تأليف : امل شانوحة
عداوة الأقارب
مروى هي الحب الأول في حياة احمد.. حبّ الطفولة.. وكيف لا ، وهي ابنة عمه التي تصغره بعاميّن.. والجميع توقّع زواجهما مستقبلاً.. لولا طمع والدها الذي جعله يسرق ارض اخيه ، مُدمّراً العلاقة بين العائلتيّن !
وبعد وفاة والد احمد مقهوراً من خسارته الأرض الذي تعب على زراعتها طوال حياته ، لحقته زوجته بعد العزاء بأيام ! وبذلك خسر احمد كلا والديه بسبب عمه الظالم !
وسافر بعدها للخارج ، للعيش عند خالته التي زادته حقداً على عائلة عمه الذي تسببّ بموت اختها حزناً على زوجها !
^^^
بعد سنوات .. عاد للقرية ، ليجد عمه توفيّ ايضاً ! وابنته الكبرى (مروى) تُشرف على العمّال ، لزراعة أرض والدها التي توسّعت بعد استيلائه على ارض اخيه !
وقد حاولت مروى وإخوتها زيارته اكثر من مرة .. لكنه رفض مقابلتهنّ ، مُتوعّداً بالإنتقام الذي نفّذه بعد شرائه اكبر منزلٍ في القرية .. حيث استطاع بماله (الذي جمعه من جهده المتواصل في عدّة وظائف بالخارج) شراء الأراضي المجاورة لأرض عمه ، وقطع الماء والإمدادات (من أسمدة وحبوب ومبيدات حشريّة) عنهم ، حتى اوشكت ارضهم على الهلاك !
فترّجته مروى بتركهم وشأنهم ، فهي وعائلتها يعتاشون عليها.. وعرضت عليه توكيل كبار القرية لإعادة قسمة الأرض المسلوبة بينهما .. لكنه رفض الصلح ، وإعادة التواصل بين العائلتيّن !
ولأنه يشعر بتأنيب الضمير لغرامه بها سابقاً ، صبّ غضبه عليها .. حيث وافق (بعد إلحاح مروى المتواصل) على إمداد ارضهم بالماء ، بشرط العمل لديه كخادمة ! فوافقت مُرغمة لحماية امها وإخوتها البنات ، فهي وعدت والدها قبل وفاته بالإهتمام بهنّ ، كونها ابنته البكر
***
وبالفعل بدأت العمل بمنزله الجديد الموجود وسط القرية ، والذي يحتاج على الأقل لثلاثة خدم لإنهاء تنظيفه ، عدا عن الطبخ والإهتمام بالمواشي .. لكنه أصرّ ان تتكفّل وحدها بأمور المنزل والزريبة ! وأجبرها على العمل من السادسة صباحاً حتى التاسعة ليلاً .. مما جعلها في الكثير من الأحيان تغفى بالزريبة من شدة تعبها!
***
وبعد شهرين من العمل المُجهد المتواصل ..فقدت توازنها وهي تنظّف سقيفة الزريبة ، ووقعت على رأسها.. وعندما وجدها غائبة عن الوعيّ وهي تنزف من جبينها ، أسرع بها للمستشفى وقلبه يخفق خوفاً عليها..
^^^
وفي الطريق .. عادت ذكريات طفولته معها ، وجميع المسابقات التي لعباها بين الحقول ، ووعده الزواج منها حين يكبران .. كل هذا وهو يراقبها من مرآته العلويّة وهي مستلقية دون حِراك في المقاعد الخلفيّة لسيارته ..ولسانه ينهج بالدعاء بأن لا تكون إصابتها بليغة
***
عندما وصلا للمستشفى .. أخاط الطبيب جرحها ، وصوّر رأسها بالأشعة
واثناء جلوس احمد في غرفتها ، مُمسكاً يدها وهو يراقب نومها والمصل بذراعها ..دخل الطبيب ومعه نتائج الفحوصات..
فسأله احمد بقلق :
- هل هي بخير ؟ لما لم تستيقظ حتى الآن ؟!
