تأليف : امل شانوحة
الخصام الأبديّ
- لا !! لا اريد دخول النار
- اذاً إحصلي على مسامحة كل من أذيتهم في حياتك
- وهل أذيت الكثيرين ؟!
- انت وحدكِ تعرفين الإجابة .. معك اسبوعاً واحداً قبل قبض روحك
إستيقظت زهرة (الستينيّة) مرتعبة من كابوسها ! فعزرائيل الذي رأته في منامها أمهلها اسبوعاً قبل حرقها بالنار ، وهذا يعني انها ستموت بعد ايام ..
وعلى الفور !! بدأت تسترجع ذكرياتها مع الأقارب والأصدقاء :
- حسناً سأبدأ بذنوبي القريبة ، فذاكرتي ضعيفة .. بعدها أستذكر الماضي
وكان أقرب ذنبٍ إقترفته : هو رفضها الإعتناء بحماتها العاجزة قبل سنتين ، عقب منع زوجها إحضارها الى منزلها
فلبست على عجل مُتوجهةً الى دار المسنين ، للحصول على مسامحة وغفران حماتها (90 عاماً)..
***
اثناء جلوسها في سيارة الأجرة ، تساءلت في نفسها :
((ترى هل ستتذكّرني ؟! فهي تعاني من الزهايمر .. أيعقل ان تكون غاضبة مني لإجبار ابنها الوحيد على وضعها هناك ؟.. ما ذنبي ان كانت الحياة معها صعبة ، فهي فضوليّة للغاية .. وتدخّل بشؤون المنزل ، مما يضايقني كثيراً .. لا أظنني اخطأت بحقها ، فلست صبيّة للإعتناء بها ..))
وقبل طلبها من السائق إعادتها الى منزلها (بعد تغيّر رأيها) سمعت صوتاً في اذنها ، يُشابه صوت عزرائيل في المنام :
- بقيّ اسبوعٌ واحد !!
فانتفض جسمها رعباً ..
والتفت اليها السائق :
- هل انت بخير ؟
وهي تحاول إلتقاط انفاسها :
- رجاءً إسرع ، اريد رؤية حماتي قبل خسارة فرصتي الأخيرة
ورغم عدم فهم السائق ما تقصده ! الا انه أوصلها سريعاً الى هناك
***
توجهت زهرة الى غرفة حماتها ، بعد ان أخبرتها الممرّضة بأنها في ايامها الأخيرة
وجلست امام سريرها ، وهي تمسك بيدها :
- هل تسمعينني يا خالة ؟.. انا زهرة ، كنّتك الوحيدة
لكن العجوز لم تستيقظ ! فأكملت زهرة كلامها :
- كنت اريد الإعتناء بك ، لكني لم استطع .. فظهري يؤلمني كثيراً ، ولا يمكنني تنظيفك .. ارجوك سامحيني .. لا ادري ان كنت سأموت قبلك .. أتمنى أن لا تكوني غاضبة مني
ففتحت العجوز عينيها ببطء .. وما أن رأتها ، حتى صرخت بفرح :
- سعاد !!
فاستغربت زهرة ! لأن سعاد هي اخت زوجها التي ماتت بعمر العاشرة بحادث سير ، فلما تناديها بإسم ابنتها المتوفاة ؟!
- لا يا خالة .. انا زهرة
العجوز بإصرار : لا !! انت سعاد .. حبيبتي ، اشتقت اليك
وحاولت شدّها اليها ! فلم يكن امام زهرة إلاّ الإقتراب من حماتها التي حضنتها بقوة وهي تبكي بمرارة :
- حبيبتي سعاد ، لا تعلمين كم الحياة بائسة من دونك
ففهمت زهرة إن حماتها فقدت ذاكرتها تماماً ، لهذا لم تجد مانعاً من مجاراتها :
- كيف حالك امي ؟
العجوز باكية : لا تدرين كم اشتقت اليك ، يا ابنتي
- وانا ايضاً
وصارت العجوز تحدّثها عن ذكرياتها الماضية .. وكيف كانت تمشّط شعرها الطويل قبل ذهابها للمدرسة .. وعن مشاكلها البريئة مع اخيها (زوج زهرة)
فقبّلت زهرة يد حماتها وهي تُشفق عليها ، لشوقها الكبير لإبنتها الراحلة .. وفي نفس الوقت أحسّت بحنان أمومتها التي لم تشعر به من قبل ! فهي منذ زواجها عاملتها بحذر ، ولم تفكّر يوماً بمعاملتها كأمٍ ثانية .. وشعرت بالحسرة لأنها خسرت سنواتٍ طويلة بجفائها لحماتها التي تبدو حنونة في لحظاتها الأخيرة !
