الأحد، 15 سبتمبر 2019

الحنان الأمومي

تأليف : امل شانوحة


الإبن العاقّ

في ظهر ذلك اليوم , واثناء إنشغالها في المطبخ .. دخل عليها ابنها الشاب بلباسه القوطيّ , بعد ان كانت طردته من منزلها قبل شهور لإدمانه المخدرات ! 
واقترب منها بعينيه الزائغتين , مُطالباً إيّاها بالمال لشراء الهيروين  

فسألته وهي ترتجف : 
- كيف دخلت الى هنا بعد تغيري لقفل الباب ؟!
فرفع سكيناً نحيفاً في وجهها , قائلاً بفخر : 
- أصبحت خبيراً في فتح الأقفال , خاصّة المحال التجارية 
بدهشة وخوف : هل بدأت تسرق ايضاً ؟!
- وكيف سأعيش بعد أن طُردّت من ورشة النجارة , ومنعتي عنّي المصروف ؟
- رجاءً يا جوزيف , أخرج من هنا حالاً

فلوّح سكينته في وجهها , مُهدّداً : 
- ليس قبل ان تعطيني عقدك الذهبي ..
فتراجعت للخلف بخوف , وهي تمسك عقدها بكلتا يديها : 
- هذا عقد المرحومة امي , ولن أفرّط به لأجل مدمنٍ مثلك 
فهجم عليها صارخاً بغضب : اذاً سآخذه بالقوّة !!

وتشابكا بالأيدي اثناء محاولته نزع عقدها بعنف .. وحين حاولت الهرب من المطبخ , فاجأها بطعنةٍ قوية في ظهرها .. أسقطتها ارضاً , محاولةً بجهد إلتقاط انفاسها المتسارعة ..
لكن هذا لم يمنعه من سحب العقد من رقبتها , والهرب لخارج المنزل .. تاركاً والدته تنزف حتى الموت !

في هذه اللحظات .. علت أصوات الدقّات 12 لساعة الحائط في الصالة .. ومع كل رنّة , أعادتها ذاكرتها الى حدثٍ مهم حصل في حياتها , كشريطٍ سريع مرّ امام عينيها المغلقتين : ((حيث رأت حفل زفافها بوالده .. ثم ولادتها له .. وشجارها مع زوجها بعد إكتشاف خيانته .. ثم تطلّقها منه في المحكمة.. وتوديعه الأخير لإبنه المراهق , قبل سفره للخارج مع حبيبته .. وعلاقتها بإبنها المراهق التي تدهورت كثيراً بعد الطلاق .. حيث عادت ذاكرتها الى يوم طردها ابنها (15 سنة) من غرفتها , بعد دخوله المتكرّر عليها وهو يحاول إضحاكها بنكته السخيفة .. ثم صراخها عليه في عمر 18 بعد تأخّره بالسهر مع اصدقائه .. امّا الشجار الأعنف فكان في عمر العشرين , حين تجرّأ على سؤالها عن سبب كرهها له ؟ فأخبرته : بأنه نسخة عن والده , وسيكون حتماً خائناً لزوجته المستقبلية وأباً سيئاً لأطفاله .. ثم تذكّرت كيف تغيّرت معاملته لها بعد هذه المشاجرة .. وقراره الصادم بترك الجامعة في سنته الأخيرة , والعمل كأجير في إحدى الورشات ..وانخراطه مع شلّة شباب أفسدوه بالمخدرات .. ثم اليوم الذي طردته فيه من بيتها , بعد تشبّهه بعبّاد الشياطين وتصرّفاتهم المرعبة)) .. 

وفجأة ! توقفت ذكرياتها مع انتهاء الرنّة 12 للساعة ..
فقالت في نفسها بحزن , وهي تلتقط نفسها الأخير : 
((قتلني ابني العاقّ ! وأصبحت الآن مستعدة للرحيل , فخذني اليك يا إلهي)) 
ثم أغمضت عيناها .. 

لكن حين فتحتهما من جديد .. رأت نفسها واقفة في غرفة نومها .. وقبل ان تستوعب ما حصل , فتح ابنها الباب وقد عاد الى سن العشرين ! وكان يستأذنها بأدب للخروج مع اصدقاء جامعته .. لكنها ما زالت تشعر بالخوف منه , فأجابته وهي ترتجف : 
- رجاءً أخرج من غرفتي يا جوزيف  
فسألها باستغراب : ما الخطب يا امي ؟!

ودون إرادةٍ منها , تحوّل خوفها لغضبٍ مفاجىء (لعلمها بأنه قاتلها في المستقبل) :  
- فقط اريدك ان تغرب عن وجهي !!
فسألها باستغراب وحزن : لما تعاملينني هكذا يا امي ؟! 
فإذا بها تُعيد ذات الإجابة التي قالتها له قبل سنوات , وبأنه شبيه والده الخائن ..
فخرج من المنزل وهو يشتعلّ غضباً ! 

وفجأة ! تبدّل الزمان والمكان .. فإذا بها تعود الى المطبخ في زمن الحاضر , وهي تلبس فستانها الأحمر الذي قُتلت فيه ! 
فنظرت بخوف الى ساعتها , لتجدها الساعة 12 الا عشر دقائق .. فعلمت بأن جوزيف قادماً اليها بعد قليل .. فأرادت الهرب بسرعة من المنزل .. لكن قبل فتحها باب المطبخ .. دخل عليها جوزيف وهو يحمل السكين .. فتراجعت للخلف , وهي تفكّر في نفسها بفزع: 
((الأحداث تتكرّر من جديد ! فهل سيقتلني مرة اخرى ؟)) 

وقبل ان يتفوّه بأيّةِ كلمة .. أسرعت بنزع عقدها وإعطائه له , وهي تقول بخوفٍ شديد :
- خذه وارحل من هنا , ارجوك 
فوضع العقد في جيبه , وهو متفاجىء بنجاح خطته بهذه السرعة ! قائلاً لها:
- ممتاز ! .. على فكرة , سأنام هذه الليلة في سريري , فقد اكتفيت من نومي بالشارع 

فأسرعت بالقول : لا !! لا اريدك في بيتي
فاقترب منها وهو يقول بلؤم : هذا منزل والدي , وليس بيتك
فلم تجد نفسها الا وهي تردّ عليه بعصبية : 
- اللعنة عليك وعلى والدك الخائن !!
فإذا به يهجم عليها , صارخاً بغضب : 
- قلت لك الف مرة بأن لا تشتمي والدي !!!

وطعنها بقوّة , لتختلط صرخاتها مع دقّات الساعة 12 ..
وبينما كانت تحتضر على ارضيّة المطبخ , كان ابنها في طريقه الى محل الذهب لبيع العقد .. 

