الخميس، 28 ديسمبر 2023

بطولة كاتبة

تأليف : امل شانوحة 

 

إضّطراب الهويّة


انتهى الموسم الأول من المسلّسل الدرامي الناجح .. وقبل موسمه الثاني ، أقام فريق العمل حفلاً ، دعى اليه الكاتبة لأوّل مرة

وكان البطلان (الحاصلان على إعجاب الجماهير ، للتوافق العاطفي بينهما) متشوّقيّن لرؤية الكاتبة ، وشُكرها على السيناريو القويّ للموسم الأول الذي جعل مسلّسلهما في المركز الأول على جميع المحطّات التلفازيّة ووسائل التواصل الإجتماعي


واثناء انشغال الجميع بالحفل .. وصلت الكاتبة ببنيّتها الرياضيّة الصحيّة ، ووجهها الطفوليّ المريح ..

 

وبعد سلامها عليهم ، أخبرتهم بتوكيل زميلتها بكتابة الموسم الثاني .. فاعترض البطلان ، لتميّز حواراتها التي أُعجبت الجميع

فردّت بابتسامة : يجب على الموسم الثاني ان يكون رومنسيّاً ، بعكس الموسم الأول الدرامي .. ولا خبرة لي بهذه الأمور ، كوني عزباء وانطوائيّة .. لهذا زميلتي ستُحسن كتابتها لكم .. وأظن الجمهور مُتعطّش لتلك المشاهد ، بعد قساوة البطل على البطلة ، طيلة الموسم الأول


((فقصة المسلّسل : تتحدّث عن ثريّ نرجسيّ ، إشترى عبدة من تاجر رقيق بالإنترنت المظلم ، لشبهها الكبير بزوجته التي عشقها بجنون ، والتي سافرت مع عشيقها ..تاركةً زوجها بصدمةٍ كبيرة جعلته يكره كل النساء ، بعد ان دلّلها طوال سنتيّن زواجهما ! ولهذا عامل العبدة بقسوّةٍ ولؤم ، إنتقاماً من حبيبته الخائنة ! لينتهي الموسم الأول من المسلّسل : وهو يتصنّت على العبدة وهي تتحدّث مع صديقتها (خادمة القصر) عن عشقها للسيد من النظرة الأولى بعد إنقاذها من العبوديّة ! ولأجل مشاعرها الصادقة نحوه ، تحمّلت قساوته على امل أن تُطيّب جروح قلبه ، ليعود رجلاً مُحبّاً كما كان دائماً .. وقد صدمه إعترافها بحبه ، رغم تعنيفها جسديّاً ومعنويّاً دون رحمة ! لينتهي المشهد الأخير بنظراته الحائرة التي أعطت المشاهدون املاً بموسمٍ رومنسيّ ، بعد استحواذ البطلة الناعمة على قلبه المكسور))


وهنا سألتها البطلة : 

- آه صحيح ! لما كتبت تلك المشاهد القاسية ؟!

الكاتبة مروى : اولاً أعتذر عن تجربتك لجميع المواقف المؤلمة ، خاصّة مع تمثيل البطل بواقعيّة اثناء ضربك وإذلالك .. لكن عيشكما الدوّر بهذا الإتقان المُبدع ، هو ما جعل الجمهور يتعاطف مع البطلة.. وفي نفس الوقت ، يشعر بخيبة امل البطل وحرقة قلبه ! امّا لماذا كتبت مشاهداً بهذه القسّوة ؟ لأنها باختصار قصتي الحقيقيّة

الجميع بصدمة : ماذا !

مروى بحزن : ليس مع الحبيب ، بل مع والدي.. (ثم نظرت للبطل) .. اساساً اخترتك من بين الممثلين ، لتشابهكما بالشكل.. وعندما رأيت مشاهدك الغاضبة ، دمعت عينايّ بعد تذكّر آلامي


ثم اوصلت جوّالها بتلفاز الصالة الذي اجتمع حوله الممثلون والمخرج والمصوّرون لرؤية ما تقصده !

مروى بقهر : سأجلس في الشرفة ، فالفيديو الذي ستشاهدونه يؤلم قلبي .. وهو عن سيرتي الذاتيّة 

وتركتهم يشاهدون قصّة حياتها التي استلهمت منها فكرة مسلّسلهم الدرامي 


في الفيديو : 

((ظهرت مروى بعينيها الدامعتين ، وهي تسرد الحدث الذي قلب حياتها رأساً على عقب : 

- تطلّق والدايّ وانا طفلة .. وكلاهما تزوّج بآخر.. زوج امي كان رائعاً وحنوناً ، وتكرّم عليّ بتسجيلي في النوادي التي تزيد انوثتي : كالجمباز والبالية والرقص والموسيقى..


ثم عرضت مقاطعاً سريعة : من عمرها ٧ حتى ١٤ ، وهي تفوز بالميداليّات والكؤوس ..عدا عن رقصها وغنائها بسعادةٍ وحيويّة..

ثم تابعت قولها : 

- هذه الصبيّة البريئة تحوّلت مع ابي .. الى وليد


ثم وضعت صورة لها بشكلٍ مُغاير : بشعرٍ قصير ، ووجهٍ متورّم .. مع قفازيّ الملاكمة وعضلاتٍ مفتولة ، غيّرت معالم جسمها الناعم !

ثم تابعت كلامها ، بعد مسح دموعها : 

- والدي طلّق امي بعد إنجابي ، فهو كمدرّب ملاكمة اراد إنجاب صبيّاً يفوز له ببطولة العالم للشباب .. لكن حادث سيرٍ اودى بحياة زوجته الحامل وإصابته بالعقم ، جعله يُطالب المحكمة باسترداد وصاية ابنته الوحيدة .. اما انا ، فتضاربت مشاعري بعد فوزه بالقضيّة ! من ناحية كنت متشوّقة للعيش مع والدي الحقيقي ، وفي نفس الوقت حزينة على انهيار امي واختي الغير شقيقة لابتعادي عنهما بعد عودتي للوطن ! وكنت اظن انني سأعيش حياةً هانئة مع ابي الذي بدأ منذ يومي الثاني بتدريبي بصالة الملاكمة الخاصة به ، بعد ان أمر خادمته الآسيويّة (هاجر) على تصوير تدريبنا اليوميّ ! وسأعرض لكم اللحظة التي انهارت فيها حياتي ! 


