الجمعة، 27 أبريل 2018

إنسانٌ بلا هويّة

تأليف : امل شانوحة

لا أعرف من أكون !

كانت حياة ديانا المراهقة بائسة للغاية بعد تعرّضها لاعتداء من أستاذها في المخيّم الصيفي .. ورغم العلاج النفسي المكثّف التي خضعت له الا انها باتت تكره كل الرجال والذكور .. لهذا عندما اقتربت من سن الأربعين أرادت إنجاب طفلة عن طريق التلقيح الصناعي .. وبما ان رحمها تضرّر بسبب عنف المعتدي , فكانت امامها محاولة وحيدة لكيّ تصبح أماً .. 

وكم كانت فرحتها كبيرة حين علمت بحملها , بعد ان أظهرت أشعة الرنين المغناطيسي بأنها حاملاً ببنت كما تمنّت دائماً 

لكن عند الولادة صُعقت ديانا حين أخبروها بإنجابها لولد ! 
ورفضت ذلك بهستيريا واتهمت الطبيبة بتزويرها لنتائج الأشعة , فهي لوّ علمت منذ البداية بأنها حاملاً بولد لكانت أسقطت الجنين على الفور .. كما اتهمت الممرّضات بأن إحداهنّ قامت باستبدال ابنتها بطفل امرأةٍ أخرى ! 
***

وبعد شهر من رفع شكوتها للقضاء .. أثبتت تحاليل الدم بأن الطفل ابنها , كما أسقط القاضي تهمة الإهمال عن الطبيبة بعد استشارة عدّة إختصاصين أكّدوا جميعاً بأنه احياناً لا تُظهر صور الأشعة جنس الجنين بوضوح , وكان ذلك خطأً غير مقصوداً  
***

بالنهاية رضخت ديانا للواقع ! وأخذت الطفل معها الى البيت وهي تمقت حتى النظر الى وجهه البريء .. 
وقد فكّرت جدّياً بإيداعه إحدى دور الأيتام او عرضه للتبني , لكنها تخلّت عن الفكرة بعد أن قرّرت معاملته كفتاة .. وحين بلوغه , ستأخذه الى العيادة لإجراء عملية جراحية تحوّله فيها الى امرأةٍ جميلة (على حسب تخيّلاتها) 
***

وكبر اندريه على انه اندريا .. وقد حرصت امه (المضّطربة نفسيّاً) على إبعاده عن كل افراد عائلتها بعد ان أخذته الى قريةٍ بعيدة , وهناك تعرّفوا عليها على إنها امٌ ارملة مع طفلتها , فهم لم يلاحظوا ذلك الولد الصغير المُختبئ في فستانه الزهريّ وشعره الأشقر الذي وصل الى كتفه بعد ان بلغ الخمس سنوات 
***

وبعد بلوغ اندريه سنّه الثامنة , أحسّ بشيءٍ غير طبيعي في حياته ! فهو انتبه الى التشابه الذي بينه وبين الأولاد في مدرسته , فهو مثلهم يحب الكرة والجري والإشتراك في الشجارات التي تحصل عادة بين الطلاّب , ولم يكن يشعر بالرغبة في مصاحبة البنات اللآتي يشعرنهُ بالمللّ  

لكن امه لم تسمح له يوماً باللعب مع الأولاد , حيث اعتادت على القول :
- لا حبيبتي اندريا .. الأولاد سيأذونك بلعبهم الخشن .. الا ترين  الندبة التي في جبينك بسبب لعبك معهم المرة الماضية , والذي شوّه جمال وجهك 
- انا لا تهمّني الجروح يا امي 
- ستهمّك حين تتزوجين في المستقبل .. المهم الآن ..إصعدي الى غرفتك , فقد أحضرت لك دمية جديدة
فصرخ اندريه عليها غاضباً : لا اريد المزيد من الدمى والعرائس يا امي .. قلت لك الف مرة !! اريد كرة وسيارات وطائرات , فألعاب البنات سخيفةٌ جداً .. كما اريد لبس البنطال , لأن الفساتين غير مريحة بالجريّ 

فأمسكته امه من ذراعيه بقوة , وهي تعاتبه :
- اندريا !! انت فتاة وعليك التصرّف كالبنات ..هل فهمتي ؟!!
فصعد الى غرفته باكياً وهو يصرخ :
- كم أكره حياتي !!
*** 

كانت ام اندريه حريصة ان لا يعرف يوماً بأنه ولد لهذا لم تحضر التلفاز او المجلاّت الى بيتها , كما كانت تمنع ابنها من التسكّع مع الأولاد وتسمح له فقط بإحضار صديقاته الى المنزل .. لكنها تعلم جيداً بأنه حين يصل الى سن المراهقة سيتعرّف على هويته الحقيقية , لهذا بدأت تسأل الأطبة عن عملية تحويل جسد ابنها الى فتاة , لكنهم رفضوا جميعاً إجراء العملية له قبل بلوغه .. لهذا لم يبقى امامها سوى تثبيت فكرة الأنوثة في ذهن ابنها  

لهذا بعد ان بلغ 12 من عمره ..أصبحت تساعده على ازالة شعر يديه ورجليه بالشمع , وتحديد حواجبه ..كما أهدته اول علبة مكياج التي لم يحب إستخدامها يوماً ..
***

وجاء اليوم الذي كانت تخاف منه امه كثيراً حين بلغ سن 15 
وتغير صوته ليصبح أقرب الى صوت زملائه الأولاد في المدرسة , كما لاحظت ابتعاده عن صحبة البنات وأصراره على لبس البناطيل ..
*** 

وفي يوم ..عاد غاضباً الى المنزل وبدأ بالصراخ على امه التي فهمت بأن صديقه أعاره حاسوبه المحمول الذي وجد فيه جميع الأسئلة التي كانت تحيّره لسنوات .. 
حيث قال لها بعصبية : اليوم فقط عرفت بأنني ولد !! فلما كنتِ تعامليني كفتاة طوال هذه السنوات يا امي ؟! بأيّ حق تحرمينني من هويتي ؟!
امه بعد ان أخافها صراخه : اندريا ! إهدئي رجاءً , فأنا ..
مقاطعاً بغضب : اسمي من اليوم اندريه !! أفهمتي ؟ اسمي اندريه وانا شاب , ولن اسمح لك بعد اليوم ان تعامليني كفتاة .. انا ابنك وعليك تقبّل الأمر 
ودخل الى غرفته بعد ان صفق الباب بقوة ..
***  

في صباح اليوم التالي .. خرج اندريه من غرفته وهو مازال غاضباً من امه , وقد فاجأها بعد حلقه لشعره الأشقر الطويل لأول مرة في حياته , كما لبس ثياب صديقه الذي استعاره منه .. وقد صدمها منظره كولد كثيراً ! فحاولت ردعه عن فعل ذلك , قائلة ً:
- اندريا !! ...أقصد اندريه .. ان ذهبت هكذا الى مدرستك سيستهزأ منك الجميع , فكل اصدقائك يعرفونك لسنوات على انك بنت , أتريد حقاً وضع نفسك بهذا الموقف المحرج ؟ 
فصرخ عليها قائلاً : انت من وضعتني بهذا الموقف السخيف !! لكنني اليوم سأخبر الجميع بمن أكون , ولا يهمّني ما يحصل .. لأنك انتِ من..
مقاطعة : أسمع بنيّ .. ما رأيك ان نعود الى المدينة ؟ وهناك أسجّلك في ثانوية للأولاد لتبدأ من جديد بدون فضائح .. المهم ان لا تخرج اليوم من البيت بهذا الشكل ..

وظلّت تكلّمه الى ان أقنعته بالفكرة .. وأخبرته بأنها ستذهب الى مدرسته لسحب ملفه ..ومن بعدها يسافران في جنح الظلام , كيّ لا يروهما اهل القرية بعد ان عاشا فيها لعشر سنوات ..
***

وبعد اسبوع .. استفاق اندريه (في بيته الجديد بالمدينة) وهو يشعر بدوخةٍ شديدة ! فاتكأ على الجدار ليخرج من غرفته , وحينها سمع امه بالصدفة وهي تكلّم طبيباً على الهاتف وتخبره : بأنها قامت بوضع المخدّر في عصيره ! وكانت تطالب الطبيب : بأن يرسل لها سيارة اسعاف لأخذه الى عيادته السريّة ليقوم بعملية تحويله الى فتاة , وذكّرته : بأنها دفعت له الكثير من المال ليقوم بهذه العملية الغير قانونية ..

وما ان أغلقت الهاتف , حتى صرخ ابنها من اعلى السلالم بغضب: 
- امي !! أتخدّرينني لكيّ تدمرين حياتي ؟! 
فصعدت امه السلالم وهي تترنّح من السكر , ويبدو انها شربت كثيراً لتقوى على فعل ذلك بإبنها الوحيد .. 
وكانت تقول له وهي تبكي :
- لن اسمح لك يا اندريا ان تتحوّلي الى شاب متوحش يغتصب الفتيات كما حصل معي  

(وكانت أخبرته مرة بما حصل معها في الماضي وسبب كرهها للرجال)
فصرخ اندريه بغضب !! وهو يحاول الإستناد بسياج السلّم كيّ لا يقع بسبب دوخته :
- وما دخلي انا بما فعله استاذك بكِ ؟!! لما تعاقبني بدلاً منه ؟! فأنا لا اريد ان اكون بنتاً !! انا ولد يا امي ..ولد !!

ومن غير وعيٍ منه , دفعها بقوة لتسقط من أعلى الدرج على رأسها ! قبل ان يُغمى عليه هو ايضاً بسبب المخدّر ..
*** 

وحين استفاق اندريه وجد نفسه بالمستشفى ! فارتعب كثيراً أن يكون ذلك الطبيب أجرى له عملية التحويل .. 
لكنه انصدم حين عرف بأن الطبيب ذاته هو من نقله مع امه الى المستشفى الحكومي بعد وصوله الى البيت ورؤيته للأم (من خلال النافذة) غارقة بدمائها اسفل الدرج ! لهذا كسر الباب لينقذهما , لكنها فارقت الحياة في الطريق .. 

وأظهر التشريح : ان سبب الوفاة هو سقوطها من اعلى الدرج بسبب نسبة السكر العالية في دمها ..
وبذلك برّأت الشرطة الولد الذي كتم سرّ قتله لأمه لبقية حياته 
***

ولاحقاً أُرسل اندرية الى الثانوية العسكرية بناءً على رغبته , وهناك أحسّ بذكوريته لأول مرة في حياته , حيث كان سعيداً بالمعاملة القاسية التي يعامل فيها الضباط التلاميذ الذي اندمج معهم سريعاً , بعكس سنوات طفولته التعيسة التي عاشها كفتاة 
***

وسريعاً تقلّد اندريه أعلى الرُتب العسكرية بسبب جلافته وصلابته المبالغ فيها , حيث عُرف بين اصدقائه بسرعة غضبه وقساوته , وهم لا يدرون كم عانى بحياته ليصل الى هذه المرحلة من الرجولة 
***

ولاحقاً تزوج وانجب ولداً كان قاسياً بتعامله معه , كما كان قليل الحنان مع زوجته التي صبرت كثيراً على جلافة طباعه ..
لكن المرة الوحيدة التي وقفت في وجهه : كان حينما اراد إجبار ابنه الصغير في عيد ميلاده الخامس على شراء سيارةٍ حربية كلعبة له , لكن الصغير أصرّ على شراء دمية (سنوّ وايت) بعد مشاهدته لفلمها ..فغضب الأب كثيراً ورفض شرائها له , ليُعيده الى البيت باكياً 

زوجته مُعاتبة : هو طفلٌ صغير واراد تلك الدمية , فلما لم تشتريها له ؟!
اندريه بعصبية : لن اسمح لأبني ان يصبح شاذاً !! هو ولد وعليه شراء العاب الأولاد ..
- انت تبالغ كثيراً بردّة فعلك , هو طفل يا رجل !
- عليه ان يتعوّد منذ صغره على أنه صبي .. وان رأيتكِ يوماً تفسدينه بدلالك , فأحلف بأنني سأسجّله في المدارس العسكرية 
*** 

