ للغداء معنا 
***

في إحدى الليالي .. شعر احمد بالأرق , رغم تعوّده على النوم باكراً .. الا انه في الفترة الأخيرة صار يتضايق من الإستيقاظ صباحاً دون الذهاب للعمل .. 
فقام من سريره ولبس ثيابه .. 

وقبل خروجه من المنزل , سألته ابنته التي كانت تسهر لدراسة امتحانات السنة الأخيرة الجامعية ..
- ابي ! الى اين انت ذاهب في هذا الوقت المتأخّر ؟!
- جافاني النوم مجدّداً ! لهذا سأقود في الأرجاء , فالطرقات هادئة في هذا الوقت ..
ابنته بقلق : أخاف ان تتعب وحدك بالطريق , دعني أذهب معك
- لا يا نجوى , إكملي دراستك .. لن اتأخّر بالعودة 
وخرج من البيت ..
***

ومع الأيام .. صار معتاداً على التنزّه في آخر الليل وحده , وأمضاء النهار بالنوم لتمضية الوقت ..

وفي إحدى الليالي .. وجد نفسه يقود قرب مدرسته القديمة , ليلاحظ نور الملعب مضاءً !
- غريب ! الساعة الواحدة مساءً , فلما ترك الحارس نجيب الأنوار مضاءة هكذا ؟ هذا تسيّب وصرف للكهرباء ..
فأوقف أحمد سيارته بجانب المدرسة .. 
وحين اقترب من الباب , لم يجده موصداً بإحكام ! وبدفعةٍ بسيطة منه , إستطاع الدخول اليها 

وحين وصل الى الملعب .. رأى مراهقيّن يتجوّلان هناك , وهما يترنّحان  وينفثان دخان سيجارتهما التي لا تبدو من النوع العادي ! حتى انهما لم يلاحظا وقوفه خلفهم .. وفضّل أحمد تجاهلهما والصعود الى مكتبه القديم الذي كان الوحيد مُضاء من بين الصفوف .. 

وكان باب الغرفة مشقوقاً , فتلصّص منه : ليرى المدير الجديد مع حارسه يقومان بإخراج لفافاتٍ صغيرة تبدو كالسجائر من الصندوق , ويصفّانها بترتيب فوق الطاولة .. 
وسمع المدير سمير يقول لنجيب :
- بعد ساعة سيحضر الطلاّب الفاسدون لشراء المخدّرات , لهذا دعنا نستعجل في العمل لنبيعها كلّها قبل طلوع الفجر 
الحارس : جيد انك حللّت مكان الأستاذ احمد , فذلك المدير المتسلّط لم يكن يسمح لنا بمخالفة الأوامر .. والآن بفضلك إشتريت سيارة وبيت جديد لأمي , بأقل من سنة 
سمير : وسنحصل على المزيد من الأموال في المستقبل , فالشرطة لن تشكّ ابداً باستخدامنا المدرسة ك (وكر) للمدمنين 
نجيب : ولا تنسى دوري , فأنا أوزّع السجائر السامّة على الطلاّب الجدّد كيّ أجعلهم زبائن لنا .. 

وهنا لم يعدّ باستطاعة احمد تحمّل ما سمعه , ودخل عليهما غاضباً:
- ايها اللعينان !!
سمير بارتباك : من ؟ الاستاذ احمد !
- نعم ايها الخبيث , أتستغلّ إدارة مدرستي لإفساد الأولاد ؟ أقسم انني سأجعلكما تتعفّنان بالسجن ..

وأسرع ناحية هاتف المكتب للإتصال بالشرطة .. فعاجله الحارس بلكمةٍ قوية على وجهه أوقعته ارضاً , غائباً عن الوعيّ
سمير معاتباً : ماذا فعلت يا مجنون ؟!
نجيب : لا تخف , لم أقتله بعد
- ومالعمل الآن بهذه المصيبة ؟ فهذا الرجل سيفضحنا حتماً ! 
- لحظة , سأبحث في جيببه
سمير : عن ماذا ؟!
الحارس : نعم وجدتها !! دواء القلب .. هل لديك المزيد من الحقن؟
- هل ستحقنه بالمخدرات ؟ 
- لا , سأذوّب كل دوائه بالماء وأحقنه بها .. ونتركه على مكتبه ليموت بهدوء

سمير بخبث : يالها من فكرةٍ عبقرية ! وانا سأكتب رسالة إنتحاره مُتضمّناً كلاماً كئيباً عن حياته المملّة بعد التقاعد , ولهذا تناول كل دواءه ليموت في مكتبه القديم
الحارس بقلق : وماذا عن ذلك الولد الأحمق الذي أخبر اهله انه اشترى المخدرات من المدرسة ؟ فنحن نحتاج لمعجزة للخروج من هذا المأزق , قبل تنفيذ والده التهديد وإرساله الشرطة غداً صباحاً 
ففكّر سمير قليلاً قبل ان يقول : 
- إذاً سألصق التهمة بأحمد , بعد ان أضيف على رسالة الإنتحار : شعوره بالذنب لتدمير مستقبل تلاميذه بالمخدرات , طمعاً في المال .. وبذلك لن يحزن أحد لموته .. وفي الوقت ذاته , أكون دمّرت سمعة هذا المغرور المتسلّط للأبد !! 
***  

في صباح اليوم التالي .. تفاجأ الطلاّب بإغلاق السلطات للمدرسة , ومطالبتهم بالعودة الى بيوتهم ! 
في الوقت الذي نشر الحارس الإشاعة بينهم : عن محتوى رسالة الإنتحار لمديرهم السابق .. 
ولم يمضي وقتٌ طويل حتى تجمّعت الأهالي الغاضبة امام المدرسة , مُطالبين بفتح تحقيقٍ شامل بجرائم المدير أحمد الذي لم يحفظ امانة اولادهم 

وانطلت الحيلة على الجميع .. فيما عدا زوجته وابنته نجوى التي أخبرت الشرطة مراراً : بأن خط الرسالة لا يطابق خط والدها ! وبأنه من سابع المستحيلات ان يقدم على الإنتحار او المتاجرة بالمخدرات .. 

