تأليف : امل شانوحة
الإستحقاق الوظيفيّ !
وجدت الشرطة جثة الصحفي الشهير في شارعٍ فرعيّ مُظلم ، داخل غابةٍ مُهملة !
وعلى الفور ، ضجّت وسائل الإعلام بالخبر .. فالضحيّة هو رئيس تحرير اهم صحيفة بالبلد .. لذلك سارعت السلطات بالبحث عن القاتل ..
وكشف تقرير المشرحة : بأن سبب الوفاة هو ضربٌ متكرّر بأداةٍ قاسيّة على الرأس .. حيث وجدوا نشارة خشب في جرحه العميق ، مما يؤكّد ضربه بعصا خشبيّة حتى الموت !
وتوجّهت اصابع الإتهام الى ثلاثة مشتبه بهم :
1- طليقته التي رفعت عليه قضيّة حضانة ابنائها ، قبل شهور من مقتله
2- الموظف العصبي الذي طُرد من الصحيفة ، قبل اسبوع من وقوع الجريمة .. والذي تشاجر مع الضحيّة قبل خروجه من مبنى الإعلام ، مُهدّداً بفضحه امام الموظفين الذين لم يعرفوا ما يمسكه ضدّه ، جعله يتجرّأ على شتمه امامهم !
3- ابنه المراهق الغير شرعي الذي رفض الإعتراف به ، بعد علاقةٍ عابرة مع امه (راقصة البارّ) .. فحاول إشعال منزله قبل زجّه في سجن الأحداث ، الذي سُرّح منه قبل ايام من الجريمة !
***
بعد التحقيق مع المشتبه بهم : أكّدت طليقته انه ليس في مقدورها ضربه حتى الموت ، فهو يفوقها طولاً وقوّة..
فاستنكر المحقّق :
- ليس من الضروري أن تقتليه بنفسك ، ربما عيّنت قاتلاً مأجوراً
الطليقة : القاتل المأجور يحتاج مبلغاً ضخماً ، وطليقي فاز بحضانة اولادي (رغم صغر سنهم) بسبب ثرائه ، بعكسي ..فأنا لم اكمل دراستي ولا وظيفة لديّ ، فهو تزوجني بسن المراهقة .. وبعد عِشرة 11 سنة ، طلّقته فور معرفتي بإبنه الغير شرعي وخيانته لي .. ورفعت قضيّة حضانة لسوء سلوكه وعلاقته بالنساء الرخيصات ، مما يجعله والداً فاسداً.. لكنه عيّن أفضل محامي بالبلد ، جعله يربح جميع الجلسات لصالحه ! وصدّقني بأن خبر مقتله لم يصدمني ، فطباعه السيئة مع الجميع جعلت لديه الكثير من الأعداء.. لذلك لا تضيّع وقتك بالتحقيق معي .. فلوّ أردّت قتله ، لفعلتها منذ اليوم الأول لحرماني من اطفالي قبل سنتين
ورغم أنها مازالت مشتبهٌ بها ، لكن كلامها المنطقي جعل المحقّق يتابع تحقيقاته مع المشتبهين الآخرين ..
حيث أكّد ابنه الغير شرعي : بأن ليس من صالحه قتله قبل الإعتراف به قانوناً ، كيّ لا يخسر نصيبه من الميراث .. فهو يحتاج للمال ، لأن والدته الراقصة لم تهتم بدراسته ، او تعليمه مهنةً يستفيد منها
فتوجّه المحقّق للمشتبه الأخير : وهو الموظف الذي هدّد بفضحه علناً ! وسأله عمّا يمسكه ضدّه ؟
فأجاب بضيق :
- كل شهرة اللعين بسببي
المحقّق باهتمام : ماذا تقصد ؟!
الموظف بغيظ : التافه لا يعرف كتابة كلمتين دون اخطاءٍ املائيّة وإعرابيّة ، لسوء معلوماته الأدبيّة ..ولأنني موظفاً بسيطاً ، وهو من عائلةٍ ثريّة ..ولديه واسطة قوية للحصول على ترقية ، بعكسي ! فقد طلب مني كتابة مقالاته
- ومالمقابل ؟
- مالٌ زهيد يُضاف على راتبي ..وبقيت على هذه الحال لعشر سنوات
المحقّق : ومالذي تغيّر ؟!
- شهرته التي فاقت مستواه الدراسيّ ، ضايقتني كثيراً .. فأنت لا تعرف الشعور بأن يُكرّم شخصٌ على إنجازاتك وتعبك ! وحين طالبته بزيادة أجري ، علّل رفضه بإيجاده كاتبٍ أفضل مني ، وبمرتبٍ أقل ! فحاولت في بادئ الأمر إقناعه بأن إقالتي ، سيُغيّر من إسلوب كتابته التي اعتاد عليها القرّاء.. لكنه أصرّ على توظيف غيري ..ولم يكتفي بذلك ، بل اتهمني بسرقة مقالاته امام المدير العام ، للتخلّص مني !