وهذا ما حصل بالفعل , حيث درس ابنه في المدارس العسكرية من المرحلة الإبتدائية حتى تخرّجه كضابط بحرية ..
ومن ثم تزوج ابنه لينجب طفلة استطاعت ببراءتها أخذ عقل جدها الذي ما ان حملها لأول مرة حتى حوّلته من انسانٍ صارم الى كائنٍ لطيف ! حيث قال اندريه العجوز في نفسه : 
((لا غرابة يا امي انكِ كنتِ تردين فتاة , فهنّ بالفعل كائناتٌ لطيفة !))
***

وبعد سبع سنين , ولأول مرة في حياته ..وافق اندريه على أخذ عائلته الى بيت امه القديم الذي ظلّ مُغلقاً منذ يوم وفاتها هناك , لكنهم لا يعلمون كيف ماتت بالضبط 
***

وما ان دخل بيته حتى شعر بضيق نفس , خاصة بعد إقترابه من الدرج الذي ماتت عليه امه .. 
وأسرع ناحية العلّية , ليُخرج منها صناديقاً فيها العابه القديمة (حين كان بنتاً) لكنه أخبر ابنه وكنّته وزوجته وحفيدته : بأنها ألعاب كانت إشترتها امه حينما كانت حاملاً بإخته التي توفيت في سنتها الأولى .. وقد إختلق هذه القصة كيّ لا يعيّروه بماضيه الذي لم يكن له ذنباً فيه 
***

واسترقت زوجة اندريه وابنها وكنّتها النظر من خلال شقّ الباب على الجدّ الذي كان يلاعب حفيدته بألعابه القديمة , وهو يخبرها بأسماء كل لعبة 
- هذه اسمها انجلينا ..وهذه الدمية اسمها اليزابيث

فقالت الجدة (زوجة اندريه) من خلف باب باستغراب : لا أصدّق ان ابوك حنوناً هكذا !
ابنها بدهشة : وانا ايضاً مصدوم يا امي , وكأنه تحوّل الى شخصٍ آخر !
زوجة الولد : يبدو ان ابنتي أثّرت عليه كثيراً

لكنهم فجأة ! شاهدوه وهو يصرخ على حفيدته (ذات 7 سنوات) لأول مرة: 
- لما كسرتي لعبتي ؟!! كان عليكِ الإنتباه أكثر
وتفاجؤا جميعاً من كلامه !
وحين رأى علامات الإستفهام على وجوههم ! حاول تدارك الموقف , قائلاً لحفيدته :
- آسف حبيبتي , لم أقصد إخافتك .. لكن هذه اللعبة كانت غالية على امي , لأنها اللعبة المفضلة لأختي المرحومة , لهذا انتبهي حين تلعبين بها .. إتفقنا جدي
***

في المساء .. عادوا جميعاً الى فيلا الجدّ بعد رفضه المبيت في بيت امه القديم .. 
وقبل ان يذهب للنوم , سمع صوت ضحكاتٍ قادمة من غرفة حفيدته .. فرآهم من شقّ الباب وهم يشاهدون البوم صوره القديمة التي وجدته  الصغيرة بالصدفة في غرفة جدها بمنزل امه ..

الحفيدة : انظروا الى جدي وهو يلبس الفستان الزهريّ !
الكنّة : كان عمي جميلاً .. لكن لما تصرّ امه في كل الصور على إلباسه كالفتيات ؟! 
ابنه وهو يسأل امه : الم يخبرك بذلك امي ؟
الجدة (زوجة اندريه) : لا , حتى انا متفاجئة من الموضوع !
ابنه : ربما لا تكون كل الصور له
امه : بلى هذا هو .. الا ترى الندبة التي في جبين هذه الفتاة , هي نفسها جرح والدك ! 
الحفيدة ساخرة : يبدو جدي أجمل بالفستان
فضحكوا جميعاً ..

وهنا انتبهت الحفيدة على جدها الواقف خلف الباب : آه ! جدي 
فشعر الجميع بالخوف لمعرفتهم بنوبات غضبه المفاجئة , لكنه هذه مرة لم ينطق بكلمة ! بل اكتفى بالضغط بقوّة على شفّته السفلية محاولاً كتم قهره وغيظه ودموعه , فشعر الجميع بالخجل لما قالوه عنه .. لكنه تركهم ودخل الى مكتبه التي ظلّ فيها طوال الليل
*** 

وفي صباح .. دخلت زوجته وابنه الى المكتب ليعتذرا منه , لكنهما لم يجدانه هناك .. بل وجدا عدّة اوراق على مكتبه مكتوباً عليها ملخّص حياته والتي اعترف فيها بقتله لأمه !

وبنهاية قصّته , كتب التالي :
((من أكون ؟! فأنا لست بأمراة ولست بشاذاً , لكني ايضاً لست برجل ! وربما أجرمتُ بقتلي لأمي عن طريق الخطأ , لكنها قتلتني آلاف المرات حين حطّمت كياني من الداخل , فبتُّ إنساناً بلا هويّة !.. كم أكرهها وأكره حياتي , وأشعر بأنه لم يعدّ بإمكاني تحمّل المزيد)

وفجأة ! سمعا صرخة الحفيدة من حديقة الفيلا .. فركض الجميع الى هناك ليتفاجؤا بالجد مشنوقاً بجذع شجرة !

فهل كان يستحق ان يعيش هذه الحياةِ المأساوية ؟!

الخميس، 26 أبريل 2018

إعدام كاتب

تاليف : امل شانوحة

 
هل ستنقذني قصصي من حبل المشنقة ؟!

- سيُنفّذ حكم الإعدام عليك بعد ثلاثة شهور , فهل لديك أمنية نحقّقها لك ؟
قالها الحارس للسجين اليائس بلباسه البرتقالي المُخصصّ للمحكوم عليهم بالإعدام ..

السجين : اريد اوراقاً وقلم .. فأنا أهوى الكتابة 
الشرطية بدهشة : وهل انت كاتب ؟!
السجين : ربما لوّ لم أهمل موهبتي طوال سنوات بسبب وظيفتي الروتينية لأصبحت اليوم كاتباً مشهوراً .. لكنه لم يشجّعني أحد على ذلك , لا أهلي ولا زوجتي الأنانية التي كانت ترغب فقط براتبي الشهريّ ! 
الحارس : اذاً سنحضر لك ما تريد 
السجين : وهل ستنشرون قصصي بعد إنتهائي منها ؟
الشرطية : سأقرأها اولاً , وان كانت جيدة ..أعدك بأن أرسلها لدار النشر على نفقة الدولة .. لكن ماهي نوعيّة قصصك يا جاك ؟

السجين جاك : قصصّ رومنسية 
الحارس العجوز ساخراً : ورومنسي ايضاً ايها القاتل ؟!
الشرطية مُعاتبة الحارس : دعه في همّه يا رجل .. ولنتركه يُفكّر بقصته الأولى
ثم تركاه ليكتب , بعد ان أحضرا له طلبه ..
***

أمسك السجين بالقلم وصار يفكّر بجميع افكار القصص التي خطرت على باله في العشرين سنة الماضية .. فهو الآن في الأربعينات من عمره , وكان اكتشف موهبته الكتابية اثناء دراسته الجامعية .. لكن موت والده المفاجىء جعله يتخلّى عن فكرة الكتابة لإيجاد وظيفية يصرف بها على والدته المريضة والذي تزوج بعد وفاتها , لكن يبدو ان زواجه لن يدوم أكثر من عشر سنوات , لأن زوجته بعد صدور حكم الإعدام عليه قبل ايام (ايّ بعد مرور سنة على سجنه لقتله عشيقته) طالبت المحكمة اليوم بضرورة طلاقها منه , وتسجيل طفلهما بإسم عائلةٍ مُغايرة كيّ لا يلحقه عار والده !
لكن ما كان يشغل باله الآن هو موضوع قصّته الأولى .. 
فحدّث نفسه قائلاً :

((ماذا عسايّ ان أكتب ؟! هل اكتب روايةً رومنسية طويلة ؟.. لا ..ان فعلت , فربما تنتهي الشهور الثلاثة قبل ان أنهيها .. وحتى لوّ أنهيتها , فربما لن تلقى إعجاب القرّاء ..وانا عندي الكثير من الأفكار , لكن المشكلة انني لا املك الوقت الكافي لكتابتها جميعاً .. لهذا عليّ إختيار أفضل أفكاري , لأكتبها بأفضل طريقةٍ مُمكنة))

وبعد تفكيرٍ مطوّل , قال في نفسه :
((حسناً .. سأكتب اذاً قصصاً رومنسية قصيرة .. بحيث إنهي قصة كل ثلاثة ايام او خمسة على أبعد تقدير ..وبذلك تصبح عندي مجموعة كاملة بإسمي .. (ثم تنهّد بحزن) .. يبدو يا جاك انك ستنشهر أخيراً , لكن بعد موتك .. يالا هذا الحظّ السيء !))  
***  

وما ان بدأ جاك بكتابة اول سطرين من قصته الأولى في سجنه الإنفرادي , حتى توالت عليه الأفكار .. بحيث لم يتوقف عن الكتابة الا بعد ساعتين ليُنهي مسودّة القصة التي مازالت تحتاج الى مراجعة أكثر من مرة , قبل ان يُسلّمها للشرطية التي ربما تنشرها له لاحقاً في حال أعجبتها , لذلك كان عليه التدقيق بكل ما يكتبه قبل تسليمها القصصّ 
***

وبالفعل !! أنهى القصة تلوّ الأخرى .. بحيث كتب خلال الشهر الأول سبعة قصص في غاية الروعة , ممّا جعل الشرطية تتأثّر بكل واحدة منها لدرجة انها تكلّمت مع رئيسها في السجن عن هذا الكاتب , قائلةً له :
- كما قلت لك سيدي .. هو حتماً بريء , فمن المستحيل ان تخرج كل هذه المشاعر الصادقة واللطيفة من شخصٍ قاتل !
مديرها : هو كاتب , يعني هوايته تأليف القصص .. والقتلة عادة مبدعون في خيالاتهم 

الشرطية : هذا صحيح , لكن خيالاتهم المرعبة وليست الورديّة كهذا السجين !
فقال زميلها الشرطي ساخراً : ربما يكون نادماً على قتل عشيقته , لهذا يذكرها في قصصه
الشرطية مُستفسرة : لكني إطّلعت البارحة على ملفّه من الأرشيف .. وقرأت انه إعترف بالمحكمة : بأنه قتلها خوفاً من ان ينكشف أمرهما لجاره , بما انها زوجته 
مديرها : وهذا يؤكّد ان كلاهما قذران , ويقيما علاقة خارج زواجهما
الشرطية ديانا : لكن في شهادة الزوج المخدوع (الجار) لم يتهم زوجته بالخيانة , بل قال انها تحبه كثيراً .. وقد أخبرته ذلك اليوم بأنها ذاهبة لبيت جارهم لمساعدته في القيام بحفلةٍ مُفاجئة لزوجته بمناسبة حملها الأول 

المدير : انت تتعبين نفسك عزيزتي .. فمحاميه حاول لسنةٍ كاملة إنقاذه من حبل المشنقة , لكن الغبي إعترف في كل جلسة محاكمة بأنه مذنب .. فإن كان هو اعترف بنفسه بأنه قتلها , فلما تفتحين الملفّات القديمة من جديد ؟
زميلها الشرطي : يمكنكِ يا ديانا مساعدته في أمرٍ واحد , بأن تنفّذي وعدك له وتنشرين قصصه قبل إنتهاء الشهرين .. لكن براءته فهذا شيءٌ مُحال , خاصة بعد ان حدّد القاضي يوم إعدامه 
فأومأت الشرطية برأسها موافقة , وهي تشعر بالعجز لعدم قدرتها على إنقاذ حياةِ كاتبٍ مبدعٍ كجاك !
***

في اليوم التالي .. دخلت الى سجنه , مبديةً إعجابها بكتاباته .. فقال جاك لها بسعادة :
- وقريباً سأرسل لك قصة جديدة , ستعجبك حتماً ..فأنا أقوم الآن بمراجعتها للمرّة الأخيرة 
فشعرت بالحزن عليه , لأن حماسه على الكتابة أنساه حكم الإعدام الذي كان موعده يقترب كل يوم ..
الشرطية بنبرةٍ حزينة : جاك .. لما اخترت القصصّ الرومنسية ؟

فتنهّد السجين بحسرة وهو يتذكّر الماضي : 
- لطالما كنت شاباً خجولاً في جميع مراحل دراستي , ولم استطع يوماً التعبير عن مشاعري لأيّة فتاة .. لهذا كنت اكتب ما اشعر به في دفترٍ صغير .. وفي يوم أعجبتني فتاة في الجامعة ..كانت تدرس في قسم التجارة مثلي ..كان وجهها الملائكيّ أشبه ب ..
الشرطية مُقاطعة : أتقصد زوجتك الحالية ؟
السجين بقرف : لا , العياذ بالله ! 
- لم افهم !

