الاثنين، 12 أبريل 2021

طفلة البئر

 كتابة : امل شانوحة

لعبة الدبابيس


شعرت بخوفٍ شديد وهي تهوي داخل مكانٍ ضيقٍ ومظلم ! وصدى  صراخها يدويّ في أرجاء الفراغ السحيق .. الى أن حطّت بقوة فوق شيءٍ صلب ، كاد يكسر عظامها .. 

ورغم الألم والرعب ، تلمّست الجدران ..لتجد نفقاً صغيراً محاطاً بالصخور الحادّة .. 

فأخذت تحبو داخله ، وهي تنادي اهلها برعب ..  


ومشت مسافةً طويلة ، الى أن وصلت لسدٍ حجريّ ! حطّم أملها الأخير بإيجاد مخرجٍ من هذه الورطة .. 

فجلست تبكي بحرقة ، ويمرّ الوقت كأنه الدهر ! .. الى أن ظهر نورٌ من بعيد ، وصوت رجلٍ يخبرها أنه قادم لنجدتها ! 


وفجأة ! ظهرت قطةٌ سوداء تحمل بفمها لعبة صوفيّة مليئة بالدبابيس ، متزامنة مع صرخة امها المؤلمة .. 


قبل استيقاظ ندى (العشرينيّة) من كابوسها وهي تتصبّب عرقاً ، بسبب حلمها الذي تكرّر كثيراً في الآونة الأخيرة ! 

فقرّرت إخبار امها ، لعلّها تجد تفسيراً له ..

***


وبعد أن أطلعتها على تفاصيل الحلم ، تنهّدت الأم بحزن :

- ظنّنتك لن تتذكّري الحادثة لصغر سنّك ! 

ندى باستغراب : ماذا تقصدين ؟! 

- كنت في الخامسة حين وقعت في البئر الجافّ 

- تقصدين البئر خارج قريتنا ؟

- نعم ..

ندى : لكنه عميقٌ جداً ! كيف لم أمت أو أصاب بإعاقة ؟!

- كانت معجزة إلهية ، ولم تصابي الا بخدوش ورضوض بسيطة 

- ماذا بشأن النفق الذي رأيته في الكابوس ؟ 


الأم : رجل الدفاع المدني الذي أنقذك ، صوّر العملية بكاميرا خوذته .. والأشخاص الذين حفروا البئر قديماً ، أنكروا وجود النفق !.. والأرعب ما قلته للرجل اثناء صعودكما من هناك

- ماذا قلت له ؟!

- انهم أخذوا لعبتك

- من ؟!

الأم : لا ادري .. لكن أحد الأطفال شاهدك وانت تلاحقين قطة سرقت لعبتك الصوفية ، ووقعتِ خلفها في البئر ! 

- وانا رأيت اللعبة مليئة بالدبابيس ، فما تفسيرك لذلك ؟ 

- الدبابيس تعني السحر ، والعياذ بالله


ندى : ولما سمعت صراخك في المنام ؟ 

- لأن جسدي تضرّر كثيراً بعد حادثة سقوطك .. والطبيب أخبرني إن الضغط النفسي الذي واجهته اثناء عملية إنقاذك ، أثّر سلّباً على صحتي 

- أظن الموضوع اكثر من ذلك يا امي .. دعينا نسأل الشيخة تهاني عن موضوع الدبابيس ، فهي خبيرة بفكّ السحر 

الأم : أنت تعرفين إن الخروج من المنزل يتعبني كثيراً 

- اذاً اتصلي بها .. كما أريدك أن تُريني الفيديو لعملية إنقاذي ، لعلّي أتذكّر شيئاً يفيدنا بحلّ اللغز 

فأومأت الأم برأسها موافقة .. 

***


حين قدمت الشيخة الي بيتهم ، أخبرتها ندى بكابوسها ..

فسألت الشيخة الأم : 

- حين قمتي بخياطة اللعبة ، هل جرحت يدك ؟ 

الأم : مجرّد بقعة دمٍ صغيرة بسبب الإبرة ، كيف عرفتِ ؟!

الشيخة : أظن احدهم غرز الدبابيس في اللعبة ، بقصد إيذاء ندى .. لكن بسبب دمك (ام ندى) إنقلب السحر عليك .. ولذلك جسمك يؤلمك دائماً .. فكل دبوسٍ منها ، أضرّ جزءاً من عظامك


ندى : ومن فعل ذلك ؟!

الشيخة : القطة الجنية ، فالجن يسلبون طاقات البشر بسحرهم 

ندى بقلق : وكيف يمكننا علاج امي ؟ 

الشيخة للأم : 

- الحلّ الوحيد هو بفكّ الدبابيس .. وطالما إن اللعبة سقطت في البئر ، فليس امامك سوى الصبر والإكثار من الدعاء .. أعانك الله على بلواك

فشعرت ندى وامها بالحزن واليأس !

***


وبعد قراءة ندى للرقية الشرعية ، توقف كابوسها أخيراً .. الا ان حالة امها الصحيّة ازدادت سوءاً ! 


وبعد اسابيع .. نُقلت الأم الى المستشفى ، بعد شعورها بآلامٍ مبرحة في كافة جمسها .. 

وعجز الطبيب عن علاجها ، واكتفى بأبر المسكّنات لتخفيف ألمها 

في ذلك الوقت ، قرّرت ندى إيجاد لعبتها المسحورة مهما كلفها الأمر .. 

***


في الصباح الباكر ، بينما أهل قريتها نيام .. ربطت ندى نفسها بالحبال ، ونزلت الى داخل البئر الجاف ، وهي تحمل الكشّاف لإنارة طريقها .. 

ولم تصدّق طول المسافة نحو القعر ، وكيف نجت من موتٍ محقّق في طفولتها !


كما تذكّرت رائحة البئر اثناء وجودها هناك .. وكلما نزلت ، إزدادت ظلمة المكان ، كما شعورها بالخوف ..لكنها مصمّمة على إنهاء آلام امها المزمنة 


حين وصلت اخيراً لقعر البئر .. وجدت النفق الضيق محفوراً في إحدى جوانبه .. 

فأخذت تحبو داخله ، الى أن وصلت الى الطريق المسدود الذي وجدها فيه المنقذ .. 

لكن طوال الطريق لم تجد أثراً للعبتها الضائعة ! 


فشعرت بغضبٍ شديد ، وصرخت بعلوّ صوتها :

- أعيدوا لعبتي يا ملاعيين !! لن أسمح لكم بإيذاء امي أكثر من ذلك .. أنتم أردّتم إيذائي سابقاً ، وهآ انا عدّت اليكم .. إسحروني بدلاً عنها!! 


وفجأة ! سمعت مواء قطة من بعيد ، جعل جسمها ينتفض رعباً .. ورغم توجيهها الكشّاف الى مصدر الصوت ، الا انها لم ترى شيئاً! 


ثم انتقل صوت المواء من مكانٍ لآخر ، فصرخت ندى برعب : 

- كفّوا عن مضايقتي !! وأعيدوا لعبتي المسحورة


وإذ بكشّافها يتعطّل فجأة ! لتعلق في الظلام الدامس ..

فقرأت المعوّذات بصوتٍ مرتجف .. وكلما أنهت سورةً قصيرة ، إزداد مواء القطة غضباً !


فقالت ندى بصوتٍ عالي :

- سأظلّ اقرأ القرآن ، الى أن أحرقك ايتها القطة الشيطانية !! إظهري نفسك حالاً ، يا جبانة 


وهنا انفتح الجدار المسدود خلف ظهرها ، ليظهر كهفٌ مليئاً بالأحجار اللامعة كالذهب والإلماس !


فانشغلت بجمال المنظر لبضعة دقائق ، قبل تذكّر مرض امها .. 

فقالت بصوتٍ مرتفع :

- لا تغروني بكنوزكم !! اريد لعبة الدبابيس الآن ، وأوعدكم أن لا اخبر احداً بمخبأكم السرّي


فانفتح دهليز في نهاية الكهف ، مضاءً بشعلات النار .. 

فمشت فيه ، الى أن وصلت لمكانٍ أشبه بصالةٍ حجريّة .. فيه سجن حديديّ ، بداخله طفلة بشريّة تلعب بلعبتها الصوفية المليئة بالدبابيس!


وما أن اقتربت ندى من الطفلة حتى شعرت بالإرتباك ، فالطفلة تشبه صورتها بعمر الخامسة ! وتلبس ذات الملابس التي شاهدتها بفيديو إنقاذها قبل سنوات !

فحاولت فتح باب الزنزانة دون جدوى ، حتى إن الصغيرة لم تلتفت اليها رغم مناداتها لها !