- ألهذا غضبت ذلك اليوم ؟
الموظف : فقدّت اعصابي بعد إستلامي قرار الطرد من الإدارة العليّا
المحقّق : وهل فكّرت بقتله ؟
الموظف بحزن : هو أضاع الكثير من إنجازاتي.. فخلال العشر سنوات ، نشر بإسمه ما يقارب ٢٠٠ مقال من اروع ما كتبته في حياتي ! وتلك خسارةٍ تكفيني ..وحتماً لن أُسجّن لبقيّة عمري ، بقتلي لجاهلٍ متخلّفٍ مثله.. وكان تهديدي له بلحظة غضب ، بعد شعوري بالقهر والظلم يوم طردي ..وأظنك تعرف من خلال عملك : إن من يهدّد علناً ، لا خوف منه ..بعكس من يكتم غضبه ، ويخطّط لجريمته بصمت .. صدّقني حضرة المحقّق ، لن أوسّخ يدي بذلك اللعين.. لذا إبحث عن القاتل في مكانٍ آخر
ورغم شكوك المحقّق حوله ، إلاّ أن جهاز كشف الكذب اثناء أخذ إفادته : أكّد قوله للحقيقة !
***
مرّت اسابيع ، والقاتل مازال مجهولاً ! بينما الإعلام مازال يضغط على الشرطة لمعرفة القاتل..
الى أن تغيّر كل شيء بعد شهادة مشرّد ، قدم الى مركز الشرطة للإبلاغ عن رؤيته سيارةٍ سوداء ترمي الجثة في طريقٍ فرعيّ للغابة بآخر الليل ..
فسأله المحقّق :
- وهل رأيت الفاعل ؟
المشرّد : كان رجلاً عجوزاً يستند على عكازٍ مكسور ..وبصعوبةٍ بالغة ، سحب الجثة من المقعد الخلفيّ لسيارته.. فصوت نهيجه المُتعب ، جعلني اراقبه بدقّة بعد أن منع الظلام رؤيته لي فوق الشجرة ! فهو كان مرهقاً لدرجة عدم دفنه القتيل ، ورحيله بعد تركه هناك ! وانا من أبلغتكم عن الجثة من هاتفٍ عمومي ، لعدم رغبتي بتحلّلها امام بيتي الصغير
المحقّق : كنّا لاحظنا وجود بيت الشجرة اثناء إزالتنا للأدلّة من مسرح الجريمة ، لكنه ظلّ فارغاً خلال الأيام الثلاثة لوجودنا هناك!
- لأني انتقلت للجهة الأخرى من الغابة ، فليس من صالحي أن تشتبهوا بارتكابي جريمةٍ لم أفعلها
- ولما غيّرت رأيك الآن ؟
المشرّد : لأن قريب الميت عرض جائزةً ماليّة لمن يبلّغ معلوماتٍ عن القاتل ، شاهدت ذلك من تلفاز المحطّة بالشارع العام
- ومالمعلومات الأخرى التي تملكها ؟
فأخرج المشرّد كيساً ورقيّاً قديماً ، وهو يقول :
- كنت اتناول شطيرتي لحظة تخلّص القاتل من الجثة ، فكتبت رقم سيارته على طرف الكيس
فنقل المحقّق الرقم الى دفتره ، قائلاً :
- حسناً ، سنبحث عن سيارة القاتل ..شكراً لك
المشرّد : وماذا عن الجائزة ؟! فأنا بحاجةٍ ماسّة للمال
- إن أمسكنا القاتل بناءً على شهادتك ، سأطلب من اهل الفقيد إعطائك الجائزة
المشرّد : اذاً سأتابع الأخبار اولاً بأول من تلفاز المحطّة ..وإن قبضّتم على القاتل ، سآتي الى هنا لاستلام المبلغ
وبعد رحيله ، بدأ التفتيش عن صاحب السيارة .. ليصعق المحقّق بأنها تابعة لأشهر شاعرٍ بالعالم العربي ، وهو في الثمانينات من عمره ! فكيف تمكّن من قتل صحفي بعمر الخمسين ؟!
ولحساسيّة الموقف ، تكتّم المحقّق على الخبر بعد استلامه القضيّة وحده .. وبدأ بحثه عن القاتل (الحاصل على جائزة افضل شعراء العرب).. ليعلم أنه سافر للخارج بعد بيع منزله لقريبه بسعرٍ بخس ، مما يؤكّد هروبه !
ولأنه رمز من رموز بلدتهم ، فقد أخفى المحقّق الأمر عن الإعلام واهل الفقيد ، الذي أخبرهم بأن القاتل مازال مجهولاً
***
إستطاع المحقّق بعد بحثٍ دقيق من معرفة عنوان الشاعر في الغربة.. فسافر فوراً اليه ..
وما أن اخبره عند الباب بهويّته (كمحقّق) ، حتى أدخله الشاعر دون مقاومة الى مكتبه.. وهناك اخبره بما حصل :
- قدِمَ ذلك الصحفي الى منزلي مساءً ، لمقابلةٍ سريعة .. وهو ينوي نشرها في صحيفته ، دون إخبار ادارته بذلك .. فهو يريدها سبقاً صحفيّاً ، لأنه يعلم بأني لا استقبل سوى اهم الصحفيين بالبلد
المحقّق : وهو كان أشهرهم بالفعل
الشاعر بغيظ : ذلك اللعين لا يستحقّ ان يكون رئيس التحرير ، ولا حتى حصوله على شهادة المرحلة الإبتدائيّة !
