تأليف : امل شانوحة
العروبة في خطر
في قريةٍ لبنانية .. استيقظ فؤاد من نومه منزعجاً , بعد رؤيته كابوساً أرعبه لصاروخٍ دمّر منزله ..
حين استفاق , لاحظ أثر جرحٍ قديم على طول ذراعه !
فقال باستغراب :
- متى جرحت يدي ؟!
وخرج من غرفته وهو ينادي امه , ووالده في الصالة ينظر اليه بدهشة ! فاقترب منه ليسأله:
- ابي , اين امي ؟ .. ليست في المطبخ , هل ذهبت لجارتنا ؟
- مابك يا فؤاد ! امك ماتت ايام الإجتياح الإسرائيلي
فؤاد بصدمة وخوف : ماذا ! لا امي بخير .. فحرب لبنان مازالت أهلية , واليهود لم يتعدّوا الحدود الجنوبية ..
وهنا خرجت اخته الصغرى من غرفتها :
- الحرب انتهت منذ شهور , بعد اتفاق الطائف..ماذا حصل لذاكرتك ؟
فتفاجأ بكونها صبية , وسألها بفزع :
- مرام ! متى كبرتِ ؟ .. كنت البارحة في عمر الخامسة !
فنظرت اخته لوالده : هل وقع من سريره على رأسه ؟!
الأب : لا ادري .. فؤاد !! كفّ عن مزاحك السخيف , واذهب لتناول فطورك قبل ذهابك للكشّافة ..
فأسرع فؤاد خائفاً باتجاه المرآة , ليشاهد نفسه وقد صار مراهقاً !
- كيف يُعقل هذا ! كنت في العاشرة قبل نومي .. ابي , مرام .. ماذا يحصل لنا ؟ كيف كبرنا بهذه السرعة ؟.. (صارخاً) ..واين هي امي ؟ اريد رؤيتها الآن !!
فحاولا تذكيره بالصاروخ الذي سقط فوق منزلهم اثناء الحرب , والذي قتل امه وأصابه بجرحٍ بليغ في ذراعه التي أوشكت على البتر .. وأطلعاه على الكثير من الأحداث , لكنه لم يتذكّر شيئاً !
وعاد الى غرفته مصدوماً , واستلقى على سريره وهو يقول بعيونٍ دامعة:
- امي بخير .. هذا مجرّد كابوسٌ لعين .. سأنام قليلاً , وحين استيقظ يعود كل شيءٍ كما كان
وبصعوبة غفى من جديد ..
***
استيقظ بعد ساعتين على صوت انفجارٍ بعيد .. فقفز مسرعاً باتجاه الصالة , ليجد اخته ووالده يشاهدان الأخبار ..
وعلى الفور ! لاحظ ذقن والده الشائِبة , ونضوج اخته ..
وكانت نشرة الأخبار تنقل دمار لبنان مع بدء حرب تموز ..
فأسرع الى التقويم الميلادي المعلّق على الحائط (الرُّزنامة) ليرى انه في عام 2006 ..
فؤاد بصدمة : كنا في التسعينات هذا الصباح .. ماهذا الكابوس الغريب !
فانتبه والده واخته عليه وهو يتفحّص شكله بذهول في المرآة , بعد ان أصبح شاباً بين يومٍ وليلة !
فناداه والده : فؤاد !! إبتعد عن الأسطح الزجاجية .. فنحن لا نعرف متى واين تضرب اسرائيل , فقريتنا مهدّدة بالقصف .. تعال واجلس معنا
لكنه أشاح بنظره بعيداً , لعدم تقبّله كبر والده المفاجىء ! وأقفل باب غرفته , وهو ينوي إنهاء الكابوس المزعج مهما كلفه الأمر
وكانت الشمس ساطعة وقت الظهيرة , فوضع الوسادة فوق وجهه .. وحاول النوم مجدداً ..
***
استيقظ عصراً على صوتٍ انفجارٍ ضخم , حطّم الزجاج من حوله .. فركض مرتعباً الى خارج غرفته .. ليرى والده هرِماً فوق كرسيه المتحرّك , وهو يراقب دمار منطقته من شرفة الصالة ..
فاقترب منه بخطى متثاقلة , وهو يبلع ريقه بفزع :
- ابي ! مالذي حصل ؟
- يقولون إنفجار في الميناء
- ولماذا تجلس على الكرسي المتحرّك ؟ .. واين مرام ؟
والده بقلق : مابك يا فؤاد ! هل وقع شيءٌ من السقف على رأسك ؟! هل جُرحت ؟
- ابي رجاءً , إخبرني ماذا حصل ؟
- في اواخر حرب تموز أُصبت بشظية في ظهري , جعلتني مشلولاً ..اما اختك , فهاجرت مع زوجها واطفالها لأميركا
- مرام تزوجت ! متى ؟
والده وهو يجرّ كرسيه نحو الصالة ..
