الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

الجنّ الغوّاص

تأليف : امل شانوحة


ولادةٌ مخيفة في أعماق البحر !

- لم أوقفت السيارة هنا ؟
- حماتي .. إيجار الشاليهات أصبح غالياً مع بدء العطلة الصيفية , وهنا يوجد شاطىءٌ هادىء .. 
زوجته بتعب : لا بأس امي , دعيني أتمشّى قليلاً  
امها بقلق : حسناً , مع انه يبدو شاطئاً مخيفاً مع حلول المساء ! 
الصهر : ليس مظلماً تماماً خالتي ماجدة , فهناك نور الشارع .. هيا بنا

ونزلت مع ابنتها الحامل بشهرها التاسع للمشي على رمال الشاطىء لتسهيل ولادتها , فأمها (القابلة المشهورة) نصحتها بذلك 
وفي الوقت الذي ابتعد فيه الزوج لشراء الطعام , شاهدتا امرأةً عجوز تلبس عباءةً سوداء وتتكأ على عكّازها , ترمي بقارورة زجاجية في البحر .. فنادتها الأم قائلة :
- هناك حاوية زبالة على الرصيف , رجاءً لا ترمي النفايات في البحر

فنظرت اليها العجوز بنظراتٍ غاضبة , أخافت الحامل التي همست لأمها:
- أتركيها وشأنها يا امي 
لكن العجوز اقتربت منهما :
- انا لم أرمي أوساخاً , بل أمانة أرسلتها الى ملك البحار
فقالت الأم بقلق : هل انت مشعوذة ؟!
فضحكت العجوز ضحكاتٍ مخيفة :
- نعم يا ماجدة , أنا أشهر ساحرة في هذه المنطقة .. أيّة خدمة؟

فتراجعت الأم خطواتٍ الى الخلف , بعد ان أرعبها معرفة العجوز لإسمها والتي أكملت قائلة :
- مالذي أتى بكما الى بحرنا ؟
الأم بدهشة : بحركم ؟!
العجوز : نعم فالحكومة قامت بمعروف حين ردمت جزءاً كبيراً من البحر , ليصبح هذا الشطّ المُستحدث فوق مملكتهم , مما سهّل عملنا كثيراً 
ابنتها عبير بخوف : امي , دعينا نذهب حالاً 
وكادت الصبية ان تتعثّر لولا ان أمسكتها امها .. وحين التفتا الى العجوز وجداها اختفت تماماً !

في هذه الأثناء .. رآهم الزوج من بعيد وهما تُسرعا الخطى نحوه ! فوضع الطعام في السيارة ليذهب الى زوجته التي كان تشير له من بعيد , والفزع باديٍ على وجهها ..
لكن امها توقفت فجأة بعد ان التفتت الى البحر ..
- امي , مابك توقفت ؟! هيا نعود الى بيتنا
فقالت الأم وهي مازالت تنظر للبحر في ذهول :
- انهم ينادونني !
- من ؟!
- يريدون مساعدتي 

وتركت يد ابنتها , لتركض مسرعةً نحو البحر .. فصرخت الصبية لزوجها:
- تعال والحق بأمي , فهي لا تجيد السباحة !! 
واسرع الرجل للحاق بحماته التي رمت نفسها في البحر !

وحين وصل بالقرب منها .. شاهد فقاقيع تتجمّع حول حماته , قبل ان تغوص الى الأسفل , وكأن أحداً سحبها من قدمها ! 
فسبح الرجل عائداً الى الشطّ خوفاً من وجود أسماك القرش , مُتجاهلاً صراخ زوجته لإنقاذ امها من الغرق .. 

وعاد لحمل زوجته المنهارة الى السيارة , قبل ان يتصل بالشرطة لانتشال حماته من البحر ..
***

من جهةٍ اخرى .. فتحت ماجدة عينيها , لتجد امرأة بجسمها الأزرق وعيناها البيضاوان تسحب رجلها الى أعماق البحر !
فانتفضت محاولةً الصعود مجدّداً الى السطح , لكنها سمعتها تقول لها :
- اهدأي يا ام عبير .. نحن الجنّ الغوّاص ونحتاج مساعدتك ..فملكتنا على وشك الولادة , وولادتها متعسّرة ..وانت قابلةٌ ماهرة .. ارجوك إنقذي أميرنا الصغير من الموت 

لكنها ظلّت تقاومها بخوف , فاقتربت الجنية من وجهها , قائلةً بحنان :  
- لا تخافي .. طالما انك معي , فيمكنك التنفّس تحت الماء .. هيا حاولي التنفّس بشكلٍ طبيعي
وبالفعل استطاعت ماجدة التنفّس جيداً , مما هدّأ خوفها من الغرق 

ثم عادت الجنية وأمسكت بيدها التي تُشبه ملمس الإسفنج الخشن ! لتغوصا اكثر في اعماق البحر , حيث انعدمت الرؤية وسط الظلام الدامس .. 

فجأة ! ظهر نورٌ من بعيد لمدينةٍ تاريخية غارقة منذ آلاف السنين , وأطلال قصرٍ قديم , وشوارعٍ لمدينة مُهدّمة امتلأت شقوقها بالطحالب والأسماك .. حيث وقفت الجن على جانبيّ الطريق لرؤية البشريّة بذهولٍ وغضب لاقتحامها عالمهم السرّي , لكنهم لم يستطيعوا الإعتراض طالما انها برفقة الحارسة الشخصية للملكة  

وبعد قليل وصلتا الى القصر ..وما ان سبحت ماجدة نحو الصالة حتى سمعت صراخ امرأة قادماً من الطابق العلوي , فأخذتها الحارسة الى هناك .. لتجد بأن طبيبة الجن عاجزة عن توليد الملكة  

ورغم ان الأمر برمّته كان غريباً ومخيفاً , لكن حسّ ماجدة الإنساني جعلها تقوم بعملها الذي تبرع فيه , ليتنفّس والداه الصعداء بعد سماعهما لبكاء ابنهما 
الغريب ان الطفل وُلد بهيئة بشريّ , يُشبه كثيراً ابنتها عبير وهي صغيرة!
لكن بخلال ثوانيٍ معدودة تحوّلت بشرته الى اللون الأزرق وابيضت عيناه وظهرت زعانف على ظهره  

فأسرعت ماجدة بوضعه في حضن امه الذي أصبح يشبهها تماماً 
وهنا قال الملك للحارسة : أعيدي البشريّة الى مكانها بعد ان أنهت المهمّة بنجاح .. 
وإذّ بالحارسة تضع يدها على رأس القابلة , لتسقط مغشياً عليها 
***

وحين فتحت ماجدة عينيها , وجدت ممرضة الإسعاف تقوم بإنعاشها وهي مستلقية فوق تراب الشاطىء
وحين بصقت الماء من فمها , قال لها زوج ابنتها : 
- الحمد الله على سلامتك حماتي .. أعرف انك متعبة الآن .. لكن عبير ولادتها متعسرة .. ساعديها ارجوك

ورغم ارهاق ماجدة التي نجت من الغرق بإعجوبة , الا انها استردّت عافيتها بعد سماعها لصراخ ابنتها وهم ينقلونها الى سيارة الإسعاف , فقالتٍ لهم بنبرةٍ آمرة :
- ضعوا ابنتي أرضاً !! سأقوم بتوليدها حالاً 

وساعدتها الممرضة , لتلد ابنتها ولداً سليماً .. لكن ما ان وضعته الجدة في المنشفة , حتى رأته يُشبه امير الجن بوجهه الأزرق وعيناه البيضاوان .. وكاد يسقط من يدها من هول الصدمة ! لولا ان أسرع والده بأخذه منها  
فصرخت الجدة وهي تشير للطفل بذهول : 
- أرموه في البحر !! هذا ليس حفيدي بل أمير الجن ..انه الشيطان بذاته !!

وسط دهشة الجميع , حيث كان الولد جميلاً ولا يشكو من شيء !
وكانت هذه كلمات الجدة الأخيرة , قبل ان تتوقف نبضات قلبها بعد تجربتها المرعبة التي مرّت فيها ! 
***  

وبعد سنوات .. كتب في السطور الأخيرة لقصته : 
((أعرف ان حكايتي صعبٌ تصديقها .. لكن ليتهم سمعوا كلام جدتي ورموني في البحر لأعود الى حيث أنتمي , بدل ان أُحاكم لقتلي عائلتي و33 امرأة و15 طفلاً , حتى لقّبتُ بسفّاح المدينة .. هذا عدا عن سرقاتي وبيعي للمخدرات وحفلاتي الماجنة .. واليوم انتهت مغامراتي في هذه الدنيا , لأنه سيُنفّذ بي حكم الإعدام بعد قليل))

وهنا قال له الشرطي من خلف قضبان زنزانته :
- هل أنهيت كتابة قصتك كيّ نبدأ في تنفيذ الحكم ؟
الرجل السجين : نعم أنهيتها .. لكن مازال لديّ طلبٌ أخير 
الشرطي : ماهو ؟
- اريد الإستحمام قبل الإعدام .. اريد ان أقابل ربي نظيفاً , على الأقل من الخارج 
ففكّر الشرطي قليلاً قبل ان يقول : حسناً , لكن بسرعة ..فأهالي المقتولين ينتظرون رؤية اعدامك
***

وبالفعل أخذه الحرس الى الحمام المشترك للمساجين (الذي لم يتواجد فيه أحدٌ سواه) .. وما ان دخل , حتى أُقفل باب الحمام من الداخل بإحكام ! وسمعوا صوت صنابير الماء تُفتح جميعها , الى ان بدأ الماء يخرج من اسفل الباب .. 
فكسروا الباب , ليجدوا الحمام غارقاً بالمياة ..ولا أثر للسجين هناك! 

وقد جرت عملية بحثٍ شاملة لكل مخارج السجن والمناطق المجاورة , لكنه إختفى تماماً .. وظلّ هروبه لغزاً محيّراً لشهورٍ طويلة , الى ان وصلهم بلاغ بوجود رجلٍ مجنون يُشبهه يعيش على الشاطىء المهجور خلف الشاليهات 

وبالفعل تمّ القبض عليه رغم إنكاره بأنه السفّاح المطلوب .. 
الغريب في الأمر , ان المجنون قال كلاماً مُشابهاً لما كتبه السفّاح في قصته , حيث أخبرهم :
((بأن الجن الغوّاص إستعانوا بجدته لتوليد ملكتهم , ومن بعدها استبدلوه مكان اميرهم الذي صعد الى البشر لقتلهم والإعتداء عليهم , بينهما حُبس هو في عالم البحار لسنواتٍ طويلة , قبل ان يطلقوا سراحه على الشاطىء بعد عودة أميرهم من مهمّته منتصراً)) 

وقد طالب المجنون من الشرطة البحث عن والديه الحقيقين , لكن لم يصدّقه أحد ..وتمّت محاكمته على جرائمٍ لم يفعلها .. الا ان محاميه المُوكّل من دولة استطاع تخفيف حكم الإعدام الى ضرورة إخضاعه لعلاجٍ نفسيّ مُكثّف , بعد أن أكّد اطباء النفسيين جنونه ..
*** 

وتمّ ارساله الى مستشفى المجانين الذين عانوا معه من رفضه ملامسة المياه .. لذا كان عليهم ربطه لتحميمه جبراً عنه , لأن لديه فوبيا الغرق ! 
عدا عن سرده المتواصل لقصته الخرافية : عن عيشه في المدينة الغارقة تحت البحر 

ولم يزوره احد خلال سنة من علاجه , سوى امرأةً عجوز دخلت الى غرفته , دون ان يلاحظها أحد من الممرضات ! 
واقتربت من سريره قائلةً :
- كنت سابقاً حذّرت جدتك بالإبتعاد عن شاطئنا , لكنها لم تفعل ! وهآ انت يا مسكين دفعت الثمن .. فما رأيك ان أهرّبك من هذا المكان الكئيب لتعمل معنا في نقل الأسحار الى الجن ؟ فطالما انك عشت معهم لفترةٍ طويلة , ستعرف الطريق الى مدينتهم الغارقة ..اليس كذلك ايها الشاب المطيع ؟

ومن بعد هذه الزيارة , إختفى الرجل المجنون من المستشفى !
وكان آخر ما صوّرته كاميرات المراقبة : سيدة عجوز برداءٍ اسود وعكّاز خشبي , تمسك بذراعه في ممرّ المستشفى 
وقبل ان يصلا الى الباب الخارجي , تعطّلت جميع الكاميرات فجأةً .. ولم يظهرا مجدّداً الى يومنا الحالي !