وهنا سمعت صوتاً خلفها :

- مانّولا ! أخيراً عدّت الينا


فنظرت ندى خلفها ، لترى امرأة مخيفة .. 

وقبل ان تستوعب ما يحصل ! ظهرت مخلوقات أخرى من اسفل الأرض ليجتمعوا جميعاً في الصالة .. وكانت جلودهم ملونة منها : الأزرق والأخضر والأحمر ، وعيونهم كعيون القطط المضيئة بالظلام ، ولديهم قرون وجسمٌ مُشعرّ ، وحوافر الدّواب !

وأحسّت ندى انها على وشك الإغماء ..


فقالت المرأة المخيفة التي تبدو رئيستهم ، بسبب تاج المجوهرات فوق قرونها :  

- إستجمعي قواك يا مانّولا !!

فأجابتها وهي ترتجف : إسمي ندى

فقال جني شاب : لا !! ندى هي الطفلة المسجونة عندنا منذ سنوات .. اما انت ، فأختي الصغرى .. 

ندى بصدمة : ماذا قلت ؟!


فعادت الملكة لتقول : نعم ، انت من جنودي الأذكياء .. وتطوّعت للقيام بمهمّة تقمّص شخصية الطفلة ، قبل وصول المنقذ الذي رفعك لعالمهم

ندى بعصبية : هذا غير صحيح !!

عجوز : يبدو تحوّلك لعمر الخامسة أفقدك الذاكرة ! لذلك أرسلنا الكوابيس ، لتتذكّري مهمّتك الرسميّة 

ندى : أيّة مهمة ؟ عن ماذا تتكلّمون ؟!


الملكة : مهمّة إحضار اغراضٍ خاصة بأهل القرية : كأظافرهم المقصوصة ، وملابسهم الوسخة ، او صورهم الممزّقة لنستخدمها في سحرهم

- ولماذا تريدون سحرنا ؟!

الأخ بضيق : سحرهم هم !!.. اختي ، مابك ؟! 


وهنا اقتربت منها جنية صبية ، لديها صوت امرأةٍ عجوز :

- انا سأجيبك !! لأننا نزداد قوة بعد الإستيلاء على صحتهم .. تماماً كما فعلت مع ام الطفلة .. وكما ترين .. انا إزدّدت شباباً ، وهي هرمت باكراً  

ندى بغيظ : اذاً انت من وضعت الدبابيس في لعبتي ، وأذيتي امي !!


الجنية الصبية بغضب : انا امك يا غبية !!

ندى بخوف : لا أصدّق ذلك ! انا أنسيّة ، ولست واحدة منكم 

الملكة : إقتربي لتشاهدي هيئتك الحقيقية في المرآة


فاقتربت ندى ببطء نحو المرآة الضخمة المرصّعة بالجواهر ، وأنظار الجن متوجهة نحوها .. لتفاجأ بهيئتها القبيحة التي تشبههم تماماً !

فابتعدت ندى صارخة : لا !! هذه مرآةٌ سحريّة


الأخ : انت تثيرين غضبنا يا مانّولا ! الم تكن فكرتك أن تتحوّلي لقطة وتصعدي من البئر ، لأذيّة اولاد القرية الذين أزعجونا بصراخهم وركضهم فوق رؤوسنا ؟ ..ثم نزلت الينا بعد سرقتك اللعبة ، وأهديتها لأمي لتزداد شباباً ..  

الأم : نعم ..وحين لحقتك الطفلة ، أردنا قتلها .. لكنك أسرعتي بحملها اثناء سقوطها ، كيّ لا تصاب بأذى .. واقترحتي سجنها هنا 


ندى : إن كان كلامكم صحيحاً ، فلما لم تكبر الطفلة ؟ 

الأخ : لأنك استوليتي على روحها ، وكبرتِ بدلاً عنها .. 


ففاجأتهم ندى بطلبها بحزم : إفتحوا سجنها الآن !!

الملكة : لكن الطفلة لم تعدّ خائفة منا ، ونحن نهتم بطعامها جيداً .. فلما تريدين إطلاق سراحها ؟ 

ندى : اريد الإقتراب منها .. ربما رؤيتها عن قرب ، تجعلني أستعيد ذاكرتي


فوافقت رئيسة الجن بدخولها السجن .. 

لتسرع ندى بسحب اللعبة من الطفلة ، وإزالة الدبابيس عنها ! 


وما أن فعلت ذلك .. حتى وقعت امها الجنية على الأرض ، بعد تحوّلها لعجوزٍ ضعيفة ! وهي تعاتبها : 

- ايتها البنت العاقّة !! أفقدتني شبابي 

ندى : بل أعدّت الصحة لأمي التي حرمتها منها لسنوات 


الأخ : يبدو إن اختي فقدت ذاكرتها تماماً ، ولن تستعيدها الا برؤية حبيبها

الأم : لكن والدك وصّاني قبل موته الا تراه ثانيةً ، فهو من قبيلة العدو

ندى باستغراب : عن ماذا تتحدثان ؟!

وأكمل الأخ كلامه مع امه : 

- لا حلّ آخر امي ، إسمحي للملكة بإحضاره الآن 


وبعد موافقة الأم على اقتراح ابنها ، نطقت الملكة بكلماتٍ سحريّة .. ليخرج دخانٌ اسود وسط الصالة ، قبل ظهور جني وسيم وسط  الحضور 

وما أن رأته ندى ، حتى تذكّرت كل شيء !

- سويم !

الجني : كيف حالك يا مانّولا ، اشتقت لك كثيراً .. لم ارك منذ سنواتٍ طويلة ، بعد رفض والدك خطوبتنا..


الأخ : هآ اختي ، هل تذكّرتنا الآن ؟

ندى بصدمة : يا الهي ! لا أصدّق انني عشت طوال الفترة الماضية كبشريّةٍ سخيفة ؟! 

فقال أحد الجن بامتعاض : وخطتك كانت فاشلة ، فأنت لم تحضري شيئاً من اغراضهم النتنة


الملكة : المهم انها عادت الينا بخير .. وكمكافأة عن جهودها ، سأبارك زواجها من سويم.. ما رأيك يا وزيرتي ؟ فأنت بالنهاية امها 

الأم (الوزيرة) : رغم رفض والدها المرحوم الموضوع ، لكن سعادة ابنتي هي الأهم


ففرحت ندى وحبيبها بالخبر .. ثم تذكّرت حياتها السابقة : 

- ماذا عن شخصية ندى التي تقمّصتها ؟ ماذا سيحلّ بعائلتها ؟ 

الأم بغيظ : ستعود ام الطفلة معافاة الى بيتها ، بعد أن سحبتِ طاقتها مني

ندى : آسفة امي.. لكن ماذا عني , الن يفتقدوني ؟

الملكة : ما لا تعلمينه ، إن عجوزاً رآك وانت تنزلين البئر .. وأخبر عائلتك الذين اتصلوا بالدفاع المدني لإنقاذك من جديد 


وهنا سمع الجن ضجيجاً فوقهم !

أحد الجن بقلق : هاهو المنقذ ينزل الينا ، ماذا نفعل الآن ؟

فقالت الملكة لإحدى صبايا الجن : 

- انت !! سأحوّلك بهيئة ندى الحالية ، لتمثيل دور الميتة .. ولا تنسي أخذ اللعبة والدبابيس معك 

ندى مُعترضة : لا !! لن أسمح لكم بسحر امي البشريّة ثانيةً 


الملكة : لا تقلقي .. الصبية ستمسك الدبابيس بيد ، واللعبة بيدها الأخرى .. لكيّ يعلم اهل القرية إنك نزلتِ الى هنا لفكّ سحر امك ، واستطعتِ إتمام المهمّة رغم إصابتك بجروحٍ خطيرة إثر انقطاع الحبل ..

العجوز للصبية : إذاً لا تنسي أخذ المقص ، ليبدو الحبل منقطعاً 

الصبية بقلق : وماذا سيحدث بعد إخراجهم جثتي من هنا ؟ 

الملكة : بعد انتهاء الجنازة .. تنبشين قبرك ليلاً ، وتعودين الينا

الصبية : حاضر سيدتي !!

واختفت الصبية على الفور !


فقالت الملكة لندى : لم ارسلك انت ، لأني أخاف أن تحنّي لحياة البشر من جديد .. ولا تقلقي .. سيعتبرونك بطلة وابنة بارّة بأمها ، وسيقيمون لك جنازةً حاشدة..