السجين : سأخبرك القصة منذ البداية .. كان اسمها إيميلي .. فتاةٌ قادمة من الريف , حصلت على منحةٍ دراسية بسبب تفوّقها على الجميع في قريتها .. يعني كائنٌ بسيط مثلي .. ومع هذا لم إستطع مكالمتها , رغم انني كنت أراها دائماً لوحدها في ساحة الجامعة .. واكتفيت بمراقبتها من بعيد , وكتابة القصصّ الرومنسية التي تجمعنا معاً في خيالاتي !
- ثم ماذا حصل ؟
- أحد الطلاّب الحمقى لاحظ اسمها في دفتري حينما جلس بجانبي , وانتظرني الى ان دخلت دورة المياه وسرقه من حقيبتي , ثم أخبر الجميع عن حبّي لها ..ممّا أربكني وضايقها ايضاً ..لكن بعد ان هدأت عاصفة السخريات من التلاميذ .. فاجأتني ذات يوم حين كنت اجلس لوحدي في حديقة الجامعة بأن احضرت لي سندويشاً , ثم جلست تأكل طعامها بجانبي .. فأكلنا دون ان نتحدّث بكلمة .. وبعد ان انتهينا , وقفت قائلةً دون ان تنظر اليّ : أعجبتني قصتك , لكن لا ادري ان كنت أستحق كل هذا المديح 

الشرطية باهتمام : وبماذا أجبتها ؟
السجين بابتسامة : الى اليوم لا ادري كيف أتتني الجرأة وقلت لها : بل تستحقين كل كلام الغزل في الدنيا
الشرطية بحماس : يا سلام !! هذا جميل ..ثم ماذا حصل ؟
جاك : أصبحنا اصدقاء .. ندرس سويّاً ونأكل معاً ونتحدّث في كافة الأمور ..وكلما توطّدت علاقتنا , وجدنا اشياءً كثيرة مشتركة بيننا..الى ان تخرّجنا وبدأنا بالبحث عن العمل سويّاً في الشركات التجارية الكبرى ..لكن..(وسكت !)
الشرطية بحماس : لكن ماذا ؟ إكمل !!
السجين بحزن : في يوم ظهور نتائج المتقدّمين على الوظيفة الإدارية , نجحنا كلانا في الحصول على عملٍ هناك , وكنت ..
الشرطية مُقاطعة : أتقصد نفس الشركة التي كنت تعمل بها قبل دخولك السجن ؟
- نعم
- وما المشكلة اذاً ؟

السجين وهو يمسح دموعه : لم تأتي إيميلي ذلك اليوم ..واتصلت بها مراراً , الى ان ردّ أخوها قائلاً بحزن : بأنها قامت بإنقاذ طفلٍ صغير ركض فجأة باتجاه الشارع ..وقد استطاعت إبعاده في آخر لحظة , لتموت هي تحت عجلات الشاحنة  
الشرطية بضيق : يا الهي ! هذا محزنٌ للغاية
- نعم لقد أنفطر قلبي عليها .. ولولا ان والدتي كانت ايضاً مريضة تلك الفترة لما استطعت إكمال عملي , لكني كنت بحاجة للراتب الشهريّ من اجل علاجها
- وكيف تعرّفت إذاً على زوجتك ؟
- بعد وفاة والدتي ..ايّ بعد سنتين من وفاة ايميلي ..أصابني اكتئابٌ شديد , جعلني أذهب الى طبيبةٍ نفسيّة

الشرطية : صحيح ..قرأت في ملفك : ان زوجتك تعمل سكرتيرة لدى طبيبة نفسيّة ..أهناك رأيتها ؟
- نعم ..وكانت تُشبه إيميلي كثيراً .. لهذا لم أكن اريد ان أضيّع المزيد من الوقت بخجلي السخيف ..وفي موعدي الثالث مع الطبيبة , طلبت يد سكرتيرتها .. والغريب انها وافقت على الفور ! 
- وهل كانت تشبه ايميلي بالفعل يا جاك ؟
السجين بقهر : بالشكل فقط ! .. (ثم تنهّد قائلاً) .. المهم في الموضوع ..اننا لم نرزق بالأولاد لعشر سنوات .. ولسوء حظي لم تحمل بطفلي الا قبل يومين من دخولي السجن .. فبالله عليك , هل رأيتي شخصاً سيء الحظ مثلي ؟! 

الشرطية مُحاولةً معرفة الحقيقة التي يُخفيها عن الجميع : 
- الا تريد ان تخبرني بما حصل بالضبط في يوم الحادثة ؟
فانتفض جاك بعصبية : لا !! لا اريد فتح ذلك الموضوع من جديد .. لقد ماتت تلك المرأة وانتهى الأمر ..لهذا ارجوك اتركيني أكمل مراجعة القصة , فليس عندي الكثير من الوقت كما تعلمين ..
فتركته في سجنه وهو يرتّب اوراقه , وهي تعلم انه يحاول ان يتماسك كيّ لا ينهار بعد تذكّره لتفاصيل حياته البائسة !
***  

بعد اسبوعين .. أرسل السجين للشرطية قصصاً ثلاثة جديدة لا تقلّ روعتها عن سابقيها .. 
وبعد انتهاء الشرطية من قرائتهم , قرّرت أن تنقذه من حبل المشنقة مهمّا كلّف الأمر !  
ومن دون ان يلاحظها أحد , دخلت الى حاسوب مديرها وأخذت منه عنوان منزل زوجة السجين ومكان عملها (رغم انها لا تعدّ بالحقيقة زوجته , فهي مازالت تصرّ على حصولها على ورقة الطلاق من المحكمة قبل ان يتمّ إعدامه !)
*** 

وبدأت الشرطية تراقب زوجة السجين كلما سنحت لها الفرصة ..
وبعد اسبوع .. تبعتها الى مطعمٍ بعيد عن مكان سكنها ! وهناك رأتها تلتقي بشابٍ ما .. وقد أثارت الأحضان الساخنة بينهما شكوك الشرطية (التي جلست بعيداً عنهما) .. كما استغربت قبلات الشاب الكثيرة للطفل , وكأنه ابنه هو ! 

وهنا تساءلت الشرطية في نفسها :
((جاك لم يُنجب من زوجته طوال عشر سنوات , وفجأة أخبرته بحملها قبل يومين فقط من حصول جريمة القتل التي انا متأكدة بأن زوجته لها يدٌ فيها .. فهل معقول انها أرادت إزاحته عن طريقها , لتهنأ مع عشيقها وطفلهما الغير شرعي ؟! وفي حال كان هذا صحيحاً , فكيف يمكنني الإقتراب من طفلها لأتاكّد من إبوّة جاك , او إثبات خيانتها له ؟))
***

وبعد ايام .. تمكّنت الشرطية من أخذ موعد مع الطبيبة النفسيّة التي تعمل زوجة جاك عندها .. وفاجأتها الطبيبة بشكوكها بسكرتيرتها , حين قالت :
- وانا ايضاً أظن ان طفلها ليس ابن جاك , فلا شبه بينهما اطلاقاً ! عدا انني سمعتها تكلّم احدأ بالهاتف وتناديه بحبيبي , وذلك بعد سجن جاك بأيامٍ فقط !
الشرطية : ليتك أخبرت الشرطة بذلك ؟
الطبيبة : لم أردّ التورّط بالموضوع ... وبالحقيقة هي لم يبدو عليها الحزن مطلقاً ! لا منذ القبض على زوجها , ولا حتى يوم صدور حكم الإعدام عليه .. وانا أرغب حقاً في طردها , لكن ليس لديّ دليلٌ ضدّها 
الشرطية : اذاً ما رأيك ان نعمل سويّاً لكشف ملابسات الحادث ؟
الطبيبة باهتمام : وماذا تقترحين ؟ 
***

واستطاعت الطبيبة لاحقاً (بناءً على توجيهات الشرطية) إقناع سكرتيرتها بحضور جلسة نفسيّة جماعيّة لبعض النساء (المشتركات في هذه التمثيلية) المتزوجات من رجال محكوم عليهم بالإعدام , ومن بينهنّ كانت الشرطية المتخفيّة بشخصيّة : إمرأة أُعدم زوجها قبل شهور .. 
ورغم ان السكرتيرة اليزابيث (زوجة جاك) لم تردّ الحضور فعلاً , الا انها لم تستطع رفض طلب مديرتها 
*** 

وبعد مرور ساعتين على بداية الجلسة النفسيّة الجماعية : تحدثنّ فيها  النساء الأربعة عن حياتهنّ التي تغيرت تماماً منذ سجن أزواجهنّ .. 
جاء دور الشرطية التي فاجأت الجميع قائلة :
- انا عكسكنّ جميعاً ..أشعر بالراحة التامة لإعدام الحكومة لزوجي ..لا تنظرنّ اليّ هكذا ! فهو كان سيءٌ جداً معي , ويضربني بعنف ..وهو من وقع بشرِّ أعماله , حين قتل صاحب البقالة من أجل السرقة ..لا هو لم يسرق من اجلي ولا من أجل اولاده الثلاثة , بل لكيّ يشتري المخدرات المدمن عليها .. فلما أحزن عليه ؟
اليزابيث (السكرتيرة) : معك حق
قالتها دون انتباه ! بعد شعورها بالفخر من شجاعة الشرطية (المتخفيّة) لقولها ما تريد , دون الخوف من رأيّ الآخرين ! 
***

بعد انتهاء الجلسة , حصل ما كانت الشرطية تتأمّله ..فقد لحقتها اليزابيث الى موقف السيارت (المتواجد أسفل العيادة النفسيّة) وعزمتها على العشاء في اليوم التالي .. 
ووافقت الشرطية برحابة صدر لأنها تريد دخول منزلها , علّها تعرف أكثر عمّا حصل في يوم الجريمة ..
***

في مساء اليوم التالي .. جلستا بالحديقة بعد العشاء , وكانت الشرطية قد أحضرت الخمر معها .. وفي كل مرة كانت تسكب لها ولإليزابيث ..لكنها كانت تستغلّ إنشغال الأم بطفلها (النائم في عربته بجانبها) لترمي بخمرها فوق المزروعات بجانب كرسيها , ولتوهمها بأنها تشاركها الشرب .. الى ان جعلت اليزابيث تسكرّ تماماً .. 
ثم بدأت الشرطية تقول (وهي تدّعي السِكر) : 
- أتدري يا اليزابيث ..لقد كذبت عليكنّ وعلى الطبيبة في الجلسة 
اليزابيث وهي بالكاد تراها بوضوح : أحقاً ؟!