لكن جميع الأدلّة ضدّه .. فسيارته متوقفة قرب المدرسة .. 
كما ساهمت شهادة الحارس نجيب بإدانته , حين قال لهم : بأن الأستاذ أحمد طالبه في الفترة الأخيرة بترك المدرسة مفتوحة مساءً للقيام ببعض الأعمال الإدارية , رغم تقاعده !

ومع نشر الخبر في الصحافة , توسّخت سمعة المدير احمد بين الناس الذين انهالوا عليه باللعنات ..عدا عن شماتة الأقرباء !
***

بعد سنة .. ومع بداية السنة الجديدة ..
الأم : لا ادري لما تصرّين على العمل كناظرة في مدرسة أبيك ؟ فنحن لم نصدّق متى تناست الناس امر الحادثة
نجوى : ابي لم يفعل شيئاً خاطئاً يا امي , وأنا متأكدة من ذلك
- ابوك كان غامضاً بآخر حياته , وكان دائماً يخرج مساءً ولا يعود الا مع تباشير الصباح 
- حتى انت يا امي صدّقت تهمتهم ! لكني سأثبت براءته للجميع
الأم بقلق : أخاف ان تتورّطي مع تلك العصابة يا نجوى
- لا تقلقي .. فأنا تسجّلت كناظرة بإسم عائلة زوجي , ولن يعرف احد انني ابنة المدير أحمد .. واثناء وجودي هناك , سأراقب الوضع بدقة , لأني متأكدة ان المتورّطين سيعاودون توزيع الممنوعات هناك .. وحينها أقوم بكشفهم , وحلّ هذا اللغز اللعين!! 
***

وبالفعل وعلى مدى اربعة اشهر من عملها الجديد , راقبت نجوى بقية الأساتذة والإداريّن والطلاّب المشاغبين .. وخاصة أحد المراهقين الذي كان واضحاً من تصرّفاته الرعناء انه يتعاطى الممنوعات .. 

وذات يوم , أخبرت زوجها انها ستنام عند امها .. وذهبت لمراقبة المدرسة ليلاً .. وكانت شكوكها في محلها , حين رأت الطالب المشاغب يدخل المدرسة بعد ان فتح له الحارس الباب.. 

واستطاعت التسللّ الى الداخل , اثناء انشغال نجيب بالكلام معه 
وصعدت الى فوق , لتختبأ في الغرفة المجاورة لغرفة المدير .. 

وفور دخول الحارس مع الطالب الى هناك .. قامت بتصوير كل شيء بجوالها , وكيف قام المدير سمير ببيع المخدرات له ..حتى انها سجّلت كلامه وهو يطلب منه : إخبار بقيّة اصدقائه بمعاودة بيعهم للمخدرات 

فردّ المراهق بارتياح : 
- وأخيراً استاذ , والله تعبنا من الذهاب الى فرعكم الآخر البعيد عن المنطقة , ولمدة سنة كاملة .. فهنا أأمن لنا
سمير : كان علينا التوقف لبعض الوقت , الى ان تهدأ العاصفة وتنتهي المراقبة الأمنية المشدّدة .. والآن بعد ان استعدنا ثقة الأهالي , عُدنا للعمل .. فهيا خذّ سجارتك وأخرج من المدرسة بهدوء كيّ لا تثير الشبهات 

فأسرعت نجوى بالخروج من المدرسة قبل ان يروها .. وابتعدت بسيارتها وهي ترتجف وتبكي بعد تأكّدها من براءة والدها , وتمّتمت غاضبة :
- ايها الملاعيين , سأكشفكم جميعاً !! 

الا انها فضّلت عدم الذهاب الى الشرطة , وقامت بنشر الفيديو بوسائل التواصل الإجتماعي التي أثارت ضجّة اعلامية , مُترافقة مع غضب الأهالي الذين طالبوا بقفل المدرسة نهائياً , وحبس المدير سمير وحارسه الذين إعترفا لاحقاً بالجرم .. 