ثم وضعت مقطعاً : وهي تصرخ على والدها بعد لكمها بقوّة ، لعدم حمايّة وجهها

- ابي !! لا تضربني بقسوّة ، ستشوّه وجهي

- لا تتكلّم كالشواذّ ، يا وليد !!

- انا مروى يا ابي ..ابنتك الوحيدة.. انت لم تنجب وليد مطلقاً !!


لتتفاجأ بعصبيّته الهستيريّة التي جعلته يشتمها ، ويجرّها من شعرها ! وسط صراخ خادمته المجبورة على إكمال التصوير بيديها المرتجفتين ، وهو يحلق شعر ابنته الطويل بالماكينة الإلكترونيّة.. ثم رماها امامها ، وهو يأمرها بإكمال الباقي !


وظلّ بجانبها ، حتى حلقت شعرها كلّه .. ثم قال بلؤم :

- لا وجود لمروى بعد اليوم.. انت وليد !! ومن واجبك إحضار كأس العالم لي ، وإلاّ سأدفنك بأرضك !! أفهمت ؟!!


وخرج من الصالة غاضباً ، بينما حلّ هدوءٌ مريب على مروى وهي تنظر لنفسها بالمرآة ! فاقتربت منها الخادمة ، وهي مازالت تصوّر الحدث المريب :

- هل انت بخير يا مروى ؟

فنظرت للكاميرا بقهرٍ واضح : 

- ابي قتل مروى اليوم.. انا وليد ، يا هاجر .. وليد البطل !!


ثم أكملت الكاتبة سيرتها الذاتيّة :

- وبالفعل ، أصبحت بطلاً دون منافس


ووضعت مقاطع لها وهي تفوز بالمبارة تلوّ الأخرى ، مُتقلّدة العديد من الميداليّات الذهبيّة .. مع عرضها لأهم ضرباتها الحاسمة التي أسقطت خصومها غارقين بدمائهم او مغشيٍّ عليهم .. دون ظهور الندم او رحمة بعيون وليد ، بعضلاته وجسمه الذي شابه الأولاد أكثر من البنات ! 


ثم تابعت الكاتبة قولها :

- لم يكن نجاحي سهلاً .. سأريكم جزءاً من تدريبات والدي العزيز


ووضعت مقاطع مصوّرة وهو يرمي عليها الماء البارد وهي نائمة ، لبدء التمارين القاسية قبل شروق الشمس ! ولم يهمّه إن كانت الحرارة ٤٠ صيفاً ، او تحت الصفر شتاءً ، او الجوّ ماطر وعاصف ! فهي مجبورة على متابعة التمارين .. وإن لم تفعل ، يجلدها بالسوّط بقوّة .. ثم يرشّ المطهّر الحارق على ظهرها.. وعليها تحمّل الألميّن ! وإن بكت .. يجلدها ثانيةً ، بحجّة أن الرجال لا يبكون !


عدا عن إجبارها على شرب مرق اللحم الكريه كل يوم ، لتقويّة عظامها.. وإن بصقته ، يحشر اللحم في فمها ..الى ان تتقيّأ ، او يُغمى عليها !


كما عليها كتم انفاسها اثناء سباحتها على طول المسبح ، لتقويّة رئتيّها.. 

ثم عرضت فيديو عن فشلها بهذا التمرين في أحد الأيام : 

فضغط بقوّة على رأسها تحت الماء ، وسط صراخ الخادمة (الظاهر في التصوير) وهي تترجّاه أن يتركها .. ولم يفعل ذلك ، إلاّ قبل لحظات من موتها غرقاً !

ليتركها وهي تحاول جاهدة إلتقاط انفاسها .. وهي بدورها لامت الخادمة على إيقافه من قتلها وإنهاء عذابها !


ثم نظرت مروى للكاميرا قائلةً : 

- قد تتساؤلون لما لم اتصل بأمي او الشرطة ؟ .. لم يكن هناك تلفون في المنزل الذي يقفل ابي ابوابه عند رحيله.. وهاجر صوّرتني بالكاميرا ، لا الجوّال المحرّم علينا .. لهذا كان عليّ متابعة تدريباته القاسية حتى النهاية


ثم وضعت مشهداً لوالدها وهو يطلب منها كسر شجرةٍ نحيفة ، بلكمتيّن فقط!

وعندما رفضت .. صفعها بقوّة ، وبدأ بشتم والدتها التي لم تحسن تربيّتها.. الى ان غضبت وكسرت الشجرة بضربتيّن.. 

وبعد ذهابه .. ساعدتها الخادمة بخلع قفازيّها اللتيّن امتلئتا بالدماء مع اصبعين مكسوريّن !


ثم وضعت الكاتبة صوراً لظهرها المجلود ، وذراعها المكسور ثلاث مرات ..وكذلك قدمها ، عدا عن اصابع يديّها المتورمتيّن دائماً!

مروى : كان صديق والدي طبيب عظام ، وهو من عالجني بعيادته سرّاً .. لأن والدي خشيّ من سؤال الشرطة عن كسوري المتكرّرة ، في حال أخذني الى المشفى .. طبعاً تتساءلون : كيف عاملك والدك بظروفك الخاصّة ؟ ..كان يجبرني على اخذ دواءٍ كل شهر ، هو السبب في نسياني بأنني انثى .. وهو ما أضرّني صحيّاً لاحقاً ! عدا عن منعه إكمال دراستي لخمس سنوات ، فكل همّه هو الفوز بالمبارايّات .. (ثم تنهّدت بحزن) .. احياناً كنت ارى رسائل امي ممزّقة في سلّة النفايات ، بعد يأسها من الإتصال بي هاتفيّاً.. وكنت احاول إلصاقها ، لجمع كلامها .. لكن الأمر كان مستحيلاً ! وبقيت على هذه الحالة من اضّطراب الهويّة ، الى ان صدّقت تماماً بأنني وليد .. ونسيت مروى تماماً ، كأنها قصة اختلقتها في مخيّلتي !


