تأليف : امل شانوحة
علاجٌ استثنائي
عُرف آدم (الطبيب النفسيّ الأربعينيّ) بحيّوته ونشاطه في عيادته التي اُشتهرت بوقتٍ قصير ، بعد علاجه إضّطراباتٍ مُعقّدة ومُزمنة
عدا عن سفره المتكرّر لأوروبا لحضور أهم الندوات الطبّية لاستشارة كبار الأطباء النفسيين ، واكتشاف علاجاتٍ جديدة بعلم النفس..
حيث اُفتتح عيادته في منطقةٍ شعبيّة لعلاج افراد العصابات والمتسرحيّ حديثاً من السجون ، لتحسين المجتمع من خلال تقويم سلوكهم المنحرف..
وحظيّ آدم باحترام اهالي المجتمع الفقير لتقاضيه اجراً زهيداً ، مراعاةً لظروفهم الصعبة
وبسببه تحسّنت طباع المنحرفين وانخفضت المعارك الدمويّة منذ قدومه لمنطقتهم ، بعد تمكّنه من إقناع بعضهم بدخول مصحّات الإدمان .. مما ضايق مروجيّ المخدرات لتناقص زبائنهم !
ومع هذا لم ينتقموا منه ، بعد علاجه رئيسهم من عقدة طفولته المستعصيّة بالمجّان والذي أمر افراد عصابته بحمايته وعدم مضايقة مرضاه ، لمبادئه الإنسانيّة النادرة !
***
في إحدى المؤتمرات الطبّية .. لاحظ آدم رجلاً عجوزاً بشعرٍ وذقنٍ طويلة يجلس امامه وهو منزعج من سماعه نظريّاتٍ طبّية للعلاج الحديث ، متمّتماً بسخرية :
- طرقكم لن تجدي نفعاً
وبعد انتهاء المؤتمر .. جلس آدم بجانبه ، ليسأله باهتمام :
- هل انت طبيبٌ نفسيّ ؟
العجوز : أبدو كمشرّد اكثر من بروفيسور ، اليس كذلك ؟
- بروفيسور !
- نعم ، فأنا خبيرٌ روسيّ بعلوم الطاقة والتخاطر
آدم : وهل لديك طرقاً استثنائية للعلاج ؟
- برأيّ الأدوية النفسيّة تضرّ الجسم والعقل على المدى البعيد ، واحياناً تسبب الإكتئاب الذي يدفع المريض لإنهاء حياته .. ولا حلّ سوى باقتحام ذاكرتهم حرفيّاً ، لإصلاح الضرّر من الداخل
- لم افهم !
فأخرج العجوز كتيّباً صغيراً من حقيبته :
- هذه النسخة الوحيدة من كتابي : ((العلاج الشامل))
- ولما لم تنشره ؟
الروسي : لأن دور النشر إعتبرته كتاب شعوذة .. والحق معهم ، فالتعويذة المكتوبة داخله أخذتها من غجريّةٍ عمياء .. وبها يمكنك الإنتقال لعقل المرضى لفهم مشاكلهم القديمة التي نسوها بمرور السنين ، والمُسجّلة في اعماق ذاكرتهم ، والتي تدفعهم مستقبلاً لارتكاب الأخطاء والجرائم .. ستفهم كل شيء بعد قراءتك كتابي .. الآن سأعود للفندق ، فظهري يؤلمني من طول الندوة التافهة
فوضع آدم الكتيب في حقيبته ، على امل قراءته فور عودته بلاده..
لكن بمجرّد فتح عيادته ، حتى ازدحمت بمرضاه ..مما أشغله عن الإطلاع على تفاصيل الكتاب الغامض
***
بعد شهور .. حُدّد مرض آدم بالكورونا ، وتمّ حجره داخل منزله الذي فيه عيادته لمدى اسبوع ، لحين انتهاء أعراض الإنفلونزا الحادة..
فاقترحت سكرتيرته تعيّن ممرّضة له ، الا انه أصرّ على البقاء وحده.. فاكتفت بوضع طعامٍ جاهز في ثلاّجته ..
وقبل رحيلها .. طلب منها إقفال منزله ، خوفاً من خروجه لضيقٍ في صدره ..
فوافقت على أخذ مفاتيحه ، وهي تشعر بالقلق عليه !
***
لم يكن الأمر سهلاً في الأيام الثلاثة الأولى بعد شعوره بالحرارة والبرد في الوقت ذاته ! عدا عن الصداع القويّ وآلام المعدة..