السبت، 24 نوفمبر 2018

الطباخ الصغير

تأليف : امل شانوحة


قصة للأطفال تصلُح كفيلم والت ديزني

في المستقبل القريب وبعد انتهاء حربٌ نوويّة عالمية أحرقت الأخضر واليابس , باتت البشريّة مُعرّضة للإنقراض بعد تلوّث النباتات .. 
وكان الحلّ الوحيد للبقاء هو إيجاد طعامٌ بديل عمّا كان متعارفاً عليه منذ بدء الخليقة ! لذلك لجأ العلماء الى الأغذية المُعدّلة وراثياً بعد تحويلها الى كبسولات دوائية تُشعر الإنسان بالشبع فور تناولها .. امّا الأطفال فقد أُخترع لهم معجوناً قابل للإمتصاص يُشبه الحليب المركز , كبديل عن الحليب بعد ان نفَقَت معظم المواشي حول العالم بسبب التلوث والحروب الشعواء .. 

ومع مرور الوقت .. أصبحت هذه الكبسولات هي الطعام الوحيد , رغم انها لا طعمٌ ولا رائحة لكنها كافية لبقاء البشر أحياء .. 
والأسوء ان الحكومات حول العالم فرضت عقوباتٍ قاسية لكل من يحاول زراعة أرضه من جديد او تربية الماشية او صيد الأسماك بحجّة ان الجوّ والأرض والبحر مازالوا ملوثين بالإشعاعات , لذا يُمنع العودة الى مصادر الغذاء القديمة التي تُساعد على نشر الأمراض السرطانية الخبيثة التي قضوا عليها بصعوبة على مدى عقدين من الزمن ! 

ومع هذا القانون الجائر حصلت تغيراتٍ أخرى : حيث ألغى البناء الحديث المطابخ من غرف الشقق , بعد ان قامت شركات المخصّصة للأدوات المنزلية بإغلاق مصانعها ! كما هُدمت بالقوّة جميع المطاعم حول العالم , مما أجبر الطبّاخون القدامى على إيجاد عملٍ آخر بعد منعهم من أداء مهمامهم للأبد !  
***

وفي جهةٍ أخرى من المدينة .. كانت تعيش عائلة صغيرة مكوّنة من فتاتين وطفلٍ وُلد حديثاً بوزنٍ زائد ..لكنه منذ البداية لم يتقبّل المعجون المخصّص للأطفال , لذا إضّطرت امه لإرضاعه خوفاً من فقدانه
وحين فعلت ذلك أول مرة , قال لها زوجها مُحذّراً وهو يُغلق عليها باب الغرفة : 
- إيّاك ان تراكِ إبنتانا فينتشر الخبر بالمدرسة , ويصل الأمر للحكومة وتعتقلكِ .. فأنت تعرفين انهم منعوا الرضاعة الطبيعية ايضاً !
الأم بقلق : فهمت .. لكن ماذا نفعل ان بقيّ بوب رافضاً ذاك الطعام حينما يكبر ؟
الأب : سنجد له حلّاً , لا تقلقي
***

وكان خوف الأم في محلّه , حيث بات الصبي يرفض بلع المزيد من الكبسولات الغذائية بعد ان اختنق بإحداها .. 
الأم : بوب حبيبي , انت لم تأكل منذ يومين .. هيا خذّ حبّتك , فأنت أصبحت ولداً كبيراً  
الأبن مقاطعاً وهو يمسك بطنه من الجوع : حتى لوّ أصبحت 7 سنوات فمازلت لا استطيع بلع الحبوب .. الم تري ما حصل لي المرّة الماضية ؟ فلوّ لم تُخرجي الحبّة العالقة من حلقي , لكنت ميتاً الآن
الأم مُشجّعة : لكنك ستنجح هذه المرّة , انا متأكدة من ذلك
بوب باكياً : لا امي مستحيل !! الا يوجد طعامٌ غيره , أكاد أموت جوعاً ؟

فلم تجد الأم حلاً الاّ بالإتصال بوالدها الذي كان يعمل طباخاً في شبابه قبل ان يجبروه على التقاعد , والذي وصل الى بيتهم مساءً 
الأم : ابي .. هل كانت الرحلة متعبة ؟
ابوها : قريتنا كما تعرفين ليست بعيدة من هنا , لكني كبرت في السن .. المهم الآن .. الم يأكل ابنك شيئاً بعد ؟
- لا , وانهارت قواه قبل قليل ..وانا خائفة جداً عليه 
- لا تقلقي بنيتي , سأطبخ له حالاً
زوج ابنته مُنبّهاً : لكن إنتبه يا عم .. فإذا اشتمّ الجيران رائحة الطبخ , ربما يبلّغون عنّا
- لا تقلق , لن استخدم الفرن.. بل سأصنع له حلوى مُغذّية .. هل لديكم اواني كيّ..
ابنته مقاطعة : وما حاجتنا لها ؟
- كنت أتوقع ذلك , لذا أحضرت حاجياتي معي .. دعوني ابدأ بالعمل فوراً

وكان الوالدان منعا الفتاتين من الخروج من غرفتهما طوال تحضير الجد للطعام خوفاً من انتشار الخبر .. وبعد إنهائه الحلوى , دخل غرفة الصبي الذي بدأ يهلّوس من الجوع .. وما ان ذاق اول ملعقة , حتى أكمل بقيّة الصحن بنهمٍ واستمتاع  
- لذيذٌ جداً يا جدي , ما هو ؟
- انه نوع من انواع الحلوى الباردة 
بوب : هي ألذّ بكثير من الكبسولات الخانقة , أتمنى ان آكلها دائماً
الجد : حسناً سأعلّم امك طريقة صنعها , لكن لا تخبر أصدقائك بالأمر
- غداً هو يومي الأول في المدرسة , لكن أختايّ سبقتاني بأسبوع
- جيد , اذاً سنعرف ماهو تخصّصك الجامعيّ

ثم تركه لينام ..في الوقت التي جهّزت فيه الأم غرفة الضيوف لوالدها ..
الجد : سأبقى عندكم يومين فقط , فأنا لا استطيع الإبتعاد كثيراً عن قريتي كما تعرفين 
ابنته : كما تشاء ابي
***

في المدرسة .. كان هناك إختراعٌ جديد يُحدّد مستقبل الأطفال .. حيث على الطالب الجلوس داخل الماكينة التي ستُخبر أهله بوظيفته حينما يكبر 
ووقفت الأم برفقة ابنها بوب في انتظار دوره , في طابور الطلاّب الجدّد
ورأت الجهاز من بعيد وقد كتب على شاشته كلمة : طبيب 
ليعلو صوت ام الصبي بسعادة وهي تقول لبقيّة الأمهات بفخر : 
- كنت أعرف ان لأبني مستقبلاً زاهراً !! فهو ولدٌ ذكي , وسيكون طبيباً ناجحاً حينما يكبر
وهنا قال المدير للناظر : ضعّ هذا الولد في قسم العلوم الذي سيفيده بمستقبله 

ثم جاء دور فتاة , اضاء لها الجهاز كلمة : مغنّية موسيقية
فقال المدير للناظر : وهذه سجّلها بقسم النشاطات المدرسية والمسرح 

وبعد ساعة.. ظهرت معظم نتائج الأولاد المستقبلية مُشرّفة : كمهندس وشرطي ورجل اطفاء او لاعب كرة .. الى ان جاء دور بوب
وحين دخل الجهاز , تعطّل فجأة ! وبدأ يصدر اصواتاً مزعجة , وتصاعد الدخان من اجزائه  

ام بوب بقلق : ماذا يحصل لأبني بالداخل ؟!
المدير : لا تقلقي يا سيدة , أظن هناك عطلٌ فنّي !
ام بوب : ولما لم يُظهر الجهاز نتيجته حتى الآن ؟! 
فقام المدير بطبع سؤالٍ آخر للجهاز : 
((إخبرنا عن إهتمامات الصبي بوب ؟))
فظهرت على الشاشة كلمة : طعام 
المدير : طعام ! يبدو ان ابنك سيعمل في مصنع الكبسولات الغذائية
الأم : لا مستحيل , هو اساساً لا يأكل تلك الحبوب ولا يطيقها
فسألتها إحدى الأمهات باستغراب : وكيف اذاً تُبقيه حيّاً ؟!

فارتبكت ام بوب وأسرعت بأخذ ابنها الى البيت , بعد ان أخبرها المدير انه لا يوجد إختصاصٌ له في مدرسته ..
***

في المنزل ..
والد بوب بامتعاض : وماذا الآن ؟!! هذه ثالث مدرسة ترفض تسجيل بوب فيها ! 
وهنا سمعه الجد , فقال لهما : طالما ابنكما لن يدخل المدارس , وابنتي لم تتعلّم بعد كيفية تحضير طعامه .. فما رأيكما ان يعيش معي هذه الفترة , الى ان تجدا حلاً لمشكلته ؟
فنظرا الوالدان لبعضهما بحيرة ! 
***

في اليوم التالي .. ذهب بوب مع جده الى القرية..  
بوب : لما هذه الأرض الكبيرة جرداءٌ هكذا ؟! 
الجد بنبرةٍ حزينة وغاضبة , وهو مازال يقود سيارته : 
- كانت هذه مزرعتي قديماً , زرعت فيها الكثير من أصناف الخضراوات والفواكه , قبل ان تأتي الحكومة وتحرقها كبقيّة الأراضي المجاورة بحجّة تطهيرها من الجراثيم ! ..(ثم سكت قليلاً)..هآقد وصلنا الى كوخي , هيا إنزل لأريك غرفتك 
***

ومرّت السنوات ..كانت عائلة بوب لا تزوره الا بأيام العطل بعد ان انشغلوا بطفليهما التوائم المولودين حديثاً , مُطمئنين بأن ابنهم في أيديٍ أمينة بعد ان تكفّل الجد بتعليمه اللغتان الفرنسية والإيطالية , بالإضافة الى تحسين لغته الإنجليزية
***

وبعد ان أصبح عمر بوب 13 سنة , سأل جده :
- لما تصرّ على تعليمي لغاتٍ أخرى ؟!
الجد : طالما انك تعشق الطبخ مثلي فلابد ان تتعلّم هاتين اللغتين , لأن  المطبخ الفرنسي والإيطالي مهمٌ بالنسبة لك ... وكنت أرغب بتعليمك اليابانية ايضاً , لكنها لغةٌ صعبة حتى عليّ 
- لكن لم يعد هناك طباخين سواك يا جدي !
- بل يوجد أصدقائي القدامى الذين كانوا يعملون معي في مطعمي القديم , ويوماً ما سأعرّفك بهم لتتعلّم منهم
بوب بحماس : متى ؟!!
- بعد ان تتقن أصول الزراعة مثلي
- الزراعة ! الم تقل ان أرضك احترقت بالكامل ؟!