كما قامت نجوى بتقديم شهادتها للشرطة والمطالبة بالتحقيق معهما في ملابسات وفاة والدها الغامضة , فاعترفا بعد شهور بما حصل في ذلك اليوم .. لتظهر أخيراً براءة المدير أحمد ..حينها قام الأقارب والأصدقاء بالإعتذار من نجوى وامها لشكّهم بسمعته بعد انتحاره المزعوم
***

بعد إغلاق المدرسة بالشمع الأحمر .. ذهبت نجوى الى قبر والدها لتخبره بما حصل , وكيف قامت بتنظيف سمعته من جديد ..
لكنها تفاجأت بشاب يلعنه امام قبره , فاقتربت منه غاضبة : 
- لا تشتم والدي !!
- أأنت ابنته ؟ اللعنة عليه , لقد أفسد حياتي
- والدي شريف , الم تشاهد الأخبار ؟ الأستاذ سمير وحارسه هما اللذان باعا المخدرات للطلّاب
الشاب : انا لم أتعاطى يوماً الممنوعات , لكن والدك الحقير إعتدى عليّ حين كنت مراهقاً

فتراجعت نجوى للخلف بصدمة : ماذا قلت ؟! لا انت تهذي , فوالدي ليس شاذاً 
- انا لم اكن الوحيد الذي آذاني .. واستطيع ان أعطيك ارقام اثنين من اصدقائي القدامى , اللذان كانا من ضحاياه ايضاً 
- هذا مستحيل !!
- إذاً تكلّمي معهما

واتصل على الشابين , التي تكلّمت معهما نجوى كلاً على حدة .. واللذان أكّدا وحشية والدها , وحياته السرّية المشبوهة 
وبعد ان أعادت له الجوال , قال لها الشاب : 
- هل صدّقتني الآن ؟ .. (ثم تنهّد بضيق).. كان الأستاذ احمد يهدّدنا بالرسوب ان لم نوافق على طلبه اللعين .. وبرأيّ اسألي امك عن علاقته بها 

فأسرعت نجوى الى بيت امها لتسألها عن ذلك 
الأم بارتباك وعصبية : وما دخلك انت بعلاقتي مع والدك ؟! ثم لماذا هذا السؤال بعد وفاته ؟
نجوى بقلقٍ شديد : رجاءً أجيبني يا امي 
- انت تعلمين ان والدك ينام في غرفته الخاصة .. فمنذ ان كنتِ صغيرة , بدأ يتحجّج بالأرهاق وشعوره بوخزاتٍ في قلبه .. حتى قبل ان تصيبه نوبته الأولى !
فأخفت نجوى وجهها بيديها , وهي تشعر بالعار : يا الهي !
- ماذا هناك ؟!
- يبدو ان ابي لم يكن نظيفاً كما ظننته دائماً !
وانهارت بالبكاء , دون ان تفهم امها السبب !
***

في السجن .. زار (شاب المقبرة) المدير سمير الذي قال له :
- أحسنت !! الشيك سيصلك غداً انت وصاحبيك لتنفيذكما المهمّة بنجاح
الشاب : كنت أراقبها كما طلبت مني , ولحقت بها الى المقبرة ..واستغليت إنشغالها بالكلام مع الحارس لأسبقها الى قبر والدها .. وقمت بما طلبته مني لتشويه سمعته .. لكني لا أفهم غايتك من ذلك بعد وفاة الرجل ؟! 

سمير بلؤم : للإنتقام من السيدة نجوى التي تسبّبت في حبسي .. كما ان والدها كان يغيظني دائماً بالتزامه المقزّز .. لكني تمكّنت من زرع الشكّ في نفوس الجميع بطهارة سمعته , واليوم دمّرتها تماماً في نظر ابنته المحبّة , وهذا الإنتقام يكفيني ..  
وضحك بخبث وبعلوّ صوته بعد ان نال مراده ! 

الثلاثاء، 9 يوليو 2019

خبث المشاعر

تأليف : امل شانوحة


إستغلالٌ مُدبّر !

في النشرة الصباحية لإحدى القنوات المحلّية لمدينةٍ صغيرة , أعلنت المذيعة الخبر قائلةً : 
- ما اصعب ان يقف الآباء عاجزين عن إنقاذ اطفالهم .. في حادثةٍ حصلت اليوم ظهراً : فقد رجلٌ اعصابه داخل فرعٍ مصرفيّ بعد رفض القرض الذي طلبه قبل ايام .. فقام بتهديد العملاء بالمسدس , وإجبارهم على التخلي عن مالهم بحجّة علاج ابنه الرضيع من مرضٍ خطير .. وسنعرض لكم ما صوّرته كاميرا البنك عن كيفية إنتهاء الأزمة

وظهر بالمقطع : الأب وهو يوجّه مسدسه نحو الرهائن المنبطحين على الأرض , بما فيهم حارس البنك .. والذين قاموا بإخراج ما في جيوبهم من اموال ووضعها في حقيبة المسلّح , بعد ان احتمى الموظفون خلف الزجاج الواقي من الرصاص ..

واثناء ذلك , قام احدهم بدفع العربة (التي ينام فيها إبن المسلّح) نحو الحارس الذي اسرع بتوجيه المسدس نحو الصغير , مُهدّداً الأب بقتله ان لم يرمي سلاحه .. ممّا أجبره على الإستسلام , وهو يترجّاه بأن لا يؤذي ابنه المريض .. من بعدها اقتحمت الشرطة المكان وقبضت عليه ..