- لست بمزاجٍ جيد لمزاحك الثقيل , إعطني جوالي لأرى ماحصل ..
- ماذا يعني جوال ؟
- هل انت غبي ؟ إعطني جهازي من فوق الطاولة
فأمسكه فؤاد باستغراب وهو لا يعلم ماهو ! فهو كان في زمن الثمانينات قبل بداية الكابوس الطويل ..
وأخذ يراقب والده وهو يشاهد فيديوهات اليوتيوب عن لحظة إنفجار الميناء
فؤاد بدهشة : يا الهي ! كيف صنعوا تلفازاً بحجمٍ اليد ؟!
- هذا هاتف
- وهاتفٌ ايضاً !
- إذهب ونظّف الشقة من الزجاج , ودعني اشاهد الأخبار بهدوء
فدخل فؤاد الى غرفته .. وأخذ جزءاً من مرآته المنكسرة , لرؤية شكله الذي بدى كأنه في اواسط الأربعينات !
وقبل ان يفهم ما حصل ! شعر بنعاسٍ مفاجىء , جعله ينفض شظايا الزجاج عن سريره .. ليستلقي عليه وهو يقول :
- رغم نومي طوال النهار , الا ان جسمي متعبٌ للغاية ! يبدو ان الكابوس اللعين على وشك الإنتهاء ..
***
استيقظ بعدها في عمله , وصديقه بجانبه يقول له :
- عدّ الى بيتك إن كنت مرهقاً
فنظر فؤاد حوله باستغراب :
- اين انا ؟!
- في مبنى الصحافة
فؤاد بدهشة : هل انا صحفي ؟!
فقالت زميلته : الأفضل ان تأخذ إجازة , فمازلت منصدماً من وفاة والدك
فؤاد بصدمة : هل مات ابي ؟!!
- نعم ! قبل اسبوعين , بالسرطان .. مابك يا فؤاد ؟
- كم عمري الآن ؟ أخبروني !!
- إحتفلنا قبل شهرين ببلوغك سن الخمسين
فؤاد بعصبية : خمسون ! وأين ذهبت اربعين سنة من عمري ؟!!
ونزل فزعاً الى الشارع .. ليرى لبنان تغيّر كثيراً , فالمحلات فخمة والشوارع تضجّ بالسوّاح الأجانب ..
فدخل لإحدى المحلات لشراء قارورة ماء , ليتفاجىء بوجود بضائع اسرائيلية !
فشتم البائع بغضبٍ شديد , ووعده بإبلاغ السلطات عنه ..
وحين عاد للشارع , مرّ بجانبه رجلٌ يتكلّم بجواله باللغة العبرية ! وشدّه من ذراعه :
- أمسكتك ايها الخائن !!
- من انت ؟ أتركني فوراً
فصرخ فؤاد بعلوّ صوته : يا ناس !! قبضت على عميلٍ اسرائيليّ
وتجمّع المارّة من حوله , وقام أحدهم بإبلاغ الشرطة .. فأخبرهم فؤاد بفخر انه أمسك جاسوساً بالجرم المشهود .. فتقدّم منه شرطيٌ اجنبي وصفعه بقوة:
- إن نطقت كلمةً واحدة سيئة عن اسرائيل , ستُسجن على الفور !!
فؤاد بصدمة : كيف تجرأ على هذا الكلام المشين !
فأجابه : انا ضابطٌ اسرائيلي
وقال رجلٌ آخر : وانا سائحٌ يهودي
شاب : وانا طالبٌ من اصولٍ يهودية , أدرس في إحدى جامعاتكم
فؤاد بغضبٍ شديد : كيف دخلتم بلادنا ايها الأعداء الملاعيين ؟!!
فأمر الضابط , العسكري : خذوه وعلّموه الأدب
***
في مركز الشرطة .. قاموا بضرب فؤاد وإهانته لفظياً وجسدياً .. وبعد رميه مع الموقوفين , أخبره احدهم بما فاته من احداث :
فلبنان كبقية الدول العربية عقدت سلاماً مع اسرائيل التي فتحت طرقاتها البرّية والبحرية للتجارة والسفر بينهما .. حتى انهم اشتركوا بسكّة قطارٍ ضخمة تربط الدول العربية بإسرائيل !
فأحسّ فؤاد باشمئزازٍ في نفسه , فوالدته وملايين القتلى والمصابين من كافة الدول العربية سقطوا لسنواتٍ عديدة في نضالهم ضدّ اسرائيل .. وهاهي دمائهم تذهب سدى , بعد سلامٍ مهين مع عدوهم اللدود
***
خرج فؤاد بعد ايام من التوقيف يائساً ومحطّم القلب , بعد ان أجبروه على كتابة تعهّد بعدم شتم اسرائيل اوالتعرّض لأيّ سائحٍ يهودي ..