الشرطية : نعم , فزوجي لم يقتل احداً .. بل انا من لبست ثيابه ووضعت قناعاً على وجهي , وأصبت صاحب البقالة عن طريق الخطأ حين خرجت الرصاصة دون انتباهي , ثم أسرعت هاربة بسيارة زوجي ..والشرطة ظنّت انه هو بعد ان رأته بكاميرات المحل , فنحن تقريباً نفس الحجم والطول ..والمسكين كان غارقٌ في النوم وقتها
ثم ضحكت الشرطية ملء شدّقيها , لتشاركها اليزابيث السكرانة الضحك  ولتقول دون وعيٍّ منها : 
اليزابيث بسعادة : نعم نعم , وانا فعلت مثلك تماماً

وهنا أسرعت الشرطية بتسجيل كلامها من جوالها (بالخفاء) .. وهي تحاول تشجيعها على الإعتراف : 
الشرطية باهتمام : وماذا حصل بالظبط في يوم الحادثة يا اليزابيث؟ 
فاعترفت وهي تضحك في سكرٍ واضح : 
- كانت جارتي الغبية قادمة لتزين منزلنا بمناسبة حملي , فزوجي السخيف هو من طلب منها ذلك .. وانا كنت عائدة من موعدي مع عشيقي الذي طلب مني إيجاد حلٍّ سريع لإبعاد جاك عن طريقنا وطريق ابننا

الشرطية بدهشة : آه ! .. أتعنين ان الطفل ليس ابن جاك ؟
اليزابيث : لا .. اصلاً أظن ان زوجي عقيم , لكنه لم يكن يقبل بعمل الفحوصات الطبيّة التي تمسّ برجولته , كما كان يقول دائماً ! وجيد انه لم يفعل , فهذا أعطاني الحريّة لخيانته
الشرطية : ولما قتلت جارتك اذاً ؟!
- لم أكن أقصد .. لكن حين فتحت الباب ووجدته يمسكها بين ذراعيه بعد ان سقطت الغبية من فوق السلم وهي تحاول تزين الجدار بالبالونات , ظننت حينها انه يخونني .. ولم أجد نفسي الا وانا ارميها من بين ذراعيّه لتسقط بقوّة على الأرض , ثم أرمي السلم بعنف فوق رأسها ليسقط على اذنها .. ولم اكن ادري ان هذه الضربة قاتلة , حيث بدأ جسمها ينتفض بحركاتٍ لا ارادية , قبل ان تلفظ أنفاسها الأخيرة !

الشرطيّة باهتمام : وماذا فعل زوجك وقتها ؟!
اليزابيث : جنّ جنونه , وصار يبكي ويصرخ عليّ .. لكني أقنعته بأن ندفنها قبل ان يصل زوجها ويبلّغ الشرطة عن إختفائها 
الشرطية : وهل استخدمت عذر حملك لإرغامه على إخفاء الجريمة ؟  
- نعم ..وقد فعل ذلك مُجبراً بعد حلول المساء ..حيث دفنها بالحديقة .. لكنه حصل ما كنت أتوقعه ..فزوجها كان يعلم بأمر الحفلة , وحين لم يجدها عندنا , أبلغ عن إختفائها ..والشرطة لاحظت بسهولة بأن أرضنا غير مستويّة , فقاموا بالحفر ليجدوها هناك ..

الشرطية : وأكيد وجدوا بصمات زوجك على الرفش , فقبضوا عليه ؟
اليزابيث : نعم ..والغبي لم يدافع عن نفسه في كل جلسات المحاكمة , الى ان صدر عليه حكم الإعدام
الشرطية : وهكذا بموته ستهنئين مع عشيقك وطفلكما ؟
اليزابيث بابتسامةٍ ماكرة : بالتأكيد !! فهو لطالما كان عثرة في طريق حياتي 

وهنا أوقفت الشرطية التسجيل بعد حصولها على ما تريد ..
لكن قبل خروجها من البيت , أخذت مصّاصة الطفل النائم دون ان تلاحظ امه ذلك ! 
***

في اليوم التالي .. طلبت الشرطية من عامل نظافة السجن ان يُعطيها غطاء وسادة جاك قبل غسلها ..واستطاعت أخذ شعرة منها .. ثم ذهبت الى مختبرٍ طبّي وأعطتتهم شعرة جاك ومصّاصة طفل اليزابيث من أجل فحص الأبوّة .. فربما لوّ علم جاك بأن الطفل الذي يحاول حمايته ليس إبنه , سيُخبر الشرطة حينها بالحقيقة ويُنقذ نفسه من حبل المشنقة التي بقيّ شهرٌ واحد على تنفيذ الحكم عليه ! 
***

أمسك جاك بورقة الفحص بيديه المرتجفتين وعينيه الدامعتين وهو لا يصدّق ما يقرأه ! 
- آدم الصغير ليس ابني !
الشرطية وهي تضع يدها على كتفه : ارجوك إهدأ .. انا فعلت كل هذا لكيّ أنقذ حياتك  
فرمى جاك ورقة الفحص على الأرض بعصبية وهو يصرخ بهستيريا , ثم بدأ برميّ أغراضه وأوراق قصصه على الأرض وهو يبكي بانهيارٍ شديد  
الشرطية بقلق : ارجوك يا جاك اهدأ قليلاً ! 

فأسرع الحارسان نحو سجنه بعد ان سمعا صراخه , لكن الشرطية منعتهما من دخول السجن ..وأصرّت ان يبتعدا كيّ يتكلّم جاك براحته ..ورغم قلقهما عليها , الا انهما إمتثلا لأوامرها فهي أعلى رتبة منهما
الشرطية : وهآقد ذهبا ..إخبرني الآن يا جاك بما حصل ذلك اليوم؟  
جاك وهو يحاول التقاط انفاسه , بعد ان هدأ بصعوبة : 
- لقد أخبرتك زوجتي الملعونة بكل شيء وانت سجّلتي إعترافها , فلماذا تسألينني ؟!
- ولما لم تخبر الشرطة عنها ؟ .. أفقط من أجل الطفل ؟!

جاك : حين قدمت الشرطة الى بيتي كنت مرتبكاً للغاية , خاصة بعد ان رأيتهم يحفرون الحفرة التي طمرت بها الجثة .. وحين وجدوها , بدأت زوجتي تصرخ وتبكي ..وظننت حينها بأنها ستعترف لهم بما فعلته , لكنها توجّهت بالكلام لي قائلةً : ((لما قتلت عشيقتك يا جاك ؟! انا كنت أعرف بأمركما منذ مدة , لكني سامحتك لأجل طفلنا ..ليتك لم تقتلها من أجلي ))
الشرطية مذهولة : الخبيثة ! 

جاك بقهر : نعم , اللعينة .. بكلامها هذا , أثبتّت التهمة عليّ ! 
- ولما لم تصرخ عليها وتنعتها بالكاذبة ؟!
- لأني إنصدمت كثيراً ممّا قالته ! كما ان زوج المقتولة كان قدِمَ لمعاينة الجثة .. وحين سمع كلام اليزابيث , هجم عليّ كالمجنون ولكمني بقوةّ أفقدّتني الوعيّ .. وحين أفقت , كنت مُحتجزاً بالسجن
الشرطية : ولما لم تعترف بكل ما حصل في أيام محاكمتك ؟!
- لأنها زارتني قبل لحظات من دخولي قاعة المحكمة واعتذرت عمّا فعلته , وقالت انها فعلت ذلك لأجل طفلنا فهو لا يستطيع ان يكبر دون امه 
- وانت صدّقتها وسكتّ طوال سنةٍ كاملة من المحاكمات , مُعترفاً فيها بذنبك !

جاك بقهر : كان هذا كلّه لأجل الصغير .. وبالنهاية ظهر انني كنت أحمي إبن عشيقها التي أرادت ان تعيش معه على راحتها , بعد ان تُبعدني عن دربها ! .. (ثم يصرخ بغضب) .. يا الهي !! انتِ لا تدرين كم انا غاضبٌ الآن , أكاد أحطّم السجن بمن فيه !! 
الشرطية بحزم : اهدأ يا جاك , لم يفت الآوان بعد .. فأنا ذاهبة الآن الى محاميك لأسلّمه الأدلّة الجديدة , حتى يقوم بالإستنئناف الأخير لقضيتك ..وأعدك بأنني سألقن زوجتك الخائنة درساً لن تنساه ..فأنا لن أسمح بإعدام شخصٍ بريء عن ذنب غيره ! 
***

وبالفعل !! أُعيدت محاكمة جاك في ظلّ ظهور الأدلّة الجديدة .. وحكم القاضي ببراءته وإدانة زوجته التي سُجنت مؤبّد عن القتل من الدرجة الثانية (لأنه ليس عن سبق إصرار وترصّد) وذلك بعد ان أصرّ زوج الفقيدة بأن تحصل اليزابيث على أشدّ العقوبات ..اما طفلها فقد سُلّم لعشيقها , والده البيولوجي
***

بعد شهور من خروج جاك من السجن .. حضرت الشرطية حفل توقيع كتابه (عن مجموعة قصصه الرومنسية) في مكتبةٍ عامة , بحضور الصحافة والقرّاء الذين أعجبهم كتابه الذي ضمّ أجمل القصص القصيرة للعشق العذريّ ..
***

وبعد سنة ..أصدر جاك مجموعة أخرى من القصص الدرامية والبوليسية , لم تلقى ذات ترحيب الذي حصل عليها في مجموعته الرومنسية .. ممّا آثار غضب معجبيه , بما فيهم الشرطية التي زارته في بيته الجديد 
جاك بدهشة وترحاب : أهلاً بصديقتي العزيزة ديانا , إدخلي 
***

وفي الداخل , وبعد ان شربا الشايّ .. عاتبته على تغيير نوعيّة كتاباته , لكنه أجابها بنبرةٍ حزينة : 
- قلبي مكسور يا ديانا , ولا أجد حافزاً لكتابة القصص الرومنسية بعد الآن 
الشرطية ديانا : لكن هذا ما تبرع به بالفعل ..وهي موهبتك الحقيقية , ولا يجب ان تتجاهلها.. الا يكفي انك تخليت عن موهبتك في الماضي ؟! فأرجوك عدّ لكتاباتك الجميلة قبل ان تخسر معجبينك 
- لكني مازلت أكتب يا ديانا ..  
مقاطعة : نعم ..قصصك الدرامية والبوليسية لا بأس بها , لكنها ليست بروعة قصصك الرومنسيّة  
جاك بقهر : ومن ستكون بطلتي ؟ أزوجتي القابعة في السجن ؟ ام..  
ديانا مُقاطعة : بل حبيبتك إيميلي ..الم تكن بطلة مجموعتك الأولى؟ 
فنظر اليها مطوّلاً..

ديانا بقلق : ماذا هناك ؟!
جاك : لما ساعدتني يا ديانا بعد ان فقدّت الأمل ببراءتي , وأنقذتني من حبل المشنقة ؟
ديانا : ليس انا من أنقذتك من الإعدام , بل قصصك
- لم افهم !
- اسلوبك المرهف ومشاعرك الصادقة بالقصص , جعلتني اتأكّد من براءتك 
- ألهذا فقط ؟
- ولأنني عرفت انك شخصٌ شهم وقلبك طيب وتستحق الأفضل

ففكّر جاك قليلاً , قبل ان يقول بابتسامة : أتدرين يا ديانا .. أظنني سأعود الى كتابة القصص الرومنسية
الشرطية بفرح وحماس : أحقاً !! 
- نعم ..لكن هذه المرّة ستكونين أنتِ بطلة قصصي 

وابتسم لها ابتسامةٍ تعني بداية علاقةٍ جديدة في حياته , لكن هذه المرّة مع توأم روحه التي طال إنتظارها !

الأحد، 22 أبريل 2018

الحرب النفسيّة

كتابة : امل شانوحة

قتلوا ألف جندي دون رصاصةٍ واحدة !

كنت من الناجين القلائل في مخيّم الأسر بعد انتهاء الحرب الكوريّة , حيث مات ألف جندي امريكي معظمهم كانوا ضمن فرقتي التي لم يحالفها الحظّ في الهروب .. وتمّ أسرنا جميعاً في مخيّمٍ لم يكن مرعباً كالسجون النازيّة الإلمانية , ولم يحصل لنا كما حصل لصينيين في المعتقلات اليابانية التي سمعنا عنها أبّان الحرب العالميّة الثانية .. فأسوار المخيّم لم تكن عالية , ولم نُحرم يوماً من الطعام والشراب .. بل حتى ان الكوريين لم يعذبونا بالضرب او الكهرباء او غيرها من وسائل التعذيب 

أعرف انكم تتساءلون : اذاً كيف مات ألف جندي شاب يتمتعون بصحةٍ جيدة بموتةٍ طبيعية ؟!
سأخبركم ما حصل معي من خلال تجربتي في ذلك الأسر , وستفهمون كل شيء

في البداية ..توقعت انا واصدقائي الأسوء بعد ان جرّدونا من سلاحنا واقتادونا نحو معتقلهم ..وكنّا نظن بأنهم سيجوعونا حتى الموت ..لكن ما ان وصلنا الى هناك , حتى قدّموا لنا وجبةً ساخنة لا بأس بها ! بينما كشَفَ طبيبهم على المصابين منّا .. 