ثم عرضت مقاطع لها وهي تضحك بعد فوزها بإحدى المبارايات ، دون اهتمامها بنقل خصمها الى الطوارئ بعد إصابتها العنيفة ! كما مقطعاً لها وهي تدخن على حافّة شرفة فيلا والدها ، دون اكتراثها بخوف الخادمة من إنزلاقها ..وكأن شعور الخوف والألم اختفيا من قلبها وعقلها للأبد !


كل هذا تغيّر في المباراة ما قبل الأخيرة من بطولة العالم للناشئين .. بعد سقوط خصمها على الأرض دون حراك ، وصراخ والدها لإنهائها بالضربة القاضيّة.. لكن مروى توقفت باللحظة الأخيرة ! 

ورغم انتهاء المباراة بفوزها ، إلاّ ان والدها اراد صفعها فور خروجها من الحلبة لعدم تنفيذ امره .. لكنها امسكت يده بقوة ، وهي تقول بحزم :

- طالما ربحت المباراة ، فلا داعي لعطب منافستي


اما في مباراتها النهائيّة ، فخسرت جوّلتها الأولى .. فهمس ابوها في اذنها: 

- يبدو ان جسدك المُخنّث يحِدّ من قدراتك ، يا وليد.. عدا عن بطولة النساء السخيفة ، بعد رفضهم دمجك ببطولة الرجال .. لهذا بعد هذه المباراة ، سأخضعك لإبر الهرومونات ، لتحويلك لشابٍ طبيعيّ


فنزلت دمعة مروى الخائفة ، والتي ظهرت على كاميرا الحكم الذي اوقف المباراة للإستراحة ..ثم اخذها جانباً ، ليسألها :

- هل علاقتك متوتّرة مع والدك ؟

فحاولت كتم دموعها بصعوبة : سيدي ، أنقذني من ذلك الوحش .. أعدني الى امي قبل ان اقتل والدي او انتحر .. ارجوك !! 

وطلبت منه مشاهدة المقاطع المصوّرة لتدريبه الوحشيّ من كاميرا الخادمة المتواجدة مع الجمهور


واثناء مباراتها الأخيرة ..حجز الحكم تذكرة طائرة لإعادتها لأمها (الذي حصل على رقمها من الخادمة) التي وعدته بانتظارها بالمطار بفارغ الصبر 


وفي الوقت الذي كان فيه والد مروى يقفز فرحاً وهو يحمل كأسها ، بعد فوزها ببطولة العالم للناشئين .. كانت هي في طريقها الى المطار دون علمه


ثم وضعت الكاتبة تصوير خادمتها (التي سافرت معها) لاستقبال امها واختها بالدموع والأحضان فور وصولها المطار ، بعد رؤيتهما لوجهها وجسمها المتورّم.. بينما لم تبدي مروى ايّ مشاعر حنان ، بل كانت مشاعرها متضاربة بين وليد القاسي ومروى المقهورة !


وبسبب فيديوهات الخادمة .. خسر والدها الوصاية عليها ، لكنه لم يهتم بعد حصوله على الكأس الذي ساهم بفتح صالته لتدريب الناشئين الذكور ، كما يحلم دائماً .. 


بينما عانت مروى لسنتين من رفضها التحوّل لأنثى من جديد ، بعد ان منعتها امها تناول دوائها الشهريّ المعتاد .. وإخضاعها لعلاجٍ نفسيّ مكثّف ، كما إعادتها للدراسة بعد تأخّرها كثيراً عن زملائها


ثم وضعت الكاتبة مقطعاً لأختها (العروس) وهي تترجّاها بلبس الفستان التي اختارته لها بحفل زفافها .. وإن تتصرّف كفتاة امام اهل عريسها

ولخوف الأم من ردّة فعل مروى العنيفة ..أحضرت الكوفيرا الى غرفتها (التي ازالت منها المرآة) لتحسين مظهر شعرها التي اطالته بإهمال 


وبعد الإنتهاء من تزيّنها .. انتظرت امها واختها اسفل درج الفلة .. لينصدما بجمال مروى بالفستان الذي تلبسه لأوّل مرة منذ ٧ سنوات!


بعدها وضعا المرآة امامها .. لتنزل دموع مروى المصدومة بعد عودة ملامحها الأنثويّة التي نستها تماماً ! ثم نظرت لكاميرا الخادمة التي كانت تصوّر وتبكي من جمالها :

- مروى عادت للحياة من جديد ! مروى مازالت حيّة ، يا هاجر!

واحتضنتها العائلة بسعادة ، بعد انتهاء صراعها بين الجنسيّن لسنوات بسبب عقد والدها النفسيّة !


ثم اكملت الكاتبة كلامها : 

- مسلسل العبدة الذي اعجب الجمهور كان علاجاً نفسيّاً لي ، بعد مشاركتكم مشاعري الغاضبة والخائفة ، وخيبات املي ضمن مشاهد المسلسل الدرامي.. اما ابي ، فتوفيّ منذ فترة ..وحضرت جنازته .. ورميت كل ميداليّاتي في قبره لأنها حلمه ، ولم تكن يوماً حلمي.. فهل نجحت بتجسيد دور الإبن الذي تمنّاه والدي دائماً ؟ وهل سأتمكّن يوماً من نسيان تعذيبه الجسديّ والنفسيّ ؟ وهل انتهت شخصيّة وليد تماماً ، ام ينتظر الفرصة المناسبة للسيطرة على جسمي وتفكيري من جديد ؟! كل ما اعرفه انني لست فتاةً طبيعيّة ..وخوفي وقلّة ثقتي بالرجال ، سيحرمني الزواج والأمومة ! ومع ذلك سأحرص ان يكون الموسم الثاني من المسلسل بنهايةٍ سعيدة ، تختلف عن حياتي المحطّمة .. اعدكم بذلك))


وانتهى الفيديو هنا ! وسط دموع الممثلين الذين انصدموا من التجربة القاسية التي عاشتها الكاتبة .. حتى ان البطلة خرجت للشرفة لاحتضانها .. فربتتّ الكاتبة على كتفها :

- لا تقلقي عزيزتي ، انا بخير.. وسأبقى معكم إسبوعين قبل رحيلي..اتمنى ان لا اكون ثقيلة عليكم

ثم اقترب منها البطل :

- أشعر بالقهر لتشابهي بالشكل مع والدك الساديّ 

مروى : المهم ان لا تشبهه بالصفات ، ولا تفكّر يوماً باستخدام القسّوة مع عائلتك..