وبعد زوال الأعراض القوية ، كان عليه الإنتظار يومين لفترة نقاهة ..وهو وقتٌ كافي لقراءة كتيّب العجوز الذي انبهر بمعلوماته الجديدة التي تبدو من المستقبل !
حيث نصّت تقنيّته الفريدة : على تنويم المريض مغناطيسياً .. ثم قراءة التعويذة لتحويل روح الطبيب الى نسمة هواءٍ تدخل من انف المريض باتجاه عقله .. واثناء وجوده هناك ، عليه تدمير الملفات القديمة السيئة الموجودة في ذاكرة المريض.. وترتيب بقيّة الملفات حسب أهميتها ، وكأنه ينظّف ارشيفاً قديماً او مكتبة مهملة !
وقد اثارت الطريقة الغامضة حماس الطبيب في تلك الليلة الماطرة
فقرّب المرآة الكبيرة من سريره .. وأخذ يتلو التعويذة وهو ينظر لبؤبؤ عينيه المنعكسة في المرآة .. على امل الدخول الى عقله واكتشاف ذكرياته التي نسيّها في الماضي ..
وظلّ يردّد التعويذة لحين شعوره بدوارٍ مفاجىء ، جعلته يغفو فوق وسادته .. ليقع الكتاب امام سريره على الصفحة الأخيرة التي فيها تحذيراً خطيراً:
((إحفظ تعويذة الخروج جيداً ، كيّ لا تعلق بمتاهة الدماغ للأبد))
لكن آدم لم يصل لتلك الصفحة ، فهو بدأ التجربة قبل انهاء الصفحات الأخيرة للكتاب !
***
ما رآه آدم كان أشبه بمنامٍ غريب ! حيث طفى داخل جسمه ، وصولاً لرأسه .. الى ان وصل لمتاهةٍ متشابكة لزجة ، عرف انها دماغه
فتساءل بقلق :
- كيف سأعرف طريقي للذاكرة بين الدهاليز المتشابهة ؟!
وبدأ يمشي بحذر ، مُتجنّباً الصعقات الكهربائيّة المُرسلة بين الخلايا الدماغيّة التي يبدو انه يستخدمها حالياً لكشف الغاز الماضي
آدم : سأتوجه نزولاً للفصّ الصدغي بقشرة المخّ ، لأصل لذاكرتي
***
ما ان وصل هناك .. حتى وجد سرداباً طويلاً ، فيه عدة غرف .. وكل واحدة منها ، عليها لافتة بالفترة الزمنية التي مرّت بحياته
آدم : وصلت اخيراً لأرشيف الذكريات ، من اين ابدأ ؟ لأتجه لغرفة الطفولة ، فأنا لا اذكرها جيداً
وما أن فتح الغرفة ، حتى وجدها مليئة بالملفّات المُبعثرة المُتربة ..
آدم : هل كانت طفولتي فوضويّة لهذه الدرجة ؟ حسناً لأبدأ بشكلٍ عكسيّ
وبدأ بإرشيف حياته الحاليّة .. وفتح غرفة المرحلة الوظيفيّة ، ليجد كل شيءٍ مرتباً ومنظّماً ..لكنها مكتظّة بملفات مرضاه الذي عالجهم او ارسلهم للمصحّ النفسي لأمراضهم المستعصيّة ..
آدم : هذه الملفات تأخذ حيّزاً كبيراً من ذاكرتي .. وطالما أحتفظ بملفاتهم في حاسوبي ، فلا داعي لإشغال بالي بهم .. لكن اين ارمي الملفات الزائدة؟
وما أن قال ذلك ، حتى فُتحت نافذة بممرّ الإرشيف ، في داخلها آلة لتمزيق الأوراق..
- آه جميل ! هنا أتخلّص من ذكرياتي اللّا لزوم لها
وصار يرمي عدة صناديق لملفات مرضاه
وبعد ساعة ، نظّم ارشيف عمله جيداً ..