ففكّر الجد قليلاً قبل ان يقول : أظنك كبرت كفاية لأشاركك أسراري ..
بوب باهتمام : أيةِ اسرار ؟!
الجد : الم تكن تسألني دائماً اين أغيب كل صباح ؟
بوب : نعم , فأنت ترفض ذهابي معك ! 
- اذاً نمّ باكراً , وغداً ستعرف الإجابة 
***

وفي الصباح الباكر .. ذهب مع جده الى مكانٍ بعيد , حيث كانت المفاجأة ! فقد وجد أراضاً مزروعة بكافة انواع الفواكه والخضراوات بواديٍ بعيد عن أعين الناس ! 
وهناك التقى الصغير برفاق جده الثلاثة الذين كانوا ايضاً طباخين قدامى : رجلٌ فرنسي , والآخر إيطالي , وعجوزٌ ياباني

وقد فهم بوب كلام الرجل الفرنسي حين همس لجدّه قلقاً : 
- انها لمخاطرة ان تُحضر الصغير الى هنا !
وقال الإيطالي بلغته : 
- أخاف ان يفضحنا حفيدك في المدرسة , ويتمّ اعتقلانا وحرق ارضنا التي تعبنا لسنوات في زراعتها 
بينما إكتفى الياباني بالإبتسام للبوب من بعيد ..

فأجابهم الجد : لا تقلقوا يا رفاق .. فحفيدي يدرس في المنزل , وليس لديه اصدقاءٌ غيري .. كما انني علّمته تقنيات الطبخ التي بدأ يُجيدها , فهو موهوبٌ بالطبخ .. وأريده ان يصبح محترفاً مثلنا حينما يكبر
فقال الياباني للجد بلغةٍ انجليزية يفهمها الجميع : 
- انت تعرف جيداً بأنه لم يعد هناك مستقبلاً للطباخين في أيّ مكانٍ بهذا العالم الكئيب ! 

الجد : لكني متأكّد انه سيأتي يوم ويشتاق الناس لتذوّق الطعام الحقيقي , وسيرغمون دُولهم على فتح المطاعم من جديد .. (ثم تنهّد بضيق) .. دعونا لا نضيّع الوقت بالكلام , فأنا اريد تعليم حفيدي اصول الزراعة .. واريدكم لاحقاً ان تعلموه أكلاتكم المشهورة حين نجتمع كل مساء في قبو كوخي , لأني اريده ان يكون مُلمّاً بجميع الأذواق 
***

ومرّت الشهور .. صار فيها بوب بارعاً بالطبخ حتى تفوّق على جده , بعد تعلّمه لطرق صنع المعجنات والحلوى من صديق جده الفرنسي , والمعكرونات بأصنافها من الطباخ الإيطالي ..كما استطاع بسهولة تعلّم طهو السمك من العجوز الياباني الذي كان يذهب معه فجراً بعطلة الأسبوع للصيد من النهر دون ان يلاحظهما أحد .. 

ولاحقاً إنضمّ الى مجموعتهم السرّية راعيٍ قديم إستطاع إخفاء المواشي بعيداً عن أعين المخابرات في زريبةٍ سرية تحت منزله , والذي اتفق معهم على تهريب اللحوم والدواجن اليهم بنهاية كل شهر .. حيث استطاع بوب طبخها لهم باحترافية فاجأت الجميع ! 

كما تعلّم بوب فن الإتيكيت من رجلٍ إنجليزي إنضمّ اليهم بنهاية ذلك العام 

ومع مرور الأيام شعر الصبي بأهمية موهبته التي أخفاها عن عائلته بناءً على نصيحة الجد واصدقائه الطباخين.. 
***

وذات يوم سأل بوب جده : 
- لا ادري لما يُحارب العالم الطعام , فهو شيءٌ رائع يجمع العائلات مع بعضها ويُرضي النفوس ؟!
الجد : المسؤولون ارادوا إيهام العالم بتلوّث مصادر الطعام القديمة كيّ يجبرونا على تناول حبوب مصانعهم , وبهذه الطريقة سيّطرت كل دولة على شعبها 
- كيف يا جدي ؟!
- لأنه من يعارض اوامر الدولة يُحرم من الطعام الكيماوي , فيموت جوعاً ..وبذلك تحوّل الجميع الى روبوتات في خدمة الوطن , او هكذا يظنّون !

بوب : فهمت , لكني سأثبت للجميع انه لا بديل عن الطعام التقليدي
- ليس بعد يا صغيري .. فعليّ التأكّد اولاً من تعلّمك لكافة تقنيات الطبخ لإعداد أصنافٍ مختلفة تُرضي جميع الأذواق 
بوب بحماس : سأتعلّم يا جدي كل شيء بوقتٍ قياسي , فأنا لا أشعر بالتعب حينما أطبخ , بل أشعر وكأنني أحلّق بعالمٍ جميل لا نهاية له
الجد مبتسماً : وهذا يدلّ على إنها موهبتك الحقيقية , لذلك اريدك ان تحفظ كافة الوصفات من الكتب التي أهداها لك أصحابي , لتُطبّقها لاحقاً 
- وانا أفعل ذلك كل يوم .. لا تقلق يا جدي , سأجعلك فخوراً بي
***

وقد توفي الجد بعد ان أصبح بوب شاباً , لكنه مع هذا رفض العودة الى المدينة للإهتمام بحقول جده السرّية , دون ان تفهم عائلته سبب إصراره على البقاء في القرية ! لكنهم تركوه على راحته
*** 

وفي أحد الأيام .. زارته عائلته بالأعياد , حيث فاجأهم لأول مرة بسفرةٍ  مليئة بالطعام الشهيّ ..
الأب بقلق : ما هذا بنيّ ؟!
بوب : هذا ما كنت أخفيه عنكم طوال السنوات الماضية .. فجدي علّمني اصول الطبخ
الأم بعصبية : ماذا ! لقد طلبت منه مراراً ان لا يعلّمك هذه الأمور المحرّمة!! 
بوب باستنكار : وما الحرام في تناول الطعام اللذيذ ؟!
أخته : لا انا لن أتناول طعاماً ملوّثاً يا بوب
بوب بعصبية : ومن قال انه ملوّث ! انه طعامٌ صحيّ للغاية ..وعشت عليه لسنواتٍ طويلة دون ان أصاب بأيّ مرض !!
أخته الثانية : لا اريد تناول شيء يا أخي , اساساً أكلت حبوبي قبل قليل
الأب : وانا ايضاً

وخرج الجميع من الكوخ الى السيارة دون تناول شيء , مما أحزن بوب كثيراً .. لكن امه أسرعت ووضعت لقمة في فمها لتراضيه ,ثم همست له : 
- انه لذيذ .. لكني اريدك ان تتوقف حالاً عن الطبخ فهذا سيؤذيك بنيّ , فنحن لا نريد ان يُقبض عليك بتهمة الخيانة .. ارجوك يا بوب إسمع الكلام ولا تعاندنا

ثم أسرعت خارج المنزل بعد سماعها لبوق سيارة زوجها الذي كان يستعجلها للرحيل , بعد ان غضب من تصرّفات ابنه المتهوّر !
***

ورغم معارضة اهله لهوايته , الا ان بوب قرّر فتح مطعماً بالقرية .. ووصل الأمر الى موظفيّ الدولة , لكنهم لم يغلقوه كما هو متوقع ! بعد ان لاحظوا بأن زبائنه هم قلّة من العجائز الذين مازالوا يتذكّرون طعم الطبخ القديم 
***

وبعد سنة .. حصل حريقٌ كبير في المصنع المُنتج للكبسولات الغذائية , واحترق مخزن الحبوب بالكامل .. فدبّ الرعب في نفوس الشعب الذين سارعوا لشراء ما تبقّى من كبسولات الطعام خوفاً من مجاعةٍ مُحتملة 
وكان اهل بوب من العائلات سيئة الحظ التي لم تحصل على أيّةِ أدوية غذاء , فلم يجدوا أنفسهم الى وقد عادوا الى القرية بعد ان شعروا بألم الجوع لأول مرة في حياتهم .. 

وما ان رآهم بوب شاحبي الوجه , حتى أسرع بطبخ الحساء اللذيذ الذي تناولوه بنهمٍ شديد..
أخته : يا الهي ! لم أذقّ ألذّ من هذا الطعام في حياتي 
بوب : انها شوربة جدي المفضلة
الأم بعيونٍ دامعة : نعم تذكّرتها ..كان يُعدّها لي حينما أمرض .. لقد أعدت لي ذكريات الطفولة يا بنيّ
والده : أظن ان مطعمك سيزدهر الآن بعد حريق المصنع
بوب : لقد إزداد عدد الزبائن بالفعل هذه الأيام , ممّا أرهقني كثيراً .. فهل تساعدونني ؟
أخته الأخرى : لكننا لا نجيد الطبخ !
بوب : سأعلّمكم كل ما عليكم فعله .. فهل ستقبلون العمل معي منذ الغد صباحاً ؟
فنظروا لبعضهم بحيرة !
***

وبالفعل ساعدته عائلته بتقطيع الخضراوات , وتقديم الطعام للزبائن الذي ضجّ به مطعمه بعد ان زادت شهرته في الشهور التالية  .. ممّا أغضب مسؤوليّ الدولة الذين أرسلوا الشرطة لإغلاق مطعمه , بعد ان أُعادوا فتح مصنع الحبوب من جديد .. 

وحين قدم رجال الشرطة الى المطعم , قال لهم بوب : 
- لحظة !! قبل ان تغلقوه , ما رأيكم ان تتذوقوا بعضاً من أطباقي بالمجّان؟ 
فقال أحدهم : بالحقيقة انا جائع , ورائحة مطبخك لا تقاوم 
- اذاً تفضلوا واجلسوا هنا

وبعد ان ذاق رجال الشرطة الثلاثة أصنافه اللذيذة , قال أكبرهم سناً : 
- لقد ذكّرني طبق السمك , بطعام والدي حين كان يشوي السمك الذي نصطاده سويّاً ايام طفولتي 
الشرطي الأخر وهو يلعق ملعقة الحلوى : برأيّ حرام ان يُغلق هذا المطعم الرائع

فوصلوا لحلٍ أخير : بأن يكذبوا على المسؤولين , بأنهم أغلقوا مطعم القرية دون تنفيذهم للقرار .. ممّا زاد من شعبية المطعم مع مرور الأيام 
***

وذات يوم .. تفاجأت عائلة بوب بعصابة أرادت سرقة مال المطعم ! لكن بوب استطاع حلّ المشكلة بكلامه مع رئيس العصابة , حيث اتفق معه على حصوله على طعامٍ مجاني كل مساء بشرط : ان يكون هو المسؤول عن أمن المطعم بعد ازدياد عمليات السرقة , بسبب ارتفاع سعر كبسولات الطعام , لأن المصنع لم يعد يصدّر ذات الكمية السابقة بعد ان تضرّر جزءٌ كبير منها بالحريق 
وقد قبل زعيم العصابة إقتراحه بعد ان أُعجب بأطباقه المميزة , لينعم المطعم بحمايته ضدّ أطماع العصابات الأخرى
***

لكن طموح بوب لم يتوقف عند مطعمه الصغير , لذلك افتتح عدة فروعٍ لها بأرجاءٍ أخرى من المدينة , بعد ان قام بتعليم الطبخ لمجموعة من الشباب العاطلين عن العمل ممّن لديهم الشغف لهذه المهنة الجديدة .. ومن بعدها سلّمهم ادارة فروعه الأخرى .. 