ثم نظرت لأحد مساعدي المخرج :

- اين غرفتي ؟ اشعر بالتعب


ثم ودّعتهم لتنام .. بينما سهروا وهم يتناقشون حياتها المزريّة التي جعلتهم يشعرون بالمسؤوليّة لتمثيل واقعها ، بمشاهد مُتقنة وحِرفيّة

***


في اليوم التالي ، وبعد الغداء .. أحضرت الكاتبة علباً بلاستيكيّة ، وبدأت بوضع بقايا الطعام فيها .. 

فسألها المخرج : ماذا تفعلين ؟

مروى : لا احب رميّ النعمة.. وهناك بعض الفقراء خارج القصر (الذي يصوّرون فيه المسلّسل) سأعطيهم الطعام في الحال

إحدى الممثلات : ليأخذوها من حاوية النفايات

مروى : لربما بهذه الصدقة ، يسامحنا الله على التجاوزات التي تحصل بالتمثيل والكواليس


فتطوّع كومبارس على مساعدتها.. ليراقبها البطلان من شرفة القصر وهي توزّع الطعام على الفقراء الذين تجمّعوا حولها ، وهم يشكرونها بامتنان

فقال البطل لزميلته :

- تلك الفتاة مميّزة بالفعل !

***


وفي احد المشاهد للموسم الجديد .. ذهبت مروى مع طاقم العمل الى الغابة ، لتصوير مشهد كشّافة بين البطل والبطلة ..وكان معهم طفليّن (مشاركيّن بالمسلّسل) 

وبعد انتهاء التصوير وحلول المساء .. إقترح المخرج تخيّمهم هناك 


فجلست مروى مع الولديّن في الخيمة ، لإخبارهم قصة قبل النوم .. 

وأمضت ساعة وهي تحدّثهما عن قصة من تأليفها ، وهي مستغربة من الهدوء خارج خيمتهم ! 

وبعد نوم الولديّن ، تفاجأت بالبطل يطلّ برأسه من خيمتها .. 

فارتبكت لأنها نائمة بالعكس .. وعدّلت جلستها بعد ان كان وجهه فوق رأسها ،

وهمست بعصبية :

- أخفتني يا رجل ! وكدّت توقظ الولديّن

البطل : اردّتك ان تشاهدي وضعنا بنفسك


فأخرجت رأسها من الخيمة ، لتجد معظم طاقم العمل نائماً !

البطل : لقد أنمتي الجميع بقصتك الجميلة

فابتسمت لإنصاتهم عليها دون علمها ! 


واستسلمت للنوم ، مُتجاهلةً الإرباك الذي حصل مع البطل الذي لم يستطّع الغفوّ ليلتها بعد أن خفق قلبه لها ، مع علمه برفضها الزواج نهائياً ! 

***


وفي إحدى الأمسيّات .. أمضت مروى الليلة وهي تلاعب الولد (المشارك بالمسلسل) الشطرنج .. وبعد خسارته ، جلس البطل مكانه وهو يتحدّاها :

- إن فزت ، ترقصين معي على الموسيقى الهادئة

فاستغربت مروى من جرأته :

- لا ! إن فزت عليّ ، أصنع لك طبق عشاءٍ لذيذ

البطل : موافق !!


وبالفعل فاز عليها .. فأعدّت له فتّة بالصنوبر ، اعجبه كثيراً .. لدرجة ان الجميع طلب تذوّق الطبق .. فطلبت من بعض الممثلات مساعدتها بالمطبخ .. وبعدها قدّمت للجميع ، عشاءً لذيذاً 

***


في الصباح التالي .. شرب البطل قهوته على شرفة القصر ، ليشاهد الكاتبة تتمرّن على قفز الحبل من بعيد ، وكأن الرياضة اصبحت واجباً عليها كل صباح !


لكن ما ان لمحت صاحب الإسطبل (القريب من القصر) يجلد حصانه (الذي اشتراه جديداً) لرفضه وضع السِرج عليه ، حتى جنّ جنونها.. وسحبت منه السوّاط ، وأخبرته انها ستقنع الحصان بطريقتها

فابتعد عنها ساخراً.. لتمضي الوقت وهي تُمسّد شعر الحصان ..والبطل يشاهدها من فوق وهو يشعر بألمها ، بعد تذكّرها تعذيب والدها.. وظلّت تحادث الحصان ، حتى سمح لها بركوبه ! 


فنزل البطل سريعاً ، بعد ركوبها الحصان دون سِرج .. لكنها فتحت السيّاج وانطلقت بأرجاء المزرعة ، وهي تقوده بمهارة دون وسيلة امان ! 

وكاد قلب البطل يتوقف من خوفه عليها.. 


بعدها عادت بهدوء للحظيرة ..وأخبرت صاحب الحصان انه مستعد لوضع السِرج عليه..

وما ان خرجت من هناك ، حتى عاتبها البطل :

- هل جننت ؟!! كان بإمكانك السقوط ، وأذيّة نفيسك !!

مروى : كنت امسك شعر الحصان جيداً

- ليس كافياً !! لقد أخفتني عليك

- لا تهتم لأمري ، رجاءً

وذهبت للإستحمام..