ندى : وماذا عن الطفلة ؟ ألن تعيدوها لأهلها ؟

امها : هل جننت ؟!! سيصابون بالذعر ، حين يجدوها بنفس العمر الذي وقعت فيه بالبئر ! لهذا ستبقى معنا 


سويم : إن أردّت يا مانّولا ، يمكنها العيش معنا بعد الزواج

ندى بدهشة : أحقاً يا سويم !

خطيبها : نعم ، سأفعل كل ما يسعدك يا حبيبتي

الملكة : وهآ نحن حلّلنا المشكلة .. مبروك للعروسين !!

***


لاحقاً .. وفي الوقت الذي احتفل فيه العروسين مانّويلا (ندى سابقاً) وسويم بزواجهما امام قبيلة الجن .. كان اهالي القرية (فوقهم) يشعرون بالحزن على ندى التي فدتّ بنفسها لإنقاذ امها من مرضها المزمن .. وأقاموا لها جنازةً شعبية ، وهم مشفقون على أهلها الذين سيبكون كثيراً امام قبرها الفارغ ! 

***** 


ملاحظة :

بعد مشاهدتي لهذا الفيديو المؤثّر : عن طفلة سقطت في بئرٍ جافّ وعميق جداً ، ولم تصبّ بأذى (سبحان الله) ! .. وعندما قالت الطفلة في الثانية (55) للمنقذ : (أخدولي لعبتي) ..خطرت في بالي هذه القصة ، لغرابة الحادثة !



الرابط :

فيديو لقصة (الهروب من الجحيم) الجزء 2

 

قام الأستاذ (احمد العبدلي) مشكوراً بنشر الجزء الثاني من قصة (الهروب من الجحيم) ..تحياتي له وللجميع



الرابط :


 

الجمعة، 9 أبريل 2021

عقوبةٌ تعسُّفيّة

 تأليف : امل شانوحة

 

السجين والفأر


في غرفة التحقيق ، إنتفض المتهم آدم (الخمسينيّ) غاضباً :

- انا مهندسٌ كهربائيّ محترم ، لا يحقّ لكم القبض عليّ هكذا !

المحقّق ساخراً : مُحترم ! كنت تنوي سرقة البنك المركزي ايها الخبيث ..  لذا ستبقى في السجن الإنفرادي مطوّلاً

آدم بدهشةٍ وقلق : لكنكم لم تحاكموني بعد ! فكم سنة سأسجّن هناك ؟

المحقق بابتسامةٍ لئيمة : مدى الحياة


آدم بذهول : مستحيل ! لم أسرق شيئاً ، كل ما فعلته إنني أصلحت إمدادات الكهرباء داخل البنك 

- وأثناء عملك ، حفظت الدهاليز المؤدية لمخزن ذهب الدولة .. وطالما اننا لا نستطيع حذف المعلومات من رأسك ، سنُبعدك عن أهلك وبقية المساجين لحين موتك 

آدم صارخاً بعصبية : هذا ظلم ! أريد محامياً الآن !!


المحقّق ساخراً : محامي ! يبدو انك شاهدت الكثير من الأفلام السينمائية.. فنحن وإن ظلمناك ، أهون من إنهيار قيمة عملتنا وتدهور إقتصاد بلادنا.. وإنقاذنا المجتمع ، أهم من حرّية مجرمٍ مثلك !! 

ثم نادى الحارس العجوز :

- إرمه في الزنزانة الإنفرادية في القبو ، فهي كفيلة بتأديب هذا اللصّ الماكر 

***


واقتاده الحارس الى زنزانةٍ مظلمة .. والتي ما أن دخلها آدم ، حتى سعل بشكلٍ متواصل لرطوبة جدرانها العفنة ! 


وبعد إقفال الباب عليه ، قال الحارس من الخارج :

- سأنزل اليك مرتين في اليوم لإحضار غدائك وعشائك .. فكثرة الأدراج تتعبني ، كما إني مصاب بالربو ويضيق صدري في هذا المكان الكئيب 


وتركه وحيداً هناك ، لا ينير ظلمة سجنه الا فتحةً صغيرة بالجدار .. فجلس آدم على السرير الصدئ ، وهو يستذكر ما حصل :


((فهو كان معروفاً بذكائه في مهنته ، لذا اختير لإصلاح اسلاكٍ تعطّلت في إحدى مكاتب البنك المركزي بسبب ماسٍّ كهربائيّ .. ولخوف المدير من تكرار الأمر وحدوث حريق يتلف أموال العملاء .. طلب من آدم فحص جميع الأسلاك ، من ضمنها انوار المخزن الرئيسي الذي يحوي اطنان الذهب التابعة لخزينة الدولة .. الا إن وجوده وحده هناك (بعد إنشغال الموظفين بعملهم) أغراه بفكرة سرقة بعض السبائك .. لكن كان عليه اولاً التخطيط الذهني للعملية .. فقام بحفظ الدهاليز المؤديّة للمخزن ، فهو يملك ذاكرةً فولاذيّة .. كما حفظ الأرقام السرّية للأبواب الحديديّة من خلال نغمتها الموسيقية (حين فتحها المسؤول امامه) فهو متعدّد المواهب ..وقرّر بعد عودته المنزل ، تنفيذ خطته بعطلة رأس السنة .. وفي الموعد المحدّد ، إستطاع الوصول بذكاء الى المخزن الرئيسي .. وقام بسرقة ثلاث سبائك ذهبية (بوزن كيلو لكل واحدةٍ منها) وضعها في حقيبته .. ولأنه لا يعلم بوجود ليزر خفيّ قرب باب المخزن ، إرتفعت أصوات الإنذار في ارجاء البنك ! الذي أغلق ابوابه أتوماتيكياً ..ورغم ذكاء آدم بمجال الكهرباء ، الا انه لم يستطع فتح باب المخزن الذي تغير رقمه السرّي فور حصول الإختراق ! فعلق هناك ، لحين وصول الشرطة الذين انتظروا ايضاً وصول مدير البنك الذي يحمل رقم الباب السرّي الجديد ، الذي أرسله الكمبيوتر على إيميله .. فقُبض على آدم متلبّساً ، وأُودع السجن)) 


لكن مالا يعلمه آدم : إن خطته الجريئة أربكت الإدارة العليا للبلاد ، حيث وصل الأمر لرئيس الدولة الذي طالب مدير السجن بأشدّ العقوبات عليه .. وذلك لأن تغير الممرّات والدهاليز والأماكن السرّية التي حفظها آدم مكلّفاً للغاية .. فكان الحلّ الأسهل هو إخفائه عن الوجود ، بعدم السماح له بالإتصال مع الآخرين .. لذلك أوكلوا الحارس العجوز (الذي يعاني من سمعٍ وبصرٍ ضعيفين) بإطعامه ، بعد تهديده بالإعدام إن تواصل مع آدم  أو أخذ معلوماتٍ سرّية منه ! كما منعوه من إعطاء السجين اوراقاً وقلم وحتى طبشور كيّ لا يرسم الخريطة الداخلية للبنك المركزي .. والأدهى إن رئيس الدولة أعطى اوامراً سرّية لمدير السجن بوضع سمٍّ مُخفّف في طعام آدم ، فبموته يقضون على المعلومات الخطيرة التي حفظها .. على أن يتمّ تنفيذ مخطّط القتل ، خلال شهرٍ واحدٍ فقط !)) 

***


ومرّت الأيام ، وآدم مازال مسجوناً في مكانٍ أشبه بالجحيم ! فبرودة القبو لا تطاق مساءً ، كما إن عصيدته الرديئة تسبّب له الغثيان دائماً.. حتى الشخص الوحيد الذي يراه (الحارس العجوز) يرفض البقاء معه ، بحجّة الربو ! 


وبذلك بدأ عقل آدم يتشتّت ، وخاف على نفسه من الجنون .. خاصة إن الأوراق والكتب هي ضمن الأشياء الكثيرة الممنوعة عليه : كما خروجه الى الساحة والإستحمام ، لمنعه الإختلاط مع بقية المجرمين المتشوقين لمعرفة المعلومات الخطيرة المسجّلة في ذاكرته .. فسرقة السجن المركزي هو حلم كل منحرف !

***


وبعد ايام .. إستيقظ ادم وهو يشعر بشيءٍ يتحرّك على قدمه ! فقفز فزعاً من سريره ، ليرى فأراً يحاول الهرب أسفل الزنزانة .. فأسرع اليه وحمله بين ذراعيه ، فهو متشوّق لأيّ كائنٍ حيّ يشاركه السجن .. وأسرع بإطعامه بقايا خبزه القاسي .. وأخذ الفأر يتناوله ، بعد زوال خوفه من آدم الذي ظلّ يمسح فرائه برفقٍ وحنان ..