كما افتتح بوب مدرسةً فندقية , بعد ان أجبر وزارة التعليم على إدخال مصطلح (طبّاخ) الى الجهاز المدرسي الكاشف لمستقبل الأطفال الذين يعشقون الطعام 

ولم تستطع الحكومة إيقاف الناس عن تناول أكل المطاعم بعد ان قلّت رغبتهم في شراء الكبسولات الغذائية 

ومع الوقت .. عاد المزارعون لزراعة اراضيهم ولرعاية الماشية بعد ان ازداد الطلب على اللحوم والمزروعات ..

وبنهاية الأمر .. أُقفل مصنع الحبوب نهائياً , وافتتحت سلسة من المطاعم المتنوعة في ارجاء العالم بعد ان تعدّدت الأذواق من جديد 
لكن ظلّ مطعم القرية من أهم المعالم السياحية , حيث زاره الناس والمشاهير من كل مكان ليتذوّقوا أطباق بوب المتميّزة التي تحدّثت عنها وسائل الإعلام العالمية  

حيث يتذكّر الجميع كلمة بوب في مقابلته التلفازية الشهيرة , حين قال متأثّراً :
- لقد علّمني جدي واصدقائه كل شيء , وأحيوا بداخلي عشقاً لا ينطفأ .. فالطعام هو أكبر نعمة على هذه الأرض .. فما لذّة الحياة من دون تجربة أصناف مختلفة من الطعام ؟ والأجمل ان الإبداعات بهذا المجال لن تتوقف ابداً , وستظلّ تتجدّد باختلاف ثقافة الشعوب الى نهاية العالم .. فكلوا من رزق الله واشكروه , وادعوه بأن لا يحرمنا مجدّداً من هذه النعمة .. كل ما آمله هو ان أكون أديت الأمانة التي وضعها جدي واصدقائه على عاتقي.. رحمهم الله جميعاً 
***

وبعد موت بوب عجوزاً , إتفق ابنائه واحفاده على بناء تمثالٍ له في القرية التي فيها اول مطاعمه , بحضورٍ صحافي مُلفت أتوا لتصوير أهم الشخصيات العالمية الذين قدموا من كل مكان لتذوّق أشهر أطباقه في حفلٍ شعبيّ ضخم .. حيث عُدّ تمثال بوب رمزاً من رموز الدولة , بعد ان أعاد الذوق والطعم لحياتهم من جديد !

الأربعاء، 21 نوفمبر 2018

الغزو الفضائي

تأليف : امل شانوحة


حربٌ بين البشر ووحوش الفضاء

- سيدي .. إسمع بنفسك ما قاله الولد عندما سألته عمّن سرق طعامي  
فاقترب قائد وحوش الفضاء من الطفل البشري (7 سنوات) وأعاد عليه السؤال , فأجابه الصبي :
- انت !! انت من أكلت كلّ الطعام 
- انا ! أتكذب حتى في وجهي يا ولد ؟! 

ثم نادى حارسين لأخذه الى غرفة الإحتجاز كعقابٍ له .. وبعد ذهابه , قال الحارس :
- هذه المرّة العاشرة التي نعاقبه فيها , ومازال يكذب !
القائد : ربما هي صفة عند البشريين !
- لكن من اين تعلمها ؟! فهو نُقل الى الفضاء منذ ان كان رضيعاً , وجميعنا لا نقول سوى الحقيقة !
ففكّرالقائد قليلاً , ثم قال : إحضر لي ليني 
- الذي أحضر الصبيّ الينا ؟
- نعم , فأنا اريد معرفة من اين أتى بهذا النموذج السيء
***

وحين قدم ليني , أجاب على سؤال القائد :
- بصراحة ..عندما قرأت عمّا فعله ألينور في القصة السابقة (معاً لغدٍ أفضل) وكيف غيّر قوانين العمل في الصين , شعرتُ بالغيرة وأردّتُ التفوق عليه.. فسافرت سرّاً الى الأرض بهيئة بشريّ , ووصلت مساءً بمكانٍ صحراوي بأميركا , ليس فيه سوى طريقٍ عام لا يمرّ به سوى القليل من شاحنات النقل .. فأنا لم أدرس الخرائط جيداً , وكان هذا خطئي .. والأسوء إن الجاذبية الأرضية أجبرتني على المشي لمسافةٍ طويلة ممّا أرهقتني جداً , فأردّت إلغاء المهمّة والعودة الى هنا .. لكن قبل استسلامي , رأيت سيارة تتوقف على جانب الطريق ..وخرج منها رجلٌ يحمل شيئاً داخل منشفة , ووضعه أرضاً ثم ذهب.. في البداية ظننتها نفايات , لكني تفاجأت حين رأيت طفلاً حديث الولادة ! فأحضرته معي الى هنا لدراسة جيناته البشريّة

القائد بعصبية : يعني أحضرت لقيطاً الى كوكبنا ؟!!
- لم أجد غيره , فسرقة العينات البشريّة ليس بالأمر الهيّن
- لكنه ليس مستحيلاً , فبطلنا ألينور ذهب ثانيةً الى الأرض مع عروسته لإحضار عيناتٍ بشريّة من داخل مستشفيات التوليد
ليني بدهشة : وكيف سيسمحون الأهالي بخطفه لأطفالهم ؟!
القائد بفخر : لا شيء صعب على بطلنا ألينور
ليني بعصبية : ألينور ألينور .. وكأن ليس لدينا عبقريٌّ غيره ! اساساً هو يقلّد إنجازي 
- انت أحضرت لنا نموذجاً فاسداً , فالولد ليوناردو أتعبنا منذ ان كان في الخامسة من عمره , فهو مشاغبٌ وقذر .. وهاهو تعلّم الكذب ايضاً ! وربما بالمستقبل يفاجُئنا بجرائمه .. فإبن الحرام لا خير فيه .. لذا سأوكل لك مهمّة مراقبة ذلك المشاغب الصغير , وعليك ان تحرص بأن لا يختلط مع عينات الأطفال السليمة القادمة الينا قريباً

فخرج ليني غاضباً من مكتب القائد وهو يتمّتم : ((هذا في حال نجح ألينور في مهمّته)).. 
***

ثم اتصل القائد بألينور ليتأكّد من سير الخطة , فأجابه قائلاً : 
- نعم سيدي , الأمور على ما يرام .. فبعد قتلي للطبيب والطبيبة المشهورين , تجسّدت انا وعروستي في هيئتهما .. ثم أوهمنا الإعلام على مدى شهرين : بأن هناك مرضاً قاتلاً يفتكّ بأطفالهم الرضّع .. فقبلت الحكومة مُجبرة بتسليمنا الأطفال المولدين حديثاً لوضعهم بمحميةٍ بعيدة في جزيرةٍ غير مأهولة .. وقبل قليل قُمنا بنقل الدفعة الأخيرة منهم , ووضعناهم في حضّانات مُجهزة داخل مركبتنا الفضائية
القائد بحماس : وكم طفلاً صار لديكم ؟

ألينور : 300 طفل وجميعهم سليميّ الصحة , فقد فحصناهم بالكاشف الفضائي المتطوّر .. وقريباً سننطلق جميعاً الى كوكبنا 
- وماذا تنتظران ؟!
- حلول المساء سيدي , كيّ لا يتم تصويرنا من قبل الصحفين المتطفلين .. ومن بعدها نحلّق يومين في الفضاء لنصل اليكم بخيرٍ وسلامة 
القائد : بالتوفيق لك ولعروستك
***

وقد استقبل الفضائيون الأطفال الجدّد بسعادةٍ وحماس , وتطوّع الكثيرون منهم لإطعام ورعاية الرضّع على مدار الساعة 
***

مرّت السنوات ..ووصل الأطفال الى المرحلة الإبتدائية التي سيتعلمون فيها قوانين العيش في الفضاء , داخل صفوفٍ دراسية متواجدة بالجزء السفلي من المركبة الفضائية الضخمة .. بعيداً عن أعين الولد ليوناردو الذي ازداد شقاوةً مع مرور الأيام , حيث برع في سرقة أشياءٍ تخصّ أصدقائه الفضائيين المُتنمّر عليهم ! كما تفنّن في مغازلة الفتيات الفضائيين ومضايقتهنّ , عدا عن إقتحامه للكثير من المكاتب السرّية التابعة للقادة , ممّا أغضب رئيس الفضائيين الذي طالب بحضور ليني الى مكتبه..
- نعم سيدي

القائد بعصبية : الم أعهد اليك بمهمّة مراقبة الولد اللعين ليوناردو ؟
ليني بارتباك : بلى سيدي 
- اذاً كيف غاب عن عينك حين دخل مكتبي البارحة ؟
ليني : كانت حرارتي بالأمس مرتفعة ولم انتبه عليه , لكني علمت بأنه شاهد فيديو عن حياة البشريين على الأرض .. وكما تعرف , هو ولدٌ ذكي لذلك لاحظ الشبه بينه وبينهم .. وظلّ يُتعبني بالأسئلة الى ان أخبرته بالحقيقة ..فجنّ جنونه حين علم بأنني إختطفته من عالمه , وبات يريد العودة الى اهله هناك 
القائد : وهل عرف بأن والديه تخليا عنه ؟
- للأسف , ابني أخبره بذلك 
القائد بقلق : طالما عرف الحقيقة فسيزداد عناداً , ويتسبّب لنا بالمزيد من المشاكل ..والخوف الأكبر ان يصل الى القسم الذي نضع فيه الأطفال البشريين , وربما وقتها يُقلّبهم علينا !
- وماذا تقترح سيدي ؟

فيفكّر القائد قليلاً , ثم يقول : نُدخله العسكريّة
ليني : لكنه مازال في 13 من عمره ! والعسكرية لا تبدأ الا في 18..
القائد مقاطعاً : أطفالنا الآخرون بلغوا السادسة من عمرهم .. وان التقى معهم , سيُخرّب كل عملنا ..لذلك اريد إبعاده عن هذه المركبة 
ليني : حسناً سأنفّذ الأوامر .. اساساً هو أتعبني كثيراً بعناده , ولم أعد أحتمله

وهنا دخل الحارس الى غرفة القائد صارخاً : 
- سيدي !! ليوناردو افتعل حريقاً في قسم الملفّات الإدارية
القائد بقلق : ماذا !
***

وبالوقت الذي كانوا فيه يطفئون الحريق , تسلّل ليوناردو الى القسم السفلي من المركبة الفضائية التي مُنع النزول اليها طوال السنوات الماضية .. 
وحين وصل الى هناك , سمع الأطفال البشريين وهم يردّدون القوانين خلف استاذهم الفضائي كالروبوتات ! وتفاجأ من الشبه الذي بينه وبينهم , فعلم بأنهم ايضاً مُختطفون من الأرض .. فدخل غرفة الإدراة , وبدأ يقرأ ملفاً عن عملية ألينور السرّية ..وحينها عرف انهم جميعاً لديهم أهالي ينتظرونهم في الأرض , بعكسه هو! 

فقال في نفسه بغضب : 
((سأنقذكم يا بنيّ جنسي , وأدمّر الفضائيين الملاعيين)) 
وقبل ان يُنهي جملته , إقتحم الحارس الغرفة وصرخ لرفاقه قائلاً :
- لقد وجدت المشاغب ليوناردو !!!