- غريب ! لا اشعر بالإرهاق رغم مرض الكورونا .. يبدو وضعي مختلفاً في الدماغ ، عمّا أعيشه في الواقع .. حسناً ، لأرتّب غرفة اخرى .. سأدخل ارشيف الدراسة الذي كنت متفوقاً بها
وكانت غرفة مرحلته الدراسيّة مليئة بالأبحاث الجامعية .. فأخذ يقرأ احدها ، وهو يقول ساخراً :
- كم كانت ثقتي كبيرة وانا اجادل استاذي بهذه النظرية ، التي استوعبت فشلها بعد ممارستي الطب .. جيد إن الدكتور أطال باله عليّ .. حسناً لأتخلّص من هذه الفوضى ، فمعظم مفاهيمي الطبّية تغيّرت بعد تعاملي مع المرضى المُعقّدين نفسيّاً
ثم خرج للمرّ ، لرميّ الأوراق والأبحاث في آلة تمزيق الورق .. لتسقط صورة من الصندوق الأخير ، لم يرها من قبل .. وهي صورته في المستشفى
- آه ! الآن فهمت لما نسيت الكثير من ذكرياتي
(فهو تعرّض لحادث سيرٍ بعد تخرّجه الجامعي ، أفقده الوعيّ لعدة اسابيع .. ولهذا تحمّس لمعرفة ماضيه الذي لم يعد يذكره جيداً)
***
بعد انهاء عمله في ارشيف ماضيه القريب .. لم يبقى امامه سوى غرفتين : فترة المراهقة والطفولة المتواجدان بممرٍّ ضيّق بإنارته الخافتة .. ليلاحظ اسلاك الكهرباء تمرّ من فوقه ، كأنه يمشي في زقاق منطقةٍ شعبيّة مخيفة!
ودخل اولاً لإرشيف المراهقة :
ليتفاجأ بصورٍ له مُعلّقة على الجدار ، مُصاباً برضوضٍ وكسور في جسمه!
- يبدو حادث السير أنساني تلك المرحلة تماماً ! فهل أصبت بلعبة كرة القدم في مدرستي ، ام تعرّضت لشيءٍ خطير ؟!
وبدأ يقرأ دفتر مذكراته القديم الذي تخلّص منه بعد انتقاله للجامعة .. ويبدو أن عقله مازال يحتفظ بنسخةٍ منه !
وفي داخله وجد صورة لثلاثة مراهقين .. وعلى الفور تذكّرهم كونهم متنمّرين مدرسته الثانوية الذين اغتاظوا من تفوّقه الدائم ، لهذا اعتادوا على تمزيق دفاتره .. وحين حاول التصدّي لهم ، أوسعوه ضرباً حتى كسروا ذراعه .. حينها فقط وافقت امه على نقله لمدرسةٍ جديدة ، استطاع الحصول فيها على منحته الدراسيّة في جامعته الفاخرة
- كم انا مسكين ! عشت سنتين سيئة مع الفاشلين الثلاثة .. أتمنى لوّ اعرف مصيرهم ، وهل أكملوا تعليمهم ام أصبحوا فاشلين كما توقعت لهم ؟ .. الأفضل رميّ ذكرياتهم ، فلا حاجة لتذكّر تلك الأيام السيئة بحياتي
وبعد رميه الكثير من اغراض المراهقة التي لا لزوم لها ، في آلة تمزيق الأوراق .. لم يعد امامه سوى فترة الطفولة
***
قبل دخوله إرشيف الطفولة ، وجد باباً احمراً بالزواية مكتوباً عليه : ((العلاقات العاطفية)) ..
ورغم معرفته أنه لم يفكّر يوماً بتلك المواضيع الحسّاسة ، لانشغاله الشديد ببناء مهنته .. الا انه اعتراه الفضول لمعرفة ان كان أحب من قبل او لا .. ليجد الباب مقفلاً بإحكام !
وحين حاول خلعه ، ظهر كلامٌ فوقه : ((مرتبط بالقلب))
فلم يفهم معناه ! قائلاً بنفسه :
- إن خرجت من هنا ، سأسأل الطبيب الروسي عما تعنيه العبارة .. لأكمل تنظيف آخر غرفة في ذاكرتي
وكانت غرفة الطفولة هي الأسوأ ، حيث امتلأت بالغبار والحشرات والإنارة الشبه مُعطّلة..
وقبل بدئه بفتح الصناديق .. صدحت فجأة موسيقى هادئة ، أرعبت كيانه!
وعلى الفور عادت اليه الذكريات ، كعاصفةٍ هوجاء !
