الجمعة، 28 أغسطس 2020

كابوسٌ لا ينتهي !

تأليف : امل شانوحة 

العروبة في خطر


في قريةٍ لبنانية .. استيقظ فؤاد من نومه منزعجاً , بعد رؤيته كابوساً أرعبه لصاروخٍ دمّر منزله .. 

حين استفاق , لاحظ أثر جرحٍ قديم على طول ذراعه ! 

فقال باستغراب :

- متى جرحت يدي ؟!


وخرج من غرفته وهو ينادي امه , ووالده في الصالة ينظر اليه بدهشة ! فاقترب منه ليسأله:

- ابي , اين امي ؟ .. ليست في المطبخ , هل ذهبت لجارتنا ؟ 

- مابك يا فؤاد ! امك ماتت ايام الإجتياح الإسرائيلي 

فؤاد بصدمة وخوف : ماذا ! لا امي بخير .. فحرب لبنان مازالت أهلية , واليهود لم يتعدّوا الحدود الجنوبية ..  


وهنا خرجت اخته الصغرى من غرفتها :

- الحرب انتهت منذ شهور , بعد اتفاق الطائف..ماذا حصل لذاكرتك ؟

فتفاجأ بكونها صبية , وسألها بفزع :

- مرام ! متى كبرتِ ؟ .. كنت البارحة في عمر الخامسة !

فنظرت اخته لوالده : هل وقع من سريره على رأسه ؟!

الأب : لا ادري .. فؤاد !! كفّ عن مزاحك السخيف , واذهب لتناول فطورك قبل ذهابك للكشّافة ..


فأسرع فؤاد خائفاً باتجاه المرآة , ليشاهد نفسه وقد صار مراهقاً !

- كيف يُعقل هذا ! كنت في العاشرة قبل نومي .. ابي , مرام .. ماذا يحصل لنا ؟ كيف كبرنا بهذه السرعة ؟.. (صارخاً) ..واين هي امي ؟ اريد رؤيتها الآن !! 


فحاولا تذكيره بالصاروخ الذي سقط فوق منزلهم اثناء الحرب , والذي قتل امه وأصابه بجرحٍ بليغ في ذراعه التي أوشكت على البتر .. وأطلعاه على الكثير من الأحداث , لكنه لم يتذكّر شيئاً !


وعاد الى غرفته مصدوماً , واستلقى على سريره وهو يقول بعيونٍ دامعة:

- امي بخير .. هذا مجرّد كابوسٌ لعين .. سأنام قليلاً , وحين استيقظ يعود كل شيءٍ كما كان

وبصعوبة غفى من جديد ..

***  


استيقظ بعد ساعتين على صوت انفجارٍ بعيد .. فقفز مسرعاً باتجاه الصالة , ليجد اخته ووالده يشاهدان الأخبار .. 

وعلى الفور ! لاحظ ذقن والده الشائِبة , ونضوج اخته .. 

وكانت نشرة الأخبار تنقل دمار لبنان مع بدء حرب تموز ..

فأسرع الى التقويم الميلادي المعلّق على الحائط (الرُّزنامة) ليرى انه في عام 2006 ..

فؤاد بصدمة : كنا في التسعينات هذا الصباح .. ماهذا الكابوس الغريب !


فانتبه والده واخته عليه وهو يتفحّص شكله بذهول في المرآة , بعد ان أصبح شاباً بين يومٍ وليلة ! 

فناداه والده : فؤاد !! إبتعد عن الأسطح الزجاجية .. فنحن لا نعرف متى واين تضرب اسرائيل , فقريتنا مهدّدة بالقصف .. تعال واجلس معنا


لكنه أشاح بنظره بعيداً , لعدم تقبّله كبر والده المفاجىء ! وأقفل باب غرفته , وهو ينوي إنهاء الكابوس المزعج مهما كلفه الأمر

وكانت الشمس ساطعة وقت الظهيرة , فوضع الوسادة فوق وجهه .. وحاول النوم مجدداً ..

*** 


استيقظ عصراً على صوتٍ انفجارٍ ضخم , حطّم الزجاج من حوله .. فركض مرتعباً الى خارج غرفته .. ليرى والده هرِماً فوق كرسيه المتحرّك , وهو يراقب دمار منطقته من شرفة الصالة ..


فاقترب منه بخطى متثاقلة , وهو يبلع ريقه بفزع :

- ابي ! مالذي حصل ؟

- يقولون إنفجار في الميناء 

- ولماذا تجلس على الكرسي المتحرّك ؟ .. واين مرام ؟

والده بقلق : مابك يا فؤاد ! هل وقع شيءٌ من السقف على رأسك ؟! هل جُرحت ؟

- ابي رجاءً , إخبرني ماذا حصل ؟

- في اواخر حرب تموز أُصبت بشظية في ظهري , جعلتني مشلولاً ..اما اختك , فهاجرت مع زوجها واطفالها لأميركا

- مرام تزوجت ! متى ؟


والده وهو يجرّ كرسيه نحو الصالة .. 

- لست بمزاجٍ جيد لمزاحك الثقيل , إعطني جوالي لأرى ماحصل .. 

- ماذا يعني جوال ؟

- هل انت غبي ؟ إعطني جهازي من فوق الطاولة


فأمسكه فؤاد باستغراب وهو لا يعلم ماهو ! فهو كان في زمن الثمانينات قبل بداية الكابوس الطويل .. 

وأخذ يراقب والده وهو يشاهد فيديوهات اليوتيوب عن لحظة إنفجار الميناء 

فؤاد بدهشة : يا الهي ! كيف صنعوا تلفازاً بحجمٍ اليد ؟!

- هذا هاتف

- وهاتفٌ ايضاً !

- إذهب ونظّف الشقة من الزجاج , ودعني اشاهد الأخبار بهدوء


فدخل فؤاد الى غرفته .. وأخذ جزءاً من مرآته المنكسرة , لرؤية شكله الذي بدى كأنه في اواسط الأربعينات !

وقبل ان يفهم ما حصل ! شعر بنعاسٍ مفاجىء , جعله ينفض شظايا الزجاج عن سريره .. ليستلقي عليه وهو يقول :

- رغم نومي طوال النهار , الا ان جسمي متعبٌ للغاية ! يبدو ان الكابوس اللعين على وشك الإنتهاء ..

***


استيقظ بعدها في عمله , وصديقه بجانبه يقول له :

- عدّ الى بيتك إن كنت مرهقاً 

فنظر فؤاد حوله باستغراب :

- اين انا ؟!

- في مبنى الصحافة

فؤاد بدهشة : هل انا صحفي ؟!

فقالت زميلته : الأفضل ان تأخذ إجازة , فمازلت منصدماً من وفاة والدك 

فؤاد بصدمة : هل مات ابي ؟!!

- نعم ! قبل اسبوعين , بالسرطان .. مابك يا فؤاد ؟

- كم عمري الآن ؟ أخبروني !!

- إحتفلنا قبل شهرين ببلوغك سن الخمسين

فؤاد بعصبية : خمسون ! وأين ذهبت اربعين سنة من عمري ؟!!

 

ونزل فزعاً الى الشارع .. ليرى لبنان تغيّر كثيراً , فالمحلات فخمة والشوارع تضجّ بالسوّاح الأجانب .. 

فدخل لإحدى المحلات لشراء قارورة ماء , ليتفاجىء بوجود بضائع اسرائيلية ! 

فشتم البائع بغضبٍ شديد , ووعده بإبلاغ السلطات عنه ..


وحين عاد للشارع , مرّ بجانبه رجلٌ يتكلّم بجواله باللغة العبرية ! وشدّه من ذراعه :

- أمسكتك ايها الخائن !! 

- من انت ؟ أتركني فوراً

فصرخ فؤاد بعلوّ صوته : يا ناس !! قبضت على عميلٍ اسرائيليّ

 

وتجمّع المارّة من حوله , وقام أحدهم بإبلاغ الشرطة .. فأخبرهم فؤاد بفخر انه أمسك جاسوساً بالجرم المشهود .. فتقدّم منه شرطيٌ اجنبي وصفعه بقوة:

- إن نطقت كلمةً واحدة سيئة عن اسرائيل , ستُسجن على الفور !!

فؤاد بصدمة : كيف تجرأ على هذا الكلام المشين ! 

فأجابه : انا ضابطٌ اسرائيلي 

وقال رجلٌ آخر : وانا سائحٌ يهودي  

شاب : وانا طالبٌ من اصولٍ يهودية , أدرس في إحدى جامعاتكم

فؤاد بغضبٍ شديد : كيف دخلتم بلادنا ايها الأعداء الملاعيين ؟!! 

فأمر الضابط , العسكري : خذوه وعلّموه الأدب 

***


في مركز الشرطة .. قاموا بضرب فؤاد وإهانته لفظياً وجسدياً .. وبعد رميه مع الموقوفين , أخبره احدهم بما فاته من احداث : 

فلبنان كبقية الدول العربية عقدت سلاماً مع اسرائيل التي فتحت طرقاتها البرّية والبحرية للتجارة والسفر بينهما .. حتى انهم اشتركوا بسكّة قطارٍ ضخمة تربط الدول العربية بإسرائيل !


فأحسّ فؤاد باشمئزازٍ في نفسه , فوالدته وملايين القتلى والمصابين من كافة الدول العربية سقطوا لسنواتٍ عديدة في نضالهم ضدّ اسرائيل .. وهاهي دمائهم تذهب سدى , بعد سلامٍ مهين مع عدوهم اللدود

***


خرج فؤاد بعد ايام من التوقيف يائساً ومحطّم القلب , بعد ان أجبروه على كتابة تعهّد بعدم شتم اسرائيل اوالتعرّض لأيّ سائحٍ يهودي .. 

فصار يتمّتم بحزن , وهو يرى اللافتات العبرية في طرقات بلاده :

((كنت احاول انهاء الكابوس لاستعادة امي , فخسرنا العروبة بأكملها)) 


ووقف مشمئزاً امام السفارة الإسرائلية في وسط البلد .. وكاد يبصق عليها , لكنه لم يردّ العودة للسجن .. فمشى تائهاً في الطرقات , الى ان تذكّر كلام السجين عن القطار الدولي ! فسأل الناس الذين دلّوه على المحطة .. فركب فيه , وهو ينوي زيارة القدس او ما تبقى منها 

***


بعد وصوله فلسطين .. رأى القبّة الذهبية من بعيد , فسأل صاحب مطعمٍ قديم : 

- كيف لم يهدموه بعد ؟!