^^^


بعدها خرجت للشرفة ، لكتابة بعض مشاهد الموسم الجديد (مع توكيل زميلتها بالمشاهد الرومنسيّة)..

فإذّ بالبطل يقترب منها ، ويضع منشفة على رأسها :

- نشّفي شعرك جيداً وإلاّ ستمرضين 

فقالت له :

- ممتاز !! سيكون هذا مشهداً جميلاً بينك وبين البطلة ، سأضيفه حالاً الى السيناريو .. شكراً لك

البطل : كنت أقصدك انت ! .. لما تتهرّبين مني ؟ فأنا احاول جاهداً التعبير عن إعجابي بك


فتنهّدت مروى بضيق :

- أتدري ماذا يفعل الحطّاب الفقير عندما لا يتمكّن منشاره اليدويّ من قطع الشجرة الكبيرة ؟

البطل : ماذا يفعل ؟

- يوقف اصدقائه حول الشجرة .. ثم يبدأون بنقدها بأسوء الشتائم.. وفي اليوم التالي تُقطع الشجرة بسهولة ، بعد جفاف لحائها من الداخل بسبب النقد .. وهي طريقة مُعتمدة منذ القِدم 

- وما دخل الشجرة بعلاقتي بك ؟!

مروى : هذا ما فعله والدي بي .. ربما ابدو لك كفتاةٍ مرحة وطبيعيّة من الخارج .. لكني ميتة من الداخل ، لا قلب ولا مشاعر لي ! الأفضل ان تركّز على البطلة ، فهي تهواك حقاً.. وهي صديقتي ، ولن اؤذيّها بهذا الشأن .. لذا رجاءً لا تجلس معي ان كنت وحدي ، فأنا لا اريد إثارة غيرتها


وأخذت حاسوبها وعادت الى غرفتها ، وهي تكتم حزنها..

فتمّتم البطل بشفقة : 

- والدك أضرّك لدرجة انك لم تعودي تصدّقي أن أحداً يعشقك بجنون ! يالك من مسكينة

***


وقبل سفرها بيوم.. ذهبت مع المصورين والبطليّن الى احدى الأحياء الشعبيّة ، لتصوير مشهدٍ هناك .. 

وابتعدت عنهم لشراء قارورة ماء.. وعند عودتها ، شاهدت رجلاً يصفع زوجته التي ارادت رؤية الممثلين.. 

وعندما اراد ضربها من جديد ، امسكت مروى يده بقوة :

- هل تستقوي على امرأة ، ايها الرجل الفحل ؟

الرجل غاضباً : وما دخلك انت ؟!!

فشدّت يده بقوّة ، حتى أوجعته :

- ما رأيك لوّ أكسرها لك ؟!!

فتدخّلت زوجته الخائفة : رجاءً با ابنتي ، لا تفعلي

فعاتبتها مروى : هذا ما جعله يتمادى ، لأنك تسكتين عنه

فإذّ بالرجل يُخرج سكينته من جيبه .. فقالت مروى بلا مبالاة :

- رائع !! يبدو انك بحاجة فعلاً لتأديب


وهنا لمحها البطل من بعيد .. وقبل ان يتجه نحوها ، سارع الرجل بالهجوم عليها ! لكنها استطاعت سحب السكين من يده ، وطرحه ارضاً ..

ليقوم البطل بفضّ النزاع بينهما ، ويأمر الكاتبة بالعودة فوراً للسيارة..

وآخر ما قالته مروى لزوجة الرجل : 

- الأفضل ان تضعي السمّ في طعامه.. فمن يكون حقيراً مثله ، لا يستحق الحياة


ثم عادت للسيارة بانتظار لمّلمة فريق العمل لأجهزة التصوير ، والعودة للقصر بعد توتّر المكان بتلك المشكلة !

***


وفي الطريق ، لامها البطل : 

- لما تدخّلتي بين الرجل وزوجته ؟ كان بإمكانه ان يؤذيّك

مروى : الرجل الذي يتطاول على امرأة ، جبان ولا خوف منه ..

البطل : عليك معاملة الناس بأنوثة ولطف

- يبدو ان وليد مازال يسيطر عليّ ! وستنتهي حياتي بشخصيّته القويّة ، الرافضة للظلم 


وهنا انتبهت الممثلة (التي بجانبها) على نزيف مروى الذي تسرّب اسفل معطفها السميك !

- هل طعنك فعلاً ؟!


فسارع السائق بالتوجّه للمستشفى ، بعد اكتشافهم الجرح العميق في كبدها !

مروى وهي تكتم ألمها : يبدو ان والدي يناديني من السماء ، لإكمال تمارينه الرياضيّة ! 

الممثلة وهي تضغط بشالها على الجرح :

- لا تتعبي نفسك بالحديث ، سنصل بعد قليل

مروى : لا تقلقوا ، فوليد لا يشعر بالألم

البطل بقهر : انت مروى ، ولست وليد !!

الممثلة بخوف : اللعنة ! خسرت الكثير من الدماء

مروى : إسمعوني جيداً !! أطلبوا من الكاتبة جديدة ان تُنهي الموسم الثاني بالكثير من المشاعر الصادقة بين البطليّن بعد زواجهما.. لا تحبطوا الجمهور بنهايةٍ سيئة ، كقصة حياتي القصيرة

البطل : انت ستنجين من هذه المصيبة !! لا تفكّري هكذا


لكن مروى تابعت كلامها اليائس : 

- إن متّ ، فحاكموا ذلك الأخرق .. واجعلوه عبرة للرجال الذين يقهرون النساء .. ووصيّتي الأخيرة : إحفروا على شاهد قبري ، العبارة التالية : ((ربّوا ابناءكم كما خلقهم ربهم ، فلا شي اسوء من اضّطراب الهويّة))

ثم تشاهدت ، قبل لفظ انفاسها الأخيرة !