ومن يومها تمّ إرساله للمدرسة العسكرية المتواجدة في مركبةٍ فضائية ثانية , حيث عُومل بحزمٍ وقساوة من قبل القادة هناك .. ورغم انه حاول مقاومتهم في بادئ الأمر , الا ان العقابات المتكرّرة القاسية جعلته يرضخ مُجبراً لأوامرهم 
***

وبعد سنوات , وفي أحد الأيام .. مرّ ليوناردو بالصدفة من امام مكتب قائده العسكري , ليسمعه وهو يتكلّم بالهاتف مع رئيس الفضائيين قائلاً :
- نعم سيدي .. ليوناردو أصبح عمره الآن 25 سنة , وصار قائد مجموعته .. لا هو لم يعد مشاغباً كالماضي , بل يطيع جميع اوامرنا العسكرية .. كما أصبح بارعاً باستخدام الأسلحة وبالمهمّات القيادية الصعبة .. ماذا ؟ .. أحقاً ! ..هل بلغ أولئك الأطفال 18 من عمرهم ؟! لقد مرّت السنوات بسرعة ! .. آه فهمت .. ومتى سترسلهم الى مركبتي ليبدأوا التمارين العسكرية ؟ .. جيد .. يبدو انه سيصبح لدينا جيشاً بشريّاً نستخدمه لاحقاً كفرقةٍ إنتحارية لغزو الأرض .. وربما أجعل ليوناردو قائداً عليهم .. لا لا تقلق , قلت لك بأنه أصبح شاباً مطيعاً , ولن يثير لنا المشاكل في المستقبل .. أعدك بذلك

فقال ليوناردو في نفسه : ((سأجعلك تندم كثيراً لاختياري لهذه المهمّة))
***

وبالفعل تمّ تسليم ليوناردو قيادة الفرقة الشبابية البشرية لتدريبهم على القوانين العسكرية الفضائية .. وقد فعل ذلك على أتممّ وجه , لكنهم لا يعرفون بأنه كان يدرّبهم سرّاً على عملية الإنقلاب ضدّهم  
***

وفي إحدى الأمسيات بثكنة البشريين .. قال احد الشباب لقائده : 
- أتدري يا ليوناردو , منذ طفولتي وانا أتساءل لما أشكالنا مختلفة عنهم , لكني لم أتجرّأ يوماً على سؤالهم .. جيد انك أخبرتنا بالحقيقة
فقالت صبية بقلق : المهم ان يكون أهالينا مازال لديهم الأمل في لقاءنا من جديد !
ليوناردو : ستعرفين الإجابة حين تعودين اليهم
فسألته : ومتى موعد الإنقلاب ؟ فنحن متحمّسون لذلك اليوم

ليوناردو : لا تستعجلوا يا رفاق , فعليّ تعليمكم اولاً اساليب القتال بأسلحتهم المتطورة بعد كشف مخابئهم السرّية , كما طرق قيادة مركباتهم الحديثة للعودة سالمين الى الأرض 
فسأله شاب : وهل عرفت الوسيلة التي سنعود بها الى بلدنا ؟
ليوناردو : نعم , فقد قرأت معظم ملفّاتهم السرّية أثناء نومهم او وقت انشغالهم بالحفلات الرسمية , وعلمت بأن لديهم مركبة مُخصّصة للهبوط على الأرض .. كما صوّرت الملفّ الذي يُبيّن طريقة التحليق بها عبر المجرّات ..لكني للأسف لا أجيد الطيران , ولم أحب يوماً العلوم التقنية  
فقال شابٌ آخر : وهل معك نسخة عن ذلك الملفّ ؟
ليوناردو : نعم , لما تسأل ؟
فأجابه بحماس : لأنني برعت في دروس الملاحة الجويّة
فقالت الصبية : نعم , لطالما كان متفوقاً علينا بهذا التخصّص

ليوناردو : جيد , اذاً ستكون انت المسؤول عن قيادة المركبة التي ستعيدنا الى الأرض .. وأعتقد انه من الأفضل ان أقسّم المهمّات بيننا .. فالأقوياء منكم سيساعدوني بعملية الإنقلاب الدموي .. اما الآخرون فسينقلون للمركبة : المواد غذائية والأدوية المعالجة للأمراض المستعصية وبعض بذور النباتات الفضائية .. والأهم هو نقل ملخّصات عن أبحاثهم العلمية التي ستنفع البشرية , لأنهم متطورون كثيراً عن علماء الأرض , على حسب ما شاهدته في التقرير الأخير الذي أرسله مراسلهم المتخفي في عالمنا على هيئة بشريّ !
فقالت الصبية بحماس : جيد !! وبذلك نعود الى الأرض كعلماء متفوقين في مجالاتٍ عدة : كالطب والهندسة والفلك وغيرها ... 

فقاطعها ليوناردو : لحظة ! أسمع صوتاً بالخارج .. هيا ليعدّ كل واحدٍ الى سريره , فلا اريد لحارسهم ان يسمع مخطّطاتنا السرّية 
فقالوا له : تصبح على خير , يا قائدنا العظيم ليوناردو
***

ومرّت سنةٍ أخرى في الفضاء .. تعلّم فيها الشباب البشريين (بقيادة ليوناردو) كافة العلوم المتطورة على أيدي اساتذتهم الفضائيين المحترفين , كما أتقنوا الأمور العسكرية التي ستساعدهم في يوم الإنقلاب المنتظر.. 
***

وفي إحدى الأمسيات .. تمّ الإتفاق بين الشباب : بأن الغد هو يوم الإنقلاب الكبير , بعد انتهائهم من جمع الأشياء التي تهمّهم من عالم الفضاء داخل مركبتهم السرّية , بعيداً عن أعين الفضائيين .. 
***

وفي الصباح .. استيقظ الفضائيون على حرائقٍ ضخمة في مركباتهم الخمسة ! بعد ان قام بالمهمّة عشرات البشريين .. 

فأسرعت النساء الفضائيات وأطفالهنّ مع بعض رجالهنّ على ركوب مركبات النجاة الصغيرة , للهروب الى المحميات الموجودة في المجرّات القريبة .. حتى ان بعضهم نزح الى الأرض , هرباً من الهجوم الناريّ للشباب البشريين على القادة العسكريين الفضائيين ! 

وكان لعنصر المباغتة الفضل في تفوق البشريين على الفضائيين , لكنه مع هذا مات بعضهم في سبيل نقل اصدقائهم الى المركبة السرّية ..وكان ممّن أُصيب : ليوناردو الذي هجم على الفضائيين ببسالة , قاتلاً الكثير منهم .. وكان أولهم : ليني الذي خطفه من عالمه , والذي قال له قبل ان يُجهز عليه  
ليني بخوف : لا تقتلني يا ليوناردو !! فلولايّ لكنت مُتّ طفلاً في الصحراء , بعد تخلّي والديك عنك !
ليوناردو بغضب : ليتك تركتني أموت هناك , بدل أن يعاملني الجميع كلقيطٍ قذر .. مُتّ ايها اللعين !!!
***

ووصل 263 بشريّ من أصل 300 الى المركبة السرّية .. وهناك تساءل أحدهم بقلق :
- هل رأى أحدكم ليوناردو ؟ 
فأجابه صديقه : أظنني رأيته مصاباً في الدهليز الذي يسبق هذا المخزن  
- اذاً سأذهب لإنقاذه
- لا !! اوامر ليوناردو ان نرحل فوراً دون إنتظار احد , حتى لوّ كان هو 

وهنا سمعوا صوته , خلف الباب الخارجي للمركبة :
ليوناردو صارخاً بألم بعد ان أصيب بجروحٍ خطيرة : هيا حلّقوا نحو الأرض !! ماذا تنتظرون ؟ فالأعداء على مقربة من هنا !
- دعنا نُدخلك الى المركبة يا ليوناردو !!
- لا !! انا أنزف بشدة وسأموت حتماً .. عودوا انتم الى أحضان اهاليكم , فلا أحد ينتظرني هناك .. سأحمي ظهوركم , وأظلّ أطلق النار عليهم الى ان تبتعدوا من هنا .. هيا أديروا المحرّك حالاً !!

فنظر الشباب الى بعضهم بارتباك , الى ان سمعوا صرخته الغاضبة :
ليناردوا : نفّذوا أوامر قائدكم ايها الجنود !! .. هيا !!!!

وعلى الفور !! جلس كل واحدٍ منهم مكانه بعد ان ربطوا أحزمة الأمان , ووضعوا أقنعة الأكسجين على أنفهم .. ثم انطلقوا مُبتعدين داخل مركبتهم الفضائية الضخمة .. بينما ظلّ ليوناردو يحارب حتى آخر نفسٍ له !
***

وبعد رحيلهم .. إقترب القائد الفضائي من جثة ليوناردو الذي أُصيب بمئات الرصاصات الشعاعية , قائلاً :
- لطالما كنت ولداً مشاغباً , لكنك مع هذا أصبحت بطلاً في نظر بنيّ جنسك ! 
حارسه باستغراب : أتمدحه سيدي بعد ان حطّم سفينتنا وهجّر عائلاتنا ؟!
القائد : هو فعل ما كان عليه فعله .. وكنت محقاً حين قلت عنه سابقاً : التفاحة السيئة تُفسد البقيّة

أحد جنوده : وماذا نفعل الآن سيدي ؟ فنحن لم نتمكّن من السيطرة على الحرائق !
القائد : لننتقل فوراً الى المركبات الإحتياطية , قبل ان نحترق جميعاً .. وبعد ان يهدأ الوضع , نُرسل جنودنا الى الأرض ليعيدوا عائلاتنا النازحة من هناك .. هيا لنهرب بسرعة , فالدخان وصل الى هنا !
***

وقد وصلت المركبة البشريّة بسلام الى الأرض , بعد ان حطّت داخل غابةٍ كثيفة ..
وبعد ان خرجوا منها .. قال قائد المركبة :
- أزيلوا أقنعتكم , فهنا يمكننا التنفّس من دونها 
فقالت الصبية بعد ان استنشقت هواء الأرض لأول مرة : 
- ياه !! ما أجمل هواء بلادنا ! 
وقال شاب وهو يمشي بحذر على الأرض العشبية : مازلت لا استوعب الجاذبية ! أحسّ ان جسمي ثقيلٌ جداً .. لحظة ! ما هذا الشيء الذي يتحرّك على الشجرة ؟
فقال شابٌ آخر لديه خبرة بالعلوم البيولوجية : هذه تسمى حشرة العنكبوت ..وهذه أشجار البلوط ..اما ذلك الأرنب فهو من صنف الحيوانات , وهو ليس مضرّاً بل يمكننا أكله 
الصبية : وماذا عن البشر ؟ انا لا ارى أحداً هنا ! 
القائد : الخريطة التي معي تُبين ان هناك طريقاً عاماً على مقربة من الغابة , دعونا نصل اليها اولاً ..
***

وبعد ان وصلوا الى هناك .. لبس كل واحدٍ منهم حذاءً به عجلات , سرعتها كسرعة دراجةٍ نارية .. فقال لهم القائد :
- والآن من معه عناوين اهلنا ؟ 
فأجاب أحدهم : انا !! فقد سرقت ملفّات المستشفى التي خطفونا منها 
وأخرج دفتراً كتب فيه عناوين الأهالي لكل شابٍ وصبية .. وأعطى كل ورقة لأحدهم , قائلاً : 
- إتبعوا العنوان الموجود بالورقة وستصلون الى عائلاتكم 

وهنا قال لهم قائدهم :
- اذاً سنفترق هنا , ليبحث كل واحدٍ عن اهله .. وكما اتفقنا .. في حال سألونا : اين كنا طوال تلك سنوات ؟
فأكملت الصبية قائلة : سنقول بأن الطبيب الذي خطفنا , نقلنا الى جزيرةٍ أخرى عشنا معه فيها لسنوات .. وقبل موته أخبرنا بالحقيقة , فعدنا اليكم
وبعد ان ودّعوا بعضهم , ذهب كل واحدٍ في طريقه..
***

وقد تفاجأت كل عائلة بإبنتهم او إبنهم الذي فقدوا الأمل في نجاته ! 
حيث قامت الحكومة قبل سنوات (بناءً على طلب الأهالي) باقتحام جزيرة المحمية , لكنهم لم يجدوا الأطفال المختطفين .. وكان ذلك بعد إنكشاف حيلة الوباء المستعصي , بعد ان وجد رجال الشرطة جثة الطبيبن الحقيقين مقتولين ! 