ثم قسّمونا بين العنابر حيث وجد كل واحداً منا سريراً خاصاً به , فنحن لم ننمّ متراصّين جميعنا على ارضٍ باردة كما توقعنا , بل كان متوفراً كل شيء حتى الأغطية السميكة والمناشف !
فظننا ان التعذيب سيبدأ في اليوم التالي .. لكنه لم يحصل ذلك طوال مدة اعتقالنا هناك .. الاّ اننا لم ندرك بأننا دخلنا بالفعل في برنامجٍ تعذيبي مكثّف لكنه من نوعٍ آخر .. حيث استخدموا فيه كل الضغوطات النفسيّة المحطّمة لكل جوانب إنسانيتنا والتي إكتشفنا مع الوقت انها هشّة أكثر مما تصوّرنا !
***

ففي صباح احد الأيام .. جمعونا في ساحة السجن حيث كانت هناك منصّةً خشبية , وأجلسونا جميعاً على الأرض في مواجهتها وكأن هناك مسرحية ستقام بعد قليل .. 
ثم صعد عليها رئيس السجن الكوري وأخبرنا بمكبّر الصوت وباللغة الإنجليزية : بأن كل واحدٍ منّا سيصعد الى فوق ليتكلّم عن تجربة سيئة حصلت معه في حياته , وسنقوم بذلك جميعاً بحيث نستمع لجميع الأسرى وهم يتحدّثون عن ذكرياتهم السيئة التي مازالوا الى اليوم يشعرون بالخجل منها !

وكنت اول من تكلّم بينهم .. وصعدت الى المنصّة وانا احاول تذكّر تلك الحادثة التي علقت في ذاكرتي للأبد : وكانت حين إنضممّت الى الجيش مع صديق طفولتي جيمي ..وذكرت لهم بأننا كنّا متحمّسان جداً للذهاب الى الحرب , فلطالما أثارت المعارك وحمل السلاح وقتل الأعداء مخيّلاتنا الطفوليّة .. وكنّا محظوظين حين وضعونا في نفس الكتيبة .. لكن قبل اسبوع من وقوعي بالأسر وقعنا بفخّ للأعداء , وضعنا انا وصديقي عن بقيّة الجنود وعلقنا في الغابة .. وتعاهدنا وقتها بأن ندافع عن بعضنا حتى آخر نفسٍ لنا .. وبقينا ثلاثة ايام نمشي بحذر في غابةٍ لا نعرف أولها من آخرها .. 

وفي تلك الليلة المشؤومة أيقظت صديقي ليأخذ مكاني في الحراسة بينما انام انا بعد ان هدّني التعب ..فوافق على قيامه بجولةٍ تفقّدية من حولي , حاملاً سلاحه ومتنبّهاً لأيّ صوتٍ مفاجىء .. ثم لا ادري ما حصل بعدها ! .. فقد استيقظت على صوت أعيرةٍ نارية قريبةً مني .. وحين استفقت لم أجد صديقي بجانبي .. وكان الليل دامس ولسوء حظي انتهت بطاريات كشّافي اللعين .. وفجأة ! هجم عليّ شيءٌ خرج من بين الأحراش , فظننته دباً او نمراً او أحد الكوريين , فأغمضت عينيّ وأطلقت النار عليه ..والى اليوم مازلت اذكر نظرات جيمي بعد سقوطه بين ذراعيّ حين أصبت قلبه بالخطأ .. وكانت آخر كلماته لي قبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة : لما قتلتني يا صديقي ؟!

وحين أخبرت الجميع بهذه القصة , إنهارت قوايّ وبكيت بشدّة كطفلٍ صغير ! بحيث إضّطر جنديان كوريان لإنزالي من فوق المنصّة وإعادتي الى قسم العنابر ..حيث أكملت بكائي المرير وانا فوق سريري , بينما كان يتناهى الى سمعي صوت الجندي الأمريكي الذي صعد مكاني ليخبر الجميع بقصته عن خذلانه لشخصٍ يعزّه في حياته ..

وهكذا توالت قصصّ الإعترافات المذلّة على مدار إسبوعٍ كامل , ويبدو ان الجنود جميعاً كانوا يخفون بداخلهم قصة يخجلون من البوح بها !
  
وفي البداية ظننّا ان هذا جيدٌ لنفسيّتنا بعد أن تخلّصنا من تلك الذكرى السيئة العالقة في ذهننا وأرواحنا , وتساءلنا : اليس هذا ما يفعله الطبيب النفسي بالعادة لعلاج المرضى ؟!

لكن لاحقاً .. لاحظت بأننا لم نعدّ نتواصل بأعيننا فيما بيننا , بل كل واحداً منّا كان يسارع بخفض بصره حين يقترب منه أسيرٌ آخر.. 
فقد كان من ضمن تلك الإعترافات : جنودٌ اعتدوا في سنوات مراهقتهم على نساءٍ واطفال , كما كان منهم من ارتكب السرقات او عصياناً مؤذياً  لأهلهم ومدرسيهم , وصولاً الى القتل الخطأ او حتى العمد ..وغيرها من الأفعال والجرائم التي يندى لها الجبين ! 
***

وبعد مضيّ الشهر الأول في المعتقل بدأت تصلنا رسائل من اهلنا .. لكنهم لم يسمحوا لنا بقراءتها , بل كانوا هم يقرأونها لنا .. 
وعادة ما كان يحصل الشيء ذاته في اليوم الوحيد بالأسبوع المسموح به قراءة البريد , حيث كنّا نسمع بكاء الجنود وانهيارهم ما ان يسمعوا مضمون الرسائل : فمنهم من يصله خبر موت إحدى والديه او كلاهما , ومنهم من يخبرونه بانحراق محله التجاريّ الذي كان يحلم دوماً بالعودة للعمل فيه , ومنهم من يعرف بأن ابنته الصغيرة اغتصبت , وغيرها من القصص المدمّرة ..

حتى انا وصلني نبأ : بأن ابني الوحيد أصابته شظيّة زجاج اثناء لعبه الكرة مع اصدقائه , أدّت الى خسارته إحدى عينيه الزرقاوين الجميلتين .. 
واصابني ما اصاب الجنود من اكتئابٍ شديد .. لكني بعدها فكّرت بالأمر مطوّلاً , وقلت انه من المستحيل ان يرسلوا جميع اهالينا قصصاً سيئة لنا وهم يعرفون بأن مصيبتنا بالأسر تكفينا , فمن الغير معقول ان يزيدوا همّنا همّاً ! 

وبدأت أتساءل في نفسي : هل يقوم الجنود الكوريون المترجمون بقراءة الأخبار السيئة فقط وحذف الجيدة من الرسائل ؟ ام هل كانوا يختلقون تلك الحوادث عن اهلنا لتدمير نفسيتنا المحطّمة ؟ 
وظل هذا السؤال يراودني طوال فترة اعتقالي , لكنه لم يكن يتواجد عندي ايّ دليلٌ على ذلك
***

ثم بدأت الاحظ أفعالاً أخرى مُقلقّة من الكوريين .. 
ففي يوم أصابني صداعٌ شديد وطلبت من حارس السجن ان يحضر لي شيئاً يخفّف الألم سواءً شاي او قهوة او ايّ دواء.. واذا به يفتح باب الزنزانة ويأخذني الى مدير السجن الذي وضع بجانبه قدح قهوة وحبة اسبرين وسيجارة ايضاً , وقال لي : ماذا تختار ؟
فقلت : الدواء .. 
فقال : يمكنك أخذ الثلاثة , لكن كل واحداً بثمن 
فقلت له : معي بعض المال ..
فأجابني مبتسماً ابتسامةٍ ماكرة : لا , ثمنها شيءٌ آخر ..

وطلب مني ان أخبره بما يفعله اصدقائي قبل خلودهم للنوم , وعن  احاديثهم الجانبية , وهل يخطّطون للهرب ام لا ؟
فسألته بقلق : هل تريدني ان أتجسّس على اصدقائي ؟!
فأجابني بشيءٍ أرعبني : 
- الم تلاحظ ان بعض الجنود حصلوا على السجائر بعكسكم ؟ 
فعرفت انهم زرعوا جواسيس بيننا , وان منهم من قبل بهذه المهمّة الخبيثة , لكني رفضت بقوة .. 
فابتسم لي قائلاً : اذاً عدّ الى زنزانتك , وعالج صداعك بنفسك 
***

وبعد ثلاثة شهور ..لاحظت ان الف جندي امريكي على الأقل حصلوا على بعض المميزات التي انفردوا بها عنا , وذلك من وقتٍ لآخر ..فعرفت انهم خانوا أصدقائهم على الأقل لمرةٍ واحدة ! 
لكن الغريب في الموضوع ان المُوشى به لم يتم معاقبته ! فأدّى ذلك لعدم شعور الواشي بتأنيب الضمير .. وهذا شجّع الباقون على الوشاية بالآخرين للحصول على المكافآت , مما أدّى لتدمير الثقة فيما بيننا ! 

وقد لاحظت لاحقاً أثر ذلك على نفسيّة الواشون , حيث ازدادوا بؤساً بشكلٍ ملحوظ بعد ان تخلّى عنهم معظم اصدقائهم بحيث اصبحوا وحيدون داخل جدران هذا المعتقل ! ففهمت بأنها حركة مقصودة من الكوريين لتحطيمهم ! وحمدت ربي بأنني حميت نفسيّتي من إختبارهم الخبيث 
***

ربما تظنون ان وسائلهم الثلاثة كان أمراً سهلاً مقارنةً بوسائل التعذيب الآخرى , لكنكم مخطئون 
لأن هذه الوسائل النفسيّة أدّت لاحقاً لموت ألف جندي بالموت البطيء , حيث كنّا ندفن جندي او ثلاثة كل صباح , بعد ان نستيقظ لنجدهم ميتون في فراشهم ! 
***

وقد فهمت بعد إطلاق سراحنا وعودتي مع القلائل الناجون الى بلادنا : 
1- بأن إجبارنا على قول الذكريات السيئة وفضائحنا امام الملأ : أدّى لاحقاً لخسارة إحترامنا لأنفسنا واحترام الآخرين لنا
2- اما رسائل الأخبار السيئة : فافقدتنا الأمل بالنجاة والتحرّر
3- واما التجسسّ على زملائنا : فأشعترنا بأننا حقراء وعملاء , ممّا قضى على عزّة نفسِنا ! 
***

واليوم لا ادري ماهو شعوري بالضبط ناحية الضبّاط الكوريين : هل كانوا شرفاء بأنهم لم يستخدموا وسائل التعذيب المعروفة من حرقٍ وتقطيع وتجويع , ام انهم ماكرون جداً لأن ما فعلوه بنا أدّى الى ضررٍ نفسيٍّ دائم , حيث ان من نجى منّا لم يتواصل مع الآخر بعد عودتنا الى الوطن بعد ان تحطّمت الثقة بين رفقاء السلاح للأبد!  
***

واليوم ورغم انني هرمت في العمر الا انني مازلت أشعر وكأنني مسجون داخل بيتي , لأنني وضعت حاجزاً بيني وبين الجميع بعد ان اصبحت انطوائياً بسبب ما تعرّضت له هناك .. 
لكني بصراحة لا الوم الكوريين , فبالنهاية : الحرب خدعة .. وهم اذكياء باستخدامهم لهذا السلاح الخفيّ الغير مُعاقب عليه دوليّاً .. 

وبالنهاية تبقى الحرب النفسيّة أقوى وأسوء الحروب على الإطلاق .. وكم كانت تلك التجربة مدمّرة بحقّ !
*****

ملاحظة :
هذه قصة حقيقية : حيث قام الجنرال (وليام ماير) المحلّل النفسي في الجيش الأمريكي بحلّ لغز موت 38% من الأسرى الجنود الأمريكان في المعتقل كوريا الشمالية بعد انتهاء الحرب بينهما (من عام 1950 - 1953) بالرغم من ان مخيّم الإعتقال كان يتوفّر فيه كل المواصفات الدولية الإنسانية للسجون , كما إنها لم تكن محاطة بالأسلاك الشائكة ولا بحراسات مشدّدة ، ومع ذلك لم يحاول أي جندي أسير الهرب من هناك ! ورغم عدم ارتكاب الكوريون لأيّ مخالفة إنسانية , مع هذا كان أعداد الموتى من الأسرى داخل هذا المخيم أكثر بكثير من أيّ سجنٍ آخر ! 