الأحد، 24 ديسمبر 2023

ذبذباتٌ إجراميّة

كتابة : امل شانوحة 

الجهاز اللاّسلكيّ


كان جاك سعيداً بتركيبه جهازٍ لاسلكيّ بشاحنته لنقل البضائع ، لربما يُسلّيه على طول الطريق بين الولايتيّن الأمريكيتيّن


لكنه لاحظ بأن الجهاز لا ينقل فقط الإذاعات المتعدّدة ، بل يلتقط الذبّذبات المشوّشة لسيارات الشرطة ! بالإضافة للإتصالات القريبة من سيارته ، والتي تزداد وضوحاً بعد توجيهه الهوائيّ الى السيارة المراد التجسسّ عليها.. 


وبذلك استمع لأكثر من محادثة جوّال ، خاصّة عند توقفه عند اشارة المرور.. معظمها كانت مكالمات عادية بين السائق وعائلته.. وأحياناً تنصّت على مكالماتٍ عاطفيّة ، تبدو لأشخاصٍ مُغرمين او خائنين ! 


وبعد غروب الشمس .. لمح سيارةً فارهة تقترب منه ، فوجّه اللّاسلكي اليها .. ليظهر صوت السائق وهو يتحدّث بجوّاله ، بنبرةٍ جادة :  

- سأضع حقيبة المليون دولار امام الشجرة الضخمة ، وسط الحديقة العامة.. وفيها صورة الولديّن اللذيّن اخترتهما لمتعتي الشخصيّة .. اريد منكم ايصالهما الى قصري في منتصف الليل ، وبسرّيةٍ تامة


وأثارت المكالمة الغامضة إهتمام جاك الذي لاحقه عن بعد ، دون لفت انتباه الثريّ  الذي اوقف سيارته بجانب الحديقة .. ثم عاد اليها ، بعد ترك حقيبته الجلديّة هناك ! 


وما ان ابتعد الثريّ .. حتى نزل جاك من شاحنته ، ومعه الكشّاف للبحث عن المال .. الى ان وجد الحقيبة ، ويعود فوراً الى الطريق العام


وكانت فرحته عظيمة برؤية المليون دولار نقداً .. لكن فرحته تلاشت بعد رؤيته صورة الولديّن الصغيريّن بعيونهما الدامعة ، وملابسهما الممزّقة التي تؤكّد خطفهما من أسرٍ فقيرة ! حيث بدى على وجهيهما الخوف ، وهما لا يتعدّيان سن العاشرة ! ففهم ان الثريّ متورّط مع عصابة لبيع الرقيق..

جاك بغيظ : يالك من لعينٍ شاذّ !! سأعاقبك على فعلتك


واضّطر جاك للإتصال بوالده (الشرطي المتقاعد الذي لم يحدّثه منذ سنوات ، بعد حرمانه من الميراث ، بنيّة الإعتماد على نفسه ! بعد ان كان مُدلّلاً من امه المرحومة)


وأخبره عن المكالمة التي سمعها بالصدفة من اللاّسلكي ، وحصوله على رقم سيارة الثريّ التي أرسلها اليه ، دون إخباره عن الحقيبة الماليّة

فاتصل والده بزملائه القدامى الذين لاحقوا السيارة .. وقبضوا على الثريّ في الميناء وهو يتجادل مع افراد العصابة الغاضبين ، لعدم إيجادهم الحقيبة في مكانها !


وخلال اسابيع .. أُلقيّ القبض على اكبر عصابة لبيع الرقيق ، مع اسماء الأثرياء المتورّطين معهم ! وأُعيد بعض الأطفال المخطوفين الى ذويّهم .. بينما أكثريّتهم من مجهولي الهويّة ، فأرسلوا الى دار الأيتام !

***


بعد انتهاء القضيّة ، شكر جاك والده على اهتمامه بالموضوع .. 

واثناء توديعه ، سأله والده عن سيارته الجديدة : 

- هل أجرة نقل البضائع مرتفعة ، لدرجة شرائك سيارةً غالية؟! 

فأجابه جاك بتوتّر : 

- منذ البارحة وانت تلمّح على الموضوع ! 

- الثريّ الذي حققّوا معه ، يصرّ أنه وضع المال .. 

جاك مقاطعاً بعصبيّة : لا شأن لي بالعصابة !! انا أجمع ثمن السيارة منذ مدةٍ طويلة .. وبدل ان تباركها لي ، تشكّك بإبنك كعادتك 

- لم أقصد هذا .. جاك ! الى اين تذهب ؟ 

لكنه ركب سيارته غاضباً ، وابتعد عن منزل والده

*** 


ما لا يعلمه جاك : ان احد افراد العصابة لاحق سيارة الثريّ ، ولمح جاك وهو يسرق الحقيبة .. لكنه ألغى فكرة قتله ، بعد معرفة تبليغه الشرطة للقبض على العصابة .. وتابع مراقبته ، في انتظار الوقت المناسب لعقابه 


وذات يوم ، وبعد خروج جاك من المطعم مساءً ..

تفاجأ بمسدسٍ موجّه على مؤخرة رأسه ، بعد تسلّل المجرم الى سيارته الجديدة .. قائلاً بحنق : 

- أتصرف مالنا على رفاهيّتك ، ايها القذر ؟!!

جاك بخوف : لا تقتلني رجاءً ، انا لم اصرف سوى ربع المبلغ .. وسأعطيك الباقي 

المجرم : وكيف ستسدّد ما صرفته ، يا سائق الخضار ؟ .. هيا أدرّ المحرّك!!

جاك برعب : الى اين ؟! 

- الى الميناء !! فنحن على علاقة بتجّار الأعضاء البشريّة.. وطالما انت شاب ببنيّةٍ صحيّة ، سنبيع كل اعضائك بالسوق السوداء .. هيا تحرّك قبل ان أفجّر رأسك !! 


وقاد جاك سيارته مُرتجفاً ، وهو لا يعلم أن والده (الذي شكّ بتورّطه بالعصابة بعد تحسّن احواله الماديّة المُفاجئة) وضع جهاز تنصّت بسيارته التي يلاحقها الآن باتجاه الميناء ، بعد طلبه الدعم من الشرطة ..