- لأن اليهود يستفيدون مادياً من السوّاح العرب الذين يزورونه لالتقاط الصور .. 

- الصور ! الا يصلّون فيه ؟ 

- منعوا الأذان منذ سنوات , بعد قتلهم الإمام اثناء صلاة الجمعة .. ومن يومها , أصبح مكاناً سياحياً فقط 

فؤاد : طالما وصلت الى هنا , سأصلّي فيه 

البائع محذراً : سيحتجزونك الجنود اليهود

- ليفعلوا ما يشاؤون , لست خائفاً منهم


ومشى في الأزقّة القديمة , الى ان وصل اخيراً لأدراج المسجد .. 

وكان متشوقاً للصلاة فيه , وهو يشعر بنبضات قلبه تتسارع في صدره وكله شوق وحنين لتحقيق حلم طفولته , الذي كان يوماً ما حلم كل العرب قبل بيع ضميرهم او إجبارهم على ذلك ! 


لكنه فور صعود درجته الأولى , أحسّ بإرهاقٍ شديد ! وحين حاول رفع قدمه الثانية , بدأ جسمه يترنح .. وكاد يسقط للخلف , لولا إسراع شابٌ فلسطيني بإمساك يده قائلاً : 

- سأساعدك يا عمّ 

فؤاد باستغراب : عمّ !


فنظر الى جسمه , ليرى يداه كأنها لعجوزٍ هرم ! فطلب من الشاب تصوير وجهه..  

وحين آراه صورته في الجوال , كان يُقارب الثمانينات من عمره (بعد ان كان في الخمسينات قبل دقائق !).. 

فاستند عليه , الى ان دخلا المسجد.. ثم قال الشاب :

- سأتركك ياعمّ , فاليهود يمنعون الشباب من الصلاة بداخله 


وبعد ذهابه .. كبّر فؤاد للصلاة والدموع في عينيه , وهو يراقب جدران المسجد المتهالكة التي يرفض اليهود ترميمها.. 

وسجد سجدته الأولى على الأرضية الباردة , بعد إزالتهم سجّادها القديم ..قائلاً في نفسه بحسرةٍ وألم : 

((سامحينا يا فلسطين , العرب باعوكِ بسعرٍ بخس .. فسحقاً لكل من ساهم في هذه الصفقة اللعينة))

 

وبعد انهائه صلاة الظهر , قال : 

- الحمد الله تحققت أمنيتي الأخيرة بالسجود في مسجد الأقصى الشريف.. (ثم رفع يديه) .. يارب !! نحتاج معجزةً إلهية لنصرة دينك وإعادة قوة وعزّة العرب , فلا تطيل الفرج علينا .. اللهم آمين ..(ثم وقف بصعوبة) .. حسناً لأصلي ركعتين السنة , وأعود الى بلادي .. 

***


تجمّعت الشرطة الإسرائيلة حول جثة العجوز داخل المسجد .. بينما حسدهُ كبار السن على موته ساجداً بين يديّ الله , فهي موتة نادرة بعد إغلاق العديد من مساجد العالم , بحجّة الحماية من إنتشار الأمراض المعدية !

***


اثناء صعود روح فؤاد مع عزرائيل الى السماء , شاهد جبريل ينزل مع شابٍ منّور الوجه نحو الأرض .. 

جبريل بفرح : أتى أمر الله بإنزال النبي عيسى الى الأرض , ليحكم الناس بالعدل

عزرائيل بارتياح : أخيراً حان وقت إعلاء كلمة الحق ومحاربة الفساد الذي عمّ الدنيا بما فيها .. 


ففرح فؤاد لعلمه بنصر الله القادم , وتمنى لوّ كان من جنود النبي عيسى ..متمّتماً بارتياح :

((هنيئاً للجيل القادم بعصرٍ يعلو فيه الحق ويزهق الباطل)) 

وأكمل صعوده لرؤية عائلته التي سبقته لجنة الخلد..


الاثنين، 24 أغسطس 2020

طفلة المنارة

 تأليف : امل شانوحة

هذا هو الجزء الثاني من قصتي : قارب الموت.رابط الجزء الأول :

https://www.lonlywriter.com/2019/08/blog-post_31.html


الجزيرة المهجورة


شاهد بحّارٌ في سفينةٍ شراعية , إشارات إغاثة قادمة من منارة الجزيرة الصغيرة (عبارة عن 3 ومضات ضوئية .. ثم التوقف دقيقة .. والعودة مرة أخرى للوميض ثلاث مرات).. 

فأخبر القبطان الذي رآها بمنظاره :

- تلك الجزيرة مهجورة منذ سنوات ! فهل عيّنوا موظفاً جديداً ؟!

المراقب : لا ادري .. هل سننقذ مُرسل الإشارة ؟

القبطان بقلق : الرياح قوية والأمواج عاتية , والشمس قاربت على المغيب .. وأخاف ان أرسوّ , فتتحطّم مقدّمة السفينة ..  

بحارٌ آخر مقاطعاً : أنظرا !! لقد عاد لإرسال نداء الإستغاثة من جديد  

ففكّر القبطان قليلاً , قبل ان يقول : 

- الأفضل ان أذهب مع اثنين منكم , بقارب النجاة .. وإن تأخرنا , ينتظر البقية هدوء الأمواج عند الصباح لإنقاذنا .. مفهوم !!  

***


وجذّف البّحارين بكل قوتهما , الى ان وصل قاربهم مع حلول المساء ..حيث لم يكن واضحاً من الجزيرة , سوى نور منارتها المُسلّط على البحر 


فصعدوا ادراج المنارة بحذر , الى ان وصلوا لباب غرفتها العلوية المقفلة من الداخل .. 

وحين طرقوا الباب , أجابتهم فتاة صغيرة بصوتٍ مرتجف : 

- ابي ارجوك !! لا اريد الموت  

فحاول القبطان تهدأتها :

- انا قبطان السفينة !! قدمت لمساعدتكِ يا ابنتي


ففتحت الباب بتردّد , وعلى وجهها علامات فزعٍ شديد !

فسألها البحّار : ماذا تفعلين وحدك هنا ؟

فأجابت بارتباكٍ وخوف : ارجوكم خذوني معكم قبل ان يقتلني والدي , كما قتل امي واخوتي السبعة 

القبطان بدهشة : هل فعل ذلك حقاً ؟!

الفتاة باكية : نعم , جنّ جنونه فجأة .. وحرق كوخنا ونحن نيام .. وانا هربت الى هنا , وأقفلت الباب عليّ 

- واين هو الآن ؟

- لا ادري ! ارجوك ياعم لنذهب من هنا فوراً .. فهو يملك بندقية صيد , وأخاف ان يقتلنا جميعاً

فهمس البحّار بإذن القبطان :

- الظلام حالك في الخارج , ولا ادري ان كان كلامها صحيحاً ام لا 

القبطان بصوتٍ منخفض : نحن لم نرى نور كوخهم .. وأظنها تقول الحقيقية , فالخوف واضحٌ على وجهها 


وهنا ! سمعوا طلقاً نارياً من بعيد , جعلت القبطان يحمل الفتاة وينطلق مُسرعاً مع بحاريّه باتجاه قاربهم .. 

ثم جذّفوا بكل قوتهم للوصول الى سفينتهم , خوفاً من لحاق والدها المجنون بهم 

***


بعد ابتعاد السفينة عن الجزيرة , وعودتها الى المحيط .. سألوا الفتاة عن اسمها .. فأخبرتهم انها تيري دوبرولت , وعمرها 11 سنة .. وانها عاشت سابقاً في مدينة غرين باي في ولاية ويسكونسن الأمريكية , قبل إنتقالهم مع ابيهم الى الجزيرة منذ اربع سنوات .. وبأن والدها فقد اعصابه بعد مكالمةٍ لاسلكية مع ادارته الذين رفضوا استقالته للمرة العاشرة , لعدم وجود بديلاً عنه .. فقرّر قتلهم والإنتحار , دون علمه بهرب ابنته الوسطى الى المنارة 


القبطان : وكم بقيتي في غرفة الإنارة ؟

الفتاة وهي تمسح دموعها : 6 ايام 

طباخ السفينة : وماذا أكلتي ؟

- كانت هناك 5 معلّبات فاصوليا , وزجاجة ماء .. وحين نفذ طعامي , قمت بنداء الإستغاثة على أمل ان تراها سفينةٌ عابرة

- هل والدك علّمك الطريقة ؟

- نعم , علّمنا الكثير من قوانين الملاحة حين انتقلنا الى الجزيرة 

القبطان : جيد انه فعل .. جيم !! أطعم الطفلة جيداً  

الطباخ جيم : حاضر قبطان .. هيا تيري , ستنزلين معي الى المطبخ لتناول الطعام

لكنها تردّدت بالذهاب معه , فقال لها القبطان :

- لا تخافي , نحن عائلتك منذ اليوم 


وبعد ذهابهما ..قال البحّار :

- المسكينة , شاهدت مقتل اهلها على يد والدها المجنون

البّحار الآخر : هل تظنه انتحر ؟ فالجزيرة كانت هادئة بشكلٍ مخيف , كأنها مهجورة !

القبطان : طالما سمعنا طلقةً نارية , فاللعين مازال حياً .. وحين أصل للميناء , سأبلّغ عن جريمته ليقبضوا عليه

- جيد اننا أنقذناها في الوقت المناسب

- وماذا سنفعل بها ؟

القبطان : عند وصولنا اميركا , أُسلّمها لصديقي رئيس الشرطة ليتكفّل بتسفيرها الى ولايتها التي فيها اقاربها 

- اميركا ! الم نكن ذاهبين الى اسبانيا ؟

القبطان : سنغيّر طريقنا لأجلها ..

