الأربعاء، 14 نوفمبر 2018

البُعد الآخر

تأليف : امل شانوحة

اين انا الآن ؟!

في ذلك الصباح .. أصرّ جون على قيادة طائرته الشراعية رغم اعتراض زوجته التي رأت كابوساً مفزعاً عن هذه الرحلة في الليلة السابقة 
جون بعصبية : أتريديني ان ألغي رحلتي بسب حلمٍ أزعجكِ ؟!
زوجته بإلحاح : لا تعاندني يا جون , انت تعرف ان حدسي يصدق دائماً .. وانا رأيتك تمرّ في دوامة لا نهاية لها .. رجاءً , أجّل رحلتك الى يومٍ ثاني 

وهنا اقترب منه ابنه آدم (7 سنوات) قائلاً :
- ابي خذني معك .. فأنت وعدتني ان تعلّمني المِلاحة
- ليس اليوم يا آدم , لكني أعدك ان آخذك معي في العطلة الصيفية 
زوجته وهي تمسك يده : جون عزيزي .. لا تذهب , فقلبي ليس مطمئناً لهذه الرحلة بالذات  

الا ان جون لم يأبه بتحذيراتها , وذهب الى المدرّج لممارسة هوايته التي يعشقها ..
*** 

ومرّت الرحلة بسلام .. حيث قضى ثلاث ساعات بالجوّ دون أيّةِ مشاكل , فالجوّ كان مُشمساً وصافياً .. وقد هبط في المدرّج ببراعة كعادته دائماً 

وبعد ان ركب سيارته , اراد شراء بعض الحلوى التي تعشقها زوجته كي يصالحها بعد تلك المشاجرة .. لكنه تفاجأ بأن هناك تغيرات كبيرة حصلت بالسوق الذي كان فيه قبل اسبوع !

وبينما كان يسير بالطرقات , قال بنفسه باستغراب :
- مالذي حصل ؟! الم يكن هناك محل للحلويات في هذه المنطقة ؟ واين محل جاري , بائع الملابس ؟ هل انتقل هو ايضاً بهذه السرعة ؟! ..شيءٌ غريب يحدث بالبلد .. حسناً ..لأنسى الحلويات الآن , وأعود مباشرةً الى بيتي ..
***

وحين وجد منزله فوق التلّ .. قال في نفسه بارتياح :
((جيد ان بيتي مازال في محلّه .. أتمنى ان لا تستقبلني جوليا بوجهٍ عابس))
وحاول فتح الباب , لكن المفتاح لم يدخل في القفل ..
- ماذا ! هل غيّرته زوجتي لأنني أغضبتها ؟ لا , لقد تجاوزت حدودها بالفعل !! 
وطرق الباب , صارخاً بغضب :
- جوليا !! إفتحي الباب حالاً ..

لكنه تفاجأ بشاب يفتح له الباب , ممّا أغضبه كثيراً :
- من انت ؟!! وماذا تفعل في بيتي يا لعين ؟!! ..جوليا !! تعالي وواجهيني يا خائنة !! 

وهنا اقتربت منهما سيدة خمسينية , امتلأ غرّة شعرها بالشيب ..وحين رأته شهقت بفزع ! وعدّلت نظارتها السميكة وهي لا تصدّق ما تراه :
- جون ! أهذا انت ؟!
زوجها باستغراب : جوليا ! لما تتنكّرين بهيئة العجوز ؟ فنحن لسنا في عيد الهالوين .. ومن هذا الشاب ؟ 
جوليا : هذا آدم .. ابنك , هل نسيته ؟!
جون بدهشة : ماذا !
فسأل الشاب جوليا : امي .. أهذا ابي ؟!
امه بعيونٍ دامعة : نعم ابني .. ابوك 
الشاب بدهشة : كيف هذا وهو يبدو شاباً لا يكبرني بكثير !

فصرخ جون غاضباً : أتريدان ان تجنّناني !! ابني عمره 7 سنوات , فمن هذا الشاب اللعين ؟!!!
فقال الشاب : لحظة ابي , إنتظرني

وأسرع الشاب الى الطابق العلوي .. فصرخ عليه جون بغضب :
- هاي انت !! من سمح لك ان تصعد الى غُرف نومنا يا حقير ؟!! .. وانتِ يا جوليا !! كيف تُدخلين غريباً الى بيتي في غيابي؟!! 