***


بعد ثلاثة اسابيع .. .. إزدادت الصداقة بينهما ، حيث زاره الفأر من وقتٍ لآخر لمشاركته فتات الخبز .. 


وفي البداية إكتفى آدم برعايته ، الا انه في هذا اليوم قرّر التحدّث معه قبل نسيانه الكلام :


- مرحباً يا صديقي الفأر .. إسمي آدم .. مهندسٌ كهربائيّ .. الأمهر في البلاد كلها .. أعرف ما ستقوله .. كيف لشخصٍ متعلّم وذكيٍ أن ينتهي به المطاف هنا ؟ .. بصراحة بعد التفكير مراراً بجريمتي ، أجد انهم صائبون بالخوف مني .. فلوّ نجحت خطتي ، لما اكتفيت بسرقة بعض السبائك .. فأنا بطبعي طمّاع .. وربما استمرّيت لحين إفلاس دولتي تماماً.. لا تنظر اليّ هكذا ، فأنا أقول الحقيقية .. آه تسألني كيف تجرّأت على السرقة بوجود الكاميرات ؟ .. يبدو لم تركّز معي جيداً ، فأنا أخبرتك انني خبير بالكهربائيات .. لذلك كان سهلاً عليّ إختراع ماكينة صغيرة تشوّش الكاميرات أثناء وجودي بالبنك .. لكن الليزر اللعين أفسد خطتي ، فهو متصل برمزٍ موجود على السبائك .. وفي حال رُفعت عن الأرففّ دون إبلاغ الكمبيوتر الرئيسي بذلك ، فإن الليزر الخفيّ يعمل فوراً .. ولوّ علمت بوجوده ، لاخترعت شيئاً يبطله .. لكن لا ينفع الندم الآن ، فقد حكموا عليّ بالموت .. لا ليس الإعدام .. (ثم ضحك) .. كنت سأكون حديث الناس لوّ إن كهربائيّ أُعدم بالكرسي الكهربائي .. لكنهم لم يرغبوا بإثارة الإعلام لصالحي ، فأخبروهم إني مسجون لبضعة أشهرٍ فقط .. لكن كما واضح من زنزانتي المقرفة إنهم خطّطوا مُسبقاً لقتلي إما بمرضٍ جلديّ او نفسيّ ، أو إرغامي على الإنتحار .. آه آسف ! إسترسلت بالكلام ولم اسألك عن نفسك .. هل لديك عائلة ؟ .. لا ! اذاً انت أعزبٌ مثلي .. مع إن الفئران تتكاثر بسرعة .. (ثم فكّر قليلاً) .. ما رأيك أن أسمّيك : آرثر .. نعم ، كإسم الملك الإنجليزي العادل .. والآن يا آرثر ، هل يمكنني أن أطلب منك معروفاً ؟ .. اريدك ان تجلب لي قلماً .. نعم ، أيّ قلم .. اريد رسم مخطّط البنك على الحائط ، قبل أن أنساه تماماً .. لربما السجين الذي يحلّ مكاني يحفظه ، ويساهم بإفلاس دولتنا اللعينة بعد تسريحه .. ماذا قلت ؟.. لا يا صديقي ، لا أظنني سأخرج من هنا حيّاً .. لست متشائماً ، لكنها الحقيقة .. هيا يا عزيزي ، إحضر قلماً من مكتب الحرّاس.. هل يمكنك ذلك ؟ .. شكراً يا بطل !! انا مدينٌ لك 

***


وعاد الفأر الى الزنزانة بعد يومين ، وهو يحمل شيئاً في فمه ! 

آدم باهتمام : ماذا تحمل يا آرثر ؟ .. لا ! هذا ليس قلماً .. يا الهي لقد جرحت فمك .. دعني أمسحه بقميصي ..أعرف إن ثيابي قذرة ، لكني سأحاول إيقاف الدم .. لا تتحرّك ارجوك .. من اين أحضرتها ؟! .. تبدو شفرةً مُستخدمة .. هل سرقتها من سلّة النفايات ؟ .. لكن من الذي يستخدم آلة حلاقة قديمة ، بغيارات الشفرات ؟! .. ربما الحارس العجوز ..(ثم فكّر قليلاً).. أتدري يا آرثر .. ربما أستفيد منها يوماً ، شكراً لك .. سأعطيك بقايا خبزي مكافأةً لك .. سأفتّتتها قطعاً صغيرة ، بسبب فمك المجروح .. لا لن أطعمك من العصيدة ، فهي سيئةٌ جداً .. الخبز يكفيك .. وشكراً على الشفرة ، انا مدينٌ لك يا صديقي

*** 


بعد خروج الفأر من الزنزانة ، خبّأ آدم الشفرة أسفل سريره .. وسهر طوال الليل وهو يفكّر باستخدامها لأخذ الحارس العجوز رهينة ، بعد وضعها على رقبته .. وكان متحمّساً اثناء تخطيطه بدقة ، للحظة هروبه من هذا الجحيم 

***


لكن لسوء حظه ، منعت الإدارة الحارس من دخول الزنزانة ..وأمرته بتمرير صحن الطعام من الفتحة السفليّة للباب الحديديّ !

ولم تُجدي محاولات آدم لاستدراجه الى الداخل ، مما أفسد خطة الهروب


وفي ذلك اليوم ، أحسّ آدم بأن عصيدته زادت سوءاً ! فقد تقيّأ مراراً ، لدرجة انه لم ينتبه على دخول آرثر الى زنزانته .. واثناء تلوّيّ آدم في سريره من مغص معدته ، تناول الفأر بقايا عصيدته .. وعلى الفور انقلب على ظهره وهو ينتفض بقوة .. فانتبه آدم لما حصل ! ووضع الفأر في حضنه ، محاولاً إنقاذه بالضغط على معدته لإخراج ما أكله .. لكن الفأر مات على الفور ! فعرف آدم انهم وضعوا السمّ في طعامه .. وحين بدأت رؤيته تتغبّش وهو يشعر بدوارٍ شديد ، أخرج الشفرة من أسفل السرير ..قائلاً بغضب :

- أتريدون قتلي يا ملاعين ؟ اذاً سأنتقم منكم جميعاً !!

 

وجرح رسغ يده ، لرسم مخطّط البنك بدمائه ! محاولاً تجاهل آلام معدته المتزايدة .. 


وانتهى خلال دقائق من رسم كل الطرق السرّية المؤدية لمخزن البنك ، على الجدار ! 

ومن بعدها طرق باب الزنزانة بقوة ، منادياً الحارس :

- انا أنزف بغزارة !!.. الدم لا يتوقف !.. ارجوكم ساعدوني!!!!

 

وما أن استلقى على سريره ، حتى أغميّ عليه ..

***


حين استيقظ آدم .. وجد طبيب السجن يُخيّط جرح يده ..

فأمسك آدم ذراع الطبيب بيده السليمه ، وهو يهمس له :

- هل جوالك معك ؟

الطبيب بصوتٍ منخفض : نعم ، لماذا ؟!

- صوّر الجدار بسرعة !! فهو المخطّط السرّي للبنك المركزي .. هيا لا تتردّد .. صوّره ، قبل دخول الحارس الينا 


وبالفعل قام الطبيب بتصوير الجدار ، قبل لحظاتٍ من دخول مدير السجن وحارسه العجوز الى الزنزانة ، ليجدا الطبيب يلفّ الشاشّ حول يد آدم المصابة ، فسأله المدير :

- هل سيعيش ؟

الطبيب : علينا نقله فوراً الى المستشفى ، فهو يحتضر 

المدير بلؤم : اذاً دعه يموت !!

الدكتور بدهشة : ماذا !


وهنا انتبه المدير على رسمة الحائط !

- ما المرسوم هنا ؟

الطبيب : لا ادري سيدي ! وجدّت الشخبطة ، حين دخلت الزنزانة

فأمره المدير بغضب : أخرج فوراً !!

الدكتور باستغراب : لكني لم أُنهي عملي ، فأنا لم أعالج بعد أمغاص معدته!

فقال المدير للحارس : أخرجه حالاً !!


واقترب الحارس العجوز لسحبه من ذراعه ، مما أغضب الدكتور الذي خرج طواعيةً ، للعودة الى عيادته الصغيرة في الطابق العلويّ للسجن 


وبعد ذهابه ..طلب المدير من الحارس : إحضار إسفنجة ودلوّ ماء ، لمسح الدماء .. فأسرع العجوز لإحضارهم .. 


وبعد قليل .. وأثناء مسح العجوز الحائط ، جلس المدير على طرف سرير آدم الذي استعاد وعيه مُنهكاً .. قائلاً له بلؤم : 

- ذاكرتك القوية قضتّ عليك يا مسكين 

آدم مهدّداً بألم : قريباً سيعرف العالم إسمي !!