الطبيب : لديها ارتجاج بالمخّ
احمد بخوف : ماذا يعني ذلك ؟
- هناك احتمال بفقدانها الذاكرة .. لذا توقع كل شيء
وبعد ذهاب الطبيب .. مسّد احمد شعرها بحزن :
- حماك الله ، يا ابنة عمي ..رجاءً إفتحي عينيك الجميلتين ..أكاد اموت خوفاً عليك
وما أن فتحت عيناها حتى أبعدت يده عن شعرها ، وهي تنظر اليه باستغراب :
- من انت ؟!
ثم نظرت حولها ..
- ولما انا بالمستشفى ؟! ولما رأسي يؤلمني هكذا ؟!
فسألها بقلق : الا تتذكرينني ؟!
- لا !! إبعد يدك عني .. اين اهلي ؟ اين ابي واخي وامي ؟
وهنا تأكّد بفقدانها الذاكرة : فهي ليس لديها إخوة اولاد ، ووالدها ميت منذ عام !
فقال بنبرةٍ حزينة : سيأتون بعد قليل
فنظرت اليه بتمعّن :
- لما عيونك دامعة ؟! هل انت من اقاربي ؟
احمد : انا ابن عمك
- تبدو خائفاً عليّ !
- جداً يا مروى
ففاجأته بالقول :
- هل انت زوجي ؟
ومن شدّة إرباكه ، هزّ رأسه إيجاباً..
مروى بخجل : أحقاً ! ومنذ متى تزوّجنا ؟
فأجاب بتردّد : الشهر الماضي
- يعني عرسان جدد
فاكتفى بابتسامةٍ حزينة..
لينصدم من سحب ياقته باتجاهها ، لشمّه ! جعلت رأسه ينحني فوقها
مروى : رائحة عطرك ليست غريبة عليّ ! لكني حقاً لا اذكر عرسنا ، هل يمكنك تذكيري به ؟ يعني هل تزوّجنا عن حب ؟
فأجاب بحزن : أحببتك منذ الصغر
مروى بحماس : هذا جميل !! يبدو انني محظوظة للزواج من شابٍ وسيم وحنونٍ هكذا
احمد باستغراب : حنون !
(وتذكّر كيف عاملها بقسّوة طوال الشهرين الماضيّن)
مروى : نعم ، عيناك الحزينتان تؤكّدان ذلك .. هيا إخبرني ، كيف كان شهر عسلنا ؟ إخبرني التفاصيل ، لربما تذكّرتك
فارتبك قائلاً :
- أُخبرك لاحقاً
وهنا دخلت امها وإخوتها الثلاثة ، وهم يحتضنوها بخوف..
الأم بقلق : هل انت بخير يا ابنتي ؟
ونظرت الأخت الوسطى لإبن عمها بغيظ :
- ماذا فعلت بها ؟!!
ليتفاجئنّ بسؤال مروى لأحمد :
- هل هؤلاء عائلتي ؟ ما اسمائهم ؟
الأم بخوف : مالذي حصل لها ؟!
فردّت مروى :
- لا تقلقوا عليّ .. يبدو إصابة رأسي أفقدتني الذاكرة مؤقتاً .. لكن الحمد الله ، زوجي ذكّرني بكنّ
عائلتها بصدمة : زوجك !
ام مروى بحزم : أحمد !! اريد التكلّم معك على انفراد
^^^
وخارج غرفة المستشفى ، سألته الأم بعصبية :
- مالذي حصل لمروى ؟!
احمد بارتباك : تظنني زوجها
- لا أظن فقدان ذاكرتها جعلها تتجرّأ على نسبك زوجها ، إلاّ اذا أفهمتها ذلك .. فماهو قصدك ؟ الم تكتفي بجعلها خادمة ، والآن تريد الإعتداء عليها !!
معاتباً : ماهذا الكلام يا خالة ! هي تبقى ابنة عمي ، وشرفي ..
الأم مقاطعة بحزم : اذاً إصلح الموضوع !!
- كيف افعل ذلك ؟!
- أحضر الشيخ وشاهدان للزواج بها.. والآن !!
احمد بصدمة : ماذا !