وقبل ان تُجيبه , نزل الشاب ومعه مُغلّف كان مخبأً في خزانته 
- ابي .. تعال لأريك ما فاتك
جون : لا تناديني بأبي .. جوليا , ما القصة ؟

وأصرّ الشاب ان يُريه ما بداخل المغلّف الكبير الذي يحمله , الذي كان فيه قصاصات من صحفٍ قديمة : تتكلّم عن عملية تفتيش كبيرة للحقول المجاورة , أجرتها الشرطة بمساعدة ابناء المنطقة للبحث عن الطيّار المفقود جون تشارلي الذي اختفت طائرته منذ عشرين سنة !

وبعد ان قرأ جون سريعاً عناوين المقالات , ووجد صوره في تلك الصحف .. قال بدهشة : 
- ماذا ! عشرين سنة .. هذا مستحيل  
وأسرع نحو المرآة الكبيرة المعلّقة في الصالة :
- ما هذه التخاريف ؟ فشكلي مازال كما هو ؟
زوجته : وهذا هو المرعب في الموضوع .. فأنت لم تكبر ابداً , بينما كبرت انا وابنك عشرين سنة .. فكيف يُعقل هذا ؟!

جون مُستنكراً : انا لا أصدّق كلامكما .. أظنها لعبة منكِ لتُخفي عشيقك..
الشاب مقاطعاً : ابي !! هذا انا .. حتى أنظر
وأراه الوحمة السوداء على ذراعه , والتي كان يملكها ابنه ايضاً..
ممّا صعق الأب الذي قال : لا , لا يعقل هذا ! 
زوجته : إجلس واخبرنا بالضبط مالذي حصل لك في تلك الرحلة ؟
جون : بل انت اخبريني اولاً بما تذكرينه عن ذلك اليوم ؟
فقالت : أذكر انني كنت طلبت منك تأجيل الرحلة ليومٍ آخر..
فأكمل عنها قائلاً : نعم نعم , بسبب كابوسٍ رأيته

زوجته : ومن بعدها حلّ الظلام دون ان تعدّ الى المنزل , فاتصلت بالمدرّج وأخبروني بأنهم ارسلوا طائرتين للبحث عنك , لأن وقود طائرتك لا يكفي للطيران كل هذه المدة .. وقد ظنّنا بأن طائرتك سقطت بالنهر او الوادي .. وتمّ الإعلان عن حملةٍ واسعة للبحث عنك , شارك بها معظم رجال مدينتنا , لكنهم لم يجدوا أيّ أثر لطائرةٍ مُحطّمة , كما لم توجد معلومات عن هبوطك في مطارٍ قريب .. وبعد مرور أسبوعين على غيابك , فقدّت الأمل بنجاتك .. وأقمت عزاءً شعبي في ساحة المدينة , ووضعنا كل ما يخصّك في صندوقٍ خشبي , ودفناه في المقبرة 
جون : أيعني هذا إن لي قبراً بإسمي ؟!
الشاب آدم : نعم ابي , وكنت أزوره دائماً مع امي .. وكان الجميع يعاملني بلطف لأنني يتيم

فسأل زوجته : وانتِ .. الم تتزوجي من بعدي ؟
جوليا : لا ابداً , ولم أفكّر بهذا الموضوع .. بل كرّست حياتي لتربية ابنك بعد ان عُدّت للعمل كمعلمة حضانة .. والآن جاء دورك .. إخبرنا مالذي حصل لك في تلك الرحلة ؟
فسكت جون قليلاً , قبل ان يقول :  
- لم يحصل شيء بتاتاً .. كانت رحلة عادية جداً , حلّقت عالياً لمدة لا تتجاوز الثلاث ساعات