ورغم أهمية الحدث الا ان الشباب طالبوا اهاليهم بعدم إعلام الصحافة بعودتهم , كيّ يحيوا حياةً طبيعية .. ولاحقاً تفوقوا دراسياً بعد تخرّجهم الجامعي , لأنهم تتلّمذوا سابقاً على أيدي الفضائيين ذويّ الخبرة المتطورة (دون إخبار أحدٍ بهذا السرّ) .. 

وخلال سنوات .. حصلوا على الكثير من الجوائز العلمية بعد تفوقهم بمجالات الطب والهندسة والفلك , ممّا زاد من فخر أهاليهم 
***

من جهةٍ أخرى .. كان ألينور وزوجته بهيئتهما البشريّة في بيتهما الريفي , حيث كان يقرأ خبراً بالصحيفة بتوتر : 
- إسمعي .. هذا أحد طلابنا البشريين حصل البارحة على جائزة نوبل بالعلوم .. ولا استغرب هذا , بعد ان علّمناهم كل شيء 
زوجته بقلق : وماذا سنفعل بهذه المشكلة ؟ 
ألينور : أفكّر اولاً بجمع الفضائيين المتنكرين بهيئة بشرٍ مثلنا , لتكوين جيشٌ منتظم نقوم بخطف الشباب مجدّداً وإعادتهم الى الفضاء
- وفي حال قاومونا ؟ 

ألينور بغضب : نقتلهم !! فنحن لا نريد لعلومنا المتطورة ان تكون بأيدي البشر , او ان يكشفوا حياة الفضائيين على الكواكب الأخرى .. فالبشر هم أكثر المخلوقات أذيةً في كل المجرّات , لذا من الأفضل ان نبدأ بالتخطيط لعملية إنقلابٍ عليهم  
زوجته : يبدو ان خطتك هي نفسها خطة ليوناردو ؟! 
- آخ من ذلك الولد المشاغب !! لقد أضاع علينا فرصة غزو الأرض .. ولوّ تخلّصنا منه سابقاً , لكنّا الآن مسيطرين على هذا العالم  

زوجته : غريب انك تريد الإنتقام من البشر ! الم تكن صاحب فكرة تحسين قوانين العمل في الصين قبل سنوات ؟!
ألينور بقهر : وقد اخطأت , فالبشر لا يستحقون هذا المعروف .. لذلك ستكون خطتي التالية : هي تدمير البشر الملاعيين !! فأرضهم جميلةٌ جداً , ونحن أحقّ بها منهم 

ثم ضحك ضحكةً شريره بعد أن عقَدَ العزم على قتل علماء البشر اولاً , قبل البدء بإفناء المدنيين .. تخطيطاً لعمليةٍ ضخمة لإستيلاء الفضائيين على كوكب الأرض ..

وربما يبدأون بتنفيذ تهديداتهم قريباً .. من يدري ! 
******

ملاحظة :
كنت كتبت عن ألينور الفضائي بقصةٍ سابقة بعنوان (معاً لغدٍ أفضل
وهذا هو الرابط :
http://www.lonlywriter.com/2017/10/blog-post_7.html

الجمعة، 16 نوفمبر 2018

العين الحسودة

تأليف : امل شانوحة

معاناة من ابتُليّ بهذه الموهبة المؤذية 

لم يعلم سمير بقدراته المدمّرة الا في السن التاسعة .. وكانت اول تجاربه مع صديقه في المدرسة الذي أجاب على معظم اسئلة الأستاذ التي طرحها على طلاّب الفصل .. 
فقال سمير في نفسه بامتعاض :
- ليتك تُكرمنا بسكوتك ايها المتذاكي

ليسقط الولد على الفور مغشيّاً عليه ! ويُنقل الى غرفة التمريض بالمدرسة التي بقيّ فيها الى نهاية الدوام ..
وظنّ سمير إن ما حصل كان مجرّد صدفة .. وشكر ربّه انه لم يسمعه أحد 
***

لكنه لم يدرك بأن عائلته لاحظت موهبته المشؤومة منذ صغره , بعد ان أخذه والده الى رحلة البرّ مع اصحابه في سن السابعة , حيث تسبّبت عينه الحارّة بقتل صقر صديقه الذي كان يصطاد الأرانب ببراعة .. فحمّد الأب ربّه بأن اصحابه لم يلاحظوا ذلك .. لكن من يومها بدأ يعامله بجفاء .. 

وفي أحد الأيام .. تجرّأ سمير وسأله :
- لما لا تحبني يا ابي كبقيّة أخوتي ؟!
- لأنك بذرةٍ شيطانية , تُدمّر كل شيء بعينك الحاقدة .. لذلك نتجنّب إخبارك بأمورنا الجيدة , ونخاف أخذك معنا الى المناسبات المهمّة ..وانا نادمٌ بالفعل لإنجابي ولدٌ مثلك 
قال ذلك بلؤمٍ شديد , وتركه مصدوماً من قساوته الغير مبرّرة !
***

ولأنه شعر بأنه منبوذ من عائلته , إزداد الحقد في قلبه .. وبدأ يستشعر شيئاً فشيئا بقواه الداخلية .. لكنه مع هذا , حرص ان لا يستخدمها في أذيّة الآخرين قدر الإمكان , فهي موهبة صعبٌ التحكّم بها .. 
***

لكنه فقد أعصابه بعد حصول اخته الصغرى على الكثير من الهدايا في عيد ميلادها , بينما لم يحصل هو الا على لعبةٍ واحدة من امه في عيد ميلاده الفائت ! 
لذلك نظر اليها من بعيد وهي تفتح ألعابها بحماس , قائلاً في نفسه بغضب:
- أتمنى ان تختنقي بإحدى القطع الصغيرة في لعبتك 

وبالكاد أدار ظهره , حتى سمعها تختنق ! وشاهد والديه وهما يحاولان جاهداً إخراج القطعة المحشورة في حلقها .. وتنفّسوا الصعداء بعد بصقها لها بصعوبة 
فقال سمير بنفسه بقلق :
((بدأ الأمر يخرج عن سيطرتي , يا الهي ما العمل ؟!))
وفضّل كتمان الموضوع كيّ لا يعاقبه والده ..
***

وحين وصوله للمرحلة الجامعية , كان قرأ الكثير عن العين الحاسدة وتجارب الناس التي تدمّرت حياتهم بعد إصابتهم بها ..وعلِمَ انه لا يمكنه التحكّم بذلك الشعاع الملعون الذي يخرج من عينه ويحطّم كل شيءٍ جميلٍ يراه .. لذلك حاول إخفاء ذلك عن أصدقائه خوفاً من خسارتهم , وصار قليل الكلام , حتى وصفوه بالشاب الخجول
***

الا ان الأمور أخذت منحنى سلبي بعد انضمام شابٍ مُترف لمجموعتهم .. حيث كان وليد شاباً مدللاً يحب إبداء التعليقات بنقدٍ جارح , وجّهها تحديداً لشخصية سمير الضعيفة الذي تفنّن بإحراجه امام بقيّة رفاقه كنوع من دعابته الساخرة ..
***

وفي إحدى الأيام .. ضاق سمير ذرعاً بانتقاداته اللاذعة , خاصة بعد ان قال له امام الجميع :
وليد بسخرية : هاى سمير !! كم شخص حضر حفلة عيد ميلادك البارحة ؟ ..أقصد بخلاف امك .. (وضحكوا جميعاً , ثم أردف قائلاً) .. برأيّ لا تتكلّف ثانيةً بطبع بطاقات الدعوه , فلا أحد سيذهب لحفلة لا يقدّم فيها سوى الحلوى الرخيصة .. 
سمير بغضب : ومن قال لك انّي فقير ؟
وليد بازدراء : سيارتك يا رجل تكاد تتهالك عند سيرها , اما انا .. فسيارتي موديل هذه السنة , والتي ستظلّ تحلم بركوبها يوماً من الأيام 

وهنا أحسّ سمير بنار تتأججّ داخل عينيه , فقال بغضب :
- أتمنى ان تتحطّم سيارتك الفارهة كقطع خردة !!
ثم ذهب , وسط دهشة الجميع !
***

في اليوم التالي .. وفور دخول سمير قاعة الجامعة , إنتبه الى نظرات اصدقائه الخائفة الذين كانوا يحاولون تجنّبه كلما اقترب منهم !
الى ان تجرّأ أحدهم قائلاً :
- سمير .. انت شخصٌ جيد , لكننا نتمنى ان تجد مجموعة أخرى تدرس معها
سمير بدهشة : ولماذا ؟!
- وليد الآن في المستشفى وحالته صعبة بعد ان ارتطمت سيارته بعامود الكهرباء
وقال الآخر : ماذا فعلت به يا رجل ؟ لقد تناثرت سيارته في كل مكان ! فهل عينك حارّة ؟
سمير بارتباك : لا طبعاً .. ما ذنبي ان كان الأحمق لا يجيد القيادة !
ورغم محاولته إنكار التهمة عنه , لكنهم فضّلوا الإبتعاد عنه ! 
***

ثم بدأ صيته السيء ينتشر بين الطلاب الذي حاولوا تجنّب حتى النظر اليه خوفاً من عينه الحارقة , ممّا أحزن سمير كثيراً والذي أصبح وحيداً في الجامعة 
حيث قال في نفسه بحزن , وهو يخفي دموعه : ((وحيدٌ في المنزل ووحيدٌ في الجامعة .. ما ذنبي انني خُلقت بعينٍ شيطانية ؟!))
***

وبعد شهرين من وحدته الخانقة .. وبينما كان يجلس وحيداً في ساحة الجامعة , إقترب منه شاب وسأله :
- هل انت سمير المشهور ؟
سمير باستغراب : المشهور ؟!
الشاب : أقصد الذي عينه تصيب ؟
فسكت سمير بامتعاض .. لكن الشاب لم يبتعد عنه , بل جلس بجانبه وهو يقول : 
- لا تخف , انا مثلك تماماً
سمير بدهشة : أحقاً ! هل عينك تصيب ايضاً ؟
الشاب بسعادة : طبعاً !! ولي الفخر بذلك

سمير باستهجان : وعلامَ تفتخر ؟! على أذيّة من تحب
الشاب : انا لا أؤذي الاّ من أكرهه .. او على الأقل , من لا يهمّني أمره .. فمثلاً .. إنظر الى تلك الفتاة .. الا تبدو مغرورة وهي تمشي بذلك الكعب العالي ؟ .. سأريك الآن قدراتي ..
ثم ركّز الشاب عينه على قدميها , قائلاً : 
- واو !!! ما هذا الحذاء الجميل ؟

وإذّ بكعب حذائها ينكسر على الفور وتسقط على الأرض ! فتُسرع صديقتها لمساعدتها على الوقوف .. بينما ضحك الشاب بصوتٍ عالي .. 
وهنا سمع سمير , الفتاة تقول لصديقتها بعصبية :
- الآن عرفت لما انكسر حذائي , انها عين سمير اللعينة !!
فقال لها سمير بصوتٍ عالي : لا ليس انا !! صدّقاً
لكنهما اسرعا بالإبتعاد عنه .. 