كما عرضت الإذاعة مقطعاً آخر : لأشخاص يتظاهرون امام مركز الشرطة , تضامناً مع الأب الذي أجبرته الظروف القاسية على إرتكاب الجرم .. وطالبوا بإطلاق سراحه فوراً , وتكفّل بلدتهم بعلاج الطفل مجّاناً

وأنهت المذيعة الخبر قائلةً : ترى ماذا سيكون مصير الرجل الغريب الذي قدِمَ الى بلدتنا منذ ثلاثة شهور , والذي لقبه البعض بالأب الحنون الشجاع؟ .. سنعرف الإجابة من متابعتها لمحاكمته التي ستجرى خلال الأيام القادمة , لنتابع معكم لحظة إصدار الحكم في القضية التي أثارت البلبلة داخل مدينتنا الهادئة 
***

في اليوم المحدّد .. إضّطر القاضي لتبرئة الأب بعد ضغطٍ شعبي من اهالي المدينة الذين استقبلوا الرجل بالتصفيق عند خروجه من المحكمة , حاملاً الطفل بين ذراعيه (والذي بقيّ في الرعاية الإجتماعية طوال مدة سجن والده)  

وعاد الأب مع ابنه الى بيته المستأجر , ليتفاجأ بعشرات الرسائل المؤيدة على بابه , إحتوى بعضها على شيكات بإسمه كمساعداتٍ مالية .. عدا عن الكثير من الألعاب وحاجيات للطفل بعد علمهم بوفاة زوجته اثناء الولادة , وهو السبب الذي جعله ينتقل للعيش في مدينتهم الصغيرة ..

حتى ان جارته العجوز إقترحت عليه رعاية ابنه لحين إيجاده العمل المناسب .. 
وبدوره شكرهم على لطفهم معه , وكرّر إعتذاره عن سوء تصرّفه في البنك ذلك اليوم ..
*** 

بعدها بأيام .. تفاجأت إحدى الممرّضات بطفلٍ نائم في عربته المتروكة خلف باب المستشفى ! فأدخلته لتحميه من برد المساء , وأبلغت الأمن الذين علموا لاحقاً بأنه ابن الرجل الغريب الذي لم يجدوه في بيته !.. فبدأوا بالبحث عنه , خوفاً من ان يكون أصيب بحادثٍ ما .. 

وعلى الفور !! إنتشر خبر إختفاء الأب بين السكّان الذي حاول بعضهم البحث عنه في الأماكن الغير مأهولة .. اما الطفل , فأودع الرعاية الإجتماعية من جديد .. 
وقامت الإذاعة المحلية بنقل خبر الإختفاء , مع صورة للأب وابنه 
***

في صباح اليوم التالي .. وصلت إخبارية لرئيس الشرطة من المدينة المجاورة بأن الرجل سافر على متن الطائرة مساء البارحة بعد ان قام بسحب جميع الشيكات والتبرّعات , ممّا أغضب الأهالي الذين لم يستوعبوا كيف فضّل سرقة الأموال على علاج ابنه الوحيد ! 

الا ان رئيس الشرطة أحسّ بوجود خدعة في الأمر , وطلب من المستشفى إجراء الفحوصات اللازمة للطفل , والتي ظهرت نتيجتها سلبية وانه معافى تماماً وغير مصاب بمرضٍ خطير كما أوهمهم الوالد !
***

الأدهى هو ما حصل لاحقاً .. حين قدمت سيدة تعيش في القرية المجاورة الى مركز الشرطة , مُدعية بأن الطفل التي رأته بالأخبار هو ابنها الذي أُختطف من دار الحضانة قبل شهرين .. وقدمت لهم صورة عن بلاغ اختفائه من مركز الشرطة التابع لقريتها .. كما أخبرتهم بأن الرجل الذي ادعى انه والده , ماهو الا حارس المدرسة الذي استقال بعد ايام من اختفاء ابنها , ولم يشكّ به أحد لحسن سلوكه ! 

وانتشر الغضب العارم بين اهالي المدينة لمعرفتهم انهم ساعدوا مختطفاً بأموالهم , بعد إستغلاله عواطفهم البريئة اتجاه الطفل المريض .. 

وفي نفس الوقت ..تضامنوا مع الأم التي خرجت من مركز الشرطة وهي تحتضن ابنها بشوقٍ وحنان .. واقترحت عليها إحدى العائلات السكن معهم لحين انتهاء الإجراءات القانونية (لعلمهم بفقرها) .. 
كما قدّم لها تجّار المدينة مساعداتٍ مالية .. وأهدت بعض الأمهات أغراضاً للصغير تضامناً معها  
***

بعد اسبوع .. تفاجأت العائلة المضيفة باختفاء الأم التي تركت ابنها الرضيع نائماً في سريره ! 

وبحثوا مطوّلاً عنها , الى ان انصدموا بالنتيجة ذاتها : حيث هربت بالمساعدات المالية الى مكانٍ مجهول , بعد سرقتها أغراضاً ثمينة للعائلة التي سكنت عندهم ! 

وكان رئيس الشرطة أشدّهم غضباً لإحساسه بالتقصير لعدم مطالبته بأوراقٍ رسمية تثبت امومتها للطفل , واكتفى بتقرير إختفائه الذي يبدو انه مزوّر ! فهو كما بقية السكّان صدّقوا تمثيلها المتقن بإظهار فرحتها العارمة بعودة الطفل اليها .. وبذلك تساوى خبثها مع ذلك الرجل الذي استغلّ ايضاً طيبة أهالي المدينة المسالمة ..
لذلك أصرّ رئيس الشرطة على معرفة هويّة الطفل المجهولة.. 

وأمضى شهوراً في البحث عن اصله , الى ان عرف بأنه ابن عائلةٍ غجرية دخلت البلاد بطريقةٍ غير قانونية , ولهذا لم يبلّغوا عن إختفائه خوفاً من القبض عليهم .. 