المدير : لا احد سيهتم بموتك ايها البائس المغرور


وسحب الوسادة من تحت رأس آدم .. ووضعها فوق وجهه ، وهو يضغط عليها بقوة .. مما جعل الحارس العجوز يتجمّد في مكانه ! 

فصرخ المدير عليه لإكمال المسح ، وهو مازال يضغط بكل قوته على رأس آدم الذي ظلّ جسمه ينتفض ، الى أن توقف عن الحراك  


فأزال المدير الوسادة .. لتظهر عينا آدم الجاحظتين ، مُعلنا موته ..

فقال له ساخراً :

- أخيراً مُتّ ، ومات سرّك معك ..

 

ثم قال للحارس الخائف :

- مبروك !! حصلت على تقاعدك المبكّر ، مع تعويضٍ مجزّي .. المهم أن لا تخبر أحداً بما حصل هنا ، والا ستلاقي مصيره

فأومأ العجوز رأسه بخوف ، وهو حزين على العقاب الظالم لآدم 

***


بعد سنة ..ضجّت البلاد بخبر سرقة ذهب الدولة من البنك المركزي ، ضمن عمليةٍ ضخمة ودقيقة للغاية !

وعلى الفور !! إنهار سعر العملة والبورصة ، وتدهور تدريجيّاً إقتصاد البلاد ! 

*** 


في جهةٍ أخرى من العالم ..إحتفل الطبيب مع افراد عصابته من جنسياتٍ مختلفة ، والذي اختارهم بعناية من الإنترنت المظلم (كخبراء في مجال الكمبيوتر والكهرباء والتقنيات ، وموظف جمارك متقاعد لتهريب المسروقات خارج الحدود) والذين تمكّنوا معاً من سرقة اطنان الذهب الى خارج البلاد ..


فسأل أحدهم الطبيب :

- الا تشعر بالذنب لما حصل في بلادك ؟

الدكتور : كنت طبيباً في سجنٍ سيء السمعة ، وبراتبٍ حقير لا يكفيني لآخر الشهر .. واليوم بفضل صورةٍ واحدة : إشتريت سلسلة من الفنادق الفخمة بدولٍ نامية ، فلما أهتم بالملاعيين ؟

زميله : المسكين آدم ، عاش فقيراً ومات مُعذّباً .. ونحن استفدنا من خريطته التي رسمها بدمائه ! 

الطبيب بلا مبالاة : قدره أن يُعاقب عنّا جميعاً


وضحك أفراد العصابة في سكرٍ وفجور ، دون ذرّة تأنيب ضمير ! 


الاثنين، 5 أبريل 2021

الإنسانيّة في زمن الحروب

 تأليف : امل شانوحة

أنت خصمي ، ولست عدوي


في عام 1945.. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وبدء تبادل الأسرى بين الدول المتحاربة .. وجد الضابط الروسي ضابطاً إلمانياً جريحاً ، مُستنداً على شجرة في الغابة ! 

فرفع الروسي مسدسه في وجهه ، بنيّة قتله.. بينما نظر اليه الإلماني بعينين دامعتين ، بعد أن أعياه نزيف قدمه .. 


ليتفاجأ بالروسي يرمي له قطعة خبز .. 

وقبل ان يستوعب الإلماني ما حصل ! أكلها بنهم لشدة جوعه .. فهو لم يتناول شيئاً منذ يومين ، بعد هروبه من المعتقل الروسي .. 


ثم جلس الروسي بجانبه وهو ينظر الى قدمه الجريحة .. وأخرج من حقيبة ظهره : علبة حديدية للإسعافات الأولية ، وهو يقول بالروسية:

- انا الطبيب فالنتين ، لا ادري إن كنت تفهمني 

فردّ الإلماني بلغةٍ روسية :

- وأنا كريستوف ، مترجم لغات .. أتقن اللغة الروسية والإنجليزية وبعضاً من الفرنسية

- ممتاز !! بإمكاننا التفاهم إذاً


كريستوف بقلق : أين فرقتك ؟!

فالنتين : أوهمت قائدي إنني ذاهب في مهمةٍ علاجية ، لكيّ أهرب من المعسكر .. فما عدّت أتحمّل الضغط النفسي هناك .. ماذا عنك ؟ 

- هربت من معتقلكم القريب من هنا ، فهم استخدموني لترجمة اوامرهم للسجناء الإلمان .. ولولا احتياجهم لي ، لعذّبوني كما فعلوا مع زملائي 


فسأله اثناء خياطة جرح قدمه : 

- إذاً كيف أصبت بهذا الجرح العميق ؟ 

كريستوف بألم : قفزت من فوق الأسلاك الشائكة للسجن 

- انت محظوظ انك لم تقطع عرق فخذك الأساسي ، والاّ لنزفت حتى الموت 

- الألم لا يطاق يا رجل ، هل معك خمر ؟

فالنتين : انا لا أشرب ، لكن معي سجائر .. 

وأعطاه سيجارة وكبريت ..


وبعد نفث كريستوف الدخان بارتياح ، قال باستغراب : 

- هذه اول مرة أرى عسكري لا يشرب ! 

فالنتين : انا بوسني مسلم 

- أحقاً ! لم أعلم انكم متورّطون بالحرب ايضاً ؟

- الإحصائية الأخيرة تؤكّد إن 75 الف مسلم بوسني ماتوا بهذه الحرب اللعينة


كريستوف مُستفسراً : الم تكونوا تحت قيادة الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى ؟!

- نعم ..وبعد سقوط الخلافة ، حكمتنا المانيا .. واليوم تحكمنا يوغسلافيا بجنودها الشيوعيين الروس .. مع إن معظم سكّاننا متضامنين مع المانيا ، ربما لهذا أساعدك الآن 


وبعد أن ضمّد جراحه ، قال كريستوف مرتجفاً : 

- لا ادري كيف تتحمّلون برد روسيا ! 

- تعوّدنا على ذلك .. معي خيمة ، سأجهّزها في الحال .. فالشمس على وشك الغروب ، وسيزداد البرد مساءً ..

 

وبعد تجهيز الخيمة ، جلس الإلماني الجريح بداخلها .. بينما ذهب الروسي باتجاه الغابة .. 

***


بعد قليل .. سمع كريستوف طلقةً نارية من بعيد ، أرعبت كيانه ! 

ليعود فالنتين ومعه ارنب ، قائلاً بفخر :

- إصطدّته بطلقةٍ واحدة 

كريستوف : ليتك لم تطلق النار يا رجل ! فكلانا هاربين من الروس

- غريب كيف صادف هروبنا في اليوم ذاته ! لكن كان عليّ المجازفة ، فأنا جائعٌ ايضاً .. المهم سأذهب لتنظيفه وشوائه ، إبقى في الخيمة لحين عودتي 

***


بعد قليل .. دخل لإعطائه صحناً به لحم الأرنب المشويّ ..

كريستوف : الن تأكل ؟

فالنتين وهو ينظر لساعته :

- بقيّ دقيقتان

- على ماذا ؟!

فالنتين : على آذان المغرب ، نحن برمضان وانا صائم

- وكيف تستطيعون الصيام بزمن الحرب ؟!

- لم أصمّ وقت المعارك .. فالإسلام أعطانا الإذن للإفطار ، بشرط أن نقضيه لاحقاً .. حتى الصلاة ، يمكنني الجمع والتقصير إن لزم الأمر .. لكن طالما الأمور هدأت الآن ، فأفضّل الصيام .. آه ! الآن حان وقت الإفطار..


وبعد انهاء طعامهما .. خرج فالنتين من الخيمة ، وعاد وهو ينشّف ذراعيه مرتجفاً :

كريستوف معاتباً : لما بلّلت نفسك بهذا الجوّ البارد ؟!

- كنت اتوضأ .. سأصلي امامك ، هل عندك مانع ؟ أم أصلي بجانب شعلة النار في الخارج ؟ 

- لا الخيمة ادفأ لك .. وأنا سأحاول النوم قليلاً 

فالنتين : الأفضل أن تريح جسمك ، فأنت نزفت كثيراً ..


وبينما كان فالنتين يصلي بخشوع ، كان كريستوف يراقبه بذهول لرؤيته مندمجاً بعالم الروحانيات !

وحين سجد فالنتين ، سمعه كريستوف يبكي بقهر ! 


وبعد انهاء صلاته ، وقبل نومه .. سأله كريستوف :

- لما كنت تبكي ؟!