واثناء إستماعها للرنّة العالية الأخيرة للساعة , لامت نفسها قائلةً :
((لقد أفسدت فرصتي الثانية بالحياة .. فأرجوك يا ربي , هبّني فرصة أخرى , فأنا لا اريد الموت)) 

وحين فتحت عيناها .. وجدت نفسها في غرفتها , في نفس اليوم الذي تشاجرت فيه مع ابنها العشرينيّ الذي اراد الخروج مع اصدقائه .. 
فأجابته هذه المرة , دون النظر اليه : 
- إذهب اينما تشاء 

وقد ضايقه جوابها الجافّ الغير مبالي , فأغلق بابها بغضب ..واتجه نحو الباب الخارجيّ .. 
وهنا تذكّرت امه حلقةً نفسيّة شاهدتها بالتلفاز : عن حاجة اولاد المطلقين الى اهتمامٍ مُضاعف .. 

ورغم انها مازالت خائفة منه , الا انها لحقته قبل خروجه من المنزل واحضنته من الخلف بحنان .. ممّا جعله يحتضنها هو الآخر , بعد ان انهار بالبكاء :
- كنت احاول منذ إنفصالك عن والدي إضحاكك وإخراجك من كآبتك , لكنك لم تعطيني أيّة فرصة ! .. فأنا لا اريدك ان تكرهينني فقط لأني اشبه والدي في ملامحه , فطباعي مختلفة تماماً عنه .. ولا ذنب لي بما فعله بنا !

فبكت امه وهي تقول : 
- سامحني بنيّ لأني اهملتك لوقتٍ طويل , لكن الطلاق دمّرني كثيراً 
جوزيف : امي كلانا ضحيّة والدي , فلا داعي للعيش في آلام الماضي .. دعينا نعيش حياتنا سعيدين 
- وكيف !
- ما رأيك لو نخرج الآن للتسوّق ؟ .. انا وانت فقط 
- وماذا عن اصحابك ؟
جوزيف مبتسماً : سأتصل وأعتذر منهم , لا تقلقي .. هيا جهّزي نفسك , لأننا سنمضي اليوم كلّه في الخارج 

ثم مرّت أحداثٌ سريعة في خيال الأم عن علاقتها بإبنها التي تحسّنت كثيراً بعد ذلك اليوم , وكيف أصبح باراً بها .. وكيف كانت سعيدة بتخرّجه , وباللحظة التي أعطائها فيها اول هدية من راتبه في شركةٍ هندسيةٍ محترمة .. كما إحتفالاتهما سويّاً بأعياد الميلاد ورأس السنة .. 

وفجأة ! توقفت الذكريات , لتجد نفسها في المطبخ بفستانها الأحمر المشوؤم .. فنظرت الى ساعتها بفزع , لتجد الساعة قاربت على 12 ظهراً .. فأرادت الهروب من المنزل , قبل قيام ابنها بقتلها .. لكن ما ان فتحت الباب الخارجيّ , حتى ظهر ابنها برفقة سيدة جميلة وهما يحملان علب البيتزا , حيث قال لأمه مبتسماً :
- أردّت انا وزوجتي الإحتفال معك بمناسبة حملها

الأم بدهشة : ماذا ! هل تزوجت ؟!
جوزيف باستغراب : امي ! هل أُصبت بالزهايمر المبكّر , ام هي خدعة اول ابريل ؟ 
زوجته : خالتي .. هل سنبقى على الباب ؟ فالبيتزا أحرقت يدايّ
الأم بارتباك : آه آسفة , ادخلا ..

واثناء وضع الزوجان الصحون لبدء تناول الطعام , كانت الأم تستمع لدقّات الساعة 12 بارتباكٍ شديد .. 
لكن فزعها تبدّد , بعد مرور خمس دقائق على موعد قتلها !

فجلست على الطاولة لتناول طعامها , وهي تقول بنفسها باستغراب:
((لقد نجحت في تغير الأحداث ! ..كل ما كان عليّ فعله هو إحاطة ابني بالحنان والإهتمام , الذي أعطاه وأعطاني فرصةً أخرى بالحياة .. فشكراً لك يا ربي لاستجابتك دعوتي))

ومسحت دمعتها دون ان يلاحظ ابنها وزوجته ذلك , لانشغالهما بحوارٍ حول تنظيم حياتهما لاستقبال طفلتهما الجديدة , اللذان قرّرا تسميتها بإسم جدتها التي ما زالت مندهشة لتغيّر مستقبلها الفجائي المُتجه نحو السعادة المطلقة التي لطالما حلمت بها ! 

الجمعة، 13 سبتمبر 2019

رسومات طفوليّة

تأليف : امل شانوحة


خيالٌ يغيّر الواقع !

طلبت معلمة الصفّ الثالث الإبتدائي من الطلاّب رسم طقسهم الحارّ .. فرسم الجميع شمساً ساطعة .. ما عدا جيم (8 سنوات) فضّل رسم المطر .. وما ان انتهى من تلوين لوحته , حتى هطلت امطارٌ غزيرة ! .. فأسرع الطلبة الى خارج الفصل , بعد ان سمحت لهم المعلمة بذلك .. 

بينما اقترب جيم منها وهو يحمل رسمته , قائلاً بفخر :
- انا من جعلتها تُمطر , أنظري الى رسمتي ..
فابتسمت المعلمة : يالها من صدفةٌ جميلة يا جيم , والآن إنزل الى الساحة للعب مع اصدقائك
فنزل مغتاظاً لأنها لم تصدّقه ..
*** 

في المنزل .. وبينما كان جيم يدرس في غرفته , سمع نقاشاً حادّاً بين والديه .. فتذكّر ما حصل معه في الفصل .. فأخرج كرّاسته ليرسمهما متعانقين , وقلباً كبيراً فوقهما .. 

وفجأة ! إختفى صوت الشجار .. وحين تلصّص من شقّ الباب , رآهما يضحكان بسعادة في الصالة ! 
فابتسم قائلاً في نفسه :
((فعلتها ثانيةً ! يبدو ان رسوماتي تغيّر كل شيء .. لكني لن أخبر أحداً , كيّ لا يسخروا مني))
***

في يوم العطلة , ذهب مع والده الى السوق .. وحين مرّا بجانب محل لبيع الحيوانات , أعجبته قطة صغيرة .. لكنه رفض شرائها له ! 

واثناء إنشغال والده بوضع الأغراض في صندوق السيارة .. اسرع جيم بإخراج كرّاسته الجديدة التي اشتراها للمدرسة ..ورسم نفسه وهو يحتضن القطة .. 

فإذّ بوالده يتجه نحو المحل (وكأنه منوّم مغناطيسياً) .. ليعود الى السيارة , حاملاً القطة ذاتها التي أعجبته ! .. فعاد جيم الى بيته سعيداً بهديته 
*** 

ومرّت الأيام .. إستطاع جيم من خلال رسوماته : جعل امه تطبخ له الطعام الذي يحبه , مع السماح له بتناول الكثير من الحلويات (على غير عاداتها الصحيّة) .. كما قبل والده مضاعفة مصروفه المدرسيّ , دون أدنى إعتراض ! 