وكم سعدت الأم الحقيقة بعودة الطفل المُختطف اليها .. لكن هذه المرة لم يتضامن احدٌ معهم , بل صبّوا غضبهم عليهم ..وطالب الأهالي بطردهم فوراً من بلدتهم , لرفضهم ان يستغلّ أحد طيبتهم بعد اليوم 

ممّا أجبر رئيس البلدية على إستئجار قاربٍ صغير , وضع فيه العائلة الغجرية بأبنائها الثمانية في مواجهة البحر الهائج , مُعرّضاً بذلك حياتهم لخطرٍ محدق !

وفي الأخبار المحلية .. أنهت المذيعة الخبر بقولها : 
- وكالعادة : يُعاقب الضعفاء على اخطاء غيرهم .. كان الله في عون العائلة الغجرية التي ربما لن تصل يوماً الى شطّ الأمان ! 
***

وفي مدينةٍ ساحلية .. كان الرجل والمرأة (الأب والأم المزيفان) يستمتعان بدفء الشاطىء .. 
وبعد ان أنهت عصيرها , قالت له :
- ارأيت .. كان قراري صائباً حين طلبت منك خطف ابن الغجرية , واستغلال طيبة اهالي المدينة الساذجين
الرجل : نعم لكن لا تنسي انني انا من اقترحت الذهاب اليهم منفصليّن , كيّ نجمع اكبر قدر من المساعدات المالية
- وهآ نحن حصلنا على اجمل عطلةٍ مجانية .. لكن مالنا اوشك على الإنتهاء وعلينا إيجاد خطة جديدة 

الرجل وهو يراقب أحد اولاد الشوارع : ما رأيك بذلك الولد الصغير ؟ يبدو متشرداً , هل أخطفه ؟ 
المرأة : ليس في وضح النهار , دعنا نخطّط جيداً.. وعلى فكرة .. بحثت البارحة في الإنترنت , ووجدت قريةً صغيرة تتميز بتحفها الأثريّة , وسكّانها اناسٌ بسطاء .. والأجمل انهم لا يملكون مركزاً للشرطة , والمسؤول الأمني فيها : رجلٌ عجوز لن يشكل تهديداً لنا  

الرجل : وماذا لوّ رفضوا إعطاءنا شيء ؟
المرأة بحماس : حينها نتخلّى عن فكرة الولد , لتبدأ المغامرة مع الخطة البديلة .. فنقوم بإقلاق راحتهم ليلاً نهارا , مُستخدمين الأقنعة والأسلحة والتهديدات .. وكل ما يلزم للخروج بالمال الوفير من هذه المهمّة , او ببعض الأثريات الثمينة التي نبيعها لاحقاً في السوق السوداء ..

الرجل بابتسامة : كم أعشق دهاءك ومكرك يا زوجتي العزيزة !
وضحكا بخبث ..

السبت، 6 يوليو 2019

التبرّع بالأعضاء

تأليف : امل شانوحة

 
الإنترنت المظلم !

إستنجدت الأم المذعورة بالطبيب قائلةً : 
- رجاءً خذّ قلبي واعطه لإبني .. لا استطيع رؤيته يحتضر امامي , فأنا أنجبته بعد عشرين سنة من علاجي للعقم .. ولا امانع الموت ليعيش ملاكي الصغير
فاحتضنها زوجها محاولاً تهدأتها , وهو يقول للطبيب : 
- دكتور , انا رجلٌ ثريّ ومستعدّ لدفع كل ثروتي في سبيل إنقاذ ابني الوحيد

الطبيب : إيجاد قلب يناسب ابنك ليس بالأمر الهيّن , لابد ان يكون لولدٍ يناسب عمره وفئة دمه .. وحالياً لا يوجد قلب بهذه المواصفات في جميع مستشفيات الدولة .. وعليكم الإنتظار قليلاً 
الأم وهي منهارة بالبكاء : والى متى ؟! ابني هنا منذ ثلاثة شهور .. وفقد نصف وزنه ..وأصبح بالكاد يتكلّم .. وينام طوال الوقت .. ووجهه شاحب كأنه شبح .. رجاءً , عليكم إيجاد متبرّع في اسرع وقتٍ ممكن

وحاول الطبيب تخفيف روعهما قدر الإمكان قبل خروجه من الغرفة , تاركاً الوالدين غارقين بالحزن والهمّ
***

عاد الأب وحيداً الى قصره ككل ليلةٍ منذ دخول ابنه المستشفى وإصرار زوجته على المبيت بجانبه الى ان يُشفى تماماً !  

وقضى وقته على الإنترنت , باحثاً بيأس عن متبرعٍ للقلب بعد نشره لإعلان عن مكافأةٍ ماليةٍ ضخمة .. 
وقبل ان يغلق حاسوبه لينام , وصله الإيميل التالي :
((عندي طلبك , دعنا نتحدث مباشرةً للإتفاق على السعر))

وحين فتح الكاميرا .. ظهر له رجلٌ مقنّع يجلس في غرفةٍ مظلمة , لا ينير عينيه الحادّتين سوى ضوء حاسوبه ! 
فسأله جاك (الرجل الثريّ) :
- لما انت مُتخفّي هكذا ؟!
فأجابه الرجل بشكلٍ مُبهم : لأن عملي يتطلّب السرّية .. والآن أجبني على سؤالي ..الى أيّ مدى تريد هذا القلب ؟
جاك : أريده مهما كلّف الأمر , فلا شيء يشغل بالي حالياً سوى شفاء ابني من مرضه
- ممتاز !! اذاً إرسل لي فحوصات ابنك الأخيرة لأحضر القلب المناسب له