آدم : الم تكن هناك عاصفة يا ابي ؟ او انك غيّرت مسارك , او دخلت في بعدٍ زمانيّ آخر , او ان ثقباً أسوداً سحبك الى داخله ؟
جون : لا بنيّ ! ما كل هذا الخيال .. الأمور كانت طبيعية جداً والجوّ لطيف ومناسب للطيران .. لكن ..(وسكت)
زوجته باهتمام : لكن ماذا ؟ إكمل
جون : لاحظت اثناء عودتي ان جزءاً كبيراً من الغابة المحترقة أُعيد زراعتها , بل كانت في موسم حصاد ! وقد فاجأني ذلك , حتى انني راجعت الخريطة خوفاً من أكون ضللّتُ طريقي .. لكن حين رأيت نهرنا , عرفت انني مازلت أُحلّق فوق مدينتنا 

آدم : وهل كانت غابتنا محروقة يا امي ؟!
جوليا : نعم , إحترقت حين كنت في الخامسة من عمرك ..لكنهم أعادوا زراعتها حين أصبحت في 12 من عمرك .. الا تذكر رحلتك المدرسية لزراعة شجيرة هناك ؟
آدم : آه صحيح .. لكن ابي .. ما تفسيرك لما حصل لك ؟
جون : لا ادري .. أكاد أجنّ ! 

آدم : ومالعمل الآن امي , هل نُخبر الناس والصحافة بمعجزة ابي؟
امه : لا !! لا نريد إحداث ضجّةٍ إعلامية .. كما أخاف ان تستحوذ عليه الدولة , وتُبعد اباك عنّا .. 
جون : وانا ايضاً لا اريد ذلك
زوجته : جون .. برأيّ عليك الإبتعاد عن أعين الناس قدر المستطاع , الى ان نجد حلاً لهذه المشكلة.. 
آدم : وانا أعدك يا ابي بأنني سأجري الكثير من الأبحاث العلمية لأعرف بالضبط مالذي حصل معك 

جون : وماذا عن سيارتي ؟
ابنه : سأضعها حالاً في المرآب على أمل ان لا يراها أحد .. وحاول ابي ان لا تستخدمها ثانيةً , ولا حتى انا  
فأومأ الأب برأسه موافقاً , وهو مازال يشعر بالحيرة لما حصل له!
***

ومرّ شهران لم يبرح فيهما الأب منزله .. وكان عليه الإختباء في القبو او العليّة كلما زار عائلته صديق او جار او قريب , ممّا ضيّق صدره كثيراً ..فهو لطالما عشِقَ الحرية والطيران , وكرِهَ ملازمة المنزل ..
***

وفي مساء أحد الأيام .. إستغلّ جون ذهاب ابنه لحفلٍة مع اصدقائه , وزوجته الى زيارةٍ عائلية كيّ يخرج من المنزل ..وركب سيارته منطلقاً نحو المدرّج , بعد ان لفّ الوشاح حول وجهه كيّ لا يلمحه أحد .. 
***

ورغم ان الجوّ بارد ويُنذر بعاصفةٍ قريبة , لكنه بدأ بتحريك طائرته التي لم يلاحظ أحد من العاملين عودتها رغم مرور كل هذا الوقت ! 
وقبل إقلاعه بقليل , سمع الحارس يناديه بصوتٍ عالي : 
- يا رجل !! عدّ مكانك .. ممنوع الطيران هذا اليوم .. هناك عاصفة قادمة !! الم تسمع النشرة الجويّة ؟

لكن كعادته لم يأبه بالتحذيرات , وانطلق محلّقاً في السماء وهو ينوي سلوك المسار ذاته الذي ذهب فيه المرة الماضية , لعلّه يعود بالزمن الى الوراء كيّ لا يُحرم من السنوات التي ضاعت من حياة ابنه وزوجته 
***

وبعد ان أصبحت طائرته على علوٍّ مناسبٍ في الجوّ .. تفاجأ جون بغيمةٍ سوداء رعدية تعترض طريقه !
- اللعنة ! عليّ تغير مساري والا دخلت في منتصف العاصفة , وربما أُقتل هذه المرة .. حسناً , سأتجه يساراً ..
***

وبعد ساعات .. عاد الى المدرّج قبل نفاذ وقوده بقليل , بعد ان مرّت العاصفة على المدينة بسلام.. 
ثم ركب سيارته وعاد سريعاً الى بيته , ماراً من طريق السوق ..ليتفاجأ بأن المول الكبير لم يُبنى بعد ! والجسر الحديدي الذي يربط الحقول ببعضها مازال قيد الإنشاء !
فقال جون بنفسه بقلق : يا الهي ! ما الخطأ الذي ارتكبته الآن ؟ 

لكنه تنفّس الصعداء حين رأى بيته فوق التلّ .. وكلما اقترب منه , لاحظ بأن دهانه جديد وكأنه بنيَّ حديثاً !
وكما توقع , لم يُفتح منزله بالمفتاح الذي معه .. 
فطرق الباب وقلبه ينبض بسرعة , وهو يكاد لا يطيق الإنتظار ليرتمي بأحضان زوجته الشابة ..