وكذلك استخدم قدرته الخارقة لإجبار طالبة جميلة على تغير مقعدها والجلوس بجانبه , لتصبح بعد فترة صديقته المقرّبة .. دون أن يُخبرها بسرّ رسماته التي تغيّر الواقع دون سببٍ واضح ! 
*** 

وذات يوم , طلبت المعلمة من الصفّ رسم إعصارٍ قويّ .. فرفض جيم القيام بالواجب , معللاً خوفه من أن تتسبّب رسمته في تدمير المدرسة والمنازل التي حولها .. فسخر الطلاب منه , وعاقبته المعلمة بالطرد من الفصل

واثناء وقوفه هناك , رسم غاضباً في كرّاسته : موت المعلمة بحادث سير , لإحراجه امام اصدقائه 
***  

في صباح اليوم التالي , واثناء إستعداده للذهاب للمدرسة .. أخبرته امه بأن المديرة ارسلت إعلاناً على جوّالات الأهالي : بأن اليوم عطلة 
جيم بدهشة : كيف ! فنحن لدينا امتحانٌ مهم 
فأجابته امه بتردّد : معلمة الرسم .. ماتت البارحة بحادث سيارة 

فتراجع جيم للخلف بدهشة ! .. ثم انهار باكياً بين احضان امه :
- لم اقصد قتلها !!
- لم أفهم !
فأخبرها بشأن رسمته .. فربتتّ على ظهره بحنان :
- جيم , لا شأن لك بالحادث .. وإن كان ما تمنّيته شيئاً سيئاً , الا انه قدرها .. فقمّ بتبديل ملابسك كيّ نذهب للعزاء .. فبيتها لا يبعد كثيراً عن هنا , وزوجها صديق والدك
***

في العزاء .. رأى جيم ابنة المعلمة الصغيرة وهي تبكي لفراق امها , فأحسّ بذنبٍ كبير .. وأخرج كرّاسته (التي أصرّ على جلبها معه) وبدأ برسم معلمته وهي تحتضن ابنتها .. 

وانتظر طويلاً , لكنها لم تعدّ الى بيتها !.. فاقترب من والده الذي كان يقدّم التعازي لصديقه (زوج المعلمة) وهمس له : 
- رسمت المعلمة حيّة , لكنها لم تعدّ الى الآن .. لماذا ! 
فأجابه والده بصوتٍ منخفض : الأموات لا يعودون الى الحياة يا جيم ..(ثم اعطاه مفاتيح السيارة) .. قلّ لأمك ان تعيدك الى المنزل , لأني سأبقى قليلاً مع صديقي 
***

بعد خروجهما من منزل العزاء .. طلب جيم من والدته ان تأخذه الى قبر معلمته ..

وفي السيارة .. رسم جيم معلمته في الجنة , قائلاً في نفسه بحزن : 
((طالما انني لم أستطع إعادتها الى الدنيا , سأتمنى لها السعادة في السماء))
***

حين تركته امه بجانب القبر (بناءً على طلبه) وضع رسمته امام الشاهد , وهو يمسح دموعه :
- رجاءً سامحيني يا معلمتي , أعدك ان لا ارسم شيئاً سيئاً بعد اليوم 

وقد أثّرت الحادثة كثيراً على جيم الذي بدأ يحرص على إنتقاء رسماته , آخذاً عهداً على نفسه بأن لا يستخدم موهبته للإنتقام من الأشخاص الذي يكرههم  
***

وفي إحدى الأيام ..أخذته امه الى عيادة جارهم طبيب الأسنان لقلع سنّه .. وبعد عودته , دخل غرفته وهو يقول :
- ليس عدلاً ان يعاني الأطفال من هكذا اوجاع !

وأخرج كرّاسته ليرسم طفلاً بأسنانٍ بيضاء سليمة , كاتباً فوقها :
((اسنان صحيّة لكل اطفال العالم)) 
***

بعد شهرين , زارهم جارهم  .. فسمعه جيم وهو يشتكي من قلّة العمل (لأنه مختصّ فقط بأسنان الأولاد) حتى بات يُفكّر بالإنتقال من المنطقة , لعلّه يجد عملاً في مكانٍ آخر .. 

فأسرع جيم الى غرفته ومزّق تلك الرسمة .. ثم ذهب الى جاره (الذي يحبه) وألحّ عليه بفتح عيادته لاستقبال المرضى من جديد ..
والده معاتباً : جيم !! جارنا يعلم ما عليه فعله , فلا تتدخّل في شؤون الكبار
جيم : رجاءً ابي , انا متأكّد ان اموره ستتحسّن غداً
الطبيب : ولما تعتقد ذلك يا جيم ؟
فاضطّر جيم للكذب :  شاهدت ذلك في المنام , واحلامي لا تكذب ابداً
فابتسم الطبيب بحنان : حسناً , لأجلك فقط سأأجّل فكرة السفر قليلاً 

وبالفعل لم تمضي ايام الاّ وامتلأت عيادته بالأولاد الذين قدموا مع اهاليهم لإصلاح اسنانهم المسوّسة .. 

ممّا أراح جيم من تأنيب الضمير .. فهو وان كان يتمنى الصحّة للجميع , الا انه لا يرضى بتوقف آلاف الأطبّة والممرّضين عن مزاولة عملهم الإنسانيّ ! 
*** 

وفي أحد الأيام  .. رأى امه تبكي اثناء محادثتها لأخيها الأكبر المُنخرط في الجيش .. وبعد إغلاقها الهاتف , إقترب منها جيم قائلاً:
- هل تريدينني ان أُحضر خالي عن طريق رسمه عائداً الينا بالطائرة؟
فابتسمت امه بحزن : ليت الأمر بهذه السهولة يا جيم , لكنه يُحارب على الجبهة , وأخاف ان يُقتل هناك 

ثم دخلت غرفتها باكية .. فذهب الى غرفة اخته الكبرى وسألها عن الحرب الذي يُشارك خالهما فيها .. فأخبرته بأن الوضع خطير ومعقّد , وربما تستمر الحرب لسنواتٍ طويلة .. فسألها : 
- لوّ افترضنا انك تملكين موهبةً سحريّة , فماذا ستطلبين ؟ 
فكّرت قليلاً , ثم قالت : السلام العالميّ 
جيم : وماذا يعني ذلك ؟!
اخته : يعني لا حروب على وجه الأرض 

وبعد دخول غرفته , قال في نفسه : ((الآن عرفت ما عليّ رسمه)) 
وأخرج كرّاسته وألوانه , ورسم كرةً أرضيّة بابتسامةٍ عريضة !
***

في اليوم التالي .. ضجّت الصحافة والعالم بخبر المصالحة الفجائية بين الدولتين المتخاصمتين ! حيث ظهر الرئيسان في مقابلةٍ على الهواء مباشرةً يسلّمان على بعضهما , بعد ان وقّعا معاهدة سلام بينهما .. 