فهل سيتمكّن من إنقاذ ابنه ، قبل شحنه لدولةٍ اخرى كقطع غيار ؟! ..وهل ستكون بدايةً جديدة بين الأب وابنه ؟ ام ستنتهي علاقتهما بنهايةٍ مُفجعة ؟!


الجمعة، 22 ديسمبر 2023

الطب عبر العصور

تأليف : امل شانوحة 

آلة السفر بالزمن


زار طبيبٌ متخرّج حديثاً ، جرّاحاً مُتقاعداً :

- لوّ سمحت دكتور ، اريد التتلّمذ على يديك

الجرّاح : انا كبرت بالسن ، واستقلت من عملي 

- اعلم ذلك .. لكنك الطبيب الأول في بلادنا ، وربما في العالم كلّه

- انت تبالغ

الطبيب : لا سيدي ، فقد قمت ببحثٍ شامل عن أفضل اطبّاء العالم .. وانت الوحيد الذي نجحت جميع عمليّاته دون اخطاء ! حتى اصعب الحالات ، إنشفت على يديك ..واريد تعلّم مهارتك النادرة .. فحلمي ان اكون بارعاً مثلك ، وأنقذ اكبر عددٍ من المرضى

الجرّاح : يُعجبني حماسك .. لهذا سأوافق على طلبك ، لكن بشرط !! ما سأخبرك به ، يبقى سرّاً بيننا

فاستغرب الشاب من سرّية خبرته ! ومع ذلك وافق على كتمان الأمر 

***


ثم أخذه الجرّاح الى قبوّ فلّته .. ليجد في الزاوية ، كرسي خشبيّ داخل آلةً حديديّة على شكل كرةٍ صدئة !

الشاب بدهشة : ماهذه ؟!

الجرّاح : آلة سفرٍ عبر العصور 

- انت تمزح !

الجرّاح بحزم : إن اردّت الإستهزاء ، فعُدّ من حيث اتيت !!

الشاب : لا سيدي .. كنت اتساءل فقط ، إن كان بالإمكان الإنتقال للمستقبل بهذه الآلة المُهترئة ؟! 

- هي فقط تُعيدك للعصور القديمة .. فالعالِم الذي اخترعها ، مات قبل تحديثها  للإنتقال الى المستقبل 

- وماذا سنستفيد بالعودة للوراء ؟! فالعلوم الطبيّة في زمننا ، متطوّراً بأشواط عن العصور المُتخلّفة ! 

الجرّاح : وما كان ليتطوّر لولا الأوبئة الخطيرة التي أصابت البشريّة في العصور الماضية .. تخيّل إمكانية علاجك للمرضى القدامى بخبرتك الحاليّة ، حينها ستنقذ الآلاف منهم.. اليس كذلك ؟

- وهل الآلة مضمونة لإعادتي الى هنا سالماً ؟

- بصراحة لم استخدمها منذ عشرين سنة.. وهي السبب في زيادة خبرتي الطبيّة


الشاب : وهل أنقذت المرضى السابقين ؟

- الكثير منهم.. لكني لن اخبرك الطريقة ، لأنه عليك اكتشافها لوحدك لتطوير مهارتك.. هيا اجلس في الآلة 

فوقف الشاب مُتردّداً امامها ! 

الجرّاح : يبدو انني أضيّع وقتي .. يمكنك الذهاب ، وأيّاك إخبار احد بآلتي

- لا !! اريد تجريبها حقاً  

وجلس على الكرسي ، وهو يشعر بالقلق !


وقبل إغلاق الكرة عليه .. وضع الجرّاح امام قدميه ، حقيبة سفرٍ صغيرة .. قائلاً : 

- ستجد فيها مِجهراً متطوّراً لاكتشاف الجراثيم والميكروبات .. وبعض المحاليل الكيميائيّة لتركيب عقاقير ، لأهم امراضهم المُعديّة .. كما وضعت لك بحثاً ورقياً عن الإكتشافات التي ساهمت بالعلاجات الفعّالة .. اما كيفيّة تحضير الدواء ، فمتوقف على براعتك..

الشاب بقلق : وهل ممكن أن أُعدى بأمراضهم ؟! 

- إحتمال وارد


ثم اغلق الجرّاح بابيّ الكرة الحديديّة عليه .. فناداه الشاب من الداخل:

- سيدي !! ماذا سيحدث الآن ؟

الجرّاح : ستدور الآلة حول نفسها بسرعةٍ كبيرة ، لهذا ضعّ حزام الأمان.. وعندما تتوقف عن الحركة ، تكون وصلت لأحد العصور القديمة 

- أيّ عصر ؟!

- الآلة هي التي تختار لك ، فهي مُبرمجة على اكثر العصور تضرّراً من الأوبئة المُعديّة.. لكنها بالعادة تأخذك لعصرٍ قديم ، ثم لعصورٍ تليها .. الى ان تعود لحاضرنا .. بالتوفيق لك !!

وبالفعل دارت بقوّة لعشرات المرات ، قبل توقفها !

***


حين فتح الطبيب الشاب باب الكرة ، وجد نفسه داخل بيتٍ صغير ! 

فخرج منه .. ليجد نفسه في شارعٍ مُرصّفٍ بالبلاط الصغير ، الخاصّ بعربات الخيول ..اما المارّة فيلبسون زيّاً قديماً ، يُشبه ما شاهده بكتب التاريخ ! 

فتساءل بنفسه :

((ترى في أيّ عصرٍ انا ؟!))


ولم يأخذ منه وقتٌ طويل لمعرفة التاريخ ، بعد رؤيته الحرّاس يجلدون شخصاً مجذّوماً لإجباره على ركوب العربة الحديديّة ، التي تبدو كسجنٍ صغير ! وحسب كلام الناس المُتجمّهرة هناك .. عرف انه في فرنسا ، بزمن الملك فيليب الخامس الذي أصدر حكماً بحرق المجذّومين ! 