فهذه الموسيقى أرعبت مئات الأولاد في عنبرهم الكبير كل ليلة ! لأنها تعني أن المدير أنهى شربه الخمر ، وهو قادم لاختيار احدهم لإكمال سهرته معه .. وعادةً ما يختار اولاداً تحت سن السابعة ، كيّ لا يفضحوه عند الأساتذة .. مع استخدامه تهديداتٍ مرعبة بقطع السنتهم ، او رميهم بغرفة الفئران التي ستلتهمهم احياءً إن اخبروا احداً بما يحصل في القبو المعتم
وهنا ادرك آدم تجنّبه للعلاقات العاطفية طوال حياته ، رغم وسامته وانجذاب الفتيات له :
- هل انا طفلٌ مُتبنّى ؟ لما لم تخبرني عائلتي بذلك ؟
وأسرع بتفتيش الملفات القديمة للتأكّد من شكوكه
ليجد دفتر ذكرياته ، مكتوباً بخطٍ كبير مليء بالأخطاء الإملائيّة .. فتذكّر انه كتبها في سن السابعة بعد شجارٍ بين والديه ، عقب حمل امه بأخته الصغرى .. حيث اراد والده إعادته للميتم بعد علاجها من العقم ..
يومها لم يفهم بكاء امه ورفضها التخلّي عنه ..لكنه فهم الآن سبب تغيّر والده بعد ولادة اخته التي بالغ بتدليلها ، بعكسه ! حتى كان يضربه كلما اقترب منها ..
وبسبب جفاء والده ، أكمل حياته منعزلاً بين كتبه .. لحين حصوله على المنحة الجامعية التي سمحت له بالإنتقال لسكن الطلاّب
ومن يومها لم يلتقي بعائلته الا بالمناسبات .. حتى عندما زار والده اثناء احتضاره بالمستشفى ، أخبره انه سامحه على معاملته الجافة معه .. ليفاجئه ردّ والده :
- انا ابٌ جيد لمن هو من لحمي ودمي
ولم يفهم آدم مقصده ، حتى هذه اللحظة
وقبل نزول دمعته .. إرتجف جسمه من جديد ، بعد سماعه الّلحن المخيف الخاص بالمدير .. وتذكّر انه تمّ الإعتداء عليه ثلاث مرات ، قبل تبنّيه من عائلته الحالية.. وربما هذا هو السبب لإيجاده باب العلاقات مقفلاً قبل قليل
فحمل صندوق آلام طفولته ، ورماه حزيناً في آلة قصّاصة الورق ، مُتخلّصاً بذلك من ذكريات الميتم ومعاملة والده القاسية ..
ولم يحتفظ في غرفة الطفولة الا بصندوقٍ واحد يضمّ ذكرياته مع امه الذي ظلّت حنونة عليه ، رغم قلّة زياراته لها ولأخته
***
بعد تنظيفه جميع الغرف من ذكرياته السيئة ، خرج متعباً .. ليجد باب العاطفة فُتح لوحده !
وما أن دخله ، حتى اشتمّ عطراً مميزاً
- انه عطر ساندي
(صديقته بالجامعة التي نافسته على المراكز الأولى ، فكلاهما يعشقان الدراسة وقراءة النشرات الطبّية من المكتبة)
ولم يكن بالغرفة الا ملفاً صغيراً ، فيه قصاصات رسالتها التي أعطته اياها يوم التخرّج
- ترى لما مزّقتها ؟ وماذا كتبت لي ، فأنا لا اذكر شيئاً
وأخذ يرتّب القصاصات ، الى ان ظهرت الرسالة التي اخبرته فيها عن حبها الكبير له .. وانها حاولت كثيراً التقرّب منه دون فائدة ، حتى صدّقت الإشاعة التي أطلقها زملائه عليه بأنه لا يهتم بالفتيات ! لهذا وافقت على اقتراح والدها بالزواج من طبيب قريتهم رغم كبر سنه .. لكنه سيبقى دائماً حبها الأول والوحيد
فمسح دمعته :
- وانا أحببتها ايضاً ، أمعقول إن حادث السير أنساني عواطفي اتجاهها ؟ ام ما حصل بطفولتي جعلني بارد المشاعر مع النساء ؟ ..لا !! لست معقّداً نفسيّاً .. وسأسافر الى قريتك للبحث عنك يا ساندي .. أتمنى ان يكون لديّ فرصة لتصحيح خطأي معك
وبعد خروجه من الإرشيف
- اين اذهب الآن ؟ وكيف اعود عالمي .. ما كان عليّ تجربة التعويذة دون حفظ طريقة الخروج ، فلا وجود لمرآة في دماغي .. يا لا غبائي ، ما الحلّ ؟
وفكّر مطولاً ، الى ان تذكّر تعليمه السكرتيرة التخاطر الذهنيّ
وجلس بهدوء ، مغلقاً عينيه .. وبدأ بإرسال رسالة قصيرة لعقلها :
((ساعديني ، انا في ورطة))
وظلّ يردّدها ، الى أن غفى على ارضيّة دماغه اللزجة ..