ومع ذلك لم يعدّ خال جيم الى الوطن , رغم مرور اسبوعان على انتهاء الحرب ! ..فسأل اخته عن السبب 
فأجابته : حتى لو انتهت الحرب يا جيم , فسيبقى خالي مُرابطاً مع فرقته على الحدود لفترة من الزمن , لحين تأكّد الطرفان من نواياهما السليمة بعد المعاهدة المريبة التي حصلت بينهما !

جيم : ومتى ستنتهي الحروب نهائياً ؟
- الأمر مستحيل يا اخي ! فمصانع الأسلحة في الدول العظمى ستُشعل المعارك من جديد لأهدافٍ مالية , ممّا سيؤدي يوماً لدمار العالم
جيم : أتقصدين مصانع القنابل ؟! 
- نعم , والآليات الحربيّة من طيران ودبّبابات وغيرها .. (ثم نظرت اليه) .. لما انت مُهتم بهذه الأمور ؟! فحينما كنت في عمرك لم يهمّني سوى اللعب مع اصدقائي 
جيم : هذا لأنك لا تملكين موهبتي 
فسألته بسخرية : وماهي موهبتك ايها العبقريّ ؟ 
- ستعرفونها لاحقاً 
وخرج من غرفتها , وهو يفكّر بطريقة لإحلال السلام العالميّ 
***

وفي غرفته .. رسم إنفجاراً لمصنعٍ كبير , وتدمّر طائرة ودبّابة حربيّة .. ثم كتب فوقها : السلام العالميّ.. (مُتضمناً أخطاءً إملائية) 

وماهي الا ايام .. حتى أذاعت قنوات الأخبار : إنفجار مئات المصانع الضخمة للإسلحة حول العالم ! مُرجّحين بأنها اعمال ارهابية , أدّت لاختفاء قرى بكاملها عن الخريطة بعد إنفجار القنابل النوويّة للمصانع القريبة منها .. وأُعلنت حالة الإستنفار في الدول القريبة , خوفاً من خطر وصول الإشعاعات النوويّة اليها .. 

وشاهد جيم مع اهله في التلفاز : خطابات رئيس دولته وهو ينصح السكّان بضرورة شراء الأقنعة الواقية , والإستعداد للعيش شهوراً في ملاجىءٍ مُخصصّة ضدّ الإشعاعات , والتي تقوم الحكومة ببنائها على قدمٍ وساق ..

ورغم حالة الفزع التي اصابت العالم , الا ان جيم وحده كان يعلم بأن حلّ أزمة التلوّث النوويّ ليس بهذه الصعوبة .. 

وداخل غرفته .. قام برسم الكرة الأرضية وهي تسعل بقوة , لتُخرج دخّاناً ساماً , أطلقته نحو الفضاء .. 

وهذا ما حصل بالفعل خلال شهرٍ واحد , حيث أكّد علماء الطبيعة إختفاء آثار الغازات السامة بعد ارتفاعها بعيداً عن غلاف الكرة الأرضية , خلافاً لخصائصها الكيميائية التي من الصعب تبديدها بهذه السهولة !  

وعمّت الإحتفالات ارجاء العالم لانتهاء هذه الأزمة العصيبة .. ومن بعدها عُقدت إتفاقيات بين رؤساء الدول بعدم فتح مصانع الأسلحة من جديد , حمايةً لكوكب الأرض ..

ورغم هذا الإنجاز الكبير , الا انه لم ينتهي القتل بين الناس ! حيث تفاجأ جيم بمقتل صاحب البقالة القريبة من بيته , بعد سطوٍّ مسلّح حصل ليلة البارحة .. 
فسأل والده محتاراً :
- ابي , لما نقتل بعضنا البعض ؟! الا يوجد حلّ ليعمّ السلام والمحبة بين البشر ؟
- هذا مستحيل يا جيم , فالشيطان لن يسمح بذلك .. فعمله هو التفريق بيننا الى يوم القيامة 
فقال جيم بنفسه بدهشة : ((آه ابليس ! كيف لم أفكّر به من قبل)) 

وأسرع الى غرفته , ليرسم ابليس ميتاً .. 
وبعد ان أنهى رسمته , قال بارتياح : 
- أعتقد بموته سيختلف ابنائه الشياطين فيما بينهم , ويتركونا وشأننا ليعمّ السلام في كل الدنيا

وفجأة ! ظهر له ابليس في الغرفة , وهو يقول غاضباً :
- لقد تجاوزت حدودك يا جيم !! فأنا منعت ابنائي من عقابك لصغر سنك , على أمل ان تنتهي موهبتك الغريبة قريباً .. لكن بعد تجرّأك عليّ , قرّرت عقابك بنفسي

وعجز جيم عن الصراخ لفزعه الشديد من منظر ابليس المرعب , الذي سحبه من ذراعه بقوة .. واختفيا سويّاً من الغرفة !

ليظهر لاحقاً في كرّاسة الصبي : رسمةً جديدة لجيم وهو مسجون داخل قفصٍ مُعلّق فوق فوهة نارٍ ضخمة , بجانب عرش ابليس السعيد بانتصاره على الولد المشاغب 
وفي اسفل الرسمة , كُتبت عبارة : 
((THE END))

الاثنين، 9 سبتمبر 2019

هي ابني !