وظلّت معها .. الى أن سكتتّ العجوز فجأة ! .. ثم نظرت للسقف وهي تقول بدهشة:
- سعاد ! كيف تطيرين فوقي ، وتجلسين بجانبي بنفس الوقت ؟!
ففهمت زهرة بأن حماتها تحتضر .. فأسرعت بالإتصال بزوجها ، لترك عمله والقدوم سريعاً لوداع امه ..
ووصل زوجها سريعاً للدار ، وهو متفاجئ من وجود زوجته هناك ! والتي تركته بمفرده مع امه قرابة ساعة ، الى أن فارقت الحياة ..
***
بعد انتهاء العزاء ، قالت زهرة بقلق :
- يا الهي ! تأخّرت ثلاثة ايامٍ بالعزاء .. ومازال هناك اشخاص اخطأت بحقهم ، وعليّ طلب الغفران منهم .. مثل كنّتي التي أتعبتها كثيراً ، لتعلّقي الشديد بإبني (الكبير) .. عليّ الذهاب لمنزلها ، لطلب السماح منها
***
في الصباح الباكر .. تفاجأت الكنّة بزيارة حماتها زهرة التي قاطعتها منذ اربع سنوات ، عقب شجارٍ سخيف على تربية الحفيد !
زهرة : إسمعيني يا ابنتي .. بعد موت حماتي ، شعرت بخطأي اتجاهك ... فليس من حقي التدخل بينك وبين ابني .. لأني ايضاً أبعدّت زوجي عن امه ، ولا يجوز فعل الشيء ذاته معك .. ارجوك سامحيني ، فأنا أشعر بقرب أجلي..
الكنّة مقاطعة : لا تقولي هذا ! فأنت بالستين من عمرك ، يعني مازلتِ في قوتك
- صدّقيني يا ابنتي .. أشعر ان الحياة لا قيمة لها ، دون الغفران بيننا .. رجاءً سامحيني على تدخلاتي بحياتك ..ولن أخرج من بيتك ، قبل سماعي ذلك
فأمسكت يد حماتها : مُسامحة يا حماتي دنيا وآخره
فحضنتها زهرة ، وهي تشعر بالراحة بعد نجاح مهمّتها الصعبة
***
عادت زهرة الى منزلها وهي تفكّر بأخطائها الماضية .. ثم اتصلت بإبنها الصغير ، لتطلب منه زيارتها في المساء
وعلى طاولة العشاء ، فاجأته بالقول :
- انا موافقة على زواجك من زميلتك
ابنها بصدمة : أحقاً امي ! ألم ترفضي ، لأن عائلتها لا تناسبنا ؟!
زهرة : صحيح .. يومها تعدّيت عليها بألفاظٍ جارحة ، مع ذلك لم تردّ الإساءة لي ، وهذا يدلّ على حسن تربيتها .. سأتصل بأمها الآن لتحديد موعد خطبتها ، ويُفضّل أن يكون غداً
زوجها بصدمة : غداً ! لما هذا الإستعجال ؟
زهرة : لأنه لا وقت لديّ
ورغم عدم فهم زوجها ما تقصده ! الا ان ابنها حضنها بارتياح :
- امي الغالية !!