وتوصّل الجنرال لاحقاً الى تحليلٍ مفصّل لوسائل التعذيب النفسية الثلاثة التي استخدمت هناك , والتي أدّت لوفاة الجنود بصورة طبيعية دون الحاجة لاستخدام أيٍّ من أدوات التعذيب الأخرى ! 

رابط القصة :
https://arabic.rt.com/news/828702-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%82%D8%AA%D9%84%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D9%89-%D8%A8%D8%A8%D8%B7%D8%A1/

الخميس، 19 أبريل 2018

خاتم سليمان

تأليف : امل شانوحة

وجدت الخاتم الذي يبحث عنه الجميع !

سكن هشام في حيٍّ يُعرف بمنطقة المشعوذين القريب من جبل شمهروش بالمغرب , حيث اشتهر بسوقه المليء بأغراض الشعوذة من جلود تماسيح ومناقير غربان وأظافر سباع وأدمغة ضفادع وكافة انواع البخور المستخدمة بالسحر الأسود .. ولسوء حظّه كانت خالته من اشهر المشعوذات هناك , اما امه فقد ماتت منذ ان كان صغيراً ليربيه اهل والده البعيدون عن هذه الأعمال المشبوهة .. الا ان هشام وجد نفسه مضّطراً للعودة الى منزل والدته بعد ان بلغ رشده , ليعمل مرشداً للسوّاح الأجانب القادمون لرؤية جبل الشيطان (شمهروش) الذي وصل صيته لبلاد الغرب 

ورغم ان هشام لم يؤمن يوماً بهذه الخرافات التي يصدّقها بقوة اهل والدته بما فيهم خاله الذي يعمل بتجارة بخور السحر , الا انه لم يتجرّأ على معارضتهم او مجادلتهم بهذا الموضوع .. وان كان احياناً يذهب الى شيخ القرية المجاورة ليشاهد طريقة إخراجه للجن من المسحورين ..

ومع الأيام .. ازداد اهتمام هشام بفكّ الأسحار , وطلب من الشيخ تعليمه طرق إبطالها ..فأخبره الشيخ بأن بعضها يُفكّ بصبّ الماء المقرأ عليه آياتٍ معينة من القرآن , والبعض الآخر يجب حرقه او دفنه .. لكن الأهم من هذا ان لا يفكّ أيّ عقدة لحبالٍ او خيوطٍ معقّدة (يجدها داخل الأعمال السحريّة) الاّ بعد قراءة المعوّذات , وذلك بعد تحصين نفسه جيداً ..
***

في احد الأيام .. طلبت سائحة أجنبية من هشام ان يأخذها بجولة الى جبل الشيطان , فأخبرها بأن الأمر سيكلّفها مئة دولار , فوافقت 

وفي طريق صعودهما الى هناك , سألها : 
- لماذا تريدين زيارة هذا الجبل المخيف ؟
فأجابته كريستينا : امي وابي كانا قوطيّن اثناء دراستهما الجامعية , ثم تحوّلا لاحقاً الى عبدة شيطان ..وحين قبضت الشرطة عليهما بعد ان شاركا بطقوس حرق قربانٍ لطفلٍ بشريّ , أرسلتني جمعية الشؤون الإجتماعية الى دار الأيتام ..ولهذا أردّت معرفة أكثر عن معتقداتهما  
هشام : برأيّ ان لا تفعلي فهو طريقٌ شائك , وإن دخلتي في متاهات الشيطان فلن تخرجي منها بسهولة , وقد يأذونك كثيراً
السائحة باهتمام : وكيف يأذونني ؟!
- ان أردّتِ .. بدلاً من ذهابنا الى فوق , دعيني آخذك الى شيخٍ أعرفه , وعنده ستشاهدين حالة المسحورين المزريّة
- سأفعل , لكن بعد ان أرى الكهف من الداخل 

هشام : اذاً سأوصلك الى هناك , لكني لن أدخل معك 
السائحة بسخرية : انت شابٌ قويّ ومع هذا تخاف الدخول الى كهفٍ مظلم
هشام بجديّة : هو ليس كأيّ كهف , بل هو مكان مسكون من أحد ابناء ابليس الملاعيين ..وعادة يأتي السحرة الى هنا ليتقاضوا عنده ..وشمهروش هو من يفصل النزاع بينهم ..ولا تسأليني كيف يفعل ذلك فأنا لست بساحر , ولا يهمني معرفة هذه الأمور 
- كما تشاء ..
هشام : وهآقد وصلنا ..خذي كشّاف النور معك ..وانا سأنتظرك بالخارج ..لكن إسرعي , فأنا اريد العودة الى بيتي قبل غروب الشمس

ودخلت السائحة لوحدها الى هناك .. 
وبعد نصف ساعة .. سمع هشام صرختها المفزعة من الداخل , فاضّطر الدخول الى هناك ليجدها تنتفض على الأرض , وسائلٌ اسود يخرج من فمها ! فأسرع بحملها ليضعها في سيارته المتوقفة اسفل الجبل , ويأخذها الى شيخ القرية المجاورة ..
***

وبعد ان أخبر الشيخ بما حصل , حاول كثيراً إخراج الجني الذي رفض تماماً الخروج منها , حتى ان هشام سمع بنفسه صوت الجني وهو يقول :
- لقد حاولت هذه اللعينة سرقة الذهب الموجود في جرّة سيدي , لهذا سأعاقبها الآن 
الشيخ مُستفسراً من الجني : 
- أتقصد المال الذي يضعه السحرة لشمهروش ؟
الجني بصوتٍ أجشّ : نعم !! ومن يتجرّأ على سرقة سيدي , عقابه الموت

وفجأة ! ارتفع جسد كريستينا عالياً حتى وصلت الى سقف بيت الشيخ .. ثم أنقلب جسدها بحيث أصبح رأسها في الأسفل , لتسقط بقوّة على الأرض وينكسر رقبتها , وتنتفض عدّة مرات قبل ان تلفظ انفاسها الأخيرة , وسط رعب هشام وخوف الشيخ الذي لم يرى مثل حالتها من قبل !
***

وضجّت المغرب بموت السائحة بهذه الطريقة البشعة , وحاولت سفارتها القيام بالكثير من التحقيقات بأمر وفاتها , وكاد الشيخ وهشام ان يُزجّا في السجن بتهمة قتلها .. 

لكن بعد شهرين ظهرت براءتهما , وتمّ اغلاق القضية بموتها في ظروفٍ غامضة ! ومنعت الحكومة المغربية الصحافة من التحدّث بهذه القضية خوفاً على سمعة الدولة , كما لقلقها من تأثير الحادثة على أعداد السوّاح الأجانب الوافدين للبلاد
***

وهذه الحادثة أثّرت كثيراً على نفسيّة هشام الذي بات يشاهد السائحة المتوفية في منامه كل ليلة وهي تطالبه بالإنتقام لها .. 
وبعد ان تعب من هذه الكوابيس المتكررّة , قرّر أخذ إجازة والذهاب الى البحر في المحيط الأطلسي ليمارس هوايته في الغطس , فربما رؤية أعماق البحار تُنسيه الجن والشياطين وأساليب الدجل والشعوذة 
*** 

وفي يومٍ ما , قبيل غروب الشمس ..وبينما كان يغطس كعادته , شاهد وهو اسفل البحر (القريب من الشاطئ) قارورة زجاجية تسقط عليه من فوق , وكأن أحداً رماها قبل قليل في البحر .. فأخذ القارورة وصعد الى السطح , ليشاهد من بعيد امرأة تلبس عباءة سوداء وتضع عقداً من الأحجار الملونة حول رقبتها , وكانت تشير لخادمها برمي الخاروف الصغير المذبوح في البحر .. فعرف انها مشعوذة تعطي قرباناً لإبليس الذي يسكن البحار , بعد ان رمت له السحر داخل القارورة .. 
فانتظر ابتعادهما عن الشاطئ , ليفتح القنينة .. 

وفي داخلها وجد صورة صبيّة صغيرة في حدود 13 من عمرها , مع قماشة بها دمّ وترابٌ اصفر , وشعرة ماعز مربوطة ثلاثة عقد!  
فقال في نفسه بغضب :
((الملعونة !! ماذا تريد من فتاةٍ صغيرة ؟ ..أكيد تريد حرمانها من الزواج طوال حياتها , فهذا غرض الحقودات من النساء !.. حسناً !! والله سأفكّ السحر وأنقذ الصبيّة من شرّها))

وبالفعل !! قام بفكّه بالطريقة التي تعلّمها من الشيخ , وقرأ المعوذات قبل فكّ كل عقدة ..ثم حرق الشعرة ورمى التراب الأصفر بالماء , وطمر قماشة الدم بالتراب , فكل نوع له طريقة معينة لفكّه .. 
وبعدها قال للفتاة التي بالصورة :
- إنطلقي يا صغيرتي , فأنت حرّة 
ورمى بصورتها في البحر , وهو يعلم بأنه أنقذها من بؤسٍ كان سيطال كل جوانب حياتها ..
***

في اليوم التالي ..قرّر إنهاء إجازته , لكنه أراد توديع البحر قبل عودته الى المناطق الجبلية التي يعيش فيها .. 
لكنه عاد وشاهد مشعوذة اخرى تفعل الشيء ذاته التي فعلته المشعوذة البارحة ..
وبينما وقف مذهولاً مما رآه ! إقترب منه رجلٌ عجوز وهو يقول :
- لا تستغرب يا بنيّ , فهذا المكان من الشاطئ يُعرف بملتقى السحرة , واظن لو نزل احدهم الى عمقٍ قريب من الشاطىء سيجد عشرات القارورات التي بها ارواح بشرٍ محتجزين , ينتظرون الفرج منذ سنواتٍ طويلة .. لكن ماذا نفعل ؟ قدرنا في هذه البلاد امّا ان نكون سحرة او مسحورين .. ليعيننا الله

وبعد ان ابتعد العجوز , فكّر هشام مطولاً وهو يتذكّر ما حصل لكريستينا (السائحة الأجنبية) ..
وهنا قرّر أن ينتقم لها ولجميع المسحورين , قائلاً في نفسه :
((انتظروني ايها السحرة الملاعيين !! والله لأكون كابوسكم الذي يُفشل كل مخطّطاتكم الشيطانية))
***

ومن بعدها .. استأجر هشام بيتاً قرب الشاطىء لمراقبة المشعوذين من بعيد .. 
وكان عند كل مساء , يلبس بدلته الغطس وينزل الى الأعماق ليستخرج القارورات الذي يظلّ طوال الليل يقرأ القرآن وهو يفكّ العقد المربوطة لينقذ بذلك عشرات المسحورين في ارجاء البلاد والذين لا يعرفون بعمله البطولي , حيث كان هشام دائماً ما يُصاب بأمراض وأعراض مسٍّ وارتفاع حرارة وهلوسات , عدا عن الكثير من الكوابيس من الجن وهم يهدّدونه بالإنتقام .. لكن ايمانه ظلّ قويّاً , حيث داوم على قراءة القرآن وتحصين نفسه من شرورهم 
***

وذات مساء .. وهو يستخرج كعادته الأعمال السحرية , وجد صندوقاً خشبياً صغيراً مغروزاً في الرمال بأعماق البحر .. وحين أخذه الى بيته , كسر قفلة ليجد بداخله خاتماً من الفضة محفوراً عليه نجمة تشبه نجمة اسرائيل ! كما نُقشت بعض الرموز على جوانبه , ولم يفهم ما تعنيه الا في اليوم التالي بعد شرائه لكتاب من إحدى المكتبات عن تفسير معاني النقوش الأثريّة ..وكانت المفاجأة حين رأى رسماً مشابهاً للخاتم الذي وجده , وهو خاتم النبي سليمان الذي كان يسيطر به على الجن ! 