كتابة : امل شانوحة


حواء المُعذّبة 

وجدوا مذكّراتها المخفية تحت وسادتها , مكتوباً فيها : 
((في البداية كان اسمي نجلاء , لكن الظروف أجبرتني على تبديله بإسم أحمد , رغم ان الناس تعوّدت على مناداتي بالشاب المشوّه ! مع اني ولدّت انثى كاملة الأوصاف , قبل ان يُحوّلني والدي الى مسخٍ مخيف .. فعذابي ابتدأ منذ نعومة اظافري , حيث تعوّد ابي على خلق المشاكل كلما عاد من عمله في المدينة .. الى ان جاء اليوم الذي كسر فيه ذراع امي بعد مشاجرةٍ عنيفة , فاشتكته عند القاضي الذي حكم لها بالطلاق وحضانتي انا وأختي الصغرى .. وهدّدها والدي بالإنتقام اثناء خروجنا من بيته .. من بعدها عشنا شهوراً في منزل خالي , أشعرتنا فيها زوجته بكل الطرق اننا حملٌ ثقيلٌ عليها , رغم اننا ساعدناها بجميع الواجبات المنزلية !.. وفي عصر يومٍ حارّ , عُدّت فيه مع امي من السوق .. إنتابني شعورٌ مخيف قبل صعودنا الى شقة خالي !.. وحين لمحت ابي مختبأً خلف الدرج , علمت بأن شيئاً سيئاً سيحدث من نظرة عينيه الحادّتين .. وعندما ركض باتجاهنا حاملاً كأساً فيه سائلٌ شفّاف , رميت امي ارضاً لينسكب السائل عليّ .. ثم هرب والدي من المبنى , بعد صراخي بعلوّ صوتي من شدّة الألم بعد إحساسي بنارٍ تلتهم وجهي .. إستيقظت بعدها في المستشفى على صرخات امي , بعد ان فكّ الطبيب الشاش عن وجهي المشوّه .. لم افهم ما حصل , الا بعد عودتي الى منزل خالي .. حيث سقطت مغشياً عليّ بعد رؤية وجهي في المرآة , فقد خسرت عيني اليمنى واحترق جزءاً من شعري , وبانت اسناني لذوبان شفّتي العلويّة .. فبات الجميع يتجنّبني ويخاف القُرب مني !.. وماهي الا ايام حتى ارسلنا خالي الى بيته الثاني , لادّعاء زوجته بخوفها على نفسيّة ابنائها من منظري المخيف ! ودون إعتراضها على عيشنا في بيتها الآخر الموجود في القرية التي إحتلّتها فرقةٌ دينية متطرّفة فرضت العديد من قوانينها الصارمة على السكّان .. وفور إنتقالنا الى هناك , إلتزمنا بالحجاب الكامل خوفاً من عقابهم اللاّ إنساني , رغم انني كنت في الحادية عشر من عمري واختي لم تتجاوز السابعة .. وعلمنا لاحقاً انهم فرضوا قانوناً بمنع البيع للنساء , ليصبح السوق للرجال فقط ! وقد حاولت امي كثيراً إفهامهم بأننا نعيش بلا رجل , لكن دون فائدة .. فهم يخافون من المراقبين المتشدّدين المنتشرين في كل مكان .. وفي إحدى الأيام , عادت امي باكية الى البيت لرفضهم بيعها بعد ان نفذ طعامنا .. فدخلت غرفتي ونظرت الى المرآة , وقلت في نفسي :
- ان كان الحجاب لمنع إفتتان الرجال بجمال النساء , فشكلي لن يثير احداً 

وأخذت شفرة الحلاقة وحلقت بقيّة شعري .. ولبست ثوب ابن خالي الموجود في الدرج , والذي ناسب مقاسي .. ثم خرجت الى الشارع دون إخبار امي , بعد سرقتي المال من حقيبتها .. وذهبت مباشرةً الى بائع الطعام الذي ما ان رآني حتى استعاذ من الشيطان ! فأخبرته بإسمي الجديد الذي اخترته وهو أحمد .. وبأن والدي مات محترقاً في منزلنا القديم الذي نجوت منه مشوّهاً .. فصدّق قصتي , وأعطاني طعاماً بسعرٍ بخس .. وحين عدّت الى المنزل , لامتني امي على المجازفة خوفاً من عقابهم في حال علموا بنزعي للحجاب الإجباريّ .. لكنها تعوّدت بعد ايام على الوضع الجديد , وباتت ترسلني في مهمّاتٍ للسوق .. وأصبحت مُعيل اسرتي بعد عملي في ورشة نجارة .. وبدأت حياتي تتغير بشكلٍ جذري , تحوّلت فيها جبراً من فتاةٍ جميلة الى ولدٍ مشوّه .. وعقدت الكثير من الصداقات مع اولاد الحارة لتصرّفي مثلهم بخشونة , خاصة بعد إلتحاقي بمدرسةٍ مسائية , حيث منعوا الدراسة على الفتيات ! .. وحين أصبحت صبية , حاولت إخفاء جسمي الإنثويّ بملابسٍ اضافية أرهقتني كثيراً في فصل الصيف الحارّ .. وبمرور الأيام كبرت اختي لتصبح محطّ انظار النساء , رغم انني كنت أفوقها جمالاً قبل ان أحترق بالأسيد .. وبدأ الخطّاب يتهافتون الى بيتنا للزواج منها , لكنها رفضتهم جميعاً لدلالها الزائد ! بينما كنت أحترق قهراً دون ان يشعر بي أحد .. وكان الشيء الوحيد الذي يربطني بماضيّ كأنثى , هو ابن جارنا القديم (مجيد) الذي كان صديق طفولتي وحبيّ الأول .. لكنه لا يعلم ما حصل لي بعد تركنا المنطقة عقب طلاق والديّ .. الا ان القدر أوصله الى دارنا ! حين قدم مع امه لخطبة اختي , بعد ان اخبرتهم امي بأنني تزوجت وسافرت للخارج .. وبأن الشاب المشوّه الذي فتح لهم الباب , ماهو الا ابنها بالرضاعة ! ويمكنكم تخيّل ألم قلبي وانا اراقب مراسم الخطبة من بعيد , وفرحة اختي بموعد زواجها الذي يقترب كل يوم من الشاب الوسيم الذي كان يوماً ما حب حياتي !.. لكني لن ايأس فمازال هناك يومين للعرس , لذا عليّ إخباره بقصتي غداً.. وان كان حبه الطفوليّ لي صادقاً , سيختارني رغم تشوّهي .. سأحاول , فلا شيء أخسره))

وهنا انتهت مذكرات نجلاء .. اما ما حصل بعدها , فقد رواه مجيد الذي كان آخر شخص تكلّم معها ! 
فنجلاء نفّذت خطتها , ولحقت به فور خروجه مساءً من زيارته لخطيبته .. وأخبرته بكل شيء .. فشعر بالشفقة لما عانته طوال السنوات الماضية , دون ان يُنكر بأنها كانت حبه الأول .. لكنه أخبرها بأنه بات يعشق اختها الصغرى .. ففاجأته بردّة فعلها بعد ان شدّته اليها وقبّلته , دون ان تنتبه لمرور احد مراقبيّ الفرقة المتشدّدة الذي صرخ عليها وهو يوجّه رشّاشه نحوها : ايها المشوّه الشاذّ !!! .. وقبل ان تُفهمه بأنها انثى , إستقرّت رصاصته في قلبها , لتموت بين ذراعيّ حبيبها القديم !

المحزن بالقصة إنها ليست خيالية , بل هي دمج لثلاثة أحداث حقيقية حصلت لفتياتٍ معذّبات في دولٍ فقيرة : 
- فالفتاة التي أحرقها والدها بالأسيد لرفضها العريس , حصلت في شمال الهند  
- امّا الشاب العراقي الذي قُتل على يد داعش , فتقرير الطبيب الشرعي أثبت انه خنثى ..وكان يعمل جاهداً لجمع المال لأجراء عملية قطع عيبه الخلقي , لكنه قُتل لنعومته الزائدة ! 
- اما الفتاة المُتخفية بهيئة ولد , فقد حصلت كثيراً في إفغانستان بزمن طالبان الذي فرضوا قانوناً بمنع البيع للنساء ! ..شاهدوا الفيديو :
  https://www.youtube.com/watch?v=prN8pnsBEnA

الخميس، 5 سبتمبر 2019

سوق المشرّدة

كتابة : امل شانوحة


 
ولادة في المخزن !