جاك : ابني في 12 من عمره , والطبيب أخبرنا انه يُستحسن ان يكون المتبرّع صغيراً في السن .. فهل تعرف ولداً حالته ميؤوساً منها , واهله لا يمانعون التبرّع بأعضائه ؟
الرجل الغامض : وما دخل اهله بالموضوع ؟
جاك بقلق : ماذا تقصد ؟!
- انا أعيش في الهند ..في منطقةٍ شعبية مليئة بأطفال الشوارع , ويمكنني..
جاك مقاطعاً بفزع : مهلاً ! أتقصد انك ستقتل ولداً فقيراً ؟ 
- سنخطفه اولاً لنجري عليه الفحوصات .. وان تطابق مع ابنك , نأخذ قلبه ونرسله اليك بطريقةٍ سرّية , فنحن على تواصل مع بعض حرس الحدود الفاسدين التابعين لعدة دول .. وسنحاول قدر الإمكان إيصال القلب سليماً اليك , داخل حافظةٍ طبّية تحميه اثناء تنقّلاته في البرّ والبحر , لأن إرساله بالطائرة أمراً مستحيلاً في ظلّ المراقبة المشدّدة على المطارات
- لا طبعاً !! انا لا أقبل ان يُقتل ولدٌ بسببي

الرجل المقنّع : كما تشاء .. لكن دعني أفهمك شيئاً عن طبيعة الحياة هنا .. فمعظم اطفال الشوارع عندنا هم اولاد الحرام , لأنها منطقة مخصّصة للدعارة .. لذا موت أحدهم او إختفائه لن يثير انتباه أحد .. وبالحقيقة انت تنقذه من حياته البائسة , فهو سيكبر إمّا ليكون شحاذاً او تاجر مخدرات او يعيش مُتنقلاً بين السجون وأكواخ المتشرّدين .. بينما ابنك سيكبر ليصبح طبيباً او مهندساً اوسياسياً ناجحاً .. فلما الإهتمام بولدٍ فقير سيقضي جلّ عمره على هامش الحياة ؟
جاك بقلق : لا ادري , لكن الأمر مريباً بالنسبة لي 
- فكّر جيداً بالموضوع , سأمهلك اسبوعاً .. وبعدها سأحذف صفحتي وايميلي , ولن تجدني ثانيةً .. وربما تخسر فرصتك الأخيرة بإنقاذ ابنك .. سأتكلّم معك لاحقاً لأعرف الجواب

وأنهى محادثته , تاركاً الأب بين نارين : فقدان ابنه , او قيامه بأمرٍ  سيؤنّب ضميره لآخر يومٍ في حياته !
***

بعد اربعة ايام .. ساءت حالة ابنه كثيراً ! واضّطروا لوصله بأجهزة تقوم بعمل القلب المتضرّر , بعد دخوله بغيبوبةٍ مؤقتة 
وما ان أخبرهم الطبيب : بأن يستعدّوا لأسوء الإحتمالات , حتى انهارت الأم باكية في حضن زوجها وهي تترجّاه بأن يجد حلاً سريعاً لإنقاذه .. فلم يجد نفسه الا وهو يكذب ليطمّأنها , بأنه توصل لإتفاق مع عائلة المتبرّع 

زوجته بارتياح : أحقاً يا جاك ! إذاً ماذا تنتظر !! إذهب واخبر الطبيب بالأمر 
جاك بقلق : المشكلة انني وجدّتهم في الإنترنت المظلم
- ماذا يعني ذلك ؟! 
- أخاف ان يكون البائع أحد تجّار السوق السوداء الغير قانونية
زوجته بعصبية : سوق سوداء , سوق حمراء ..لا يهمّني .. فقط احضر القلب اللعين لأبني قبل ان نخسره !!
- حسنا سأفعل , اهدأي قليلاً
***

في المساء .. إتفق جاك مع التاجر المشبوه على كل شيء , وأرسل على حسابه : اول شيك للقيام بعملية الخطف .. 

وأغلق حاسوبه وهو يحسّ بتأنيب الضمير , وحدسٍ قوي يُشعره بأنه سيدفع الثمن لاحقاً , لكن صحّة ابنه كان همّه الأول 
***

في أقل من شهر .. وصل القلب اخيراً الى جاك الذي قام بتسليمه للطبيب الذي عارض القيام بالعملية قبل معرفة مصدره , الا ان الأب استطاع إرشائه بمبلغٍ ضخم لتزوير الأوراق الطبية والقيام بالعملية التي تمّت في وقتٍ لاحق بنجاح .. ليتنفّس الوالدان الصعداء بعد إستعادة ابنهم وعيه في غرفة العناية المشدّدة , وتجاوبه أخيراً مع العلاج  
***

بعد شهرين من العلاج الطبيعي .. عاد الولد مع عائلته الى القصر برفقة ممرّضة إستأجراها لمتابعة حالته الصحّية التي تحسّنت بشكلٍ ملحوظ .. وقد وعده والده بمتابعة الدراسة في حال انتظم على أخذ ادويته .. 