هشام وهو يقرأ عن الخاتم في الكتاب , قال بدهشة :
((يا الهي ! هل وجدت الخاتم الذي يبحث عنه الجميع ؟! لكن كيف وصل من القدس الى هنا ؟! هل مشى مع تيار الماء ؟ وكيف يعمل ؟ كيف يمكنني ان اطلب بواسطته خدمات من الجن ؟)) 
وحاول دعكه , وطلب بعض الأوامر بصوتٍ عالي : 
- يا ايها الجني حارس خاتم سليمان , اخرج حالاً لتطيع اوامر سيدك هشام 

لكنه لم يحدث شيء !
وبعد عدّة محاولاتٍ فاشلة ! وضعه في سلسلة من الفضة حول رقبته , وأخفاه داخل قميصه .. ليتابع عمله اليومي بفكّ الأسحار 

لكن شيئاً ما تغير بنوعيّة مناماته ..فهو لم يعدّ يشاهد الكوابيس وتهديدات الجن (خدم الأسحار المفكوكة) له , بل بالعكس ! كان يشاهد نفسه وكأنه قائد للجن , وجميعهم ينحنون برؤوسهم له ! 
***

وبعد مدة من الزمن .. صار يشعر هشام برغبةٍ قوية للذهاب الى الخليج العربي , دون ان يعرف السبب .. فهو ليس لديه اقارباً هناك , ولا وظيفة عمل , فلما يذهب الى بلادٍ لا يعرفها !
لكنه لم يجد نفسه الا وهو يدفع تذكرة ذهاب الى الكويت ..وعندما وصل الى هناك برحلةٍ سياحية , شيءٌ ما دفعه لاستئجار قارب .. 
***

وفي صباح اليوم التالي .. لم ينتظر قبطان السفينة , بل قادها بنفسه مسرعاً نحو الشرق , وهو يكاد لا يسيطر على يديه التي تقودانها الى هناك ..
فقال في نفسه بخوف : 
((أصبحت في منتصف الخليج , وان أكملت على هذه الوتيرة سأصل قريباً الى الحدود الإيرانية ! فلما لا استطيع التحكّم بنفسي وإيقاف هذا القارب اللعين ؟!!))

وفجأة ! انتهى وقود السفينة مع غروب الشمس لتتوقف وسط البحر 
هشام بقلقٍ شديد : 
((لما اتيت الى هنا ؟ وكيف سأعيش الآن وليس معي سوى قارورة صغيرة من الماء وسندويش واحد من الجبن .. ومن سيجدني في عرض البحر , فأنا لم أخبر خفر السواحل برحلتي ؟ .. يا الهي ! يبدو انني سأموت وحدي هنا , أهذا هو انتقام الجن منّي ؟!))

ونام ذلك المساء باكيّاً وهو يستعرض ذكريات حياته القصيرة , بعد ان كان أكل السندويش وشرب آخر قطرة ماء في القارورة 
***

في منامه : شاهد خاتم سليمان (الذي يضعه حول رقبته) يضيء فجأة ! ثم سمع صوت جني يقول له : 
- لن تموت قبل ان تُنهي مهمّتك

واستيقظ في الصباح .. ليتفاجأ بأن سندويشة الجبن وقارورة الماء مازالا كما هما !
هشام بخوف : الم أنهيهما البارحة ؟!
وهنا تذكّر حلمه .. 
هشام : هذا جيد , يعني لن أموت جوعاً وعطشاً , لكن ماهي مهمّتي بالضبط ؟
وصرخ بصوتٍ عالي : لما أحضرتموني الى هنا ؟!! ماذا تريدون مني ايها الجن الملاعيين ؟!!

وفجأة تغير الجوّ ! وهبّت رياحٌ قويّة , جعلت هشام يُسرع بفتح شراع السفينة لتقتادها الرياح الى جهةٍ مجهولة 
وظلّت السفينة تمشي بسرعة بفعل الرياح , الى ان حلّ المساء .. وكان وقتها هشام أنهى السندويش وقارورة الماء للمرة الثانية ..
***

في الصباح .. استيقظ بعد ان شعر بسفينته تحطّ فوق الرمال !
وحين رفع رأسه شاهدها راسية على الشاطئ , فخرج من السفينة وهو يصرخ فرحاً بعد ان انتهى هذا الكابوس ..
وبعد ان هدأت فرحته , نظر الى الشاطىء جيداً فوجده أشبه بجزيرةٍ صغيرة , بها جبلٌ صغير في الوسط بداخله كهف , وشجرتان صغيرتان بالجوار .. هذا كان كل شيء موجود على هذه الجزيرة الغامضة ! 

فاقترب بخوف ناحية الكهف , وهو يقول مرتعباً :
- ماذا يوجد داخل الكهف ؟ هل معقول نمرٌ او دبّ ؟ لا , لا أظن ..اصلاً كيف سيعيشان هنا دون وجود شيءٍ يأكلانه .. لكني اسمع حركة بالداخل , هل معقول افاعي وعقارب ؟.. لابد ان ادخل لأرى
***

حين دخل الكهف , شاهد شيئاً مرعباً للغاية ! حيث وجد رجلاً قصيراً مقيدّاً بالسلاسل من يديه ورجليه , وعينه مطموسة بالجلد وكأنه خُلقَ بعينٍ واحدة , وكان شكله المخيف أشبه بالمسخ الذي ما ان شاهد الخاتم يتدلّى من رقبة هشام , حتى صرخ بسعادة وبصوتٍ جهوريّ مخيف :
- وأخيراً !! خاتم سليمان

وما ان قال المسخ ذلك , حتى سخن الخاتم الذي يحمله هشام كثيراً , بحيث أصبح كجمرة نار ..فأسرع بإزالته من رقبته , قبل ان يحترق به .. 
وما ان رماه هشام على الأرض , حتى انفكّت أغلال المسخ .. 
وأدّى تحريره المفاجىء لتجمّد الدم في عروق هشام , حيث سقط مغشيّاً عليه من أثر الرعبة ! 
***

بعد ساعة .. حاول هشام فتح عينيه بصعوبة , ليتناهى الى سمعه صوت امرأة تودّع رجلاً خارج الكهف , وهي تقول له : 
- أستتركني لوحدي هنا يا مسيح الدجال ؟ 
فأجابها وهو يبدو كأنه يركب قارب هشام مبتعداً : 
- عليّ الذهاب وحدي اولاً لأدّعي الإيمان والصلاح , ومن ثم أدّعي النبوة , وسيساعدني في مهمّتي خدم سليمان من الجن الأقوياء .. وبعد ان يصبح لديّ أتباع ومناصرين سأدّعي الألوهية , ومن بعدها آتي الى هنا لأخذك معي ..هذا وعدٌ مني  ..والى ذلك الحين , أتركك مع ذلك العريس الوسيم 

وهنا انتبه هشام بأنه مقيّد اليدين والرجلين بالسلاسل في نفس المكان داخل الكهف , الذي كان محتجزاً فيه الدجّال قبل لحظات ! 
وقبل ان يعيّ ما يحصل معه , دخلت عليه تلك المرأة التي كانت أشبه بالدابّة المُشعرَّة ! 
فصرخ هشام بخوف , وهو يحاول التحرّر من قيوده :
- من انتِ يا هذه ؟!!

فأجابت بابتسامة مغرية , تكاد لا ترى من كثاقة شعر وجهها : 
- انا الجسّاسة , الم تسمع بي ؟ ..لا يهم .. تعال اليّ حبيبي , فأنا لي قرون بعيدة عن الرجال 
هشام يصرخ بخوفٍ شديد : لا ابتعدي عني ..لا تلمسيني ..لااااااا !!!!

واختفى صوته داخل كهف الجزيرة الغامضة , بعد ان أدرك بأنه إرتكب خطأً شنيعاً بتسليمه خاتم سليمان السحريّ (الذي فيه أقوى الجن والغيلان) الى الدجّال اللعين الذي هو الآن في طريقه الى مدينة أصفهان الإيرانية ليخرج من هناك بغرض فتنة البشر , ليكون أصعب علامة من علامات الساعة الكبرى !
*****

ملاحظة :
أقدّم اعتذاري لأهل المغرب , فأنا لم أقصد إتهام شعبكم بالسحر , لكني قصدّت فئة قليلة منكم تستغلّ خرافة جبل شمهروش للقيام بأعمال السحر والشعوذة , حماكم الله جميعاً من أذيتهم .. 
وتحياتي للشعب المغربي العريق .

الخميس، 12 أبريل 2018

ليس عندي بنات !!

كتابة : امل شانوحة

 
لن يعرف أحد بوجودها 

أحبّها من اول نظرة .. خجلها .. إرتباكها .. هندامها البسيط .. عيناها الحزينتان .. قلقها الغير مبرّر .. شيءٌ ما شدّه اليها حين رآها هذا اليوم بعد ان قدِمَ مع والدته , بنيّة الخطوبة .. لا لم تكن نفس الفتاة , بل كان قاصداً جارتها في الطابق العلوي .. لكن الصدفة قادته الى شقتها حينما وقف مع والدته بثيابهما الرسمية امام بابها , وفي نفس الموعد المحدّد من قِبل أهل العروس .. 

وحينها فتحت الصبيّة البريئة الباب , ثم أغلقته على الفور بفزعٍ واضح ! 
فسألتها امه من خلف الباب : اليس هذا منزل العائلة الفلانية ؟
فقالت بصوتٍ مرتجف ومنخفض للغاية (من الداخل) : 
- أظنهم جيراننا , اسألوا حارس العمارة عن شقتهم
ثم اختفى صوتها ! 
***

فصعد الشاب وامه الى الطابق الذي فوقه , ليجدا اهل العروس في انتظارهما .. 
وفي الداخل , وبعد مرور ساعة .. لم تعجب ابنتهم الشاب كثيراً ..فقد بدت مغرورة ومدلّلة , كما ان ملابسها ومكياجها كان مبالغاً فيه .. وحتى تصرّفاتها لم تكن لائقة , فقد جلست امامهما واضعةً رجلها فوق الأخرى بتنوّرتها القصيرة دون حياءٍ او خجل , وكأنها ليست المرة الأولى التي تكلّم فيها شاباً .. ممّا أقلق العريس فهو من عائلةٍ محافظة.. 

وبعد انشغال العائلة بتحضير القهوة , همس لإمه قائلاً :
- لقد أعجبتني الصبيّة الثانية في الطابق السفلي
الأم بصوتٍ منخفض : وانا ايضاً 
- اذاً لننهي هذه المقابلة وننزل سويّاً الى هناك

وتفاجأ اهل العروس باستعجال الشاب وامه بالذهاب , بحجّة ان جدته ليست بخير وعلى امه زيارتها في الحال 
وخرجا من هناك , ليتنفّس الشاب الصعداء بعد ان ضاقت روحه من هذه الجلسة الكئيبة ..
***

وبحماس ضغط الشاب جرس الشقة في الطابق السفلي , لكن هذه المرة فتح لهما والد الفتاة ..
فقالت له الأم بابتسامة : أتينا لخطبة ابنتك 
وعلى الفور !! تغيّرت ملامح وجهه , حيث بدى واضحاً بأن طلبهما أزعجه للغاية !
فردّ الرجل بعبوسٍ وتجهّم : 
- ليس لديّ بنات !!
وصفق الباب في وجههما بغضب ..

وقد شلّ موقفه الغريب حركتهما , حيث تجمّدا امام الباب مدهوشين ممّا حصل ! 
وفي هذه اللحظات , سمعا صراخه على ابنته :
- هل فتحتي الباب لأحد يا غبيّة ؟!!
وأجابته بصوتٍ بالكاد يُسمع من خارج المنزل , لكن كان واضحاً انها تبكي بخوف : 
- سامحني يا ابي , فأنا ظننت امي عادت من السوق 
- امك لديها مفتاحها يا لعينة !! 

(ثم وجّه كلامه لزوجته) : وانتِ !! كم مرة طلبت منك ان تقفلي الباب عليها , حين خروجك من المنزل ؟!!
وكان صوت زوجته لا يقلّ خوفاً من ابنتها : 
- سامحني ابو سعيد .. لقد نسيت هذه المرة ! 
الأب صارخاً : سأربّيكما من جديد !!