هربت المراهقة إنجيلا من منزلها مساءً بعد محاولة زوج امها الإعتداء عليها , مُستغلاً غياب والدتها في زيارة لقريبتها في المستشفى ! 

ومشت في الطرقات بخوفٍ شديد , الى ان وصلت الى منزل صديقتها الذي رفض والدها إدخالها بهذا الوقت المتأخر .. فاحتارت إنجيلا في اختيار وجهتها , وتاهت بالشوارع الى ان أوصلتها قدميها الى سوقٍ ضخمة .. تجوّلت بداخله لتضيّع الوقت , لحين عودة والدتها الى المنزل 

وبعد منتصف الليل .. بدأت الناس بالخروج من السوق الذي أخفض إنارته إستعداداً لإغلاق ابوابه .. 

فأحسّت إنجيلا برغبة لدخول الحمام , لكنها لم تجد سوى واحد مخصّص للعمّال والموظفين .. فتسلّلت اليه .. 

واثناء وجودها هناك , إنطفأت الأنوار ! 
فأسرعت بالخروج , لتتفاجأ بأبواب السوق مغلقة بعد ان علقت بداخله  

وحين حاولت الإتصال (جوّالها) بأمها , وجدت رسالة منها تُخبرها : بأنها ستبيت ليلتها في المستشفى .. فعلمت إنجيلا انه ليس باستطاعتها العودة الى بيت الرجل المنحرف ..لهذا فضّلت البقاء هذه الليلة في السوق 

وحين بدأ نور جوّالها يخفت , أسرعت الى إحدى الأقسام لاختيار كشّافٍ كبير , أنارته بعد ان وضعت بداخله البطاريات .. 
ثم بحثت عن مكانٍ بعيد عن الكاميرات لتنام فيه .. ومن حسن حظها , وجدت باب المخزن غير مقفول .. 

وكانت أخذت من السوق ايضاً سريراً بلاستيكي مخصصً للرحلات البريّة , مدّته على أرض المخزن , بعد ان وضعت الكشّاف امامها خوفاً من الظلام .. لكنها لم تستطع النوم لشعورها بالجوع .. فعادت الى قسم المواد الغذائية .. وكان امامها خياراتٌ كثيرة ولذيذة , لكنها فضَلت أخذ شيءٍ باستطاعتها لاحقاً إعادة ثمنه , فهي ليست بسارقة .... 

فأخذت علبة تونا ورغيف خبز , أكلتهما في المخزن .. ثم نامت بداخل السرير , مُتجاهلة حركة الفئران والحشرات من حولها ! وتعبها الشديد جعلها تغطّ في نومٍ عميق 
***

بعد سلسلة من الكوابيس عن زوج امها , إستيقظت إنجيلا قبيل الفجر .. وفضّلت تخبئة السرير البلاستيكي والكشّاف خلف صناديق المؤن عن إعادتهما مكانهما , لربما احتاجتهما لاحقاً في حال لم تجد مكاناً آخر تبيبت فيه .. 

وانتظرت قدوم الموظف لفتح ابواب السوق .. حينها تسلّلت بخفّة الى الخارج دون ان يلاحظها !
وعادت الى بيتها , بعد تأكّدها من ذهاب زوج امها الى ورشته .. 

بعد إنتهائها من الإستحمام , وصلت امها متعبة من المستشفى .. فأرادت إنجيلا ان تخبرها عن ليلتها العصيبة , لكن امها طلبت منها تأجيل الحديث لحين استيقاظها , وذهبت مباشرةً الى غرفتها !

ومضى الوقت سريعاً , ارادت فيه إنجيلا الخروج من المنزل قبل عودة الحقير من عمله .. فخرجت من هناك , بعد إرسالها على جوّال امها النائمة : بأنها ستدرس عند صديقتها .. ثم عادت مجدداً الى السوق لتضيع الوقت 
***

مع بداية المساء , عادت إنجيلا الى بيتها .. وحين رأت زوج امها يسكر في الصالة , سألته عن والدتها .. فأخبرها انها بغرفتها , فأسرعت الى فوق لتفضحه امامها.. 

لكن حين دخلت غرفة امها , لم تجدها هناك ! وتفاجأت به يقفل عليهما باب الغرفة .. ويقول مترنّحاً :
- وهآقد أصبحنا وحدنا 
فصرخت في وجهه بغضب : اين امي يا حقير ؟!!
- إتصلوا بها من المستشفى وأخبروها إن صحة خالتك تدهورت , فذهبت الى هناك فوراً
- اذاً ابتعد عن طريقي , فأنا ذاهبة اليها
- ليس قبل ان أحصل على مرادي .. (وعاد للشرب من قنينته) .. أتدرين انك تزدادين جمالاً كل يوم .. وأصبحت تشغلين بالي كثيراً.. لهذا اريدك ان تكوني فتاة مطيعة .. 

وحاول الإمساك بها .. لكنها أبعدته بقوة , وهي تصرخ بخوف :
- دعني أخرج من هنا , ايها الفاشل السكّير !! 
وحاولت فتح الباب المغلق , لكنه صفعها بقوة أوقعتها أرضاً .. ثم حملها ورماها على السرير بعنف .. 
ورغم مقاومتها الشرسة له , الا انه ثبّتها بقوة ..
ثم حصل ما حصل .. 
من بعدها غفى سعيداً بعد ان نال مراده , تاركاً إنجيلا منهارة بالبكاء !
*** 

بعد نومه , هربت من المنزل دون ان تنوي العودة اليه مجدداً .. 
لتجد نفسها واقفة امام السوق ذاته ! 
فتجوّلت بداخله بتعبٍ شديد , وهي تُخفي قميصها الممزّق تحت معطفها .. 

ثم قامت بالحيلة ذاتها , حيث اختبأت في حمام الموظفين لحين موعد إقفال السوق .. 

وبعد ذهاب الجميع .. ذهبت الى قسم الملابس مُستعينة بنور الكشّاف ,  لتختار أرخص قميص يناسب مقاسها , لرغبتها في إعادة ثمنه فور إيجادها وظيفة مناسبة (فهي تدوّن كل ما تستلفه في دفترها)

ثم دخلت قسم المأكولات لأخذ علبة تونا وماء .. وعادت الى المخزن , لتنام في سريرها البلاستيكي بعد ان أنهت طعامها .. 
لكنها لم تغفى الا بعد ساعات من البكاء المرير , بعد تذكّرها للإعتداء الذي حصل لها .. وكانت في قرارة نفسها تلوم امها على سوء الإختيار , فهي تزوجت ذلك الوحش رغم إعتراضها الشديد عليه , لأنه لا يليق بمكان المرحوم والدها .. لهذا لم تعد ترغب في رؤية امها ثانيةً .. 