(وقبّل رأسها ، بعد ان كانت فرّقته عن حبيبته لسنتين)
***
عادت زهرة مساء اليوم التالي وهي تتنفّس الصعداء ، بعد إتمام خطبة ابنها الصغير الذي تركته يُكمل سهرته مع عائلة خطيبته
وقبل نوم زهرة ، قالت لزوجها :
- أتمنى ان لا تكون غاضباً مني
- ولما أغضب بعد جمعك الحبيبين ؟ هل رأيتهما سوياً ؟ بديا كطائريّ الحب
زهرة : نعم ، أتمنى لهما السعادة الدائمة .. (ثم أمسكت يد زوجها) ..رجاءً أتمّ زواجهما بعد رحيلي
- لا تقولي هذا ! فمازلتِ يافعة
- فقط عدّني بذلك
زوجها : أنت سترين عرسهم ، وعرس اولادهم .. لا تقلقي بهذا الشأن
فقالت بنفسها بضيق : ((أنت لا تعلم ما ينتظرني))
^^^
في تلك الليلة ، شاهدت مناماً لعزرائيل يقول :
- مازال هناك امرأة تكرهك كثيراً ، ولن تدخلي الجنة قبل مراضاتها
- من هي ؟
- هي تقف هناك
ولمحتها من بعيد ..
قبل استيقاظها وهي تقول :
- كانت لديها وحمة على وجهها.. آه نعم ! تذكّرتها .. اميرة .. الطالبة في مرحلة الإبتدائي التي استهزأت كثيراً من فقرها .. يا الهي ! كيف سأعثر عليها خلال يومين فقط ؟!
***
في اليوم التالي .. أمضت زهرة نهارها كلّه ، وهي تجري الإتصالات بزميلاتها القدامى .. الى ان حصلت اخيراً على رقم اميرة
واتصلت بها في ليلتها الأخيرة (من مهلة الإسبوع) وهي تقول :
- الو اميرة .. كيف حالك ؟
- من معي ؟!
- زهرة .. زهرة الجوهري .. كنت معك بمرحلة الإبتدائية..
- آه نعم ! تذكّرتك .. ماذا تريدين ؟
زهرة : اريد الحصول على غفرانك ، لتنمّري عليك..
اميرة مقاطعة : تنمرّك فقط ! أنسيتي كيف دمّرتي حياتي ؟
زهرة بصدمة : دمّرت حياتك ! كنا اطفالاً .. واستهزأت من ملابسك المهترئة ، هذا كل شيء !
اميرة بقهر : وماذا عن إشاعتك التي نشرتها بالمدرسة ؟ بأنك رأيتني راكبة خلف شابٍ على درّاجته الناريّة .. ووصل الخبر لأبي الذي ضربني بعنف .. ثم سحب ملفّي من المدرسة ، ومنعني من إكمال دراستي .. وزوّجني صديقه ، ظنّاً بأنني على علاقةٍ محرّمة .. وزوجي الحقير !! أكّد إشاعتك ، بعد إخباره ابي إنه ستر عليّ بليلة العرس ، رغم انني كنت فتاة بريئة ! وبذلك خسرت احترام والدي الذي قاطعني حتى وفاته ! وبقيت زوجة اللعين ، الى ان توفيّ بعد بلوغي سن الأربعين.. وحرمني الأمومة لعقمه .. والآن بكل وقاحة تطلبين الغفران ؟ لن اسامحك لا دنيا ولا آخره .. وأتمنى ان تحترقي بالجحيم !!
وأغلقت الهاتف ، تاركةً زهرة بصدمةٍ كبيرة ! فما قالته عن الشاب ، كان على سبيل المزاح .. ولم تعرف ما حصل بعدها .. وظنّت ان اميرة انتقلت لمدرسةٍ اخرى ، دون علمها بتدمير حياتها !
وظلّت زهرة تبكي طوال الليل ..الى ان توقف قلبها اثناء نومها ، لترى عزرائيل يقول :
- لن تري الجنة لفترةٍ طويلة ..
ثم سحب قدميها بعنف ، باتجاه الجحيم !