فقال سمير للشاب غاضباً :
- ارأيت ماذا فعلت !! لقد ظنّت بأنه انا !
الشاب بلا مبالاة : لا بأس .. فقريباً سيتعرّفون على قدراتي , وأنافسك على اللقب
سمير بغضب : انا لا اريد هذا اللقب من الأساس !! بل أبحث دائماً عن وسيلة تخلّصني من هذه الموهبة الملعونة
- ولما لا تستفيد منها , كما أفعل انا ؟ 
- وكيف ؟!
الشاب : كل من يغضبني , أعاقبه على الفور 
- الا يؤنّبك ضميرك ؟!
- ابداً , فهم استحقوا ذلك .. على فكرة , كنت معروفاً جداً في جامعتي والكلّ يهابني هناك , ويحسب لي ألف حساب

سمير : وهل انتقلت حديثاً الى هنا ؟
- نعم , قبل يومين .. وإسمي جلال
- وبرأيك يا جلال , الا يوجد حلّ للتخفيف من قوّة الشعاع ..
جلال مقاطعاً : بلى .. ان تُعطي ماء وضوئك للمحسود , فيتعالج على الفور .. ستجدها مذكورة بالأحاديث النبوية 
- وهل جرّبتها ؟
جلال : ليس بإرادتي .. ففي يوم تفاجأت بأهل العريس يطلبون ماء وضوئي , بعد ان قلت لأبنهم في يوم عرسه : انه يبدو نشيطاً كالحصان .. ويبدو انه نام في الصالة ليلة عرسه 
وضحك ساخراً من الموقف .. 
سمير مُستنكراً : هذا ليس مضحكاً بالمرّة , يا جلال !

وهنا مرّ أحد الأساتذة من امامهما , فسأله جلال : 
- لحظة ! هل هذا استاذك ؟ 
سمير : نعم , وهو لئيمٌ جداً معي
- اذاً سأنتقم لك
- لا توقف !!
وفجأة ! سقط الأستاذ ارضاً بعد ان إنكسرت رجله من دون سبب ..

ومن يومها حلّت اللعنة على سمير بعد ان كرهه الأساتذة ايضاً .. حتى أوشك على ترك تعليمه قبل سنة من تخرّجه , حيث كان الجميع يرفض إعطائه الملخّصات او إجابته عن أيّ سؤال يتعلّق بالمادة .. ولم يجد صديقاً سوى جلال الذي ايضاً ذاع صيته سريعاً بالجامعة , وأصبحا منبوذان من قِبَل الجميع .. 

الفرق الوحيد بينهما : ان جلال كان سعيداً بقدراته , بينما سمير يلعن موهبته التي أبعدته حتى عن إخوانه بعد ان لاحظوا مرض أطفالهم كلما زاروه.. 
لذلك قرّر السفر فور تخرّجه الى اوروبا , لعلّ الأجانب لا يصدّقون بهذه الأمور ..
***

وقبيل حفلة التخرّج , وفي القاعة التي يتدرّبون فيها ..قال جلال بصوتٍ عالي :
- هآ نحن أخيراً تخرّجنا , ولم يعدّ يهمّني لوّ احترقت الجامعة بمن فيها !!!

وإذّ بشرارة تخرج من مكبّر الصوت (الذي يُصدر منه موسيقى التخرّج)  لتشتعل الستارة التي بجانبه .. ولم يمضي ثوانيٍ , حتى وصل الحريق الى الكراسي المدهونة حديثاً ..وعلت صيحات الفزع بين المتخرّجين !!! 
وبالكاد استطاعوا كسر النافذة العلوية لإخراج الطالبات اولاً , ثم الشباب ..

وبعد خروجهم ..لاحظ سمير صديقه جلال واقعاً على الأرض بعد ان اختنق بالدخان .. فحاول إخراجه , لكنه لم يستطع سحبه لثقل وزنه .. وهنا صرخ أحدهم من خلف النافذة :
- سمير !! يبدو انه مات , أتركه وانقذ نفسك ..هيا أخرج فوراً!! 

وبالفعل تركه لإنقاذ نفسه .. لكن قبل خروجه , سقط جزءاً من الستارة المحترقة على وجهه .. ثم حلّ الظلام فجأة ! 
*** 

حين استفاق سمير في المستشفى , كانت الضمّادة حول عينيه ..لكنه سمع بوضوح بكاء افراد عائلته من حوله , وبعض اصدقائه القدامى .. حيث قال لهم الطبيب :
- أعتذر منكم , لم استطع إنقاذ نظره

وما ان سمع سمير ذلك , حتى أطلق ضحكةً مجلّجلة .. وسط دهشة الجميع ! قائلاً بارتياح , بصوتٍ متهدّج :
سمير : أشكرك يارب لأنك خلّصتني من عيني الحارّة !! هآ انا سأعود محبوباً لديكم , ولن تخافوا القرّب مني .. وستتركون أطفالكم يلعبون حولي ..وستحدّثوني عن أخباركم السعيدة , وتشاركوني أحلامكم المستقبلية ..وانت يا ابي !! لن تصفني بإبن الشيطان ثانيةً , وستعاملني كإبنك كما كنت تفعل بالماضي .. وأصدقائي لن يبتعدوا عنّي ..ولن أضّطر للعيش وحيداً في الغربة .. سأعيش معكم معزّزاً مُكرّماً , طوال حياتي .. اليس كذلك يا أحبّائي الأعزّاء ؟!!

فنظر الجميع لبعضهم بحسرة , وهم يشعرون بتأنيب الضمير لسوء معاملتهم له , بعد ان أحسّوا لأوّل مرة بمعاناته المريرة التي لم يشعر بها أحد طوال سنوات حياته ! 

الأربعاء، 14 نوفمبر 2018

البُعد الآخر

تأليف : امل شانوحة

اين انا الآن ؟!

في ذلك الصباح .. أصرّ جون على قيادة طائرته الشراعية رغم اعتراض زوجته التي رأت كابوساً مفزعاً عن هذه الرحلة في الليلة السابقة 
جون بعصبية : أتريديني ان ألغي رحلتي بسب حلمٍ أزعجكِ ؟!
زوجته بإلحاح : لا تعاندني يا جون , انت تعرف ان حدسي يصدق دائماً .. وانا رأيتك تمرّ في دوامة لا نهاية لها .. رجاءً , أجّل رحلتك الى يومٍ ثاني 

وهنا اقترب منه ابنه آدم (7 سنوات) قائلاً :
- ابي خذني معك .. فأنت وعدتني ان تعلّمني المِلاحة
- ليس اليوم يا آدم , لكني أعدك ان آخذك معي في العطلة الصيفية 
زوجته وهي تمسك يده : جون عزيزي .. لا تذهب , فقلبي ليس مطمئناً لهذه الرحلة بالذات  

الا ان جون لم يأبه بتحذيراتها , وذهب الى المدرّج لممارسة هوايته التي يعشقها ..
*** 

ومرّت الرحلة بسلام .. حيث قضى ثلاث ساعات بالجوّ دون أيّةِ مشاكل , فالجوّ كان مُشمساً وصافياً .. وقد هبط في المدرّج ببراعة كعادته دائماً 

وبعد ان ركب سيارته , اراد شراء بعض الحلوى التي تعشقها زوجته كي يصالحها بعد تلك المشاجرة .. لكنه تفاجأ بأن هناك تغيرات كبيرة حصلت بالسوق الذي كان فيه قبل اسبوع !

وبينما كان يسير بالطرقات , قال بنفسه باستغراب :
- مالذي حصل ؟! الم يكن هناك محل للحلويات في هذه المنطقة ؟ واين محل جاري , بائع الملابس ؟ هل انتقل هو ايضاً بهذه السرعة ؟! ..شيءٌ غريب يحدث بالبلد .. حسناً ..لأنسى الحلويات الآن , وأعود مباشرةً الى بيتي ..
***

وحين وجد منزله فوق التلّ .. قال في نفسه بارتياح :
((جيد ان بيتي مازال في محلّه .. أتمنى ان لا تستقبلني جوليا بوجهٍ عابس))
وحاول فتح الباب , لكن المفتاح لم يدخل في القفل ..
- ماذا ! هل غيّرته زوجتي لأنني أغضبتها ؟ لا , لقد تجاوزت حدودها بالفعل !! 
وطرق الباب , صارخاً بغضب :
- جوليا !! إفتحي الباب حالاً ..

لكنه تفاجأ بشاب يفتح له الباب , ممّا أغضبه كثيراً :
- من انت ؟!! وماذا تفعل في بيتي يا لعين ؟!! ..جوليا !! تعالي وواجهيني يا خائنة !! 

وهنا اقتربت منهما سيدة خمسينية , امتلأ غرّة شعرها بالشيب ..وحين رأته شهقت بفزع ! وعدّلت نظارتها السميكة وهي لا تصدّق ما تراه :
- جون ! أهذا انت ؟!
زوجها باستغراب : جوليا ! لما تتنكّرين بهيئة العجوز ؟ فنحن لسنا في عيد الهالوين .. ومن هذا الشاب ؟ 
جوليا : هذا آدم .. ابنك , هل نسيته ؟!
جون بدهشة : ماذا !
فسأل الشاب جوليا : امي .. أهذا ابي ؟!
امه بعيونٍ دامعة : نعم ابني .. ابوك 
الشاب بدهشة : كيف هذا وهو يبدو شاباً لا يكبرني بكثير !

فصرخ جون غاضباً : أتريدان ان تجنّناني !! ابني عمره 7 سنوات , فمن هذا الشاب اللعين ؟!!!
فقال الشاب : لحظة ابي , إنتظرني

وأسرع الشاب الى الطابق العلوي .. فصرخ عليه جون بغضب :
- هاي انت !! من سمح لك ان تصعد الى غُرف نومنا يا حقير ؟!! .. وانتِ يا جوليا !! كيف تُدخلين غريباً الى بيتي في غيابي؟!! 

وقبل ان تُجيبه , نزل الشاب ومعه مُغلّف كان مخبأً في خزانته 
- ابي .. تعال لأريك ما فاتك
جون : لا تناديني بأبي .. جوليا , ما القصة ؟

وأصرّ الشاب ان يُريه ما بداخل المغلّف الكبير الذي يحمله , الذي كان فيه قصاصات من صحفٍ قديمة : تتكلّم عن عملية تفتيش كبيرة للحقول المجاورة , أجرتها الشرطة بمساعدة ابناء المنطقة للبحث عن الطيّار المفقود جون تشارلي الذي اختفت طائرته منذ عشرين سنة !

وبعد ان قرأ جون سريعاً عناوين المقالات , ووجد صوره في تلك الصحف .. قال بدهشة : 
- ماذا ! عشرين سنة .. هذا مستحيل  
وأسرع نحو المرآة الكبيرة المعلّقة في الصالة :
- ما هذه التخاريف ؟ فشكلي مازال كما هو ؟
زوجته : وهذا هو المرعب في الموضوع .. فأنت لم تكبر ابداً , بينما كبرت انا وابنك عشرين سنة .. فكيف يُعقل هذا ؟!