- الا ترى كيف تنظر اليك بشغف ! حتماً سترفض الإبتعاد عنك .. وانا لن اسمح بأن تمسّها بالحرام .. إتصل حالاً بالشيخ ، وإلاّ والله سأفضحك بكل القرية !!
- حسناً اهدأي ، سأفعل ما تريدين .. المشكلة انها تظن اننا متزوجان بالفعل
الأم : دعّ الموضوع لي .
^^^
ودخلت الأم الغرفة ، وهي تطلب من بناتها الخروج لحديثٍ خاص مع مروى .. ثم جلست امام سريرها لتخبرها : بأن شجارٍ حصل بينها وبين احمد ، أدّى لطلاقها .. مما أشعرها بالضياع في الأيام الفائتة ، تسبّب بعدم تركيزها وأذيّة رأسها
مروى بنبرةٍ منكسرة : يعني طلّقني ونحن مازلنا عرسان ؟!
امها : تكلّمت معه قبل قليل ، وهو نادمٌ على ذلك ويريد الزواج بك ثانيةً
- يمكنني العودة اليه طالما لم تنتهي عدّتي ، اليس كذلك ؟
الأم بارتباك : لا !! كان طلاقاً بائناً ..لهذا سيأتي الشيخ بعد قليل لعقد زواجكما من جديد ، إلاّ اذا لم ترغبي بذلك
- بلى امي !! الا ترين كم هو حزينٌ عليّ ، عيونه المُحمرّة تؤكّد ندمه على خسارتي ..
- أهذا قرارك النهائيّ ؟
- نعم ، سأعطيه فرصةً ثانية
^^^
قبل قدوم الشيخ ، همست مروى لأحمد :
- ماذا سأقول للشيخ إن سألني عن اسمي بالكامل ، فأنا لا اذكر إسم عائلتي ؟!
فأخبرها به .. لتقول بصوتٍ منخفض :
- هناك مشكلة ثانية .. فأنا لا اذكر توقيعي القديم
احمد : يكفي ان توقعي بإسمك
- أتدري يا احمد ، مازلت غاضبة لأنك طلّقتني بعد شهر العسل!
- عزيزتي .. انا
مروى : حسابك لاحقاً
وغمزته بدلال..
***
وبالفعل عُقد القران بحضور اهلها في غرفة المستشفى ..وبعد ذهاب الشيخ والشاهدان..
مروى : امي .. هل يمكنكم تركي مع زوجي ؟ فأنا بجميع الأحوال عائدة معه الى منزلنا
الأم : كما تشائين يا عروس
وودّعتها عائلتها وهم قلقين عليها من قسّوة احمد الذي وعد الأم (خارج الغرفة) بالإعتناء بمروى بعد أن اصبحت زوجته رسميّاً
^^^
بعد ذهابهن..
عاد احمد للغرفة ، ليجدها ترتّب السرير..
- مروى ! الى اين إن شاء الله ؟
- الى منزلنا
- لكن الطبيب يريد بقائك الليلة ، للتأكّد من..
مروى مقاطعة : لا حاجة لذلك ، انا بخير .. فربما برؤية منزلنا ، أتذكّر كل شيء .. هيا حبيبي
- حسناً انتظريني ريثما أُنهي اوراق الخروج
***
ودخلت منزله (الذي كان من واجبها تنظيفه في الشهرين الماضيّن)..
فسألها احمد بقلق (وهي يتمنى أن لا تتذكّر قساوته معها) :
- هل تذكّرتي شيئاً ؟
مروى وهي تتلفّت يميناً ويساراً : يبدو المنزل مألوفاً !
- هذه علامة جيدة
- اين غرفة نومنا ؟ هل هي بالطابق العلويّ
- نعم حبيبتي .. هيا بنا
^^^
وأدخلها غرفته التي إكتفت بتنظيفها سابقاً ..
مروى : حتى هذه الغرفة ليست غريبة عليّ ! لكن لما كلّها باللون الأسود ؟! تبدو كغرفة شابٍ عزّابي .. أقصد انها لا تناسب عرسان جدّد !