لكن حين فتحت له الباب , وجدها حاملاً ! 
جون بدهشة : ماذا ! الم تلدي آدم بعد ؟!
وكاد يسقط عليها من هول الدهشة ! وصرخت بعلوّ صوتها :
- جون !!! جون !!
فقال جون باستغراب : نعم .. انا جون , فلمن تنادي ؟!
وهنا سمع صوت رجلٍ من الداخل يقول لها :
- ماذا يا جوليا ؟ ..من على الباب ؟

وحين اقترب ..وجد رجلاً يشبهه تماماً , لكنه أصغر منه بسنوات..
وكلاهما صُعق لرؤية شبيهه ! 
فقطعت جوليا هذا الصمت , بسؤالها لزوجها الشاب :
- جون .. هل هذا أخوك الكبير ؟
فأجاب زوجها : لا جوليا .. ليس عندي إخوة كما تعلمين .. من انت يا رجل ؟
فتلعثم جون الكبير وهو يقول : انا هو انت .. أقصد انت هو انا , حين كنت عريساً جديداً
فأجابه الزوج : هل انت مجنون , ما هذا الكلام ؟ ولما أتيت الى بيتي ؟.. ماذا تريد منّا ؟ 

فانهار جون الكبير باكياً : أريد عائلتي !! اريد زوجتي جوليا .. وابننا الصغير آدم .. آه يا حبيبتي , ليتني سمعت كلامك ولم أذهب في تلك الرحلة الملعونة !!
فسأل جون (الشاب) زوجته بنبرة شكّ : 
- عن ماذا يتكلّم هذا الرجل يا امرأة ؟!!
جوليا بارتباك : لا ادري .. فأنا لم أره من قبل !
فصرخ الشاب في وجهه بعصبية : إذهب من هنا يا رجل !! فأنت تخيف زوجتي , وانا لا اريدها ان تلد قبل آوانها .. هيا إرحل !!
وأغلق الباب في وجهه..

فعاد جون الى سيارته حائراً , وهو يتساءل في نفسه :
((والى اين أذهب الآن ؟ .. ومن أكون ؟!)) 

ثم بكى بمرارة لتشتّت حياته بعد إختراقه بعداً زمانياً في تلك الرحلة الغامضة , التي لم يعرف لها يوماً تفسيراً مقنعاً يُخمد نار الشوق في قلبه !
***

ولاحقاً ..أجبرت الظروف جون على الزواج من امرأةٍ ثانية وإنجاب أطفالٍ آخرين , لكنه كان من وقتٍ لآخر يراقب ابنه آدم من بعيد وهو يكبر مع أبٍ آخر , يبدو كنسخةٍ مُصغّرة عنه ! 

ولم يعرف أحد بتجربته المُريبة , الا بعد نشر زوجته الثانية لمذكّراته بعد موته (بناءً على طلبه) لتُصبح أغرب ما كُتب في زمننا الحالي ..حيث تضاربت الآراء حوله بين مُصدّقٍ ومُكذب  

فهل حقاً لدينا نسخاً عنّا تعيش في أبعادٍ زمانية مختلفة ؟ .. من يدري !
*****

ملاحظة :
هناك حادثة في الإنترنت عن رحلة طائرة بريطانية إختفت لخمس سنوات قبل ان تهبط في المدرّج , والغريب ان الطيّار والركاّب المئة لم يشعروا بأن رحلتهم تجاوزت المدّة المحدّدة .. وقد فسّر علماء الفيزياء الظاهرة باختراق الطائرة للثقب الأسود , او بنظرية الأكوان المتوازية .. ولا أدري مصداقية الحادثة او هذه النظرية التي تبدو من غرائب الدنيا !

هناك تعليق واحد:

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...