ومع إستعادة آدم الصغير لنشاطه , عادت الفرحة الى القصر بعد ان غابت عنه لشهورٍ طويلة ..
***

وفي إحدى الليالي .. وقبل ان يغلق جاك حاسوبه لينام , وصله فيديو مُرسل من ذاك الرجل الغامض .. وفيه تصوير لجماعته وهو يختطفون الولد الفقير من الشارع بالقوة , ويخدّرونه قبل إلقائه في سيارتهم المظلّلة 

كما كان في الفيديو : تصويراً للعملية الجراحية التي أجريت له , داخل غرفةٍ طبية متواضعة تحوي سريراً وبعض الأدوات الطبية البدائية .. 

وقد شاهد جاك وهو يتصبّب عرقاً كيف قام طبيبهم بقصّ صدر الولد بالمنشار العادي وإزالة اضلاعه المكسورة , قبل سحبه للقلب ووضعه داخل حافظةً ثلجية ..

وانتهى الفيديو دون ان يُرفق معه أيّةِ رسالة او مطالب لتلك العصابة !

فقام جاك بحذفه على الفور وهو يشعر بالغثيان وتأنيب الضمير بعد ان عاش اللحظات الأخيرة للولد البريء الذي انتهت حياته القصيرة بقرارٍ منه! 

ولم يستطع النوم تلك الليلة وهو يتذكّر صرخات الولد اثناء إختطافه من الشارع .. حيث ظلّ يتساءل ان كان اهله مازالوا يبحثون عنه حتى اليوم ! 
***

بعدها بإسبوع .. وصلته رسالة مصوّرة من المقنّع يقول فيها :
- أظنك حذفت فيديو العملية كما فعل معظم الأغنياء , لكنه مجرّد نسخة لعشرات النسخ التي لدينا , بالإضافة لجميع المحادثات التي أجريناها سوياً بشأن شرائك للقلب المشبوه .. ويمكننا إرسالها للشرطة لتوريطك بتهمة الإتجار بالأعضاء , بعد ان نُلفّق لك عشرات الجرائم من النوع ذاته .. فما رأيك لوّ تعطينا شيك مُشابه للشيك القديم لنقوم بإتلاف الأدلّة ضدّك ؟

فقام جاك بحذف الرسالة بيديه المرتجفتين , بعد علمه بتورّطه مع عصابةٍ خطيرة لن تهنأ قبل افلاسه او القضاء على سمعته 

ثم أجرى بحثاً سريعاً بأسماء اثريّاء منطقته الذين عانى بعض افراد عائلاتهم من اعضاءٍ تالفة , لتأكّد من مصدر المتبرعين لهم 
ووجد تاجراً عجوزاً كان التقى فيه قبل سنوات في إحدى المؤتمرات الإقتصادية , والذي نجى من الموت بأعجوبة بعد حصوله على كبدٍ بديل لكبده الذي أتلفه بالكحول .. وحين وجد رقمه , طلب من سكرتيره موعداً للقائه
***

وفي مكتب قصر العجوز .. دخل جاك مباشرةً بالموضوع وسأله عن مصدر المتبرّع , فأجابه العجوز بارتباكٍ وعصبية :
- لما يصرّ الجميع على معرفة هويّة المتبرّع ؟!! فذلك الفقير وافق على إجراء العملية مقابل ثروة لم يحلم بها في حياته
جاك : ما علمته من مصادري انك حصلت على الكبد كلّه ..وهذا يعني ان المتبرّع متوفي , فكيف تقول الآن إنك دفعت المال له ؟!
العجوز : أتتذاكى عليّ يا جاك ؟ أتظنني لا اعلم انك ايضاً حصلت على قلب لإبنك من الإنترنت 

جاك باستغراب : وكيف عرفت ؟!
- انا ايضاً لي مصادري , ويهمّني أخبار التجّار في البلد .. المهم إخبرني , هل عاد واتصل بك ذلك المقنّع الحقير ؟
جاك : يبدو ان كلانا تورّط معه .. المشكلة انه يهدّدني بفضح امري , ويريدني ان أدفع له المزيد من الأموال 
- إيّاك ان تفعل , والا لن تتخلّص منه ابداً .. إفعل مثلي , انا غيّرت عنواني وهويتي بعد ان أوهمته بإفلاسي , وأظن الحيلة إنطلت عليه ليبحث له عن ضحيةٍ أخرى
جاك : نعم ووجدني انا , لكني أخطّط لتخلّص منه بواسطة الإعلام 
- لم أفهم !
- ستعرف لاحقاً 
العجوز : انها عصابة محترفة وقد يأذونك لاحقاً , لذا خذّ حذرك يا جاك.. وكان الله في عونك
***

وبالفعل .. دفع جاك مبلغاً محترماً لإحدى المحطات لإجراء مقابلة تلفزيونية معه .. 
وحين سألته المذيعة عن مصدر القلب البديل .. أجابها : 
- قلب ابني يعود لولدٍ هندي مات سريرياً بعد ان صدمته سيارة , وقد وافقت عائلته على موته الرحيم بعد ان دفعت لهم مبلغاً ضخماً .. 
- وهل وصل المال اليهم مباشرةً ؟
جاك : هذا ما أخبروني به , فأنا لم اسافر يوماً الى الهند 

وانتهت المقابلة بعد ان أكّد جاك حصوله على القلب بشكلٍ قانوني , وعرض على التلفاز اوراقاً قانونية لعملية النقل (بعد ان قام محاميه بتزيفها بالإتفاق معه) .. 