فصار يتمّتم بحزن , وهو يرى اللافتات العبرية في طرقات بلاده :
((كنت احاول انهاء الكابوس لاستعادة امي , فخسرنا العروبة بأكملها))
ووقف مشمئزاً امام السفارة الإسرائلية في وسط البلد .. وكاد يبصق عليها , لكنه لم يردّ العودة للسجن .. فمشى تائهاً في الطرقات , الى ان تذكّر كلام السجين عن القطار الدولي ! فسأل الناس الذين دلّوه على المحطة .. فركب فيه , وهو ينوي زيارة القدس او ما تبقى منها
***
بعد وصوله فلسطين .. رأى القبّة الذهبية من بعيد , فسأل صاحب مطعمٍ قديم :
- كيف لم يهدموه بعد ؟!
- لأن اليهود يستفيدون مادياً من السوّاح العرب الذين يزورونه لالتقاط الصور ..
- الصور ! الا يصلّون فيه ؟
- منعوا الأذان منذ سنوات , بعد قتلهم الإمام اثناء صلاة الجمعة .. ومن يومها , أصبح مكاناً سياحياً فقط
فؤاد : طالما وصلت الى هنا , سأصلّي فيه
البائع محذراً : سيحتجزونك الجنود اليهود
- ليفعلوا ما يشاؤون , لست خائفاً منهم
ومشى في الأزقّة القديمة , الى ان وصل اخيراً لأدراج المسجد ..
وكان متشوقاً للصلاة فيه , وهو يشعر بنبضات قلبه تتسارع في صدره وكله شوق وحنين لتحقيق حلم طفولته , الذي كان يوماً ما حلم كل العرب قبل بيع ضميرهم او إجبارهم على ذلك !
لكنه فور صعود درجته الأولى , أحسّ بإرهاقٍ شديد ! وحين حاول رفع قدمه الثانية , بدأ جسمه يترنح .. وكاد يسقط للخلف , لولا إسراع شابٌ فلسطيني بإمساك يده قائلاً :
- سأساعدك يا عمّ
فؤاد باستغراب : عمّ !
فنظر الى جسمه , ليرى يداه كأنها لعجوزٍ هرم ! فطلب من الشاب تصوير وجهه..
وحين آراه صورته في الجوال , كان يُقارب الثمانينات من عمره (بعد ان كان في الخمسينات قبل دقائق !)..
فاستند عليه , الى ان دخلا المسجد.. ثم قال الشاب :
- سأتركك ياعمّ , فاليهود يمنعون الشباب من الصلاة بداخله
وبعد ذهابه .. كبّر فؤاد للصلاة والدموع في عينيه , وهو يراقب جدران المسجد المتهالكة التي يرفض اليهود ترميمها..
وسجد سجدته الأولى على الأرضية الباردة , بعد إزالتهم سجّادها القديم ..قائلاً في نفسه بحسرةٍ وألم :
((سامحينا يا فلسطين , العرب باعوكِ بسعرٍ بخس .. فسحقاً لكل من ساهم في هذه الصفقة اللعينة))
وبعد انهائه صلاة الظهر , قال :
- الحمد الله تحققت أمنيتي الأخيرة بالسجود في مسجد الأقصى الشريف.. (ثم رفع يديه) .. يارب !! نحتاج معجزةً إلهية لنصرة دينك وإعادة قوة وعزّة العرب , فلا تطيل الفرج علينا .. اللهم آمين ..(ثم وقف بصعوبة) .. حسناً لأصلي ركعتين السنة , وأعود الى بلادي ..
***
تجمّعت الشرطة الإسرائيلة حول جثة العجوز داخل المسجد .. بينما حسدهُ كبار السن على موته ساجداً بين يديّ الله , فهي موتة نادرة بعد إغلاق العديد من مساجد العالم , بحجّة الحماية من إنتشار الأمراض المعدية !
***
اثناء صعود روح فؤاد مع عزرائيل الى السماء , شاهد جبريل ينزل مع شابٍ منّور الوجه نحو الأرض ..
جبريل بفرح : أتى أمر الله بإنزال النبي عيسى الى الأرض , ليحكم الناس بالعدل
عزرائيل بارتياح : أخيراً حان وقت إعلاء كلمة الحق ومحاربة الفساد الذي عمّ الدنيا بما فيها ..
ففرح فؤاد لعلمه بنصر الله القادم , وتمنى لوّ كان من جنود النبي عيسى ..متمّتماً بارتياح :
((هنيئاً للجيل القادم بعصرٍ يعلو فيه الحق ويزهق الباطل))
وأكمل صعوده لرؤية عائلته التي سبقته لجنة الخلد..