فتنّهد فالنتين بحزن : من ذنوبي 

- أيّة ذنوب ! أنت أنقذت عدوك لرفعة أخلاقك 

- أنت خصمي ولست عدوي .. فكلانا أخوين بالإنسانية ، لكن الظروف أجبرتنا على طاعة اوامر قادتنا .. ولو تُرك الأمر لنا ، لما تحاربنا مطلقاً .. لكن ضميري يؤنبني لذنبٍ آخر 


كريستوف باهتمام : ماهو ؟

- الم تسمع ما حصل بنساء المانيا ؟

كريستوف بقلق : ماذا حصل ؟!

فالنتين : بعد انتحار هتلر وانتهاء الحرب العالمية .. هجم الجيش الروسي على المانيا ، مُستغلين قلّة الذكور هناك ..و..

- وماذا !! إكمل 

- إغتصبوا نسائكم 

كريستوف بصدمة : ماذا !


فالنتين وهو يشعر بالعار : آخر ما سمعته من القادة الروس : إن جنودهم إرتكبوا أكثر من مليونيّ عملية إغتصاب ، لنساء إلمان تترواح أعمارهنّ بين (10سنوات و80 سنة) ..حيث في برلين وحدها ، حصل ما يقارب 100 الف حالة اعتداء .. و200 الف منهنّ ماتوا بسبب الأمراض المعدية والإلتهابات ..عدا عن مئات عمليات الإجهاض


فشدّ كريستوف قميص فالنتين بغضب : 

- ماذا تقول يا رجل ؟!! خطيبتي تعيش في برلين 

- من حقك أن تقتلني ، فالنقيب اللعين أجبرني على إيذاء إحداهنّ .. رغم انني أخبرته إن هذا مخالف لديني ، لكنه هدّدني بالقتل .. وكانت المرة الأولى لي ، وللمسكينة ايضاً .. وبسبب ما حصل ، إنهارت أعصابي وحاولت الإنتحار .. فأمروا بتسريحي .. وظننت انهم سيعيدوني الى البوسنة .. لكنهم غيّروا رأيهم ونقلوني الى هنا ، لمعالجة الجنود وبعض المعتقلين من جنسياتٍ مختلفة .. والآن أشعر بالذنب الشديد ، لدرجة انني لا أجرأ على النظر في عينيّ امي ، فأنا وعدّتها أن لا اؤذي الأبرياء .. فهي ربّتني انا واخوتي بعد وفاة ابي ، وعملت جاهداً في الحقل لأتخرّج طبيباً أعالج الناس ..وقبل التحاقي بالجيش الروسي .. أخبرتني انها تفضّل سماع نبأ موتي ، على ان أعود لها وحشاً ملطّخاً بالدماء .. 


كريستوف : الأهالي لا يعرفون ما نواجهه بالحرب ، فلا تقسو على نفسك .. (ثم تنهّد بضيق).. ليتك لم تخبرني بما حصل في بلادي .. فبسبب جنون العظمة لهتلر ، قُتل شبابنا واغتُصب نساءنا وتدمّرت بلادي تماماً 

- الأفضل أن لا نفكّر بالفظائع التي شهدناها بالحرب .. (وادار ظهره على فراشه).. لننمّ باكراً ، كيّ نهرب غداً الى مكانٍ أبعد من هنا 

- معك حق ، تصبح على خير 

*** 


في الصباح .. أيقظ الروسي الإلماني بفزع :

فالنتين : إستيقظ بسرعة !! كلاب الحرس الروسي في طريقهم الينا!

كريستوف بارتباك : حسناً ، دعني أفكّ الخيمة بسرعة


فسكت الروسي قليلاً ، قبل ان يقول : 

- لا ، عندي فكرة أفضل

وقام بنزع ملابسه ، وهو يقول للإلماني :

- لنبدّل ملابسنا بسرعة

كريستوف بدهشة : لماذا !

فرفع فالنتين المسدس في وجهه :

- لا تجادلني !! أعطني ملابسك ، وضع سلّسلتي حول رقبتك  


وبعد تبادل الملابس ، أعطاه فالنتين رسالة وهو يقول :

- كتبتها البارحة اثناء نومك .. فإن تمكّنت من الوصول الى العنوان المكتوب على الظرف ، إعطه لأمي ..

كريستوف : سنعود كلانا الى بيتنا ، لا تتشاءم هكذا يا رجل !

- لا أستطيع رؤيتها بعد الجريمة التي ارتكبتها بحق الفتاة البريئة ..قلّ لها أن تدعي لي كثيراً ، لعلّ الله يغفر ما سأفعله الآن 


ثم ألقى له التحيّة العسكرية ، قبل إطلاق النار على نفسه ! ليموت داخل الخيمة ..


بهذه اللحظات .. وصل الحرس مع كلابهم ، بعد تتبّعهم صوت الطلقة النارية .. 

ودخل النقيب الروسي ، ليجد كريستوف (بزيّ الجيش الروسي) وبجانبه القتيل فالنتين (بزيّ العسكري الإلماني) ..


وقبل أن ينطق كريستوف بكلمة ، أسرع النقيب بقراءة الإسم المنقوش على سلّسلته المعدنية :

- انت الضابط فالنتين ؟

فأجاب كريستوف بصوتٍ مرتجف ، وباللغة الروسية :

- نعم سيدي !!

- ماذا حصل هنا ؟


فأخبره انه أضاع فرقته بعد العاصفة الجوية التي حصلت الإسبوع الماضي .. وانه تفاجأ صباحاً بدخول هذا الإلماني الهارب الى خيمته ، فقتله على الفور ..

النقيب الروسي : أحسنت !! يبدو انه المترجم الإلماني الذي هرب من المعتقل .. وأنت !! تعال معنا لأخذك للمعسكر


فسأله كريستوف بخوف : أيّ معسكر ؟

(فهو لم يرغب بالعودة الى معتقل التعذيب ، كيّ لا ينفضح أمره) 

لكن النقيب أخبره إنه ذاهب مع فرقته الى العاصمة ، بعد انتهاء عملهم العسكريّ في هذه الحرب .. 

ففرح كريستوف بخبر تسريحه من الجيش ، فور وصولهم الى هناك


وحينما مرّت الشاحنة قرب الخيمة ، قام لا شعورياً بإلقاء التحيّة العسكرية على جثة فالنتين (الذي رفض النقيب دفنه) .. 

فعاتبه النقيب قائلاً :

- على من تلقي التحية ؟!

كريستوف بارتباك : آسف سيدي ، لم انتبه

- إن لم تقتل اللعين لكان قتلك !!

- صحيح سيدي ، أعتذر مجدّداً


وكتم حزنه على صديقه فالنتين الذي أنقذه من الموت بشتّى الطرق الممكنة  

***


بعد تسريح كريستوف من الجيش الروسي ، إنتقل مع فرقة الجنود العائدين الى وطنهم البوسنة.. 


وحين وصل الى العنوان الموجود على الظرف .. أعطى رسالة فالنتين الى امه التي انهارت باكية ، بعد أن اخبرها بما حصل 

- لما انتحر ابني ؟! الا يعرف ان هذا مُحرّم في الإسلام ؟

كريستوف : لم يستطع تحمّل الذنب يا خالة ، وهو يطلب منك أن تدعي له كثيراً

- انا امه ، وكنت سأسامحه على كل شيء .. ليتني لم أشدّد عليه قبل ذهابه ، هذا ذنبي 

- لا تلومي نفسك ، هو يحبك كثيراً ..

الأم وهي تسمح دموعها : كان ولداً مرضيّاً بالفعل ، رحمه الله ..


وبعد أن هدأت ، واستوعب صدمة وفاة ابنها البكر .. أصرّت أن يتناول كريستوف الطعام معها .. 

ومن بعدها ، قالت له :

- ابني طلب في رسالته أن اساعدك بالعودة الى المانيا

كريستوف باهتمام : وكيف ستفعلين ذلك ؟!

- مازال هناك سكّان مخلصين لإلمانيا .. سأرسلك إليهم ، وهم سيجدوا الطريقة المناسبة لإعادتك الى بلادك

***


وبالفعل إنتقل كريستوف مع مجموعة تجّار بوسنيين الى كرواتيا ثم نمسا ومنها الى المانيا ، برحلةٍ بريّة شاقّة إستغرقت عدّة شهور  

***


حين وصل أخيراً الى العاصمة برلين .. صدُم مما رآه ! فكل شيءٍ فيها مدمّر ، ولا تشبه المدينة التي تركها قبل عامين .. 

لكنه مع ذلك كان متحمّساً للوصول الى منزل خطيبته ، ليتفاجىء بوالدها يخبره إنه طردها من منزله ، دون توضيح السبب !


