كتابة : امل شانوحة
لعبة الدبابيس
شعرت بخوفٍ شديد وهي تهوي داخل مكانٍ ضيقٍ ومظلم ! وصدى صراخها يدويّ في أرجاء الفراغ السحيق .. الى أن حطّت بقوة فوق شيءٍ صلب ، كاد يكسر عظامها ..
ورغم الألم والرعب ، تلمّست الجدران ..لتجد نفقاً صغيراً محاطاً بالصخور الحادّة ..
فأخذت تحبو داخله ، وهي تنادي اهلها برعب ..
ومشت مسافةً طويلة ، الى أن وصلت لسدٍ حجريّ ! حطّم أملها الأخير بإيجاد مخرجٍ من هذه الورطة ..
فجلست تبكي بحرقة ، ويمرّ الوقت كأنه الدهر ! .. الى أن ظهر نورٌ من بعيد ، وصوت رجلٍ يخبرها أنه قادم لنجدتها !
وفجأة ! ظهرت قطةٌ سوداء تحمل بفمها لعبة صوفيّة مليئة بالدبابيس ، متزامنة مع صرخة امها المؤلمة ..
قبل استيقاظ ندى (العشرينيّة) من كابوسها وهي تتصبّب عرقاً ، بسبب حلمها الذي تكرّر كثيراً في الآونة الأخيرة !
فقرّرت إخبار امها ، لعلّها تجد تفسيراً له ..
***
وبعد أن أطلعتها على تفاصيل الحلم ، تنهّدت الأم بحزن :
- ظنّنتك لن تتذكّري الحادثة لصغر سنّك !
ندى باستغراب : ماذا تقصدين ؟!
- كنت في الخامسة حين وقعت في البئر الجافّ
- تقصدين البئر خارج قريتنا ؟
- نعم ..
ندى : لكنه عميقٌ جداً ! كيف لم أمت أو أصاب بإعاقة ؟!
- كانت معجزة إلهية ، ولم تصابي الا بخدوش ورضوض بسيطة
- ماذا بشأن النفق الذي رأيته في الكابوس ؟
الأم : رجل الدفاع المدني الذي أنقذك ، صوّر العملية بكاميرا خوذته .. والأشخاص الذين حفروا البئر قديماً ، أنكروا وجود النفق !.. والأرعب ما قلته للرجل اثناء صعودكما من هناك
- ماذا قلت له ؟!
- انهم أخذوا لعبتك
- من ؟!
الأم : لا ادري .. لكن أحد الأطفال شاهدك وانت تلاحقين قطة سرقت لعبتك الصوفية ، ووقعتِ خلفها في البئر !
- وانا رأيت اللعبة مليئة بالدبابيس ، فما تفسيرك لذلك ؟
- الدبابيس تعني السحر ، والعياذ بالله
ندى : ولما سمعت صراخك في المنام ؟
- لأن جسدي تضرّر كثيراً بعد حادثة سقوطك .. والطبيب أخبرني إن الضغط النفسي الذي واجهته اثناء عملية إنقاذك ، أثّر سلّباً على صحتي
- أظن الموضوع اكثر من ذلك يا امي .. دعينا نسأل الشيخة تهاني عن موضوع الدبابيس ، فهي خبيرة بفكّ السحر
الأم : أنت تعرفين إن الخروج من المنزل يتعبني كثيراً
- اذاً اتصلي بها .. كما أريدك أن تُريني الفيديو لعملية إنقاذي ، لعلّي أتذكّر شيئاً يفيدنا بحلّ اللغز
فأومأت الأم برأسها موافقة ..
***
حين قدمت الشيخة الي بيتهم ، أخبرتها ندى بكابوسها ..
فسألت الشيخة الأم :
- حين قمتي بخياطة اللعبة ، هل جرحت يدك ؟
الأم : مجرّد بقعة دمٍ صغيرة بسبب الإبرة ، كيف عرفتِ ؟!
الشيخة : أظن احدهم غرز الدبابيس في اللعبة ، بقصد إيذاء ندى .. لكن بسبب دمك (ام ندى) إنقلب السحر عليك .. ولذلك جسمك يؤلمك دائماً .. فكل دبوسٍ منها ، أضرّ جزءاً من عظامك
ندى : ومن فعل ذلك ؟!
الشيخة : القطة الجنية ، فالجن يسلبون طاقات البشر بسحرهم
ندى بقلق : وكيف يمكننا علاج امي ؟
الشيخة للأم :
- الحلّ الوحيد هو بفكّ الدبابيس .. وطالما إن اللعبة سقطت في البئر ، فليس امامك سوى الصبر والإكثار من الدعاء .. أعانك الله على بلواك
فشعرت ندى وامها بالحزن واليأس !