- وماذا عن السرطعانات التي اصطدناها للمطعم الإسباني الشهير ؟

القبطان : طالما لم يدفعوا جزءاً من سعرها مُقدماً , فلسنا ملزمين بإحضار طلبهم على الموعد المحدّد .. (ووقف قائلاً بحزم) .. سنتوجه لأميركا , وهذا قرارٌ نهائي !!


وعاد القبطان الى كابينته , تاركاً بحّارته متضايقين من قراره المفاجىء الذي سيُطيل رحلتهم البحرية , بعد ان كانوا يأملون برؤية عائلاتهم خلال الأسابيع المقبلة في بريطانيا ! 

***


ومنذ تغير إتجاه الرحلة , حاصرهم ضبابٌ كثيف ! وتعطّلت بوصلة السفينة دون سببٍ تقنيّ .. فكان على القبطان توجيه سفينته على حسب خبرته البحرية , مُتجاهلاً قلق البحّارة من هذه المخاطرة .. 


ومع مرور الأيام .. لاحظ الجميع خوف الببغاء والكلب من الصغيرة كلما ارادت اللعب معهما ! كما لاحظوا بقائها فتراتٍ طويلة وحدها في مؤخرة السفينة , وهي تغني تراتيل بلغةٍ غريبة ولحنٍ كئيب .. واحياناً تقصّ عليهم قصصاً مرعبة لا تناسب عمرها ! 

وكانت تفضّل الأكل وحدها .. وذات يوم رآها الطباخ ترمي الأكل في البحر .. فعاتبها برفق , فأخبرته انها رمت بقايا طعامها للأسماك .. 


اما البحّار المُختصّ بمراقبة الملاحة ليلاً , فوجدها اكثر من مرة تجلس فوق السارية دون خوفٍ من الأمواج العاتية .. كما عادةً تسهر لوقتٍ طويل , وتستيقظ قبلهم كأنها لا تنام مطلقاً !


ولاحقاً بدأت تقوم بحركات تُغضب البحّار العجوز المتدين , حيث تعمّدت دخول غرفته في غيابه لقلب الصليب رأساً على عقب , وتمزيق اوراقاً من إنجيله واطفاء شموع العبادة من دون سبب ! 

فشكى للقبطان الذي رفض معاقبتها لصغر سنها .. فقرّر العجوز مراقبتها , الى ان وجدها في احدى الليالي ترسم بالطبشور على أرضيّة السفينة : إشارات شيطانية تُشبه طلاسم المشعوذين ! لكنها سرعان ما استبدلتها بشخبطات اطفال , قبل وصول القبطان (حين ذهب العجوز لمناداته) ..

فما كان منه الا ان أطلع زملائه على شكوكه بكونها فرداً من عائلة عبّاد الشيطان , وان والدها أحرقهم كقرابين لإبليس .. لكنهم لم يصدقوا كلامه , لأنها تتصرّف امامهم كفتاةٍ ساذجة 

***


في عصر أحد الأيام .. هجم الكلب عليها , اثناء محاولتها إخراج الببغاء من قفصه الكبير  ..وسمع البحّارة نباحه الغاضب الذي توقف فجأة !


وحين دخلوا اليها , وجدوه مطعوناً ! والببغاء فرّ من نافذة المقصورة المفتوحة.. 

فصفعها صاحب الكلب بغضب .. فبكت وهي تبرّر لهم انها ارادت اللعب مع الببغاء .. وحين هجم الكلب عليها ! رفعت السكين لدفاع عن نفسها , فانغرزت في قلبه .. 


ولم يصدّق روايتها احد , ماعدا القبطان الذي أمرهم برمي الكلب الميت في البحر والعودة الى عملهم .. 

فاجتمعوا بالمطبخ لتخطيط على التخلص من الفتاة المنحوسة التي استحوذت على قلب القبطان (الذي يحنّ لإبنته وامها اللتان ماتتا قبل اعوام بالسلّ)

***


وفي المساء .. ذهبوا الى غرفتها للقبض عليها وسجنها في قبو السفينة , لكنهم وجدوا غرفتها فارغة .. 


فصعدوا الى سطح السفينة , ليجدوها تفتح أقفاص السرطعانات وتعيدهم للبحر .. 

فهجموا عليها غاضبين , بعد ضياع رزقهم الذي اصطادوه خلال ثلاثة اشهر شتوية قارصة .. 

لكنها استطاعت الهرب منهم , والصعود لفوق السارية .. 


وهناك وجدوا الخفافيش تدور حولها بمشهدٍ مرعب .. ونور القمر يسطع عليها وهي تلقي تعويذة على البحر , جعلته يضّطرب دون سابق انذار !

وبالكاد استطاعوا التشبّث بالشراع كي لا يسقطوا في البحر الهائج ..في الوقت الذي كان يحاول فيه القبطان السيطرة على سفينته , دون علمه بما حصل على سطح سفينته.. 


وفجأة ! هدأ البحر وسكنت إهتزازات السفينة كأن شيئاً لم يكن .. فمرّت الفتاة بجانبهم , وهي تقول بلؤم :

- سأسامحكم هذه المرة , لكن ستندمون في حال ضايقتموني ثانيةً .. تصبحون على خير 


فدبّ الرعب في نفوس البحارة الذين سارعوا الى كابينة القبطان لإخباره بما حصل , لكن كعادته لم يصدّق كلامهم .. وأخبرهم ان العاصفة الهوجاء هي السبب في سقوط أقفاص السرطعانات في البحر وخسارة رزقهم , ولم يكن لتيري يداً في الموضوع .. 


فعادوا غاضبين الى غرفهم .. واتفقوا على التناوب في مراقبتها , الى ان يأتي الوقت المناسب للتخلّص منها 

***


ومرّ اسبوعٌ كامل دون حوادث غريبة , فتيري تصرّفت كفتاةٍ عادية : تأكل وتغني وترقص وتنام , دون فعل اشياء تثير الريبة .. 


لكن الأمور تغيرت مع وصول سفينة البريد التي يجمع صاحبها رسائل السفن المسافرة لتوصيلها لعائلاتهم

ولأن تيري ذكية .. فقد لاحظت إرتباك ساعي البريد حين علم بقصتها , فابتعدت عنهم لتراقبهم من بعيد : فسمعت رجل البريد يخبرهم بأن الجزيرة مهجورة منذ سبع سنوات , بعد حريقٍ شبّ في كوخ موظف المنارة الذي مات مع زوجته وابنيه التوأمين 


بحّار : ألم يكن لديه ابنة ؟!

الطباخ : هل انت غبي ؟ يقول انها مهجورة منذ سبع سنوات , فكيف عاشت وحدها هناك

البحّار العجوز : الأدهى انها كذبت علينا وأخبرتنا انها احتمت في غرفة المنارة هرباً من والدها المجنون 

البحّار (المراقب الليلي) بخوف : هل تظنها جنية ؟! 

ساعي البريد : لا ادري ! لكن عليكم التخلص منها قبل ان تغرقوا كالسفينتين اللتان إختفتا في المحيط الأطلسي

البحّار : وماذا حصل لهما ؟

ساعي البريد : إحداها كانت سفينة نقل , والثانية للقراصنة .. ولم ينجوا من الحادثين سوى بحّارين يافعين , كلاهما أكّدا ان الشؤم أصاب السفينتين منذ إنقاذهم فتاةً صغيرة كانت لوحدها في قاربٍ مطاطي , إسمها تيري 

العجوز بخوف : تيري دوبرولت ؟!


ساعي البريد : أظن ذلك ! الغريب ان الحادثتين حصلتا قديماً , فكيف لم تكبر الفتاة بعد ؟!

الطباخ بفزع : لأنها ليست إنسيّة ! 

ساعي البريد : اذاً تخلّصوا منها , ماذا تنتظرون ؟

- القبطان يدافع عنها دائماً , ويدلّلها كأنها ابنته المتوفاة 

- برأيّ إنقلبوا عليه , قبل غرقكم جميعاً  

- سنفعل هذه الليلة .. 

البحّار بصوتٍ منخفض : هاهي اللعينة قادمة الينا , عُدّ الى سفينتك حالاً 


فقفز ساعي البريد الى سفينته الصغيرة , حاملاً رسائلهم .. ثم لوّح لهم , دون النظر اليها : 

- الوداع !! اراكم حين تصلون بريطانيا

- سلّم على اهلنا !!

ساعي البريد : لا تقلقوا , سأوصل رسائلكم بأقرب وقتٍ ممكن .. الى اللقاء يا اصدقاء


وقبل ابتعاده عنهم , ظهرت دوّامة ضخمة من العدم ! سحبت سفينته الى قاع البحر , ليغرق امام أعين البحارة الخائفين .. 

فنظروا خلفهم , ليروا ابتسامة تيري المرعبة .. فهجموا عليها هجمة رجلٍ واحد , مغلقين فمها لكي لا توقظ القبطان .. وقاموا بربطها وإنزالها بالقوة الى القبو .. 

***


بعد ساعتين .. استيقظ القبطان لتناول غدائه , وسألهم عن تيري .. فأخبروه انها أصرّت على الذهاب مع ساعي البريد الى بريطانيا 

القبطان بعصبية : ولما لم توقظوني ؟!! نحن ذاهبون الى اميركا لأجلها 

- هي أخبرتنا ان خالتها تعيش في لندن 

- على الأقل دعونا أودّعها  

- رفضت إيقاظك لأنك متعب

الطباخ : والآن ماذا يا قبطان , هل سنعود الى اسبانيا ؟

- وماذا سنفعل هناك بعد خسارة بضاعتنا 

- آه صحيح , الملعونة أطلقت السرطعانات في البحر 

القبطان بغضب : كفّوا عن لومها عن كل حادثة تصيبنا !! 

البحّار الشاب بغيظ : انت تدافع عنها دائماً !

القبطان : حين تصبح اباً , ستتصرّف مثلي .. والآن سأذهب لإدارة الدفّة  للشمال , لمعاودة الصيد من جديد .. (ثم تنهد بضيق) .. آمل ان نخرج من هذا الضباب الذي رافقنا طوال الرحلة  


وبعد ذهاب القبطان ..