فذهب الى منزل اخيها الذي أخبره أنها تعيش عند خالتها ، بعد رفضها قتل ابنها الذي وُلد بعد اغتصابها من روسيّ 

كريستوف بضيق : ولما أنجبته ؟ لما لم تسقط الجنين كما فعلت الأخريات؟ 


الأخ : لا ادري .. لكنها إحتفظت به بعد ولادته ، لأن الطبيبة اضّطرت لإزالة رحمها الذي أصيب بالإلتهابات خطيرة .. لذلك لم تردّ التخلّي عن ابنها الوحيد .. وابي لم يتفهّم ذلك مطلقاً  

كريستوف : أعطني عنوان خالتك ، اريد رؤيتها في الحال

***


حين وصل هناك .. تفاجأ من منظر حبيبته الشاحب والمرهق ، وهي تحمل الطفل بين ذراعيها ! وقبل أن يقول أيّ شيء ، طلبت منه الرحيل باكية .. لكنه أصرّ على البقاء ، قائلاً في محاولة لمواساتها: 

- ما حصل ليس ذنبك .. وانا مصرّ على الزواج منك ، والإعتناء بطفلك ايضاً 

- لست مجبراً على ذلك ، فأنا أصبحت عاقراً بعد العملية

كريستوف : لن أتخلّى عنك ، فأنت السبب الذي جعلني أهرب من المعتقل وأقاوم الموت لكيّ نجتمع مجدّداً 


وبعد إصرارٍ منه .. تمّ زواجهما برضى والدها ، خاصة بعد تسجيل كريستوف الطفل بإسمه ..

***


وفي أحد الأيام ، وبينما كان كريستوف يتابع الأخبار من راديو الصالة ..سمع صراخ زوجته من غرفة النوم ! 


فذهب اليها ، ليجدها تمسك السلسلّة المعدنية بغضب :

- من اين حصلت على سلّسلة اللعين ؟!!

- ماذا تقصدين ؟!

- هذا هو الرجل الروسي الذي اغتصبني

كريستوف بصدمة : فالنتين ! هل انت متأكّدة ؟

- نعم !! هو أخبرني بإسمه الكامل المنقوش في السلّسة ، وطلب مني مسامحته .. ارجوك إخبرني انك قتلت اللعين ، وانتقمت لزوجتك 


فإذّ بها تتفاجأ بردّة فعله ! بعد إخراجه طفلها من مهده ، وتقبيله بسعادة وهو يقول :

- انت ابن البطل !! كم أنا فخور لأني تبنّيتك

- ماذا تقول يا رجل !

كريستوف : إجلسي لأخبرك القصة منذ البداية

وبعد أن أخبرها بكل شيء ..

 

زوجته بدهشة : أهو أخبرك إنني كنت اول امرأة في حياته ، وإنه انتحر لشعوره بالذنب لما فعله بي ؟!

- نعم ، وهو من أنقذ حياتي من موتٍ محتّم .. ولكيّ أردّ دينه ، سأربي ابنه كما كان يتمنّى ..

 

ويبدو إن شعور فالنتين بالذنب ! أراح نفسيّة زوجة كريستوف المتعبة ، خاصة بعد ازدياد تعلّق زوجها (كريستوف) بإبنها الصغير (آوليفر)

***


عندما كبر الولد ، أخبره كريستوف بقصة ابيه البطل .. 

وبعد بلوغ آوليفر سن الخمسين (عقب وفاة والديه ، وطلاقه من زوجته الإلمانية) قرّر الذهاب الى البوسنة (بعد انتهاء حربهم مع صربيا) للإطمئنان على عائلة والده الحقيقيّ ..

***


حين وصل هناك .. بحث عن عنوان جدته ، فدلّوه الناس على أرضها .. لكن جدته واربعة من إخوة والده ، توفّوا طبيعياً او بالحرب الأخيرة .. ولم يبقى سوى عمته العجوز ، وهي الأخت الصغرى لوالده .. 


وما أن أعطاها السلّسة ، حتى حضنته بالقبلات وهي تقول :

- لا أصدّق إن لدى اخي المرحوم ولداً ! ليت امي حيّة ، لسعدت بهذا الخبر .. 


فأخبرها أن والده بالتبنّي (كريستوف) أحضر له كتباً عن الإسلام منذ صغره ، وسجّله في مركز لتعليم اللغة البوسنية .. ولم يفهم السبب ! الا حينما كبر ، وأطلعه على الحقيقة قبل وفاته .. 


فقالت العمة : طالما انك مسلم وتعرف لغتنا جيداً ، فلن تعود الى المانيا.. ستتزوج هنا وتعيش معنا

- عمري 50 ومطلّق ، فمن ستقبل الزواج مني ؟ 

- الا تقول ان ابنك المراهق يعيش مع امه الآن

- نعم

العمة : اذاً ليس لديك احدٌ هناك بعد وفاة والديك ، لذا إبقى معنا !! فنحن عائلتك الحقيقية .. وهذه الليلة سأجمعك بأولاد عمومتك في حفلةٍ كبيرة

***


وبالحفل المسائيّ ، اندمج آوليفر مع أقاربه بسرعة .. خاصة بعد تقابله مع فتاة من معارفه ، أعجبته كثيراً .. 


ولم يمضي شهر ، حتى احتفل اهل قريته بزواجهما على الطريقة البوسنية .. ليكمل حياته مع زوجته وطفليه التوأمين اللذين يطالبانه كل مساء بإخبارهما بقصة لقاء الأجداد (فالنتين وكريستوف) تحت الشجرة في تلك الليلة الباردة .. كضابطين فرّقتهما الحروب ، وجمعتهما الإنسانيّة ! 


*******

ملاحظة :

إستوحيت الفكرة من هذا الفيديو القصير :


الجمعة، 2 أبريل 2021

المسخ

 تأليف : امل شانوحة

أسير الروح 


في آخر الليل .. عاد مايكل الى منزله ، لتستقبله امه مُعاتبة :

- لما تأخّرت كل هذا الوقت ؟! أقلقتني عليك .. ولما لا تردّ على جوالك ؟

- امي .. هذا هو اليوم الوحيد بالسنة أستطيع الخروج فيه من المنزل ، دون إخفاء وجهي بالقناع القماشيّ الذي صنعته لي 

- ولما انت حزينٌ هكذا ؟!

مايكل بقهر : لأن جارنا العجوز قال لي امام الأطفال : ألا تملك سوى هذا التنكّر المخيف ؟ إشتري زيّاً آخر غير وجه المسخ المقرف !! 

- ارجوك لا تبكي يا بنيّ


فمسح دموعه بعصبية : 

- هذه غلطتك امي !! كان عليك إجهاضي بعد أن أخبرك الطبيب إنني جنينٌ مشوّه ، لكنك أصرّيت على إنجابي .. وبسبب تمدّد جلد وجهي ، أصبحت أشبه الآيس كريم الذائب ! وطلقّك ابي ، وهجرتك عائلتك .. وانتقلنا الى هنا ، لأعيش طوال عمري مختبأً في المنزل .. وفي حال اضّطرت للخروج ، فأنا مُجبر على وضع قناعي السخيف الذي أخبرتِهم عنه : بأنه يحمي جلدي الرقيق من نور الشمس .. ولا يمكنني الظهور بشكلي الحقيقي الا في عيد الهالووين ،  لدرجة إن الأطفال اعتادوا وجهيّ القبيح الذي يرونه مرةً كل سنة ! 


الأم بحماس : هذا جيد !! أصبح لديك اصدقاء جدّد

- كفى يا امي !! لا تحاولي مواساتي .. فأنت درّستني في المنزل ، حتى لا أعاني من تنمّر التلاميذ .. وهآ انا حصلت على شهادة الماجستير في الآداب من الحاسوب ، دون أملٍ في توظفي في أيّ مكان .. حتى انت تعلّمتي التمريض ، كي لا نذهب للمستشفى .. أتذكرين كم مرة قطّبت جروحي ، وحقنتني بالإبر .. إن كنت أنتِ تشعرين بالعار بالخروج معي ، فكيف ألوم الناس ؟!

الأم بحزن : مايكل ارجوك ، لا تقسو على نفسك 

- الم تفكّري كيف سأعيش إن حصل لك مكروه ؟

- لا تقلق بهذا الشأن ، فكل معاشي التقاعديّ وضعته بحسابٍ بأسمك في البنك ..

مايكل مقاطعاً : وما الفائدة إن كنت لا أجرأ على الذهاب الى هناك ! أتمنى حقاً أن أموت قبلك ، لربما تعودين الى قريتك وعائلتك الذين هجرتِهم بسببي


وصعد السلّم متثاقلاً باتجاه غرفته ، فنادته :

- ألن تتعشّى معي ؟!!