- نُغيّرها لاحقاً
- يبدو ان اصابتي جعلتك ودوداً
احمد بحزن : لأني بالفعل خفت عليك
ممازحة : رُبّ ضارةٍ نافعة.. والآن ، ماذا سنفعل ؟
- هل انت جائعة ؟
- نعم ..سأحضّر بعض الطعام
احمد : لا ، هذه المرة ترتاحين بالسرير .. وانا سأحضّر لك الحساء
- كم انا محظوظة بزوجٍ رائعٍ مثلك
فخرج من الغرفة وهو مازال يشعر بالضيق لعقابها على ذنب والدها
***
في الأيام التالية ، حاول احمد الإبتعاد عنها بعدّة حججّ .. الى ان أصرّت على معرفة السبب .. فأخبرها الحقيقة : وانه لم يتزوجها من قبل .. دون أن يخبرها بالعداوة بين العائلتيّن التي تسبّبت بقساوته معها ، لأنه سعيد بنسيانها ذلك
مروى بصدمة : أتقصد اننا تزوّجنا على الورق فقط ؟!
فاضّطر للكذب ثانية :
- نعم .. فطوال شهر العسل السابق ، كنّا في غرفتيّن منفصلتيّن ..الى ان حصل الشجار الذي أدّى للطلاق بيننا
- ولما لم يحصل شيء بيننا ، ونحن ابناء عمومة ؟! هل هناك مشكلة صحيّة ؟
احمد : لا ابداً.. انت قلتِ السبب : لأننا ابناء عمومة
- تعني انك شعرت أنني اختك ؟!
- هذا صحيح ، فنحن تربيّنا معاً .. لكن بعد إصابتك ، خفت عليك كثيراً ، وتحرّكت مشاعري نحوك .. لكني اريد التقرّب منك ببطء .. إعتبري اننا حالياً في فترة خطوبة
مروى : حسناً لا مشكلة .. ما رأيك لوّ نذهب في نزهة ؟
- فكرةٌ جيدة .. هناك منزلاً في الجبل ، رائعٌ للغاية ..ما رأيك لوّ نبقى فيه طوال الإسبوع القادم ؟
فردّت بحماس : موافقة !! سأذهب لترتيب اغراضنا
***
ووصلا لمنزل الجبل الذي لم يتواجد فيه سوى صالة ، وغرفة نوم بسريرها الصغير .. والذي تشاركاه ، وهي تستمع لقصصه المضحكة التي حصلت معه بالخارج ..
ولم يمضي ذلك الإسبوع حتى اصبحا زوجيّن مُحبيّن ، بعد إشعالها بحركاتها العفويّة البريئة حبه الطفوليّ من جديد .. فقرّر بينه وبين نفسه ، مسامحة عائلتها عن أخطاء الماضي ..
^^^
وبعد عودتهما للقرية .. عيّن من يساعدهم بأرضهنّ التي تخلّى عن ملكيّتها لهنّ ، بعد حصوله على اجمل زوجة .. وهو يشكر الله لعدم تشابهها مع والدها بصفات الغدر والطمع الّلتان دّمرتا علاقته بها سابقاً
ولم تنتهي السنة حتى زاد حبهما ، بعد إنجاب طفلهما الأول الذي جمع بين العائلتيّن بعد فراقٍ دام سنواتٍ طويلة
***
لكن ما لا يعرفه احمد : أن مروى لم تفقد الذاكرة مُطلقاً ! بل خطرت على بالها تلك الخطة ، بعد سماعها الطبيب يُحذّره من ذلك .. وذلك بعد يأسها طوال الشهرين (كخادمة) من تليّن قلبه نحوها ولأهلها ، عن طريق تذكيره بطفولتهما البريئة ..
لهذا ادّعت فقدان الذاكرة للتقرّب منه ، وجعله مُجبراً على الزواج بها ! وهو في المقابل ، حمد ربه على نسيانها قساوته معها ..
وهذا السرّ ستحتفظ به طوال حياتها التي تحسّنت بشكلٍ ملحوظ بعد حذفهما الماضي الحزين ، وهما يتطلّعان لمستقبلٍ مليء بالحب والمودّة الأبديّة !