العجوز بغيظ : لم يظهر الضباب الا بعد إنقاذنا لتيري اللعينة

- هذا صحيح , لكنه لم يشاهد ما رأيناه .. المهم اننا أبعدناها عن ناظريه  

***


في آخر الليل .. نزل الطباخ ومعه شطيرة جبن للفتاة , لكنه تفاجىء بالفئران تأكل اكياس الدقيق والذرة .. وتيري توجههم من داخل قفص الببغاء الكبير لإفساد المزيد من المؤن , وكأنهم يفهمون كلامها !

- ايتها الملعونة !! ماذا تفعلين ؟ أتريدين إماتتنا جوعاً .. أحلف انني سأقتلك 


وفور اقترابه من القفص , هجمت عليه الفئران بإشارةٍ من اصبعها ! 

وبالكاد استطاع رفاقه تخليصه منهم , وإبعاده من غرفة المؤن الذين أقفلوها بإحكام من الخارج ..

البحّار بقلق : رجاءً إكتم صراخك , كي لا يسمعك القبطان

الطباخ بألم : الفئران الملاعيين ! قرضوا كل جزءٍ في جسمي  

- طبيبنا سيداوي جروحك .. المهم لا يقترب احدٌ من الملعونة , قبل رميها في البحر 

- ومتى سنفعل ذلك ؟

- غداً هو السابع من شهر اغسطس

- آه ! ذكرى موت زوجة القبطان , سينشغل في غرفته لرؤية صورها وقراءة مذكراتها كما يفعل كل سنة 

- نعم , وحينها نتخلص منها .. الآن لنعود الى غرفنا

- الن نطعم الصغيرة ؟

الطباخ بعصبية : لا أظنها مثلنا , فهي لا تأكل ولا تنام .. اساساً موتها رحمة للجميع !! رجاءً خذوني للطبيب , قبل تجرثم جروحي 

- هيا ساعدوني في حمله

*** 


في تلك الليلة .. رأى القبطان مناماً بأن تيري مسجونة مع الفئران بغرفة المؤن في قبو السفينة , وهي تترجاه بإنقاذها من البحّارة الذين يخطّطون لقتلها ..


فاستفاق فزعاً , ونزل وحده الى هناك بعد نوم البحّارة ..

وحين رآها في قفص الببغاء ومن حولها الفئران , شعر بغضبٍ شديد لكذب رفاقه عليه .. وفكّ سجنها , وحملها بحنان الى غرفتها .. 


في هذه الأثناء .. همست في اذنه بتعويذة شيطانية , جعلته يفقد اعصابه .. وينطلق كالمجنون الى غرف البحّارة , لإطلاق الرصاص عليهم الواحد تلوّ الآخر .. حتى الطبيب الذي قفز من نافذة غرفته للبحر ! أفرغ مسدسه عليه , مُتسبباً في غرقه 


وبعد ان هدأ غضبه , لم يصدق ما فعله ! وأخذ يبكي امام جثث رفاقه 

فاقتربت تيري منه , وهي تقول :

- أحسنت !! كان عليك قتلهم .. الآن بقينا لوحدنا , وعلينا إكمال حياتنا كزوجين مُحبّين

القبطان بدهشة : ماذا قلت ؟! 


وهنا تحوّلت الى امرأةٍ جميلة , جعلته يسقط على الأرض من هول الصدمة!

- أنت جنية ؟!

تيري : امي من الجن , وابي ..

مقاطعاً بعصبية وخوف : إبتعدي عني !!

- الم أعجبك ؟ سأكون زوجة مطيعة

- هذا محال !!

فقالت بنبرةٍ تهديد : أنصحك ان لا تفعل كموظف المنارة الذي رفض خيانة زوجته , فأحرقته مع عائلته 

- هل كانت قصتك مُلفّقة ؟.. لكن كيف ! نحن سمعنا طلقةً نارية جعلتنا نُهرّبك من الجزيرة 

- الأصوات والأضواء وغيرها , جزءاً من قدراتي الخارقة .. سأشاركها معك بعد دمج روحينا معاً 

- مستحيل !! 

- آه لحظة ! فهمت مشكلتك 


ثم تحوّلت لشكل زوجته , لتُشبه الصورة المعلّقة في كابينته .. 

وقالت بصوتٍ حنون :

- اشتقت اليك حبيبي , تعال اليّ 

فوجّه بندقيته نحوها بغضب :

- عودي الى شكلك القديم فوراً !! فأنا لن أسمح لجنيةٍ قذرة بالتشبّه بزوجتي الملاك

- قذرة ! يبدو اخطأت باختيار رجلٍ غير طموح مثلك  


ورمت القنديل عليه .. وأخذت تراقبه وهو يحترق ببطء .. قبل قفزه من نافذة السفينة الى البحر لإطفاء نيرانه

فتنهدت بضيق : 

- لما تصعّب الأمور عليّ .. حسناً !! سأساعدك لمقابلة زوجتك اللعينة


وألقت تعويذتها على البحر !! لتظهر دوّامة كبيرة سحبت جسده , ويغرق  كساعي البريد 

***


بعد هدوء الوضع .. ركبت تيري قارب النجاة بعد إحراقها السفينة ..

وصارت تجذّف باتجاه جزيرة المنارة التي كانوا يدورون حولها لأسابيع دون علمهم , بسبب الضباب الذي أحاطهم من تعويذاتها المتكرّرة ..

***


بعد صعودها الى غرفة المنارة .. سمعت صوت والدها يخرج من البحر 

- الن تعودي لمملكتي ؟!!

- ليس قبل تحقيق حلمي  

- وماهو ؟ .. أغرقتي ثلاثة سفن حتى الآن , وقتلتي عائلة موظف المنارة .. فماذا تريدين بعد ؟

تيري : بحّارة السفينتين كانوا من الحمقى واستحقوا الموت , والثالثة تابعة لقراصنة ارادوا العبث بجسدي , فأدّبتهم على طريقتي ..اما عائلة موظف المنارة البسطاء .. أزعجوني باهتماهم الزائد , فأحرقتهم جميعاً .. ثم يا ابي , حلمي لم يكن السيطرة على البشر والإنتقام منهم 

- اذاً ماذا ؟ 


فسكتت قليلاً , ثم قالت :

- كنت أودّ الإحتفاظ بسرّية مهمتي , لكني سأخبرك .. اريد الزواج من إنسي , كي أملك قدرات العالمين معاً

- كم مرة أفهمتك انها اسطورة صعبٌ تحقيقها , فلا احد يرغب الزواج من ابنة ابليس , خاصة وانت مُتلبّسة جسد فتاةٍ صغيرة

- من سوء حظي انني لم أجد سوى تيري تصارع الموت في قاربها المطاطيّ .. ليتها كانت امرأة ناضجة , لكان إغوائهم اسهل بكثير  

- اذاً لماذا قتلتي القرصان الذي احبك بشغف ؟

- لأني اريد رجلاً شريفاً , وليس قرصاناً فاسداً

صوت ابليس : تربية وافكار امك الجنية المتدينة أفسدت عقلك .. برأيّ تخلّي عن حلمك المستحيل وعودي الينا , فلك سنوات تحاولين مع البشر

- سأعود بعد قرن 

- أهذا وعد ؟

- وعد يا ابي 

- يالك من ابنة عنيدة .. سأعود لأخذك بعد قرن .. الى اللقاء


وبعد هدوء البحر , شاهدت نوراً من بعيد .. لترى من منظار المنارة , سفينةً سياحية فخمة تمرّ قرب جزيرتها .. فقالت بارتياح :

- هذه السفينة مليئة بالأثرياء الذين يكونوا عادةً من أطمع البشر .. وحتماً سيقبل احدهم الزواج مني , بعد ان أعده بالثروة المالية والشهرة العالمية .. وحينها أملك قدرات تفوق ابليس , وأصبح ملكة الشياطين بعد عزل والدي العزيز عن كرسيه .. لتكون اول قراراتي : حرباً شعواء لحين إفناء البشرية , وعودة الجن والشياطين لامتلاك الأرض من جديد 


ثم أطلقت ضحكةً مجلّجلة تردّد صداها بين جدران غرفة المنارة الضيقة , بعد رؤيتها لسفينة السياحية وهي ترسو على جزيرتها المهجورة إثر استجابتهم لنداء الإستغاثة الذي أوقعهم في فخٍّ مميت .. 

فهل ستنجح هذه المرة بتحقيق حلمها المخيف ؟!

الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

الحب المُدمِّر

 تأليف : امل شانوحة

 

حطّم قلبها تدريجياً


في فندقٍ سياحيّ .. نظر كبير الخدم الى طبّاخٍ شاب يُعامل خطيبته (نادلة الفندق) بازدراء , رغم الحب الواضح بينهما ! 


وبعد خروجها باكية من المطبخ , أخذه العجوز جانباً :

- رجاءً لا تفعل مثل السيد مراد

الشاب : ماذا تقصد سيد نزيه ؟! ومن السيد مراد ؟

- كان حبيب لنزيلة غرفة (202)

- آه ! الغرفة المسكونة .. أخبروني انها تصدر اصواتاً مخيفة , لهذا أقفلتها الإدراة .. وانت من الموظفين القدامى , واكيد تعرف ما حصل لتلك السيدة 

العجوز نزيه : نعم , انا اكبركم وسأتقاعد قريباً .. لهذا أردّت إخبارك بسرّ الغرفة 

الطباخ : إنتهينا من فترة الغداء , سأغيّر ملابسي وألقاك بعد قليل في الخارج  

- إتفقنا

***


في حديقة الفندق .. أخبره كبير الخدم بقصة مراد : الرجل الثريّ الذي إعتاد حجز أفخم غرف الفندق , كلما قدم من سفره لمتابعة اعماله التجارية .. وكان الموظف نزيه يعمل حينها في توصيل المكالمات بالغرف .. ففي زمانه لم يكن هناك هواتف لاسلكية , وكان على النزلاء الإتصال بمكتبه لتوصيلهم بالنزلاء الآخرين او بإدارة الفندق وموظفيه ..