***
في الصباح الباكر ، إقتربت السكرتيرة من غرفة الطبيب .. لتجده نائماً بعمق .. فحاولت إيقاظه بكل الطرق دون فائدة !
فهمست بخوف :
- دكتور آدم !! تخاطرت معي البارحة ، أتذكر .. ارجوك استيقظ ، انت تخيفني !
فوصل صوتها الى دماغه ، ليستيقظ هناك .. ويعاود التواصل معها ذهنيّاً ، بإرساله عبارة جديدة مختصرة :
((رقم الروسي في جيبي))
في البداية لم تفهم ما قصده ! وبعد تفتيشها ثيابه في الخزانة .. وجدت بطاقة الطبيب الروسي في معطفه..
فاتصلت به ، لتخبره المشكلة.. فسألها الروسي إن كانت هناك مرآة قريبة من آدم .. فاستغربت سؤاله ! لأنها اضطّرت إبعادها عن سريره ، خوفاً من وقوعها على رأسه
فقال الروسي :
- جيد انني قدمت البارحة الى بلدكم .. أعطني العنوان ، لأصل اليه .. فهو لن يستيقظ الا معي
***
بعد ساعة .. وصل العجوز الروسي للعيادة ، وطلب منها الخروج من الغرفة ..
وبدأ يهمس بإذنه بتعويذة الخروج ، ليفتح آدم عينيه بصعوبة ..
الروسي : هل قمت بالتجربة قبل حفظك للتعويذة الأخيرة ؟
آدم : نعم ، هذا خطأي ..
- إحذر من فعلها ثانية ، والا ستعلق في غيبوبة دائمة ..ماذا حصل بالداخل ، هل نظّمت حياتك السابقة ؟
آدم بحزن : واكتشفت اموراً لم يكن عليّ تذكّرها
- تجاهلنا الماضي سيعكس سلباً على مستقبلنا
- يبدو عليّ التحدّث مع عدّة اشخاص لإنهاء مشاكل الماضي
الروسي : وماذا بشأن التقنية التي علّمتك إياها ؟
- سأستخدمها مع المرضى الذين فشلت بعلاجهم سابقاً
- ليس قبل اتقانك طريقة الخروج من عقلهم بأمان
آدم : بالطبع !! فأنا لا اريد ان أعلق داخل ذكرياتهم المخيفة ، فأنا مازلت ارتجف من ذكرياتي الشخصيّة
- أحسنت !! وبذلك تصبح أفضل طبيب نفسيّ في البلاد
- ولما لم تطبّق انت النظرية ، وفضّلت اعتزال الطب ؟
الروسي بحزن : لأني استخدمتها لعلاج حبيبتي ، لأتفاجأ بماضيها الحزين .. وبدل ترتيبي ارشيفها ، رميت كل ذكرياتها بآلة قصّاصة الورق .. لأستيقظ من التجربة على خبر انتحارها ! فاغلقت عيادتي نهائياً.. وكلما اشتقت للطب ، تابعت المؤتمرات الغبية .. اما انت !! فشابٌ قويّ الإرادة ، ويمكنك إكمال طريقتي العلاجيّة .. بشرط !! أن تحلّ مشاكل مرضاك بعنايةٍ وتركيز ، دون استعجال النتائج .. والآن سأتركك تحلّ امورك العالقة في ماضيك
- سأفعل بعد انتهاء حجري الصحّي
- لقد انتهى بالفعل ، يمكنك الخروج متى تشاء .. فالزمن داخل العقل يختلف عن واقعنا .. وعادةً تستمرّ الرحلة داخل دهاليز المخّ قرابة يومين
آدم : يا الهي ! هذا مخيف بالفعل
- برأيّ إخترّ من يستحق من مرضاك علاجه بهذه التقنيّة المتطورة ، فهواجسهم المرعبة قد تؤذيك نفسيّاً.. (وتوجّه نحو الباب) .. سأبقى في بلدكم إسبوعاً .. إن اردّت الإستفسار عن شيء ، إتصل بي ..