***
وبعد قراءة ندى للرقية الشرعية ، توقف كابوسها أخيراً .. الا ان حالة امها الصحيّة ازدادت سوءاً !
وبعد اسابيع .. نُقلت الأم الى المستشفى ، بعد شعورها بآلامٍ مبرحة في كافة جمسها ..
وعجز الطبيب عن علاجها ، واكتفى بأبر المسكّنات لتخفيف ألمها
في ذلك الوقت ، قرّرت ندى إيجاد لعبتها المسحورة مهما كلفها الأمر ..
***
في الصباح الباكر ، بينما أهل قريتها نيام .. ربطت ندى نفسها بالحبال ، ونزلت الى داخل البئر الجاف ، وهي تحمل الكشّاف لإنارة طريقها ..
ولم تصدّق طول المسافة نحو القعر ، وكيف نجت من موتٍ محقّق في طفولتها !
كما تذكّرت رائحة البئر اثناء وجودها هناك .. وكلما نزلت ، إزدادت ظلمة المكان ، كما شعورها بالخوف ..لكنها مصمّمة على إنهاء آلام امها المزمنة
حين وصلت اخيراً لقعر البئر .. وجدت النفق الضيق محفوراً في إحدى جوانبه ..
فأخذت تحبو داخله ، الى أن وصلت الى الطريق المسدود الذي وجدها فيه المنقذ ..
لكن طوال الطريق لم تجد أثراً للعبتها الضائعة !
فشعرت بغضبٍ شديد ، وصرخت بعلوّ صوتها :
- أعيدوا لعبتي يا ملاعيين !! لن أسمح لكم بإيذاء امي أكثر من ذلك .. أنتم أردّتم إيذائي سابقاً ، وهآ انا عدّت اليكم .. إسحروني بدلاً عنها!!
وفجأة ! سمعت مواء قطة من بعيد ، جعل جسمها ينتفض رعباً .. ورغم توجيهها الكشّاف الى مصدر الصوت ، الا انها لم ترى شيئاً!
ثم انتقل صوت المواء من مكانٍ لآخر ، فصرخت ندى برعب :
- كفّوا عن مضايقتي !! وأعيدوا لعبتي المسحورة
وإذ بكشّافها يتعطّل فجأة ! لتعلق في الظلام الدامس ..
فقرأت المعوّذات بصوتٍ مرتجف .. وكلما أنهت سورةً قصيرة ، إزداد مواء القطة غضباً !
فقالت ندى بصوتٍ عالي :
- سأظلّ اقرأ القرآن ، الى أن أحرقك ايتها القطة الشيطانية !! إظهري نفسك حالاً ، يا جبانة
وهنا انفتح الجدار المسدود خلف ظهرها ، ليظهر كهفٌ مليئاً بالأحجار اللامعة كالذهب والإلماس !
فانشغلت بجمال المنظر لبضعة دقائق ، قبل تذكّر مرض امها ..
فقالت بصوتٍ مرتفع :
- لا تغروني بكنوزكم !! اريد لعبة الدبابيس الآن ، وأوعدكم أن لا اخبر احداً بمخبأكم السرّي
فانفتح دهليز في نهاية الكهف ، مضاءً بشعلات النار ..
فمشت فيه ، الى أن وصلت لمكانٍ أشبه بصالةٍ حجريّة .. فيه سجن حديديّ ، بداخله طفلة بشريّة تلعب بلعبتها الصوفية المليئة بالدبابيس!
وما أن اقتربت ندى من الطفلة حتى شعرت بالإرتباك ، فالطفلة تشبه صورتها بعمر الخامسة ! وتلبس ذات الملابس التي شاهدتها بفيديو إنقاذها قبل سنوات !
فحاولت فتح باب الزنزانة دون جدوى ، حتى إن الصغيرة لم تلتفت اليها رغم مناداتها لها !
وهنا سمعت صوتاً خلفها :
- مانّولا ! أخيراً عدّت الينا
فنظرت ندى خلفها ، لترى امرأة مخيفة ..
وقبل ان تستوعب ما يحصل ! ظهرت مخلوقات أخرى من اسفل الأرض ليجتمعوا جميعاً في الصالة .. وكانت جلودهم ملونة منها : الأزرق والأخضر والأحمر ، وعيونهم كعيون القطط المضيئة بالظلام ، ولديهم قرون وجسمٌ مُشعرّ ، وحوافر الدّواب !
وأحسّت ندى انها على وشك الإغماء ..