ثم أخذ نزيه نفساً طويلاً وهو يستذكر الماضي , قائلاً : 

- كنت شاباً فضولياً , أتنصّت على مكالمات النزلاء كلما شعرت بالمللّ .. وخاصة على السيد مراد الذي كان محطّ انظار السيدات المتواجدات في الفندق , فيماعدا سميرة 

- ومن سميرة ؟

العجوز : عاملة في تنظيف الغرف , قدمت من القرية لمساعدة اهلها .. كانت فتاةٌ بريئة وجميلة للغاية أثارت اهتمام مراد من النظرة الأولى حين التقى بها في المصعد , لكنه لم يستطع الحديث معها لشدّة خجلها .. وتهرّبت منه كالزئبق ! على حسب وصفه لها , حين أخبر صديقه عنها .. أتدري من صديقه ؟

- من ؟

- مروان سعيد

الشاب بدهشة : مدير الفندق !

- لم يكن مديراً وقتها , بل محاسب مراد ورفيق رحلاته .. وكان يحجز عادةً في غرفنا المتواضعة , بعكس رئيسه مراد الذي يحب التباهي بثروته ونجاحه المهني امام الجميع .. (ثم سكت قليلاً) .. بالعودة الى قصتنا .. كنت أستمع الى محادثاتهما وهو يخبره عن إعجابه الشديد بسميرة التي لم تكن سهلة كبقية العاملات اللآتي تنافسنّ على إثارة اعجابه .. لكن بدورها كانت تتجنبه لسمعته السيئة كزير نساء , فهو لا يملك صفات فتى احلامها كزوج وابٍ مثالي ..

الطباخ : وما علاقتي انا وخطيبتي , بمراد وسميرة ؟!

- لا تستعجل بنيّ , ودعني أكمل القصة 

- تفضل 


العجوز : من خلال محادثات الصديقين فهمت إستراتيجية مراد في تعامله مع سميرة : فهو في البداية لفت نظرها بحنانه نحوها , حيث كان يضع موسيقية رومنسية في غرفته كلما أتت لتنظيفها .. واحياناً يترك وردةً حمراء امام باب غرفتها في الطابق الخاص بالعمّال , وعليها اسمها وبيتين من الشعر .. وفي الأعياد يرسل لها هدية متواضعة كعلبة شوكولا او دمية صوفية , فهو يعلم مُسبقاً انها لن تقبل المال والهدايا الثمينة .. وبهذه الطريقة جذبها نحوه .. وفي كل مرة يأتي الى فندقنا , يزداد تعلّقها به .. ومع ذلك رفضت مقابلته في غرفته رغم إلحاحه المتواصل , ولم تجتمع به الا في حديقة الفندق امام الجميع .. مما أثار غيرة زميلاتها اللآتي حاولنّ تقليل شأنها امام مراد , فعاقبهم بالطرد الواحدة تلوّ الأخرى

- لحظة ! هل كان مراد مدير الفندق ؟

- لا لكنه من كبار المساهمين , لهذا لم يكن المدير السابق يرفض له طلباً .. المهم .. بعد مرور خمس سنوات , طلبت سميرة منه ترسيم العلاقة , لأن أهلها يضغطون عليها للزواج بقريبها .. فبدأ يتملصّ شيئاً فشيئاً , ويتعمّد تجاهلها .. وأحضر نساءً رخيصات الى غرفته لإثارة غيرتها .. فتأكدّت ظنونها أنه يتسلّى بمشاعرها , فشخصٌ ذوّ مركزٍ ومكانة لن يُناسب انسانةً متواضعة مثلها .. وحين حاولت الإبتعاد عنه , جنّ جنونه وازدادت عصبيته بشكلٍ ملحوظ


الشاب : لماذا ! الم يرد التخلّص منها ؟

- لا , هو يريدها ان تبقى معلّقة به .. عرفت هذا من مكالمة مع محاسبه .. ورغم كبر سني الا انني مازلت أتذكّر حواره بالحرف الواحد , حيث قال : ((انا أعاملها بعكس شعوري الحقيقي تجاهها , فهي تمتلك صفاتً لا املكها .. ولكي لا اشعر بالنقص , احاول تدمير مميزاتها : كتقليل ثقتها بنفسها وبالآخرين , حتى بأهلها واصحابها المقرّبين .. فأنا اريدها ملكاً لي وحدي .. ولغيرتي الشديدة عليها , اريد إطفاء شعاعها كي لا يراه الآخرون .. ومما سهّل الموضوع عليّ , انها لا تعرف قيمة نفسها وبأنها جوهرة حقيقية .. فهي تظن كرمها وعطفها على من حولها هو شيءٌ عادي , لكنه نادر في مجتمع الأثرياء المتزمّت والأناني .. لهذا ارغب ان اكون محور اهتمامها.. مع اني الوم نفسي من وقتٍ لآخر بأني انجذبت لفتاةٍ بسيطة مثلها , فضعفي اتجاهها وغيرتي الشديدة عليها يغيظني ويحدّ من كبريائي .. وقد حاولت مراراً إقناعها بالاستقالة , لكنها تصرّ على متابعة حلمها السخيف بالوصول الى رئاسة خِدمة الفندق .. رغم محاولاتي تحطيم طموحها بكل الطرق النفسية .. فأنا لا اريد ان يشغل بالها سوى عشقها لي , ومحاولاتها المُستميتة لإرضائي))


الشاب : يا الهي ! ماهذه النرجسية ؟ .. وماذا ردّ صديقه عليه ؟

العجوز : نصحه بتخفيف السيطرة عليها , فهذا يمتصّ طاقتها الإيجابية ويوقعها في متاهة الإكتئاب , ويدمّر ثقتها فيه .. كما أخبره ان النساء يهمّهنّ الشعور بالأمان , خاصة انها سافرت الى المدينة هرباً من قساوة والدها , فهي بحاجة ماسّة لحنانه واهتمامه .. ومن إجابة مراد , عرفت عقدته النفسية التي جعلته يتصرّف بهذه الغرابة.. 

- وماهي ؟

- كان قديماً يحب امرأة لحدّ الجنون , لكنها تخلّت عنه ..فاعتقد أنه بفرض سيطرته الكاملة على سميرة سيشلّ تفكيرها ويمنعها من التجرّأ على تركه  


الشاب : لا أفهم كيف يحبها ويعذّبها بذات الوقت ؟!

- هو عشقها كثيراً ..لدرجة انه اشترى قصراً فخماً في جزيرةٍ منعزلة , ليعيشا بقية عمرهما بعيداً عن الناس

- يبدو انه مهووسٌ بها ! .. وماذا كانت ردةً فعلها على هديته الفخمة ؟

العجوز : لم يخبرها يوماً بأحلامه الوردية  .. فكل مخطّطاته لحياتهما المستقبلية إحتفظ بها في خياله , وعاملها عكس مشاعره الحقيقية ليظهر قوياً امامها .. وقد رأيته مراراً وهو يعنّفها ويهينها امام زملائها , وكأنه مستمتعٌ بذلك ! 

- يعني يقصّ جوانح العصفورة كيّ لا تطير بعيداً

- بالضبط !!

الشاب : وهل نفع ذلك مع سميرة الطموحة ؟

- من مكالمتها الأخيرة مع زميلتها ..

الشاب مقاطعاً : الأخيرة ؟! 


العجوز بنبرةٍ حزينة : 

- نعم .. كانت تبكي بقهر بعد ان صفعها بقسوة امام زبائن الكافتريا , حين أوقعت الشاي عليه بالخطأ .. فأخبرت صديقتها بالهاتف أن حبه دمّرها تماماً .. فهي أعطته الحنان والإحترام والإهتمام , وهو بالمقابل ضغط عليها بغيرته الزائدة وشكوكه المستمرة وعناده الغير مبرّر , الى ان صارت جسداً بلا روح 

- وماذا حصل بعدها ؟

- اثناء تنصّتي على مكالمتها الأخيرة أحسّست بانقباضٍ في قلبي , فتنهّدادتها الحزينة أشعرتني باكتئابها الشديد .. فتركت مكتبي وأسرعت الى غرفتها .. لكني وصلت بعد فوات الأوان , حيث وجدتها مشنوقة بسقف الغرفة

الشاب بدهشة : إنتحرت ؟!

- نعم .. 

- وماذا حصل للسيد مراد حين علم بموتها ؟

- مازال صراخه المؤلم يتردّد في اذني وهو يحتضن جثتها , وكأن قلبه نُزع من بين اضلعه .. فبكائه المرير أحزن الجميع في تلك الأمسية الكئيبة .. (ثم تنهد بضيق) .. بعدها بأسبوع إشترى الفندق والحديقة المجاورة بإسم محاسبه , لندمه على عدم سماع نصائحه بتحسين علاقته بسميرة 

- واين السيد مراد الآن ؟


العجوز : لا احد يعلم .. وزّع املاكه على الجمعيات الخيرية واختفى .. يُقال انه سكن الجزيرة التي اشتراها لحبيبته , ومات وحده هناك 

- وانت أخبرتني قصته لأعامل خطيبتي جيداً , اليس كذلك ؟

- نعم .. ونصيحتي لك ان لا تخفي مشاعرك عن احبائك , فألم فراقهم لا يمكن لأحد تحمّله .. ولوّ رأيت ملامح مراد البائسة وقت دفن سميرة , لفهمت ما أعنيه 

- حسناً سيد نزيه , سأصالح خطيبتي هذا المساء 

العجوز مبتسماً : اريد حضور عرسكما قريباً

الشاب : ستكون اول المدعوين .. شكراً لك 

***


في ذلك المساء .. ذهب العجوز الى الطابق المخصّص لغرف العمّال , وفتح غرفة سميرة القديمة رقم (202) ..فهو الوحيد يحتفظ بالمفتاح 

وفور دخوله , سمع اصوات طرقٍ مخيفة ! 

فمشى بهدوء ناحية النافذة , ونظر من خلالها الى الطبّاخ وخطيبته التي كانت تضحك في حديقة الفندق بعد ان صالحها بقطعة كيك من صنعه .. 

وسرد نزيه بصوتٍ مسموع موجز قصتهما .. وبعد انتهائه , إختفى صوت الضجيج تماماً! 