***
في الصباح الباكر ، عاد آدم الى قريته لزيارة امه .. وسألها معاتباً:
- لما لم تخبريني إنّي متبنّى بعمر الخامسة ؟
- لم ارغب بجرح مشاعرك
- ليتني عرفت ، لما لمت والدي على جفائه معي
الأم : هو ارادني ان أعيدك للميتم ، لكني لم اخبره بالجروح التي شاهدتها على جسمك عند تحميمك اول مرة .. (وسكتت)
- نعم ، عرفت بشأن مدير الميتم الشاذّ
الأم : لهذا لم أضغط عليك بشأن الزواج
فسكت آدم قليلاً ، قبل أن يسألها :
- مارأيك بساندي ؟
- صديقتك بالجامعة ؟
- نعم
الأم : كانت تحبك بالفعل ، وزارتني قبل عودتها لقريتها
- لم تخبريني بذلك ؟
- لأنها ارادت التأكّد من ميولك ..
آدم بعصبية : اللعنة على من نشر الإشاعة القذرة عني ، مع اني لم ارتبط بأحد طوال دراستي !
- انت عانيت كثيراً من المتنمرين يا بنيّ
- لا يهم امي .. اساساً ساندي تزوجت وانتهى الأمر
وهنا دخلت اخته ، وهي تقول :
- بل ترمّلت قبل شهرين ، ولم تنجب من ذلك العجوز .. فهي تواصلت معي لمعرفة اخبارك .. يبدو انها لم تنسك يوماً
آدم : وما اخبارها ؟
اخته : أصبحت طبيبة نفسيّة بإحدى مدارس الصغار .. سأعطيك رقمها للإتصال بها
الأم : أتمنى رؤية عرسك قبل وفاتي ، بنيّ
آدم : عليّ اولاً زيارة أحدهم ، قبل اتخاذي لهذا القرار المصيريّ.. اراكما لاحقاً
وذهب دون اخبارهما بما يخطّط له
***
وتوجه للميتم الوحيد بقريته الذي أصبح بإدارة امرأة حسنة السيرة والسلوك ، والتي اخبرته بوجود المدير القديم بدار العجزة بعمر التسعين !
فقاد سيارته الى هناك ، ورغم حلول المساء .. الا انه استطاع الدخول الى غرفة المدير الذي كان يشاهد التلفاز في غرفته الصغيرة ..
فأطفأ آدم التلفاز بعصبية ، وجلس على الكرسي القريب من سريره ، قائلاً بغضب :
- هل تتذكّرني ايها اللعين ؟
المدير : من انت ؟
- احد اطفال الميتم الذي اعتديت عليه ثلاث مرات في القبو المظلم
فردّ العجوز بلا مبالاة : إعتديت على الكثيرين من اولئك الحثالة ، ولن أتذكّرهم جميعاً
فأمسك آدم بياقة قميصه بعنف :
- لولا كبر سنك لقتلتك حالاً ، ايها القذر !!
المدير : ستكون غبياً إن سُجنت لقتل رجلٍ على مشارف الموت
- لما فعلت ذلك بالصغار ، ايها المنحرف ؟
العجوز : كنت أقلّد زوج امي ، فهو اذاني طوال طفولتي ومراهقتي
- ولما لم تخبر أمك ؟
- لأنها تخشى فقدانه ، فهي كانت متعلّقة جداً بذلك الحقير
آدم : هذا لا يعطيك الحقّ للإعتداء على طفلٍ بسن الخامسة
- وانا كنت بعمر الثالثة ، وأعرف ألمك جيداً
آدم بعصبية : كان عليك ان تتعالج ، بدل نشر سمومك بعقول المساكين الصغار .. فبسببك لم اتزوج حتى الآن !!