فقالت المرأة المخيفة التي تبدو رئيستهم ، بسبب تاج المجوهرات فوق قرونها :
- إستجمعي قواك يا مانّولا !!
فأجابتها وهي ترتجف : إسمي ندى
فقال جني شاب : لا !! ندى هي الطفلة المسجونة عندنا منذ سنوات .. اما انت ، فأختي الصغرى ..
ندى بصدمة : ماذا قلت ؟!
فعادت الملكة لتقول : نعم ، انت من جنودي الأذكياء .. وتطوّعت للقيام بمهمّة تقمّص شخصية الطفلة ، قبل وصول المنقذ الذي رفعك لعالمهم
ندى بعصبية : هذا غير صحيح !!
عجوز : يبدو تحوّلك لعمر الخامسة أفقدك الذاكرة ! لذلك أرسلنا الكوابيس ، لتتذكّري مهمّتك الرسميّة
ندى : أيّة مهمة ؟ عن ماذا تتكلّمون ؟!
الملكة : مهمّة إحضار اغراضٍ خاصة بأهل القرية : كأظافرهم المقصوصة ، وملابسهم الوسخة ، او صورهم الممزّقة لنستخدمها في سحرهم
- ولماذا تريدون سحرنا ؟!
الأخ بضيق : سحرهم هم !!.. اختي ، مابك ؟!
وهنا اقتربت منها جنية صبية ، لديها صوت امرأةٍ عجوز :
- انا سأجيبك !! لأننا نزداد قوة بعد الإستيلاء على صحتهم .. تماماً كما فعلت مع ام الطفلة .. وكما ترين .. انا إزدّدت شباباً ، وهي هرمت باكراً
ندى بغيظ : اذاً انت من وضعت الدبابيس في لعبتي ، وأذيتي امي !!
الجنية الصبية بغضب : انا امك يا غبية !!
ندى بخوف : لا أصدّق ذلك ! انا أنسيّة ، ولست واحدة منكم
الملكة : إقتربي لتشاهدي هيئتك الحقيقية في المرآة
فاقتربت ندى ببطء نحو المرآة الضخمة المرصّعة بالجواهر ، وأنظار الجن متوجهة نحوها .. لتفاجأ بهيئتها القبيحة التي تشبههم تماماً !
فابتعدت ندى صارخة : لا !! هذه مرآةٌ سحريّة
الأخ : انت تثيرين غضبنا يا مانّولا ! الم تكن فكرتك أن تتحوّلي لقطة وتصعدي من البئر ، لأذيّة اولاد القرية الذين أزعجونا بصراخهم وركضهم فوق رؤوسنا ؟ ..ثم نزلت الينا بعد سرقتك اللعبة ، وأهديتها لأمي لتزداد شباباً ..
الأم : نعم ..وحين لحقتك الطفلة ، أردنا قتلها .. لكنك أسرعتي بحملها اثناء سقوطها ، كيّ لا تصاب بأذى .. واقترحتي سجنها هنا
ندى : إن كان كلامكم صحيحاً ، فلما لم تكبر الطفلة ؟
الأخ : لأنك استوليتي على روحها ، وكبرتِ بدلاً عنها ..
ففاجأتهم ندى بطلبها بحزم : إفتحوا سجنها الآن !!
الملكة : لكن الطفلة لم تعدّ خائفة منا ، ونحن نهتم بطعامها جيداً .. فلما تريدين إطلاق سراحها ؟
ندى : اريد الإقتراب منها .. ربما رؤيتها عن قرب ، تجعلني أستعيد ذاكرتي
فوافقت رئيسة الجن بدخولها السجن ..
لتسرع ندى بسحب اللعبة من الطفلة ، وإزالة الدبابيس عنها !
وما أن فعلت ذلك .. حتى وقعت امها الجنية على الأرض ، بعد تحوّلها لعجوزٍ ضعيفة ! وهي تعاتبها :
- ايتها البنت العاقّة !! أفقدتني شبابي
ندى : بل أعدّت الصحة لأمي التي حرمتها منها لسنوات
الأخ : يبدو إن اختي فقدت ذاكرتها تماماً ، ولن تستعيدها الا برؤية حبيبها
الأم : لكن والدك وصّاني قبل موته الا تراه ثانيةً ، فهو من قبيلة العدو
ندى باستغراب : عن ماذا تتحدثان ؟!
وأكمل الأخ كلامه مع امه :
- لا حلّ آخر امي ، إسمحي للملكة بإحضاره الآن
وبعد موافقة الأم على اقتراح ابنها ، نطقت الملكة بكلماتٍ سحريّة .. ليخرج دخانٌ اسود وسط الصالة ، قبل ظهور جني وسيم وسط الحضور
وما أن رأته ندى ، حتى تذكّرت كل شيء !