ونامت وهي تعاني آلاماً جسدية ونفسيّة كبيرة , كما الخوف من مستقبلها الغامض !
***

ومرّت الأيام .. كانت إنجيلا تداوم على ضبط جوالها للإستيقاظ قبيل الفجر , للهرب من السوق فور إنفتاح ابوابه .. والعودة اليه مساءً قبيل إقفاله 

امّا في اوقات النهار ..فكانت تقضيها بالبحث عن عملٍ كنادلة في المطاعم المجاورة , لكن دون جدوى ! 
***

في إحدى الليالي .. تفاجأت بجرذٍ كبير في حمام العمّال .. في البداية أغلقت عليه الباب , وذهبت للنوم .. لكنها استيقظت في منتصف الليل وهي بحاجة ماسّة لدخول الحمام .. فاستجمعت قواها , وأخذت عصا بيسبول من قسم الألعاب , وهي تقول في نفسها :
- سأتخيّله زوج امي الحقير 

وحين رأته امامها , إعتراها غضبٌ شديد وهي تتذكّر لحظات الإعتداء عليها .. وانهالت ضرباً على الفأر :
- خذّ ايها اللعين !! متّ ايها الحقير !! سأنتقم منك لأنك اذيتني ايها القذر !! 

وحين استعادت رشدها , كانت قضت تماماً على الجرذ ..
فتنفّست الصعداء .. وبعد إستخدامها الحمام , أخذت ادوات التنظيف التابعة لعامل النظافة , ونظّفت المكان .. ثم رمت عصا البسبول المحطّم في كيس النفايات , بعد ان دوّنت سعره في دفترها .. وعادت الى النوم 
***  

وفي إحدى الأيام , بعد إغلاق السوق .. وجدت قميصاً وسخاً لأحد موظفيّ السوق مرمي في المخزن , فغسلته ونشرته بحانبها .. ثم نامت وهي تفكر بخطةٍ جديدة .. 

وفي الصباح الباكر .. دخلت السوق وهي تلبس قميص العمّال .. فأوقفتها إحدى الزبائن لتسألها عن مكان غرضٍ معين .. فدلّتها عليه , لأنها تحفظ اقسام السوق جيداً .. ثم اتجهت الى إحدى الأقسام لتجد صندوقاً على الأرض , فقامت بإفراغ محتوياته بترتيب فوق الأرففّ , وكأنها إحدى الموظفين .. وحين رآها عاملٌ شاب , وضع صندوقاً آخراً امامها وهو يقول : 
- رتّبي هذه العلب ايضاً

فقالت , وهي تحاول عدم النظر اليه : حسناً سأفعل 
لكن قبل إبتعاده , نظر اليها بتمعّن قائلاً : 
- انت موظفة جديدة , اليس كذلك ؟!
فردّت بارتباكٍ شديد : نعم نعم 
فقال بابتسامة : اهلاً وسهلاً بك معنا .. ما اسمك ؟
- إنجيلا 
- وأين بطاقتك ؟
واشار الى البطاقة المعلّقة على قميص العمل .. فأجابته بقلق :
- أضعتها البارحة , وأخاف ان علم المدير ان يخصم من معاشي .. فأنا مازلت موظفة جديدة
- اذاً تعالي معي
إنجيلا بخوف : الى اين ؟!
- لا تقلقي , سأعطيك بطاقة جديدة

وأخذها الى مكتبٍ موجود في الطابق العلويّ للسوق .. وهناك قام بطبع اسمها على الحاسوب .. ثم قصّه ووضعه داخل بطاقةٍ معدنية .. لتقوم فوراً بتثبيتها على قميصها وهي تخفي سعادتها .. 
فقال لها الموظف : 
- لا تخبري احداً بما قمت به , كيّ لا نتعاقب سوياً

إنجيلا بارتياح : بالطبع !! شكراً جزيلاً لك , سيد مارك ..(بعد ان قرأت اسمه من بطاقته)
- مارك فقط , فأنا طالبٌ جامعيّ ..وأعمل هنا بعد الظهر لأوفّر قسط جامعتي .. وانت ؟
إنجيلا بحزن : لم اكمل دراستي الثانوية 
- هل انت متزوجة ؟
فكذبت قائلةً : نعم
- اذاً دعينا نُكمل عملنا قبل ان تشعر المراقبة بغيابنا 

ومنذ تلك اللحظة .. إجتهدت إنجيلا بالعمل داخل السوق , وعقدت صداقات متعددة مع زملاء العمل .. مع حرصها الدائم على الإبتعاد عن أعين مراقبة العمّال , واختلاقها حججاً واهية لعدم حضور إجتماعات الإدارة كيّ لا ينكشف امرها

وأخبرت الجميع بزواجها لأنها لا ترغب بتودّد زملائها الشباب , فهي باتت تكره الرجال بسبب ما فعله زوج امها الحقير ..
*** 

بعد شهرين من عيشها في المخزن , إضطرت مساءً لاستلاف كاشف الحمل من قسم الصيدلية بالسوق .. وحين ظهرت النتيجة , إنهارت بالبكاء بعد علمها بحملها الذي سيصعّب حياتها ! فمن المستحيل إخفاء طفل في المخزن , وهذا يعني ان عليها إيجاد مسكنٍ جديد قبل الولادة .. 

في اليوم التالي .. أخبرت زملائها بحملها , فباركوا لها واهدوها الملابس والعاباً للطفل 
***

بنهاية الشهر .. إتجه الموظفون لقسم الإدارة لاستلام معاشاتهم , فيما عدا إنجيلا التي أخبرت زملائها بأنها قبضت راتبها قبل ايام لظروفها الخاصة .. واضّطرت للكذب لأنها تعلم بأن اسمها غير موجود في ملف الموظفين .. ومع ذلك بدأت تخصم ما تأكله بالمجّان من راتبها الوهمي ضمن حساباتٍ وضعتها في دفترها 
***

في شهرها السادس .. مرّت بأصعب يومٍ في حياتها , حين استيقظت على صوت انكسار زجاج واجهة السوق ! 
وحين خرجت من المخزن , تفاجأت بلصّين ملثّمين يقتحمان السوق .. فأسرعت بضغط زرّ الإنذار قبل هروبها من الباب الخلفيّ .. 

وفي تلك اللحظات , صادف مرور سيارة شرطة في المنطقة والذين اسرعوا بالقبض على اللصيّن اثناء محاولتهما الهرب من السوق .. 

في تلك الليلة لم تستطع إنجيلا العودة الى المخزن , بعد امتلاء السوق برجال الشرطة الذين علموا من التحقيقات إن جرس الإنذار أُطلق من الداخل ! ولحسن حظ إنجيلا كانت كاميرا المخزن معطلة , لهذا لم يكتشفوا من قام بهذا العمل البطوليّ 

وامضت انجيلا اسبوعاً كاملاً في منزل زميلتها , بحجّة مشاكل بينها وبين زوجها الوهمي ..  