العجوز بلؤم : ولن تقدر ابداً ، لأنك ستبقى معطوباً طوال حياتك .. فما حصل بطفولتك لن تنساه مطلقاً ، اسألني انا
- ليتك تحوّلت الى امرأة بدل تدميرنا جميعاً
العجوز : لا احد يمكنه التحوّل للجنس الآخر ، حتى لو غيّرنا هيئتنا الخارجية بعملياتٍ جراحية .. فالربّ خلق نوعين من الكروموسومات : الذكر (XY) ، والأنثى (XX).. يعني آدم وحواء ، ولم يخلق جنساً ثالثاً او رابعاً .. لهذا أمّا أن تتحوّل لشاذٍّ غريب الأطوار ، او تزيل فكرة الزواج من رأسك تماماً
فلم يخبره آدم بالتقنيّة الحديثة التي استطاع بها تنظيف ذكرياته الماضية ، قائلاً له :
- قريباً سأرسل لك صور زوجتي واطفالي
العجوز بلؤم : بالتوفيق لك
وضحك ساخراً ، اثناء خروج آدم وهو يكبت غضبه بصعوبة
***
في اليوم التالي ..توجه آدم لقرية ساندي ، ليجدها تقرأ في حديقة منزلها .. وما ان رأته ، حتى سارعت باحتضانه بشوقٍ كبير
ورغم حضنها الدافىء الحنون ، الا انه لم يشعر بشيءٍ حيالها ! مما جعله يقلق من كلام المدير ، فمشاعره للجنس الآخر مُعطّلة بالفعل ! لكنه تجاهل قلقه ، وأمسك يدها وهو يسألها :
- هل توافقين على زواجنا بنهاية الإسبوع ؟
فصرخت موافقة بحماسٍ شديد ، وهي تحتضنه بقوة .. ومع هذا لم يشعر بشيء يحرّك قلبه ، الذي يبدو تحوّل لحجرٍ صلب !
***
في الموعد المحدّد .. إنتقلت امه واخته واصدقائه لعرسه في قرية العروس..
وتمّ تجهيز كل شيء لاستقبال العريس الذي كان يراقبهم من بعيد وهو يلبس طقمه الرسميّ داخل سيارته ، بعد ارتباكٍ حادٍّ أصابه !
وكلما حاول تخيّل ليلته ، تذكّر قبو الميتم المعتم ! فهل سيتمكّن من إسعاد ساندي ، ام سيخذلها تماماً ..
فاتصل على الطبيب الروسي لإخباره المشكلة :
- كنت نظّفت ارشيف عقلي تماماً ، فلما تعود ذكريات طفولتي لتعكير مستقبلي ؟
الروسي : من خلال تعويذتي يمكنك تنظيف العقل ، دون الجروح العاطفيّة .. فالقلب كما تعلم لديه ذاكرة تفوق العقل بكثير ، وأظن ما حصل بطفولتك محفوراً بين جدران قلبك ، ولا يمكنك نسيانه ابداً .. برأيّ لا تظلم المسكينة التي ستصدّها عنك بكل الطرق .. (ثم سكت قليلاً) .. أتدري يا آدم .. جيد انك اتصلت الآن ، فقبل قليل أخبرني الطبيب انني في بداية مرض الزهايمر ، ولا اريد الموت خرِفاً .. لهذا انتحاري سيجعلك المالك الوحيد للتعويذة ، حاول أن تطوّرها بخبرتك الطبّية .. الى اللقاء يا صديقي
آدم بخوف : إنتظر !!
ليسمع من جواله طلقةٍ ناريّة ، وصرخة المتواجدين بعيادة الدكتور:
- العجوز انتحر !!
فأغلق آدم جواله بضيق ، بعد موت الشخص الوحيد الذي يفهم مشكلته..
وشعر برغبة لرميّ جواله بدرج السيارة ، والنزول لإتمام الزواج مهما حصل ..
وحين فتح الدرج ، وقع كتيّب الروسي .. فخطرت بباله فكرةً مجنونة ، للهروب من موقفه العصيب .. وأسرع بتمزيق الصفحات الأخيرة من الكتاب الذي لم يختمه بعد ، والتي فيها تعويذة الخروج
ثم نظر من مرآة سيارته الأمامية الى بؤبؤ عينه ، وبدأ يتلو تعويذة الدخول لذاكرته..
وفجأة نظر حوله ، ليجد نفسه امام متاهة دماغه الملتويّة.. فاستلقى على أرضيّتها اللزجة دون حراك ، مُستسلماً لقدره
***
بعد دقائق ، لمحه احد المعازيم نائماً في سيارته .. فتجمّع الأهل والأصدقاء حوله ، محاولين إيقاظه دون فائدة !
ليخبرهم طبيب الطوارىء لاحقاً : بأنه دخل في غيبوبةٍ طويلة دون سببٍ واضح ، ولأجلٍ غير مسمّى !