- سويم !
الجني : كيف حالك يا مانّولا ، اشتقت لك كثيراً .. لم ارك منذ سنواتٍ طويلة ، بعد رفض والدك خطوبتنا..
الأخ : هآ اختي ، هل تذكّرتنا الآن ؟
ندى بصدمة : يا الهي ! لا أصدّق انني عشت طوال الفترة الماضية كبشريّةٍ سخيفة ؟!
فقال أحد الجن بامتعاض : وخطتك كانت فاشلة ، فأنت لم تحضري شيئاً من اغراضهم النتنة
الملكة : المهم انها عادت الينا بخير .. وكمكافأة عن جهودها ، سأبارك زواجها من سويم.. ما رأيك يا وزيرتي ؟ فأنت بالنهاية امها
الأم (الوزيرة) : رغم رفض والدها المرحوم الموضوع ، لكن سعادة ابنتي هي الأهم
ففرحت ندى وحبيبها بالخبر .. ثم تذكّرت حياتها السابقة :
- ماذا عن شخصية ندى التي تقمّصتها ؟ ماذا سيحلّ بعائلتها ؟
الأم بغيظ : ستعود ام الطفلة معافاة الى بيتها ، بعد أن سحبتِ طاقتها مني
ندى : آسفة امي.. لكن ماذا عني , الن يفتقدوني ؟
الملكة : ما لا تعلمينه ، إن عجوزاً رآك وانت تنزلين البئر .. وأخبر عائلتك الذين اتصلوا بالدفاع المدني لإنقاذك من جديد
وهنا سمع الجن ضجيجاً فوقهم !
أحد الجن بقلق : هاهو المنقذ ينزل الينا ، ماذا نفعل الآن ؟
فقالت الملكة لإحدى صبايا الجن :
- انت !! سأحوّلك بهيئة ندى الحالية ، لتمثيل دور الميتة .. ولا تنسي أخذ اللعبة والدبابيس معك
ندى مُعترضة : لا !! لن أسمح لكم بسحر امي البشريّة ثانيةً
الملكة : لا تقلقي .. الصبية ستمسك الدبابيس بيد ، واللعبة بيدها الأخرى .. لكيّ يعلم اهل القرية إنك نزلتِ الى هنا لفكّ سحر امك ، واستطعتِ إتمام المهمّة رغم إصابتك بجروحٍ خطيرة إثر انقطاع الحبل ..
العجوز للصبية : إذاً لا تنسي أخذ المقص ، ليبدو الحبل منقطعاً
الصبية بقلق : وماذا سيحدث بعد إخراجهم جثتي من هنا ؟
الملكة : بعد انتهاء الجنازة .. تنبشين قبرك ليلاً ، وتعودين الينا
الصبية : حاضر سيدتي !!
واختفت الصبية على الفور !
فقالت الملكة لندى : لم ارسلك انت ، لأني أخاف أن تحنّي لحياة البشر من جديد .. ولا تقلقي .. سيعتبرونك بطلة وابنة بارّة بأمها ، وسيقيمون لك جنازةً حاشدة..
ندى : وماذا عن الطفلة ؟ ألن تعيدوها لأهلها ؟
امها : هل جننت ؟!! سيصابون بالذعر ، حين يجدوها بنفس العمر الذي وقعت فيه بالبئر ! لهذا ستبقى معنا
سويم : إن أردّت يا مانّولا ، يمكنها العيش معنا بعد الزواج
ندى بدهشة : أحقاً يا سويم !
خطيبها : نعم ، سأفعل كل ما يسعدك يا حبيبتي
الملكة : وهآ نحن حلّلنا المشكلة .. مبروك للعروسين !!
***
لاحقاً .. وفي الوقت الذي احتفل فيه العروسين مانّويلا (ندى سابقاً) وسويم بزواجهما امام قبيلة الجن .. كان اهالي القرية (فوقهم) يشعرون بالحزن على ندى التي فدتّ بنفسها لإنقاذ امها من مرضها المزمن .. وأقاموا لها جنازةً شعبية ، وهم مشفقون على أهلها الذين سيبكون كثيراً امام قبرها الفارغ !
*****
ملاحظة :
بعد مشاهدتي لهذا الفيديو المؤثّر : عن طفلة سقطت في بئرٍ جافّ وعميق جداً ، ولم تصبّ بأذى (سبحان الله) ! .. وعندما قالت الطفلة في الثانية (55) للمنقذ : (أخدولي لعبتي) ..خطرت في بالي هذه القصة ، لغرابة الحادثة !