فابتسم قائلاً :

- سميرة !! أعلم انك تسمعينني .. أردّتُ إعلامك ان موتك لم يذهب سدى , فهناك حبيبين يافعين استفادا من تجربتك المريرة .. وقمت بذلك لإراحة روحك على أمل ان تسامحي حبيبك مراد , وتوافقي على لقياه في عالم الأرواح , فهو لديه الكثير ليقوله لك .. رجاءً إذهبي اليه , فهو حتماً في انتظارك .. (ثم نظر الى حلقة السقف التي شنقت بها نفسها) .. إسألي قلبك الحنون يا سميرة : الم يحن الوقت لاجتماع الحبيبين بعد كل هذه المعاناة ؟ 


وفجأة ! ظهرت زوبعة هواء في الغرفة , إنطلقت مسرعة نحو النافذة لتفتحها بعنف على مصرعيها .. قبل ان يهدأ كل شيء 


فعلم السيد نزيه ان روحها خرجت من الغرفة للقاء حبيبها التي سامحته أخيراً .. 

فابتسم بحزن وهو يرمي المفتاح في سلّة النفايات :

- لا داعي لإقفال الغرفة ثانية .. 


وذهب لمكتب المدير مروان لطلب التقاعد , بعد إنجازه مهمةً صعبة بجمع روحين عاشقين تألّما من طول الفراق !  

الجمعة، 14 أغسطس 2020

عرّافة المستقبل

 تأليف : امل شانوحة

تنبؤاتٌ صادقة


إستيقظت ريما قبيل الفجر على غير عادتها , لترسم في دفترها الموجود قرب سريرها ((نبضات قلبٍ تنتهي بخط مستقيم + كلمة بابا)) .. ثم عادت للنوم 


في عصر اليوم التالي .. إتصلت امها لتخبرها أنهم نقلوا والدها بسيارة الإسعاف , بعد شعوره بوخزٍ مؤلم في قلبه ! 


وفي المشفى .. أخبرهم الطبيب بفشله بإنعاش قلبه المتوقف 

***


بعد انتهاء العزاء , عادت ريما الى منزلها .. وقبل نومها , فتحت دفترها لتتفاجأ برسمتها الغريبة ! 

فقالت باستغراب : كيف عرفت أن ابي سيموت بسكتةٍ قلبية ؟!

واعتبرتها صدفةً غريبة !

***


بعد ايام .. طلبت صديقتها ان ترافقها لإجراء اول فحصٍ بالأشعة لحملها , بسبب إنشغال زوجها بالعمل ..


وفي اليوم التالي .. إستعدّت ريما للذهاب لموعدهما المحدّد .. 

واثناء خروجها من غرفتها إصطدمت بطاولة السرير , ليسقط دفترها .. وقبل إعادته مكانه , إنتبهت على العبارة كتبتها في الليلة الفائتة :

((طفل + معاق + طلاق))

لكنها لم تهتم , وخرجت لمقابلة صديقتها ..

***


في العيادة .. أخبرتهما الطبيبة (بعد إنهاء التصوير) بأن الطفل سيولد معاقاً لعدم نمو اطرافه بسبب نقص الفيتامينات , وحاولت إقناعها بإسقاط الجنين .. الا ان الأم رفضت بشدة , وأصرّت باكية على ولادة طفلها الأول .. 


وما حصل صدم ريما بعد تذكّر ما كتبته في دفترها ! لذا حاولت في طريق العودة إقناع صديقتها بإسقاط جنينها لتجنب المشاكل مع زوجها , الا انها أصرّت على موقفها ..

فحصل ما كان متوقعاً , حيث طلقها بعد إصرارها على إنجاب ابنه المعاق! 


مما ضايق ريما كثيراً , لهذا تركت دفترها في المطبخ خوفاً من كتابة تنبؤات أخرى تضرّ بأحبابها واصدقائها

*** 


باليوم التالي .. إستيقظت ريما في المطبخ , بعد نومها على طاولة الطعام على غير عادتها ! والدفتر امامها مفتوحاً , فيه بضعة كلمات :

((طبخ + جرح + يد))

فتنهّدت بضيق لإحساسها بمصيبةٍ قادمة ..


في ظهر ذلك اليوم .. واثناء طبخ غدائها , جرحت يدها جرحاً عميقاً أجبرها على الذهاب الى المستشفى لتقطيبه !


فعادت غاضبة الى بيتها .. ورمت دفترها في الزبالة , صارخةً بصوتٍ عالي :

- لا ادري من انت !! ولماذا تخبرني بالمستقبل ؟ ولا رغبة لي في موهبتك اللعينة !! أخرج من حياتي مع توقعاتك الشّؤم الشريرة !!

ثم تخلّصت من جميع دفاترها واقلامها ..

***


في اليوم التالي .. وجدت بيجامتها ملوّثة بالدماء , بعد ان نزف انفها طوال الليل اثناء نومها ! .. وهذا ليس الشيء الوحيد الذي أرعبها , بل ما كتبته بدمائها على طاولتها البيضاء قرب سريرها .. حيث رسمت قلب فيه :

((اسم خطيبها + اسم صديقتها المقرّبة))


مما جعلها تقضي اليوم كله في مراقبة صديقتها التي اجتمعت مساءً مع خطيبها في الحديقة العامة .. ويبدو من أحضانهما الحارّة انهما على علاقة منذ فترةٍ طويلة ! .. فاقتربت ريما وهي تنظر اليهما باشمئزاز .. فحاولا التبرير لها , الا انها اكتفت برميّ خاتمها في وجه خطيبها .. لتعود منكسرة الى بيتها بعد شرائها قلماً ودفتراً من المكتبة , وضعتهما بجانب سريرها .. وهي تقول بصوتٍ عالي :

- يا صاحب الموهبة الخفيّة !! يمكنك إخباري بالمستقبل , لكن بشرط !! أن تطلعني على الحوادث قبل شهر من حدوثها , لأتمكّن من تجنبها او منع حصولها .. إتفقنا !!


ونامت تلك الليلة بعد تشغيل الكاميرا , لتأكّد انها هي من تكتب التنبؤات المستقبلية..

وبالفعل صوّرها الحاسوب وهي تستيقظ آخر الليل لكتابة بضعة كلمات في دفترها , قبل عودتها للنوم !

وهذه المرة كتبت عبارة :

((كورونا – كذبة – عقار – شريحة – سيطرة))


وكان مرض كورونا في بداياته .. ولأنها تعمل كاريكاتير في صحيفةٍ وطنية , فقد نشرت رسمةً للرئيس الأمريكي وهو يسلّم على الثريّ بيل غيتس قائلاً :

((سيطرنا على العالم بالشريحة المدسوسة في عقار كورونا))


وكانت ريما اول من تنبأت بهذه المؤامرة السرّية , مما جعل كبار المفكّرين والمحلّلين السياسين يأيّدون نظريتها , خاصة ان هناك تجارب طبية قديمة لنفس الموضوع .. وبسببها نزع عددٌ كبير من الناس كمّاماتهم لممارسة حياتهم الإجتماعية السابقة .. مما أغضب أطباء عالميين (مشتركين سرّاً بتلك الخطة) وبدأوا بحملة نقدٍ قاسية ضدّها , وأنها السبب في تزايد اعداد مرضى الكورونا , مدعّمين كلامهم بصورٍ لجثث مزيفة خدعت الناس من جديد , الذين انقسموا بين مؤيدين ومعادين لها ممن وصفوها بالشعوذة والجاسوسية والماسونية ! مما أجبر مدير صحيفتها على طردها من العمل لتجنب المشاكل ..


لكن هذا لم يوقف ريما عن رسم المزيد من تنبؤاتها المستقبلية التي نشرتها في كافة وسائل التواصل الإجتماعي , التي فاجأت العديد من روّاد الإنترنت الذين عجزوا عن تفسير موهبتها الغريبة , حتى وصفها البعض بأنها مسافرة عبر الزمن !


وكان من ضمن توقعاتها ما حصل في لبنان مؤخراً , حيث استفاقت بأحد الأيام لتجد عبارة مكتوبة في دفترها :

((إنفجار – ميناء – بيروت – 6))


فحاولت ريما طوال الشهر تنبيه المسؤولين والناس الذين يسكنون قرب الميناء من انفجارٍ متوقع لأحد مستودعات البضائع بحدود الساعة 6 .. لكنها لم تستطع تحديد يوم الإنفجار , او وقته إن كان صباحاً او عصراً .. 

لهذا تناسى الناس رسمتها التشاؤمية للدمار الشامل الذي سيحلّ بالعاصمة , مع اعدادٍ كبيرة لمصابين بشظايا الزجاج المحطّم ..

***


بعدها بأسبوعين .. غفت ريما ظهراً لبضعة دقائق , وحين استفاقت وجدت كلمات في دفترها : ((إنفجار – ميناء – اليوم))


وكانت الساعة  5 .. فاتصلت بأخيها لتترجّاه بأخذ امها الى الجبل في أسرع وقتٍ ممكن , دون توضيح الأسباب .. وبعد اصرارٍ منها , خرجا من بيتهما القريب من البحر ..


اما هي فقادت سيارتها باتجاه المنطقة الخطرة , لتصل متأخرة بسبب زحمة السير بعد فكّ الحجر الصحّي لكورونا .. حيث وصلت الى الميناء مع ارتفاع ادخنة النار في السماء .. 

فصرخت بمكبّر الصوت :

- أخرجوا فوراً من بيوتكم !! هذه ليست مفرقعات , بل متفجراتٍ ناسفة !!!!

لكن لا احد سمعها , وكأن صوتها دون صدى !


فنظرت للأعلى , لتجد الناس تصوّر بجوالاتها حريق الميناء من بعيد .. فعادت لتنادي بالميكروفون :

- ابتعدوا عن الشرفات !! الزجاج سيتحطّم من قوة الإنفجار .. إحموا اولادكم !! أخرجوا من سيارتكم ومحلاّتكم 


لكن ايضاً لم يلتفت اليها احد ! فنظرت الى ساعتها التي قاربت على السادسة .. 

وبعد ان تملّكها اليأس , أخذت تصوّر نفسها مباشرةً على الفيسبوك : وهي تسرد ما سيحصل في الدقائق التالية , مع ذكرها أعداد الموتى والجرحى (دون علمها بكيفية حصولها على هذه المعلومات الدقيقة !)