وبعد هدوء العاصفة .. عادت إنجيلا للنوم مجدداً في المخزن 
***

حين أصبحت في شهرها التاسع .. إلتقت وجهاً بوجه بمراقبة العمّال , رغم انها حاولت طوال النهار الهروب منها ..والتي سألتها : 
- انت !! ما اسمك ؟
فأجابتها بارتباك : إنجيلا
- كيف تعملين وانت بشهرك الأخير ؟!
- مضّطرة لذلك , فزوجي عاطلٌ عن العمل هذه الفترة .. كما انني لا اشعر بالتعب اثناء .. 
المراقبة مقاطعة : إذهبي فوراً الى المدير واطلبي إجازة امومة , فنحن لا نريدك ان تلدي في السوق
- حاضر سيدتي

وبعد ذهابها , قالت إنجيلا بارتياح :
- جيد انها لم تأخذني بالقوة للإدارة , والا إنكشف امري .. عليّ ان ابتعد هذه الفترة عن انظارها قدر الأمكان 
***

بعد ايام , وقبيل الفجر .. أحسّت إنجيلا فجأة بآلام الولادة وهي نائمة في المخزن .. وحاولت كتمان أوجاعها قدر المستطاع , الى ان وصلت لمرحلة لم تعد تتحمّل فيها الألم .. وصرخت بعلوّ صوتها طالبةً النجدة , لكن لم يسمعها احد ! 
***

في الصباح الباكر .. وفور فتح الموظف أبواب السوق , تناهى الى سمعه بكاء طفلٍ قادم من بعيد ! فتتبّع مصدر الصوت , الى ان فتح باب المخزن , ليشاهد إنجيلا مغماً عليها وبجانبها طفل صغير
***

إستيقظت إنجيلا في المستشفى .. وحين حضنت طفلها بحنان , دخل عليها الشرطي برفقة مدير السوق
وما ان رأتهما حتى قالت :
- سأعترف لكما بكل شيء

وأخبرتهما عن زوج امها المتوحش , وتشرّدها بالشوارع .. وقرارها بالعيش في المخزن لتسعة شهور .. كما أخبرت مديرها عن الدفتر الذي كتبت فيه كل شيء أخذته من السوق

فقال لها الشرطي : بما انك في 17 من عمرك , فسنُجبر زوج امك على القيام بفحص الأبوّة .. وان تأكّدنا بأن الطفل ابنه , سنزجّه في السجن بتهمة الإعتداء على قاصرة .. كما انني اتصلت بأمك , وهي في طريقها اليك  

وبعد ذهاب الشرطي , قال لها المدير :
- بعد ان أسعفناك من المخزن , قمت بمراجعة سريعة لما صوّرته الكاميرات خلال الشهور الماضية .. وشاهدت كيف عملتي بجهدٍ وتفاني .. عدا عن إنقاذك السوق من اللصوص 
- كانت ليلة عصيبة , خفت بها كثيراً 

المدير : لوّ أخبرتني بما حصل , لكنت كافأتك عن بطولتك
- خفت ان تطردني , كما فعلت المطاعم المجاورة
- مستحيل , ليس بعد شجاعتك النادرة .. (ثم سكت قليلاً) .. ما استوقفني بالفيديوهات , انك لم تتناولي سوى علبة تونا كل ليلة ! أمعقول انه لم يستهويك اكل الحلويات وعلب الطعام الفاخرة ؟!
إنجيلا : بلى , لكني نويت منذ البداية إعادة ثمن الأشياء التي إستلفتها من السوق .. وستجدهم مدوّنين في دفتري الموجود بجانب سريري البلاستيكي في المخزن
- سيكون قليلاً جداً بالنسبة لراتبك لتسعة شهور

إنجيلا بدهشة : راتبي !
- نعم , فأنت ستعملين عندي فور إنتهاء اجازة الأمومة
إنجيلا باستغراب وسعادة : أحقاً !
- أكيد !! فجميع المراقبون والموظفون أجمعوا على تفانيك بالعمل , عدا عن محبة الناس للتعامل معك 
إنجيلا بسعادةٍ غامرة : شكراً جزيلاً لك , واعدك ان اكون موظفة مثالية .. وأحلف بأنني لن اسرق ثانيةً طوال حياتي

وبعد ذهاب المدير .. دخلت امها باكية بعد ان أعلمتها الشرطة بما حصل 
- كنت بحثت عنك كثيراً يا حبيبتي , لكن زوجي .. أقصد اللعين !! أخبرني بهروبك مع عشيقك بعد ان وجدكما سوياً في منزلي
إنجيلا بغضب : أهذا ما قاله لك ؟!!
الأم وهي تمسح دموعها : نعم , وأراني ندوبه بعد عراكه مع حبيبك
- انا التي خدشته وعضضّته اثناء مقاومتي له وهو يقوم ..

امها مقاطعة : رجاءً حبيبتي لا تكملي , فأنا أشعر بذنبٍ كبير لوثوقي بأنه سيكون والداً جيداً لك
إنجيلا وهي تشير للطفل : وهاهو أبلاني بإبنه , فما العمل الآن ؟!
- هل تريدين التخلّص من الطفل ؟ .. يمكنني الإتصال بجمعية مختصّة بهذه الأمور  
فنظرت إنجيلا للطفل النائم , وقالت :
- لا , هو ابني وسأحتفظ به
- اذاً عودا معي الى البيت , لأعتني بكما
- وماذا عن زوجك المتوحش ؟

الأم : لقد قبضت الشرطة عليه قبل قليل , وأودعوه السجن لحين صدور نتائج فحص الأبوّة.. وفي حال كان هو والد الطفل .. 
إنجيلا مقاطعة بغضب : بالطبع ابوه !! فلا احد لمسني سواه
- سامحيني يا بنتي وحاولي ان تنسي كل شيء , فموعد الإمتحانات إقترب وعليك العودة للدراسة.. 
- لا !! لن اعود لمدرستي الثانوية .. فقد قرّرت العمل لأصرف على ابني , وهذا قراري النهائي

فرضخت الأم لقرار ابنتها التي عادت في اليوم التالي مع طفلها الى البيت 

وبعد انتهاء إجازتها , عادت إنجيلا للعمل في السوق بعد حفلٍ مفاجىء اقاموه زملائها إحتفالاً بعودتها .. فهم اعتبروها بطلة لما واجهته وحدها في الشهور الماضية , رغم صغر سنها ! 
***

مع مرور الأيام .. حصلت إنجيلا على الكثير من المكافآت والترقيات جعلتها إحدى المراقبين المحترفين عن العمّال في السوق الذي زادت شعبيته بعد عرض قصتها في مقابلةٍ تلفزيونية , حيث أثنى الجميع على قرار المدير الحكيم بتوظيفها دون عقابها .. وازدادت اعداد مرتاديّ السوق الذي عُرف لاحقاً بإسم : سوق المشرّدة ! 

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...