وهنا سمع العريس وامه صوت حِزام الأب وهو يجلد به ابنته , وقد عرفا ذلك من صرختها المؤلمة !
فلم يتمالك الشاب نفسه وصار يطرق الباب بقوّة , رغم محاولة امه لإيقافه
ففتح الأب الباب بعصبية : أمازلتما هنا ؟!! 
الشاب : عمي ..  
الرجل مقاطعاً : انا لست عمّ أحد يا ولد !!
الشاب : ارجوك دعني أدخل لأخبرك بشيءٍ هام .. ورجاءً إترك الحزام من يدك , فأنت تخيف امي !
فأدخلهما مُرغماً..
*** 

في الداخل .. إنتبه الشاب على عفش بيتهم المتواضع , فقال للوالد بعد ان هدأ غضبه قليلاً :
- دعني أعرّفك بنفسي .. إسمي احمد العليّ .. تاجر استيراد وتصدير ولديّ مكتباً تجاريّاً.. وأملك فيلا , أنهيت بنائها منذ شهرين .. وأثّثتها بما يلزم من ادواتٍ كهربائية و ..  
الأب مقاطعاً بعصبية : وما دخلي انا بقصرك ؟ ..هل تعايرني بفقري ؟!
- لا ابداً .. أردّت ان اقول بأنني مستعد لأن أكتب فيلتي بإسم ابنتك في حال قبلت زواجي منها

وتفاجأت ام العريس بعرض ابنها الغير متوقع :
-       ابني , ماذا تقول ؟!
- امي رجاءً , دعيني أتحدّث مع الرجل 
فقال الأب : وماذا أستفيد انا من كل الموضوع ؟
الشاب بتهكّم : ترتاح من همّ ابنتك التي تمنعها حتى من فتح باب بيتك !
الأب بحزم : لم تجيبني على سؤالي .. ماذا أستفيد انا من زواجكما؟ 

ففهم الشاب بأن الأب مادّي , وهذا شيءٌ جيد لأنه من السهل التحكّم به
فأجابه الشاب بعد تفكير : راتبٌ شهريٌ , لك ولزوجتك 
الأب : كم يعني ؟
الشاب : سأجيبك بعد ان تخبرني بنوعيّة عملك ؟
- انا سائق أجرة

ثم أخبره الرجل بما يحصل عليه في الشهر بأفضل الأحوال .. 
فعرض الشاب عليه ضعف ذلك المبلغ , كراتبٍ شهريّ .. ممّا جعل الأب يفكّر جدّياً في طلبه  

الأب : على فكرة .. إبنتي غير متعلمة , فأنا لم اسمح لها بالخروج من البيت طوال حياتها
ام العريس بدهشة : الم تعلّمها على الأقل الحروف الأبجدية ؟
الأب بعصبية : قلت لك انها لم تخرج يوماً من البيت , حتى وقوفها على الشرفة ممنوع !! 
ام العريس بدهشة : يا الهي ! ما هذا الظلم يا رجل ؟! 
ابنها محاولاً تهدأتها , فهو لا يريد إغضاب الرجل : 
- امي .. إهدئي رجاءً 

لكن الأم إستمرّت بأسئلتها للعمّ : 
- وماذا عن أعمامها وأخوالها , الم يكلّموك بأن ترحم ابنتك قليلاً ؟!
فأجاب الأب بقسوة : لقد أخبرت الجميع بأنها توفيت عند ولادتها ..ثم ما دخلك انتِ بالموضوع ؟ هذه ابنتي وانا حرٌّ بها 
الأم : وهل هي ابنتك الوحيدة ؟
الأب : نعم , بلاءٌ واحد يكفيني ..لكن عندي خمسة شباب
الأم : واين هم الآن ؟
الأب : تزوجوا جميعهم , ويعيشون بعيداً من هنا 
الأم : اذاً هي الوحيدة التي تخدمك من بينهم
الأب بلؤم : انا لا اريد لأحد ان يخدمني 

العريس محاولاً تهدئة الوضع المتوتّر بينهما : 
- عمي , دعنا لا نبتعد كثيراً عن موضوعنا .. فكما قلت لك : مهرها هو فيلتي .. كما لك راتبٌ شهري طوال حياتك انت وحماتي .. فماذا قلت ؟ 
فيفكّر الأب قليلاً , ثم يقول مُحتاراً : 
- وكيف سأخبر الناس بالموضوع , فهم لا يعرفون اصلاً بأن لديّ ابنة ؟! 
الشاب : لا داعي ان يعرفوا لأننا سنتزوج بحفلٍ صغير , يعني عائلتك وعائلتي فقط

امه مُعترضة : لكني أريد ان أفرح بك , فأنت إبني الوحيد !
- سعادتي لن تكون الا معها , يا امي
الأم : لكنك لم ترها سوى للحظة ! 
العريس : والآن سأراها ايضاً
الأب بدهشة : ماذا قلت ؟!
العريس : الم نتفق الآن , ام انك لا ترغب بالراتب الشهريّ ؟ 
فيفكّر الأب قليلاً , ثم يقول بضيق : حسناً , كما تشاء 
وينادي على زوجته كيّ تحضر الفتاة..
***

ودخلت العروس الى الصالة بثيابٍ فضفاضة وبمقاسٍ لا يناسبها , لكن يبدو ان امها ألبستها من ثيابها لأنها لم تجد شيئاً آخر تلبسه إيّاها بهذه المناسبة الغير متوقعة !
وحين جلست قرب العريس كانت ترتجف بشدّة..

فطلب الشاب من حماته ان تأخذ امه لتجلسا في المطبخ .. كما طلب من عمّه ان يتركهما لوحدهما .. 
فقبل ابوها على مضضّ , لكن بشرط : ان يجلس في الشرفة ليراقب الوضع من خلال الزجاج الفاصل بينهم .. 
العريس : عمّي لو سمحت ..إغلق باب الشرفة بإحكام
فأغلقه الأب بغضب , فهو ليس معتاداً أن يرى ابنته تكلّم شاباً ..

وبعد ان تركوهما أخيراً لوحدهما .. إقترب الشاب منها قائلاً بصوتٍ منخفض كيّ لا يسمعهما احد ..
- كيف حالكِ ؟
لكنها ظلّت صامتة , وهي تفرك يديها بتوتر وارتباك ..
العريس : أعرف ان حياتك كانت صعبة وانكِ.. 
مقاطعة : انا بخير
- لا لست بخير 
- هم يطعمونني جيداً
- الأهل ليس واجبهم فقط إطعام اولادهم , بل تعليمهم ايضاً وإحضار الملابس الجميلة التي تليق بهم 
فحاولت الصبيّة ترتيب تنوّرتها التي كانت فضفاضة على جسمها النحيل  

العريس : ما اسمك ؟
- سميرة
- سميرة .. أعدك ان تعيشين معي حياةً جميلة للغاية , سأنسيك فيها كل ما عانيته هنا .. فأنا لا اريدك ان تعملي ايّ شيء في بيتنا , لأنني سأحضر لك خادمة وطبّاخة ..وستعيشين معي في قصرٍ جميل.. وسنسافر للخارج بين فترةٍ وأخرى لأريك العالم
الصبيّة بحماس : وهل ستأخذني الى البحر ؟ لأني رأيته بالتلفاز ويبدو مريحاً وجميلاً
بابتسامة شفقة أجابها : نعم .. البحر والجبل , والنجوم ان أردّتِ ..كما سأحضر لك معلمة لتعليمك كل ما فاتك من دروس 

سميرة بدهشة وفرح : أحقاً ! فأنا أحب التعليم كثيراً .. حيث كنت أستمع من داخل غرفتي على صوت المدرّس وهو يعلّم اخواني .. وأذكر عندما كنت صغيرة , كنت أردّد خلفه الأحرف العربية والأجنبية ايضاً , لكني لا أعرف كيف أكتبهم !
- ستتعلمين كل شيء , الى ان تحصلي على شهادتك الجامعية
- الجامعة ! هذه كانت إحدى أحلامي المستحيلة  

وسكتت قليلاً , ثم قالت : استاذ
- ناديني احمد
- سيد احمد 
بابتسامة : أحمد فقط يا سميرة
فقالت بارتباك :
- احمد ..لما اخترتني انا ؟ فأنت شابٌ جميل ..أقصد ..غنيّ ومتعلّم , ويمكنك إيجاد أفضل منّي ؟!
- إخترتك لأنك مميزة يا سميرة
- بماذا ؟!
- ببراءتكِ ..الا تدرين كم هي صفة نادرة هذه الأيام ؟! 
- أحقاً !
- نعم ..فالبنات أصبحنّ جريئات بشكلٍ مقزّز ..وانا أحب الفتاة الطبيعية التي أربّيها على يديّ ..وانت طلبي يا سميرة , وأحتاجك في حياتي 

- لكني خائفة 
- ممّا ؟!
فقالت بتردّد : من الزواج .. فأنا لا اعرف شيئاً عنه , ومع هذا أشعر انه شيءٌ كبير لا أستطيع تحمّله !
- سنتقدّم معاً خطوة بخطوة , فأنا لستُ مستعجلاً على شيء ..إطمئني , فأنا لن أرغمك على شيء لا تريدينه
سميرة بقلق : احمد ... هل سيأتي يوم وتضربني كوالدي ؟
أحمد : مستحيل .. فخدودك الحمراء لا تستحق سوى القبلات

وقد أفزعها سماع أول كلمات غزل في حياتها , ممّا جعلها ترتبك وتركض مُسرعة الى غرفتها .. وحين رآى والدها ردّة فعلها (من خلف الزجاج) دخل الى الصالة كالمجنون , وهو يصرخ على العريس مُعاتباً : 
- ماذا قلت لها ؟!! 
وخرجت الوالدتان من المطبخ بعد ان أفزعهما صراخه !

لكن العريس تجاهل إتهامه , قائلاً بثقة : 
- ما رأيك ان نجعل الجمعة القادمة هو يوم كتب الكتاب ؟ 
فقال العمّ بلؤم : لقد أعدّت التفكير بالموضوع واريد سيارة جديدة لي , والاّ لن أكتب الكتاب 
زوجته : لكن يا ابا سعيد..
يصرخ عليها : إسكتي انت !! انا احتاج لسيارة أجرة جديدة بدل سيارتي المهترئة
العريس : ولك ذلك
امه بقلق : بنيّ !
ابنها بثقة : لا تقلقي امي , فالهة سيرزقني بإحساني اليها  

ثم قال لعمه : الجمعة سآتي انا وامي والمأذون الى هنا , وسنقوم ..
والد العروس مُقاطعاً : لا تنسى ان تخبر المأذون ان يأتي بملابس عادية , فأنا لا اريد ان يشعر الجيران بشيء
العريس : حسناً لا تقلق , سأخبره بظروفنا 
ام الشاب بعصبية : ان كنت تخجل كثيراً بإبنتك , فاخبرني كيف سنخرجها من بيتك ؟
ابنها : امي .. سألبسها عباءة ونقاب , وعكاز ايضاً لتبدو وكأنها جدتي 

الأب : فكرة جيدة .. المهم ان لا يروك جيراننا في الطابق العلوي ..الم تخبرني قبل قليل بأنك كنت قادماً لخطبة ابنتهم ؟
العريس بثقة : انا لا يهمّني رأيّ أحد , وسأتزوج ممّن أشاء
ابو العروس مبتسماً وبفخر : يالك من رجل ! أعجبتني يا صهر
ام العروس بدهشة : صهر ! أيعني انك وافقت اخيراً ؟
زوجها : نعم , لكن إيّاك ان تزغردي 
زوجته بفرح : لا إطمئن , لن أفعل 
الشاب بسعادة : اذاً , على بركة الله
***

وبالفعل تمّ الزواج بسرّيةٍ تامة .. وعاشت سميرة مع زوجها بسعادة في قصرهم الجميل , وأنجبا ثلاثة أبناء ..
والغريب في الموضوع ان والدها بعد سنوات من زواجها أصبح يفتخر بها وبصهره وبأحفاده , غير مبالي بنقد الناس له لاستنكاره لابنته طوال عشرين سنة !  

لهذا إحسنوا الى بناتكنّ فربما يكون الخير فيهنّ !
*******

ملاحظة :
هذه قصة حقيقية حصلت في لبنان في زمن السبعينيات ..اما اليوم فقد أصبحت هذه الفتاة مُعيلة أهلها , بعد استلامها لأحد فروع شركة زوجها بعد تخرّجها الجامعي , قسم ادارة اعمال .. 

فسبحان من هيّأ لها تلك الفرصة لتخرج من سجنها وتصبح امرأة ناجحة يفتخر بها جميع أفراد عائلتها , بما فيهم والدها الذي طلب منها السماح قبل ايام من وفاته .. فسبحان مغيّر الأحوال !

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...