وماهي لحظات حتى حصل الإنفجار المرعب , لتصاب ريما بشظايا زجاج سيارتها المحطّمة .. فأسرعت لتقطيب جروحها .. ووقفت منصدمة امام بوّابة المشفى التي اكتظّت بأعداد الجرحى الذين وصلوا تباعاً حتى منتصف الليل , وقلبها يعتصرّ ألماً .. 

***


وعادت مساءً حزينة ومكتئبة الى بيتها الذي تكسّر بعض زجاجه لبعده عن الميناء , بعكس منزل اهلها الذي تحطّم تماماً !

وبعد طمأنة عائلتها واصدقائها عن حالتها الصحية , كتبت في دفترها : 

- مالهدف من معرفة المستقبل ان لم يكن باستطاعتي تغيره ؟


ثم شعرت بالجوع , فدخلت المطبخ لتناول بضعة لقيمات .. 

وحين عادت الى غرفتها .. وجدت الإجابة مكتوبة في دفترها : 

((القدر لا يمكن تغيّره))


فمزقت دفترها ورمته في الزبالة , وهي تصرخ بغضب :

- اذاً لا تخبرني بتوقعاتٍ أخرى , فقلبي لا يتحمّل الإحساس بالذنب .. إبحث عن شخصٍ آخر يستفيد من موهبتك الغبية .. واتركني وشأني ايها الأحمق !!! 

***


واستفاقت صباحاً على اتصال من مدير صحيفتها يسألها عن الفيديو التي صوّرته , الذي انتشر كالنار في الهشيم بين ناس ! بسبب دقّة معلوماتها عن أعداد الموتى والجرحى , وإخبارهم بأسماء الأشخاص العالقين تحت الركام , واماكن وجودهم ! 

وقبل إدراك ريما ما فعلته , رنّ جرس منزلها .. لتجد المخابرات بانتظارها ! والذين اعتقلوها للتحقيق معها عن الفيديو المريب الذي تنبأت فيه بتداعيات الإنفجار ..  


وفي المركز أخبرتهم الحقيقة كاملةً , لكنهم لم يصدقوها .. وارسلوها للسجن بتهمة التواطؤ مع الأعداء ..

***


بعد اسابيع .. أخبرها المحامي أنه سيعمل جاهداً بمرافعته القادمة لإقناع القاضي بمرضها العقلي , لعلّه يرسلها للعلاج النفسي .. لكن ريما رفضت ذلك بعصبية :

- لست مجنونة !! ولا أعرف من أطلعني على المعلومات المستقبلية التي فضحتها لأجل الأهالي التي تبحث عن اولادها المفقودين تحت الأنقاض

فنصحها المحامي بتغير اقوالها في الجلسة القادمة , والا ستسجن لوقتٍ طويل

***


في سجن النساء .. طلبت ريما من الحارسات إعطائها ورقة وقلم , لكنهنّ رفضنّ مراراً ..


وقبل نومها , رمى مجهول طبشورة من النافذة العلوية لزنزانتها ! .. فنامت قرب الحائط , ممسكةً الطبشور جيداً


واستفاقت اليوم التالي , لترى عبارة على الحائط :

((الأكل- 12– حديدة 3)) .. لكنها لم تفهم شيئاً ! 


وحين نزلت الى قاعة الطعام , لاحظت عنبراً بجانبهم يحمل الرقم 12 .. فانتظرت ذهاب الجميع للإسراع الى هناك , حيث وجدت قضباناً حديدية تفصلها عن غرفة تغير ملابس الحرس .. فقامت بهزّ الحديدة الثالثة , لتجدها مكسورة ! فتمكّنت من المرور بجسمها النحيل الى الجهة الأخرى .. ودخلت الغرفة لتجد ملابس إحداهنّ معلّقة , فلبستها على الفور  


وأسرعت نحو البوّابة الرئيسية وهي تخفي وجهها بالقبعة العسكرية ..

وبصعوبة كتمت فرحتها عندما إكتفى الحارس بإلقاء التحية العسكرية , قبل فتحه البوّابة .. 

فمشت ببطء لحين الإبتعاد عن كاميرات السجن الخارجية .. ثم ركضت بكل قوتها , الى ان وصلت للشارع العام ... وهناك أوصلتها سيارة الأجرة الى بيت صديقتها 

*** 


وارتعبت صديقتها بزيارتها المسائية المفاجئة ! لعلمها بوجود ريما في السجن لأكثر من شهر , والتي قالت بحنق :

- لم آتي للإنتقام منك , رغم غضبي من خيانتك صداقتنا

فأجابتها بفزع : والله قطعت علاقتي بخطيبك منذ ايام , أحلف لك

- لا يهمّني امره , اريدك ان تساعديني للهرب من هنا  

- كيف ؟!

- انت تعملين في المطار ..

صديقتها مقاطعة : لا استطيع مخالفة القوانين ..

ريما بلؤم : لا تنسي انك مدينة لي .. وانا اريد السفر لعمي في اميركا 

- سأحاول جهدي ..

***


وبالفعل استطاعت صديقتها إدخالها من الباب السرّي الخاص بركّاب الدرجة الأولى في الرحلة المتوجهة لأمريكا ..

وتنفّست ريما الصعداء بعد تحليق الطائرة مُبتعدةً عن لبنان 

***


في اميركا .. استطاع عمها إستخراج هوية جديدة لها , بعد إجرائها عملية تجميلية غيّرت فيها ملامح وجهها , لتعود لتنبؤ الحوادث المستقبلية من خلال رسوماتها الكاريكاتورية في وسائل التواصل الإجتماعي التي شهرتها كثيراً في اميركا ودول اوروبا .. الى ان أصبحت المتنبأة الأولى لدى الأجانب الذين دفعوا لمقابلاتها التلفزيونية ملايين الدولارات لتصبح واحدة من أهم المشاهير الأثرياء ..

***


بعد سنوات .. تفاجأت ريما بعبارةٍ مكتوبة في دفترها :

((THE END))

فقالت بصوتٍ مسموع : ماذا تقصد ؟! 

فأحسّت برغبةٍ قوية لإمساك قلمها الذي تحرّك وحده لكتابة جملة :

((غرورك أنهى موهبتك))

ريما بخوف : ماذا يعني هذا ؟!! ألن تعطيني تنبؤات أخرى ؟

فكتب القلم : ((التوقعات .. إنتهت)) 

فصرخت غاضبة : الآن بعد ان أصبح لديّ جماهير عريضة تنتظر توقعاتي كل سنة تريد حرماني من موهبتي .. لا !! لن أقبل بذلك 


لكن يدها لم تكتب شيئاً لعدة دقائق ! .. فقالت بنبرةٍ منكسرة :

- أعدك أن لا يصيبني الغرور ثانيةً .. رجاءً أعدّ لي موهبتي , يا ملاكيّ الحارس 

فتحرّك القلم لكتابة كلمة ((ملاك)) , وفوقها علامة إكس ..

ريما بدهشة : ماذا تقصد ؟ .. ألست ملاكي ؟!

فكتبت : ((لا))

فسألته بفزع : إذاً من انت ؟!! .. هل انت جني ؟

- ((شيطان))

فتراجعت للخلف بفزع : 

- إذا كنت شيطاناً فلا اريد توقعاتٍ منك , فأنا لست خادمتك 


وهنا اشتعل أصبعها فجأة ! .. فأسرعت الى المطبخ وهي تصرخ بألم , محاولةً إطفاء النار بالماء .. لكن كلما أغلقت الصنبور , يعود للإشتعال ثانيةً !

فصرخت بوجعٍ شديد : انا آسفة !! ارجوك توقف

فانطفأ نارها اخيراً .. 


فعادت باكيةً الى غرفتها , وجلست قرب طاولتها .. ثم فتحت دفترها وأصبعها مازال يؤلمها , قائلةً بحزن :

- ماذا تريدني ان أفعل ؟ 

فكتبت يدها هذه المرة : ((توقعات من نوعٍ جديد))

ريما بقلق : عن ماذا ؟

- ((نهاية العالم))


وفجأة ! تغير صوتها ليصبح ذكورياً وضخماً , وبصوتٍ عالي :

- اخيراً احتللتُ جسدها , سيدي ابليس .. سنكون طوع امرك في تنفيذ مخطّط الدجّال لتدمير البشريّة !! 

وارتسمت على وجهها ابتسامةٍ خبيثة !  


الجمعة، 7 أغسطس 2020

طبيبة مع وقف التنفيذ

تأليف : امل شانوحة

المرآة المعكوسة

نظرت الطبيبة النفسية الى ساعتها , قائلةً :
- إنتهى وقتك , سنكمل جلستك العلاجية بعد ثلاثة ايام .. الى اللقاء
وخرجت المريضة من الغرفة .. 
***

بعد قليل .. دخل رجلٌ مسن , عرّف عن نفسه كمحاسب متقاعد لشركةٍ تجارية .. 
فقالت الطبيبة وهي تفتح دفترها :
- إستلقي على الكنبة لوّ سمحت
- لا داعي لذلك , كل ما احتاجه كوب من القهوة ..
- كما تشاء 

واثناء إرتشاف قهوته , سرد مشكلته :
- زوجتي المرحومة كانت ايضاً طبيبة نفسية  
- أحقاً !
العجوز : نعم , أتدرين كيف تقابلنا ؟
- كيف ؟
- كنت احد مرضاها , وأعجبت بها منذ اللحظة الأولى 
الدكتورة : هذا جميل .. وما المشكلة التي حاولت زوجتك حلّها اثناء علاجها لك ؟
- طفولتي البائسة .. لكن ليس هذا ما أحضرني اليك , بل أتيت للحديث عن حادثة وفاتها المُفجعة
- رحمها الله .. لكني أفضّل التكلّم عن مشاكل طفولتك اولاً  

فتنهد العجوز بضيق , ثم قال :
- باختصار .. وجدتني الشرطة طفلاً رضيعاً قرب جثة امي المُدمنة في إحدى أزقّة المشردين بمنطقةٍ شعبية , وأرسلوني للميتم .. بقيت فيه حتى سن 18 , لعدم رغبة العائلات بتبني ولدٍ مشاغب مثلي ! 
- وما سبب إفتعالك المشاكل ؟
العجوز : موظفٌ لعين يحب مناداتي بإبن المدمنة , او اللقيط الذي لا يُعرف اباه ! فكنت أتعارك معه دائماً .. لكني الآن أشكره على معاملته القاسية 
- لماذا ؟
- لأن إدارة الميتم ارسلتني لعيادة زوجتي لعلاج عصبيتي الزائدة 

الدكتورة : لحظة ! الم تكن مراهقاً وقتها ؟
- نعم , هي تكبرني بعشرين سنة .. وهذا لم يمنعني من طلب يدها فور تخرّجي الجامعيّ , رغم تجاوزها سن الأربعين  
- وهي .. الم يهمّها فارق العمر , ورأيّ المجتمع بزواجكما ؟!
العجوز : لا ابداً , كان حباً متبادلاً
- إكمل رجاءً 
- عشقتها بجنون لدرجة انني أردّت دراسة علم النفس لأجلها.. لكنها رفضت إستقالتي من المحاسبة , رغم اني قضيت ساعاتٍ طويلة بتلخيص النظريات النفسية المعقدة من عدة مكتباتٍ عامة وجامعية , كما تعلمت على يد بروفيسور في الطب النفسيّ من خلال الإنترنت  لكي أبهرها .. 
الدكتورة مقاطعة : وهل كان هناك انترنت في شبابك ؟!