وبهذه الخطوة الجريئة , استطاع جاك حرق الورقة الرابحة من أيدي المجرمين الذي لا يملكون سوى بعض محادثات الإنترنت من صفحته المحذوفة بإسمه المستعار .. كما انه قام بإتلاف حاسوبه القديم تحسّباً من تتبّعهم لرقمه التسلّسلي .. وبذلك استطاع بذكائه الخروج من هذا المأزق 
***  

ومرّت السنوات بعدها بسلام .. كبر فيها آدم (ابن جاك) ليصبح شاباً رياضيّاً مُحبّ للحياة .. وبعد إكمال دراسته , صار يجوب العالم برفقة عروسته التي وثّقت سفرياتهم على قناتها باليوتيوب 
***

وفي أحد الأيام .. سأل جاك زوجته : الم يتصل بك آدم ؟
- لا ليس بعد 
جاك : غريب ! ليس من عادته إغلاق هاتفه .. وزوجته ايضاً لا تردّ على اتصالاتي .. فمتى كانت آخر مرة تحدّثتي معه ؟
- قبل يومين .. عند وصولهما الى مطار الهند
جاك بفزع : ماذا ! ولما سافر الى هناك ؟!!
الأم : قال ان زوجته تريد تجربة الأطباق الهندية الحارة
- الغبية !! .. كنت حذّرته الف مرة لعدم الذهاب الى ذلك البلد اللعين
- مابك يا جاك ! ابنك سافر الى معظم دول العالم , فلما تكره الهند هكذا ؟! 
جاك بقلق شديد : أخاف ان يكونوا .. (وسكت قليلاً) ..عليّ القيام بعملٍ ضروري , أكلّمك لاحقاً
***

ونزل الى مكتبه في الطابق الأرضي للقصر .. وبحث مطولاً في إرشيفه الى ان وجد ايميل الرجل المقنّع .. وارسل له رسالةً تهديدية :
((دعّ ابني وزوجته يخرجان سالمين من الهند , والا والله قتلتك انت وجماعتك .. أفهمت ايها اللعين ؟!!))
***

بعد ايام .. وصله الردّ على شكل فيديو تصويري للرجل المقنّع بصوته العجوز : 
- عزيزي جاك .. مرّ وقتٌ طويل على اتفاقنا السرّي .. وكم انا سعيد بلقاء إبنك الذي يبدو ان صحّته تحسّنت كثيراً مع قلبه الهندي , كما انه محظوظ بعروسته الجميلة .. أنظر اليهما كيف ينامان بهدوء 

وظهر بالفيديو : سريران في غرفةٍ جراحة متواضعة , حيث كان آدم وزوجته مخدّران وممدّان هناك .. بينما كان الطبيب يرتّب ادواته الجراحية مع ممرضته ..

ثم قال الرجل المقنع : سأرسل لك رقم جوالي الجديد , وأنصحك ان لا تتأخّر بالردّ عليّ .. فطبيبي على وشك القيام بالعملية الآن .. رقمي هو : 676 ..
وانتهى الفيديو ..

فأسرع جاك بالإتصال عليه , وجسمه يرتجف بشدّة .. 
وما ان أجابه , حتى انهال عليه بالشتائم : 
- دعّ ابني وشأنه يا حقير !!!!
- آه ! صديقي جاك , سعدّت بسماع صوتك من جديد .. أتعلم انني لم أكن اعلم بوجود ابنك في الهند الا بعد رسالتك الأخيرة .. حينها ارسلتُ رجالي للبحث عن الأجانب في الفنادق الفخمة , وبعد بحثٍ طويل استطعنا إختطافه مع عروسته .. ويبدو ان قلبه البديل حنّ لموطنه الأصلي ! .. (وابتسم بلؤم) .. الآن لنعدّ الى حديثنا .. بما انك اصبحت عجوزاً مثلي , وبدأت اعضاؤك الحيوية بالضعف والوهن.. فما رأيك لوّ تحصل على بدائل من جسد ابنك الرياضيّ .. ماذا ينقصك يا جاك ؟ رئتان ام كلية او.. 

جاك بغضبٍ شديد : أترك ابني حالاً , والا والله ارسلت جيشاً لمحاربتك؟!!
- جيش ! (وضحك ساخراً) .. لا تبالغ يا جاك , فأخبارك تصلني اولاً بأول , وأعلم انك خسرت الكثير بصفقاتك التجارية الأخيرة , وتحاول جاهداً تأجيل موعد إفلاسك , وإخفاء الخبر عن عائلتك .. لذلك سأعطيك العضو الذي تختاره بالمجّان , فهو ابنك بالنهاية .. لكن قلبه سيكون لي , فهو قلبٌ هندي ..والأولى ان أبيعه لأحد اثريّاء بلدي .. والآن لنكمل من حيث توقفنا

وأدار الكاميرا على الطبيب الذي كان يرفع منشاراً كهربائي , والذي أداره بإشارةٍ من المقنّع , ليعمل على الفور بقصّ صدر آدم .. وسط بكاء والده الذي ظلّ يترجّى المجرم بتركه حيّاً .. 
لكنه سقط من فوق مكتبه , بعد ان رأى قلب ابنه منزوعاً في يد الطبيب الهندي !
وانتهى البث المباشر بعد تيقن جاك بوفاة ابنه الوحيد ..

لتتفاجأ زوجته بسماع طلقةٍ نارية قادمة من الطابق السفلي ! 
وحين دخلت المكتب , وجدت جاك منتحراً امام حاسوبه المُنطفئ .. فأطلقت صرخةً مدويّة , دون علمها بأن روح ابنها سبقت زوجها الى السماء !

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...