مايكل بإحباط : جمعت الكثير من الحلوى .. سآكلها كلّها ، لربما رفعت معنوياتي المنخفضة ..

***


قبيل الفجر .. إستيقظت الأم بعد سماعها لشيءٍ يقع في الغرفة المجاورة ! فأسرعت الى هناك .. لتجد مايكل ينتفض بقوة ، بعد شنق نفسه بحلقة السقف 


فصعدت الى سريره ومعها المقصّ .. واستطاعت قصّ الحبل ، قبل ثوانيٍ من تسليمه الروح !  

وقامت بالتنفّس الإصطناعي ، وهي تصرخ عليه باكية :

- ماذا فعلت يا مجنون ؟! أتريد أن تقتلني ؟!! 


ورغم انه ظلّ فاقداً للوعيّ ساعتين ، الا انها لم تستطعّ أخذه على المستشفى .. وسهرت بجانبه طوال اليوم ، لحين إسترداد وعيه .. فهي المرة الثانية التي يحاول فيها الإنتحار ، بعد قصّ شراين يده بعمر المراهقة .. حينها قطّبت جروحه ، لكنه تسبّب بعطب أعصاب إصبعيه الصغيرين الذي لم يعدّ باستطاعته تحريكهما بعد تلك الحادثة !


اما محاولة الشنق ، فأدّت لفقده النطق عدة ايام ! 

وبعد دراسة امه حالته الصحيّة على الإنترنت وإحضارها الأدوية المناسبة له ، إستطاع تخطّى المرحلة الصعبة بإعجوبة ! 

ووعدها بعدم تكرار الأمر ثانيةً ..

***


واستمرّت حياته بروتينٍ مملّ بضعة سنوات ، كان قليلاً ما يخرج فيها من منزله ، مع إلتزامه التامّ بوضع قناعه القماشيّ (بخياطته الرديئة) المعروف لدى اهل منطقته : أنه ضروري لوقايته من حروق الشمس ! 

وقد حاول الناس التقرّب منه .. لكنه قليل الكلام ، وعادةً ما يهرب منهم سريعاً !

***


في الآونة الأخيرة .. إزداد خروجه من المنزل لإحضار الأدوية والتسوّق من السوبرماركت ، بعد مرض امه المفاجىء .. 

ليأتي اليوم الذي تحقّق فيه اسوء مخاوفه ، حين وجدها في فراشها دون حراك ! 

***


في جنازتها ..وقف مايكل المقنّع بعيداً عن الناس اثناء دفنها ..

وبدورهم قدّموا التعازي من بعيد : برفع اصواتهم كيّ لا يضايقوه  

وهو شكرهم بهزّ رأسه ، إمتناناً على وقوفهم معه في هذه المحنة .

***


مضت اسابيع بعدها ، إنتهت فيها مؤونة منزله .. فبحث مايكل عن المال في غرفة امه ، لكنها لم يجد شيئاً في حقيبتها وأدراجها .. 


فعلم إن عليه الذهاب للبنك لسحب المال .. ولأنه لا يوجد بنك في منطقته الفقيرة ، كان عليه الذهاب الى وسط البلد ..وهو لم يخرج من الحيّ الذي يسكنه من قبل ، مما أخافه جداً .. فالناس هناك لا تعلم شيئاً عن حالته المرضيّة ، وعن قناعه القماشيّ الذي سيخيفهم حتماً .. لكن لابد من المجازفة .. 


فركب سيارة امه (التي علّمته على قيادتها امام شاطى ، في لياليٍ متتالية بعمر المراهقة) ليقودها أول مرة وحده ، والى مكانٍ خارج منطقته الشعبيّة 

***


وخرج من بيته فجراً ، ليصل ظهراً الى وسط البلد .. وكما توقع ! تجمّد ناس في الطرقات ، فور خروجه من السيارة بقناعه الغريب (الذي يغطي معظم وجهه : ماعدا عينيه ، وفتحتين صغيرتين للتنفّس) 


وفور دخوله البنك ، أوقفه الحارس .. فأخبره انه قادم لسحب المال فقط .. لكن الحارس رفع مسدسه في وجهه ، وسط ترقّب وخوف العملاء والموظفين ..وأمره بإزالة قناعه فوراً !! 

فحاول مايكل التبرير له :

- أعاني من مشكلةٍ جلديّة ، وأتأذّى كثيراً من نور الشمس

الحارس : لا يوجد شمسٌ داخل البنك .. هيا إخلع القناع !!


وبعد إصراره على طلبه ، لم يجد مايكل حلاً : الا بأخذ العجوز التي بجانبه رهينة ، بعد دسّ يده في جيبه ..وغرز أصبعه في ظهرها ، لإيهام الجميع إنه يحمل مسدساً ! طالباً منهم الإنبطاح أرضاً ، فامتثلوا لأوامره وهم يرتجفون خوفاً .. بينما ظلّ الحارس يهدّده بالإستسلام ، وترك العجوز في حال سبيلها.. 


مايكل بغضب : لا اريد سوى مالي من حسابي الخاص ، الا تفهم !!

الحارس وهو مازال يوجّه مسدسه نحوه ، صارخاً بحزم : 

- دعّ السيدة ، واخرج يدك من جيبك .. وأزلّ القناع عن وجهك ، لن أكرر كلامي ثانيةً !!


ففكّر مايكل بإبقاء العجوز رهينة ، لحين وصوله الى سيارته والعودة الى منطقته .. 

لكن فور خروجه من باب البنك ، شعر بشيءٍ حارق يخترق ظهره .. ليخرّ على الأرض صريعاً .. وتعلو معها صرخات الذعر ممّن شهد الحادثة ! 

  

بعد هدوء الوضع .. تجمّع الناس حول الجثة المتواجدة خارج ابواب البنك .. وحين أزال الحارس قناع مايكل ، تراجعوا للخلف برعب من منظر وجهه المشوّه ! 


ليتفاجؤا بولدٍ صغير برفقة امه ، يشير اليه باكياً :

- لما قتلتم صديقي ؟!! هذا مايكل ، صاحب زيّ الآيس كريم الذائب الذي يلبسه كل عام في الهالووين .. هو طيبٌ جداً ، وجميع أصدقائي يحبونه 


وكانت أم الصبي جارةً لوالدة مايكل ، فقالت بحزن :

- يا الهي ! قديماً سألت امه عن سبب طلاقها .. فأخبرتني انها أنجبت أخاً أصغر لمايكل ، وُلد مسخاً .. ورغم توفيه رضيعاً ، الا ان زوجها وعائلتها قاطعوها ، فانتقلت الى منطقتنا .. لم أكن أعرف انها تقصد مايكل المسكين !

***


وسرعان ما انشر الخبر في منطقته : بأن صاحب القناع القماشيّ ، قُتل ظلماً ..خاصة انهم لم يجدوا سلاحاً في جيبه ، وكان هناك حساباً مليئاً بالمال بإسمه في البنك !

وبدأت الناس تتناقل الأخبار والحكايات عنه .. 

***


وفي يوم التأبين .. أخبرتهم سيدة : إنه أنقذها من متحرّشٍ بعد خروجها مساءً من عملها ، برميه الأحجار على المعتدي لحين هروبه 

وقالت الأخرى : إنه أنقذ طفلها من الموت برداً عند خروجه ليلاً ، بعد نسيانها قفل الباب الخارجيّ لمنزلها .. وأعاده اليها .. مع استغرابها لبسه القناع (الحامي من الشمس) رغم تأخّر الوقت !

وأخبرتهم العجوز الفقيرة : إنه داوم على شراء الطعام لها كل شهر ، لخمس سنواتٍ متتالية ! 


وأقاموا له جنازةً حاشدة ، ودُفن بجانب قبر امه ..

***


وحين دخلوا غرفته في منزل امه.. وجدوا دفاتر بها أشعاره الأدبيّة ، حيث كان موهوباً بكتابة الشعر ! واعتاد التوقيع أسفل قصائده بإسم : ((أسير الروح))

فتعّهد رئيس البلدية بنشر كتابه ، بذات الإسم الذي لقّب به نفسه ! 


واصطفّت الناس طوابير لاستلام النسخة الأولى من كتابه الأدبيّ ، الذي طُبع على غلافه : صورة قناعه القماشيّ الذي عاش فيه 40 سنة من حياته البائسة ! 

*******


ملاحظة :

إستوحيت قصتي بعد مشاهدتي لهذا الفيديو المؤثّر :

الرابط :

https://www.youtube.com/watch?v=an0T_SiQPOM

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...