- هل كتب اسئلته بنفسه ؟
الشاعر باستغراب : نعم ، كيف عرفت ذلك ؟!
- لأنه اعتمد بمقالاته الرائعة على موظفٍ بسيط ، قام بطرده بعد شهرته
- توقعت ذلك بعد صدمتي بأخطائه الإملائيّة والإعرابيّة في كل سؤالٍ طرحه عليّ ! مما رفع ضغطي ، لدرجة ضربته بالعصا على رأسه
المحقّق : وهل قتلته ؟
- لا .. كانت ضربة بسيطة ، جعلته ينزف قليلاً ..لكنه غضب بشدة ، وهدّد بفضح تصرّفي الشائن بوسائل الإعلام .. وانه لن يسامحني على هذه الإهانة ، وسيحاول جاهداً سحب الجائزة الدوليّة مني ! مما أفقدني صوابي ..ولليوم لا ادري كيف تملّكت القوة لضربه مراراً على رأسه ، حتى أوشكت عصايّ على الإنقسام نصفين ! وعندما هدأت ، كان غارقاً ببركة دمائه .. ولا استطيع الوصف لك مدى تعبي وانا اسحبه من قدميه الى سيارتي ، وأضعه في المقعد الخلفيّ ..
المحقّق : لرميه بشارع الغابة ؟
- لم تكن لديّ القوة لدفنه .. فالبكاد استطعت مسح دمائه عن سيارتي وأرضيّة بيتي .. ومن بعدها بعت منزلي على عجل ، للحصول على تكاليف السفر الى هنا ..
المحقّق : انت تعلم بأن من واجبي اقتيادك للمحاكمة على جريمتك
فترجّاه الشاعر :
- بنيّ ، انا بالفعل تعاقبت.. فلا يمكنني العودة الى بلادي ..ولا استطيع كتابة الشعر مجدداً ! فأنا لم أتمكّن من كتابة كلمة واحدة طوال الشهور الثلاثة للجريمة ، وهذا اكبر عقاب من الله الذي حرمني موهبتي التي أعشقها بجنون .. عدا عن الكوابيس التي تلاحقني كل ليلة
المحقّق : أعرف مكانتك الكبيرة بين الشعراء ، لكنه لا يمكنني التغاضي عن جريمتك الشنيعة
- إسمعني جيداً .. انا بالثمانينات من عمري ، وأعاني من شتّى الأمراض المزمنة .. فدعّ مسيرتي الأدبيّة الطويلة تنتهي دون فضائح.. الا يكفي انني سأموت بالغربة بعيداً عن اولادي واحفادي ، الذين قطعت إتصالي بهم منذ لحظة هروبي ..(ثم سكت قليلاً).. آه صحيح لم اسألك ، هل فضحتم جريمتي بالإعلام ؟!
المحقّق : لا ، فرئيس الحكومة طلبني الى مكتبه .. وبعد إخباره بشكوكي حولك ، منعني من الإعلان عن جريمتك ، لأنك من رموز بلدنا
- اذاً أطعّ اوامره ، ودعني أعاني بصمت من تأنيب الضمير.. فلم يتبقى الكثير من عمري
- اذاً انت نادمٌ على قتله ؟
فتنهّد الشاعر بقهر :
- بل حزين على حال العرب .. فطالما الوسائط ستظلّ مُسيطرة على التعيّنات في وظائفنا الرفيعة ، فلن نتطوّر مُطلقاً.. (ثم مسح دمعته).. كان لي صديقاً يفوقني موهبة .. وكنّا نتسابق على تأليف أفضل القصائد .. لكنه لم يجد داعماً لموهبته ! فعمل أجيراً في احدى المحلات ، للصرف على اهله.. الى ان مات قهراً قبل بلوغه سن الأربعين .. بينما ذلك الصحفي اللعين الذي لا يعرف كتابة جملةٍ صحيحة ، فعيّنوه رئيس التحرير لأهم صحيفة بالبلد ، بعد سرقته مجهودات غيره ! أليس برأيك يستحق الموت ؟
فسكت المحقّق ، بينما أكمل الشاعر كلامه :
- سنبقى جهلاء ومتخلّفين ، طالما لا نضع الشخص المناسب في المكان المناسب .. وهذا اسوء ما يحصل في بلادنا
ورغم فداحة جرم الشاعر القدير إلاّ ان سوء حالته الصحيّة والنفسيّة ، جعلت المحقّق يتغاضى لأول مرة عن حلّه القضيّة .. فهو لا يريد تدمير اهم موهبة في بلاده..
فودّعه عائداً الى مركز الشرطة ، طالباً من سكرتيره : وضع ملفّ الجريمة بالإرشيف ، بعد تقيّد القضيّة ضدّ مجهول .. إحتراماً لموهبةٍ أدبيّة لن تتكرّر في العالم العربي !