جون مُستنكراً : انا لا أصدّق كلامكما .. أظنها لعبة منكِ لتُخفي عشيقك..
الشاب مقاطعاً : ابي !! هذا انا .. حتى أنظر
وأراه الوحمة السوداء على ذراعه , والتي كان يملكها ابنه ايضاً..
ممّا صعق الأب الذي قال : لا , لا يعقل هذا ! 
زوجته : إجلس واخبرنا بالضبط مالذي حصل لك في تلك الرحلة ؟
جون : بل انت اخبريني اولاً بما تذكرينه عن ذلك اليوم ؟
فقالت : أذكر انني كنت طلبت منك تأجيل الرحلة ليومٍ آخر..
فأكمل عنها قائلاً : نعم نعم , بسبب كابوسٍ رأيته

زوجته : ومن بعدها حلّ الظلام دون ان تعدّ الى المنزل , فاتصلت بالمدرّج وأخبروني بأنهم ارسلوا طائرتين للبحث عنك , لأن وقود طائرتك لا يكفي للطيران كل هذه المدة .. وقد ظنّنا بأن طائرتك سقطت بالنهر او الوادي .. وتمّ الإعلان عن حملةٍ واسعة للبحث عنك , شارك بها معظم رجال مدينتنا , لكنهم لم يجدوا أيّ أثر لطائرةٍ مُحطّمة , كما لم توجد معلومات عن هبوطك في مطارٍ قريب .. وبعد مرور أسبوعين على غيابك , فقدّت الأمل بنجاتك .. وأقمت عزاءً شعبي في ساحة المدينة , ووضعنا كل ما يخصّك في صندوقٍ خشبي , ودفناه في المقبرة 
جون : أيعني هذا إن لي قبراً بإسمي ؟!
الشاب آدم : نعم ابي , وكنت أزوره دائماً مع امي .. وكان الجميع يعاملني بلطف لأنني يتيم

فسأل زوجته : وانتِ .. الم تتزوجي من بعدي ؟
جوليا : لا ابداً , ولم أفكّر بهذا الموضوع .. بل كرّست حياتي لتربية ابنك بعد ان عُدّت للعمل كمعلمة حضانة .. والآن جاء دورك .. إخبرنا مالذي حصل لك في تلك الرحلة ؟
فسكت جون قليلاً , قبل ان يقول :  
- لم يحصل شيء بتاتاً .. كانت رحلة عادية جداً , حلّقت عالياً لمدة لا تتجاوز الثلاث ساعات

آدم : الم تكن هناك عاصفة يا ابي ؟ او انك غيّرت مسارك , او دخلت في بعدٍ زمانيّ آخر , او ان ثقباً أسوداً سحبك الى داخله ؟
جون : لا بنيّ ! ما كل هذا الخيال .. الأمور كانت طبيعية جداً والجوّ لطيف ومناسب للطيران .. لكن ..(وسكت)
زوجته باهتمام : لكن ماذا ؟ إكمل
جون : لاحظت اثناء عودتي ان جزءاً كبيراً من الغابة المحترقة أُعيد زراعتها , بل كانت في موسم حصاد ! وقد فاجأني ذلك , حتى انني راجعت الخريطة خوفاً من أكون ضللّتُ طريقي .. لكن حين رأيت نهرنا , عرفت انني مازلت أُحلّق فوق مدينتنا 

آدم : وهل كانت غابتنا محروقة يا امي ؟!
جوليا : نعم , إحترقت حين كنت في الخامسة من عمرك ..لكنهم أعادوا زراعتها حين أصبحت في 12 من عمرك .. الا تذكر رحلتك المدرسية لزراعة شجيرة هناك ؟
آدم : آه صحيح .. لكن ابي .. ما تفسيرك لما حصل لك ؟
جون : لا ادري .. أكاد أجنّ ! 

آدم : ومالعمل الآن امي , هل نُخبر الناس والصحافة بمعجزة ابي؟
امه : لا !! لا نريد إحداث ضجّةٍ إعلامية .. كما أخاف ان تستحوذ عليه الدولة , وتُبعد اباك عنّا .. 
جون : وانا ايضاً لا اريد ذلك
زوجته : جون .. برأيّ عليك الإبتعاد عن أعين الناس قدر المستطاع , الى ان نجد حلاً لهذه المشكلة.. 
آدم : وانا أعدك يا ابي بأنني سأجري الكثير من الأبحاث العلمية لأعرف بالضبط مالذي حصل معك 

جون : وماذا عن سيارتي ؟
ابنه : سأضعها حالاً في المرآب على أمل ان لا يراها أحد .. وحاول ابي ان لا تستخدمها ثانيةً , ولا حتى انا  
فأومأ الأب برأسه موافقاً , وهو مازال يشعر بالحيرة لما حصل له!
***

ومرّ شهران لم يبرح فيهما الأب منزله .. وكان عليه الإختباء في القبو او العليّة كلما زار عائلته صديق او جار او قريب , ممّا ضيّق صدره كثيراً ..فهو لطالما عشِقَ الحرية والطيران , وكرِهَ ملازمة المنزل ..
***

وفي مساء أحد الأيام .. إستغلّ جون ذهاب ابنه لحفلٍة مع اصدقائه , وزوجته الى زيارةٍ عائلية كيّ يخرج من المنزل ..وركب سيارته منطلقاً نحو المدرّج , بعد ان لفّ الوشاح حول وجهه كيّ لا يلمحه أحد .. 
***

ورغم ان الجوّ بارد ويُنذر بعاصفةٍ قريبة , لكنه بدأ بتحريك طائرته التي لم يلاحظ أحد من العاملين عودتها رغم مرور كل هذا الوقت ! 
وقبل إقلاعه بقليل , سمع الحارس يناديه بصوتٍ عالي : 
- يا رجل !! عدّ مكانك .. ممنوع الطيران هذا اليوم .. هناك عاصفة قادمة !! الم تسمع النشرة الجويّة ؟

لكن كعادته لم يأبه بالتحذيرات , وانطلق محلّقاً في السماء وهو ينوي سلوك المسار ذاته الذي ذهب فيه المرة الماضية , لعلّه يعود بالزمن الى الوراء كيّ لا يُحرم من السنوات التي ضاعت من حياة ابنه وزوجته 
***

وبعد ان أصبحت طائرته على علوٍّ مناسبٍ في الجوّ .. تفاجأ جون بغيمةٍ سوداء رعدية تعترض طريقه !
- اللعنة ! عليّ تغير مساري والا دخلت في منتصف العاصفة , وربما أُقتل هذه المرة .. حسناً , سأتجه يساراً ..
***

وبعد ساعات .. عاد الى المدرّج قبل نفاذ وقوده بقليل , بعد ان مرّت العاصفة على المدينة بسلام.. 
ثم ركب سيارته وعاد سريعاً الى بيته , ماراً من طريق السوق ..ليتفاجأ بأن المول الكبير لم يُبنى بعد ! والجسر الحديدي الذي يربط الحقول ببعضها مازال قيد الإنشاء !
فقال جون بنفسه بقلق : يا الهي ! ما الخطأ الذي ارتكبته الآن ؟ 

لكنه تنفّس الصعداء حين رأى بيته فوق التلّ .. وكلما اقترب منه , لاحظ بأن دهانه جديد وكأنه بنيَّ حديثاً !
وكما توقع , لم يُفتح منزله بالمفتاح الذي معه .. 
فطرق الباب وقلبه ينبض بسرعة , وهو يكاد لا يطيق الإنتظار ليرتمي بأحضان زوجته الشابة ..

لكن حين فتحت له الباب , وجدها حاملاً ! 
جون بدهشة : ماذا ! الم تلدي آدم بعد ؟!
وكاد يسقط عليها من هول الدهشة ! وصرخت بعلوّ صوتها :
- جون !!! جون !!
فقال جون باستغراب : نعم .. انا جون , فلمن تنادي ؟!
وهنا سمع صوت رجلٍ من الداخل يقول لها :
- ماذا يا جوليا ؟ ..من على الباب ؟

وحين اقترب ..وجد رجلاً يشبهه تماماً , لكنه أصغر منه بسنوات..
وكلاهما صُعق لرؤية شبيهه ! 
فقطعت جوليا هذا الصمت , بسؤالها لزوجها الشاب :
- جون .. هل هذا أخوك الكبير ؟
فأجاب زوجها : لا جوليا .. ليس عندي إخوة كما تعلمين .. من انت يا رجل ؟
فتلعثم جون الكبير وهو يقول : انا هو انت .. أقصد انت هو انا , حين كنت عريساً جديداً
فأجابه الزوج : هل انت مجنون , ما هذا الكلام ؟ ولما أتيت الى بيتي ؟.. ماذا تريد منّا ؟ 

فانهار جون الكبير باكياً : أريد عائلتي !! اريد زوجتي جوليا .. وابننا الصغير آدم .. آه يا حبيبتي , ليتني سمعت كلامك ولم أذهب في تلك الرحلة الملعونة !!
فسأل جون (الشاب) زوجته بنبرة شكّ : 
- عن ماذا يتكلّم هذا الرجل يا امرأة ؟!!
جوليا بارتباك : لا ادري .. فأنا لم أره من قبل !
فصرخ الشاب في وجهه بعصبية : إذهب من هنا يا رجل !! فأنت تخيف زوجتي , وانا لا اريدها ان تلد قبل آوانها .. هيا إرحل !!
وأغلق الباب في وجهه..

فعاد جون الى سيارته حائراً , وهو يتساءل في نفسه :
((والى اين أذهب الآن ؟ .. ومن أكون ؟!)) 

ثم بكى بمرارة لتشتّت حياته بعد إختراقه بعداً زمانياً في تلك الرحلة الغامضة , التي لم يعرف لها يوماً تفسيراً مقنعاً يُخمد نار الشوق في قلبه !
***

ولاحقاً ..أجبرت الظروف جون على الزواج من امرأةٍ ثانية وإنجاب أطفالٍ آخرين , لكنه كان من وقتٍ لآخر يراقب ابنه آدم من بعيد وهو يكبر مع أبٍ آخر , يبدو كنسخةٍ مُصغّرة عنه ! 

ولم يعرف أحد بتجربته المُريبة , الا بعد نشر زوجته الثانية لمذكّراته بعد موته (بناءً على طلبه) لتُصبح أغرب ما كُتب في زمننا الحالي ..حيث تضاربت الآراء حوله بين مُصدّقٍ ومُكذب  

فهل حقاً لدينا نسخاً عنّا تعيش في أبعادٍ زمانية مختلفة ؟ .. من يدري !
*****

ملاحظة :
هناك حادثة في الإنترنت عن رحلة طائرة بريطانية إختفت لخمس سنوات قبل ان تهبط في المدرّج , والغريب ان الطيّار والركاّب المئة لم يشعروا بأن رحلتهم تجاوزت المدّة المحدّدة .. وقد فسّر علماء الفيزياء الظاهرة باختراق الطائرة للثقب الأسود , او بنظرية الأكوان المتوازية .. ولا أدري مصداقية الحادثة او هذه النظرية التي تبدو من غرائب الدنيا !

لقاءٌ ساحر (الجزء الأخير)

تأليف : الأستاذ عاصم تنسيق : امل شانوحة  رابط الجزء الأول من القصة : https://www.lonlywriter.com/2024/10/blog-post_4.html مفتاح الحرّية بعد ...