فارتبك العجوز , وحاول تغير الموضوع : 
- لم تسألني عن حادثة وفاة زوجتي ؟ 
- ومالذي حصل ؟
العجوز بحزن : إحترق منزلي , فماتت مع ابني المعاق 
- كيف ؟
- إهمالٌ مني 
- إشرح اكثر

العجوز : في ذلك اليوم , لازمت زوجتي الفراش بعد إصابتها بنزلة برد .. فتركت الشوربة على النار , وذهبت لنشر الغسيل في الحديقة , فأنا احب مساعدتها ... ولم انتبه لإبني الذي اقترب بكرسيه المتحرّك من الموقد , ويبدو انه ..
- عفواً على المقاطعة .. كم عمر ابنك ؟
- 6 سنوات
- إكمل القصة 

العجوز : أظنه لم يطفأ الموقد جيداً , مما جعل الغاز يتسرّب داخل المنزل الذي أغلقت جميع نوافذه لتدفئة زوجتي المريضة .. وحصلت الكارثة اثناء إنشغالي بالحديث مع جاري  
- وما سبّب إندلاع الحريق ؟
- إتصالٌ على الهاتف الأرضيّ .. فالمحقق أخبرني ان سلكه العاري أصدر شرارةً كهربائية سبّبت الحريق .. 
- الم تدخل لإنقاذهما ؟
العجوز : أصبت بالذهول والصدمة بعد تحطّم جميع النوافذ بقوة إنفجار انبوبة الغاز .. (ثم خنقته العبرة) .. أذكر اني رأيت الناس تركض نحو منزلي , كأنه تصويرٌ بطيء ! 

فشردت الطبيبة قليلاً , ثم قالت : تماماً كالأفلام !
- نعم , هل تذكرتي شيئاً ؟
- عفواً ! 
العجوز : هل قصتي ذكّرتك بحادثة حصلت مع عائلتك ؟
- لا ! انا عزباء 
- أمتأكدة ؟
الدكتورة بعصبية : لما تتكلّم معي هكذا ؟! .. رجاءً ركّز على مشاكلك , ودعك مني

فاقترب منها ليعطيها ورقة بها مسألة رياضية معقدة , قائلاً : 
- أتحدّاك ان تحلّيها 
وقبل ان تستوعب الطبيبة ما يحصل ! أخذت قلمها وحلّت المسألة بكل سهولة.. 
فقال لها :
- مازلتي بارعة , ليتك بقيتي محاسبة
- انا طبيبة نفسية , وبارعة بعملي فقط  
العجوز باستغراب : معقول لم تتذكري شيئاً بعد ؟!
الدكتورة بغضب : ما مشكلتك يا رجل ؟!! تتكلّم معي وكأنك تعرف قصة حياتي !
- قلتِ قبل قليل شيئاً صحيحاً , ففي شبابي لم نحظى بالإنترنت مثلكم
- ماذا تقصد ؟!

فأخرج من حقيبته اوراقاً مصوّرة عن دراستهما سوياً لنظريات علم النفس , قائلاً لها : 
- كنت تراسليني كل مساء لأعلّمك كيفية حلّ مشاكل المرضى النفسية
فقالت الدكتورة باستغراب وهي تنظر لمحادثات الفيسبوك المصوّرة : 
- هي صفحتي بالفعل ! لكن لماذا أناقش محاسباً بمشاكل مرضايّ النفسية السرّية ؟!

فتنهد العجوز بضيق : يا الهي ! حالتك اسوء مما ظننت .. 
ثم أراها بطاقته المهنية , وصورة قديمة :
- انا بروفيسور في الطب النفسي .. وهذه صورة الخرّيجين الأوائل في جامعتي ..(وأشار الى أحد الطلاب)..هل تذكرين هذا الشاب ؟

فتمعنت بالصورة جيداً , قبل ان تقول باستغراب :
- أظني أعرفه ! .. نعم , كأني تكلّمت معه سابقاً .. في أيّ جامعة تعمل ؟ ولما أخبرتني انك محاسب ؟ هل لديك شهادتين ؟
العجوز بحزم : ضقت ذرعاً من نكرانك الماضي .. لذا قرّرت إخبارك الحقيقة كاملةً .. بشرط !! أن لا تقاطعيني حتى إنهاء القصة , مفهوم ؟ 
فأومأت برأسها إيجاباً ..

وأضاء حاسوبه للدخول الى الفيسبوك .. ثم فتح صور صفحة طالبه : لترى الدكتورة صوراً تجمعها بذلك الشاب ! من بينها صورة زفافهما , وصورتها مع ابنها المعاق ..
الدكتورة بصدمة : لم أفهم شيئاً !
العجوز : ما أخبرتك به قبل قليل كانت قصتك انت .. فأنت خرّيجة محاسبة .. وتعالجتي نفسياً منذ مراهقتك حتى تخرّجك الجامعيّ , قبل زواجك بطبيبك الذي كان احد تلاميذي المتفوقين ..
- لا ! لست مريضة ..
- لا تقاطعيني !! .. كنت بحثتي عني طويلاً الى ان وجدت ايميلي , فأنا استاذ زوجك المفضل .. وأصرّيتي على تعلّم اصول المهنة , لتبهري زوجك المهووسة به .. رغم انني كنت نصحته بعدم الزواج من مريضته , فذلك يخالف اصول المهنة .. لكنه أخبرني انه يشفق على ماضيك الأليم  
الدكتورة بعصبية : قلت لك !! انا لست مريضة 
- يبدو حياتك في الميتم أثرّ كثيراً على اسلوب تفكيرك ! 
الدكتورة مقاطعة : لماذا تقلب الموازين , وتنسب مشاكلك اليّ ؟! 

فأكمل غير مبالي بعصبيتها :
- هل خطّطت لقتل ابنك المعاق بعد تهديد زوجك بالطلاق والزواج بأخرى تنجب له اولاداً أصحّاء , بعد غضبه من علاجك مرضاه دون اذنه ؟.. الهذا بقيتي في حديقة منزلك بحجة نشر الغسيل , بعد فتحك انبوبة الموقد ؟ .. ويبدو ان الإتصال المفاجىء الذي سبّب الحريق أفسد خطتك بقتل ابنك بالغاز , بعد ان جررتِ كرسيه المتحرّك الى المطبخ وهو نائم .. فالشرطة وجدت باب المطبخ مقفلاً بالمفتاح , ومسدود اسفله بقماشةٍ سميكة كي لا يتسرّب الغاز الى زوجك المريض النائم في الطابق العلويّ ! والذي نزل فزعاً لإنقاذ ابنه , ليموت معه في الحريق .. وهو ما أفقدك عقلك , اليس كذلك ؟ 

الطبيبة بغضب : ماهذا الهراء !! قلت لك انني عزباء .. (ووقفت مُشيرةً للباب) .. أخرج فوراً من عيادتي !!
- عزيزتي جاكلين .. هذه ليست عيادتك , بل غرفتك بمشفى المجانين .. ولولا شهادتي بالمحكمة وإخبارهم عن مشاكلك النفسية التي جعلتك مهووسة بزوجك الذي يكبرك بعشرين سنة , لأكملتِ حياتك في السجن .. فبصعوبة أقنعت القاضي بفقدان ذاكرتك بعد موت عائلتك بإهمالٍ منك , رغم ان كل الأدلة تشير على تخطيطك المُسبق لتخلّص من ابنك المعاق 
- قلت أخرج فوراً من مكتبي !! 
العجوز : للأسف , كنت ستكونين محاسبة مميزة لبراعتك في الحساب , لكن رغبتك الجامحة للحصول على زواجٍ مثاليّ أفسد كل شيء .. وانا زرتك اليوم على أمل ان تكوني إستعدّتِ جزءاً من ذاكرتك المفقودة , بعد شهرين من علاجك المكثف هنا .. على كلٍ , أتمنى لك الشفاء العاجل

وبعد خروجه .. دخلت ممرّضة اليها , وهي تصرخ بعصبية :
- أسرقتي ردائي الأبيض ثانيةً !.. إخلعيه حالاً ايتها القاتلة !! الى متى ستتوهمين انك طبيبة ؟.. وأكثر ما يغيظني !! إعطائك علاجات وحلول لمشاكل زميلاتك المجانين , كأنك خبيرة بهذا المجال ! 

فنظرت جاكلين اليها بلؤم :
- لن أغضب من مطلقة , تعمل هنا طوال الوقت لنسيان اولادها الذين فضّلوا العيش مع والدهم .. لهذا حدّدت لك موعداً الثلاثاء القادم , للإستماع الى عقدك النفسية  
فهجمت الممرضة عليها : والله سأضربك يا مختلّة عقلياً !!
فأوقفتها ممرضة ثانية :
- أتركيها تعيش الدور , أعانها الله على ذاكرتها المشوّشة ..

وبعد خروجهما من الغرفة , نادت جاكلين بصوتٍ عالي :
- المريضة التالية !! 

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...