ولأنه يتقن اللغة الفرنسيّة .. أقنع رئيس الحرس بأخذه للملك ، كونه طبيباً شهيراً قادماً من انكلترا (كما ادّعى) وانه على وشك إكتشاف علاجٍ فعّال للجذام ، لكنه يحتاج لبعض الوقت لتركيب العقار .. لذا عليه إقناع الملك بتأجيل عمليّة الحرق الجماعي للمجذّومين


وبالفعل اقتنع الملك بالتأجيل بعد إمهال الطبيب الشاب اسبوعين فقط ، لإيجاد العلاج للمرض المُعدي المُقزّز !

وسمح له بسكن إحدى غرف قصره ، لمتابعة ابحاثه الطبيّة 


وهناك قرأ الشاب البحث الورقي الذي اعطاه إيّاه الجرّاح (الذي وجده في الحقيبة)

قائلاً في نفسه :

((حسب المكتوب بالبحث : فالجذام ظهر في عام 1321 في فرنسا ، أيّ قبل عقود من الطاعون الأسود ! وهو مرضٌ بكتيريّ مُعدي .. والعلاج اكتشفه جيرهارد أرماور هانسن ، بعد اكتشافه عام 1873 الفطريّة الجذاميّة ، بمضاد حيويّ يُسمى دابسون))

ثم قال بضيق : 5 قرون بين المرض واكتشاف العلاج ! لا ، عليّ تركيب عقار دابسون بالحال 


وفتح الحقيبة الجلديّة التي فيها المحاليل الكيميائيّة التي يحتاجها للدواء ، عدا عن المجهر المتطوّر الذي سيُعاين فيه عيّنات لبعض المرضى المحبوسين في زنزاناتٍ قذرة ، لحين إعدامهم ! 


وبالفعل استطاع علاج الأشخاص المصابين بالجذام في مناطق معينة من اجسادهم .. لكن من تفاقم مرضه بكافة جسمه ، فلم يستطع إنقاذه من الإعدام وحرق جثته ! مما اصابه باليأس ، فهو كان يأمل بإنقاذ اكبر عددٍ من المرضى .. لكن يبدو ان بعضهم مقدرٌ له الموت!


وعاد مُحبطاً للآلة المُخبأة داخل بيتٍ فارغٍ صغير ، وجلس فيها على امل عودته لفيلا الجرّاح لإخباره بما حصل

***


بعد دورانه عدّة مرات ، خرج من الآلة التي وجدها هذه المرة مُخبّأة في مخزنٍ مهجور ! 

وما ان خرج للشارع ، حتى لاحظ امرين : اولاً الفقراء يحمون وجوههم بالشالات الباليّة .. بينما الناس الأغنياء (حسب ملابسهم) يضعون قناعاً غريباً على وجوههم ، يُشبه المنقار !


فعلم فوراً إن الآلة نقلته لعصرٍ اسوء بكثير : عصر الطاعون الدبلي او «الموت الأسود» ! الذي بدأ عام 1347 ، وحصد أرواح ثلث سكّان أوروبا !


اما الأمر الثاني الذي لاحظه : هو امتلاء الشوارع بالفئران ! عدا عن الذباب والبعوض المنتشريّن في الجوّ ، والّلذان يساعدان بنقل المرض من القوارض للبشر


وهنا اقترب منه الشرطي معاتباً :

- انت يا سيد !! لما لا تضع القناع الواقي ؟ 

الشاب : لكني لاحظت ان ليس كلهم يضعون قناعكم المخيف ! 

- اولئك الفقراء ، ولا يهمّنا امرهم .. لكنك تبدو من الطبقة المخمليّة ، والأفضل ان تضع واقياً على انفك وفمك ، كيّ لا تصاب بالطاعون المُتفشّي بيننا

الشاب : بل انا من عليّ سؤالك .. كيف تتركون هذه الفئران حيّة ، وهي السبب الرئيسي لانتشار الطاعون

- لا !! الطاعون انتشر بسبب السحرة ..وقد احرقنا معظمهم .. ونبحث على البقيّة المُختبئين في الغابات والأودية .. وحين نقتلهم جميعاً ، تنتهي اللعنة على بلدنا 

الشاب : انا طبيبٌ محترف ، وأعلم جيداً بأن القوارض هي السبب الحقيقيّ لانتشار مرضكم المميت 

الشرطي : طالما طبيب ! فسآخذك عند رئيس البلدية ، لتخبره بشكوكك .. لكن ضعّ واقيّاً اولاً ، لحماية نفسك 


فأخرج الطبيب من جيبه قناعاً طبّياً حديثاً ..

الشرطي بدهشة : ماهذه القماشة الزرقاء ؟!

الشاب : ستنفع بحمايتي ، لا تقلق بشأني


ورغم إصرار رئيسهم بأن السحرة هم السبب ، لكنه وافق على وضع إعلان عن جائزةٍ ماليّة لمن يقتل اكبر عددٍ من الفئران .. كما معونةً غذائيّة لمن يساعد بتنظيف الطرقات من النفايات المنتشرة بكل مكان ! 


وسرعان ما انشغل الفقراء بقتل الفئران ، وتنظيف المدينة بأكملها خلال ايام ! بينما انشغل الطبيب بصنع تركيبته الكيميائيّة لعلاج الطاعون .. ((فبعد مراجعته ملف الجرّاح ، إستنتج أن هذا المرض استمرّ طويلاً ! الى ان اكتشف ألكسندر اميل جان يرسين ، طبيبٌ وعالم بكتيريّات فرنسي سويسري العصيّة المسؤولة عن الطاعون الدملي عام 1894)) 

والمعلومات التي وجدها بالبحث ، ساعدته على تركيب العقار الشافي

 

ومن بعدها ذاع صيت الطبيب الشاب في كل مكان ، بعد علاجه اوروبا بأكملها من المرض الأسود.. 

وعندما تلقى دعوةً من الملك الظالم (المعروف بقتله المشاهير ، لنرجسيّته المُفرطة) اسرع الطبيب الى الآلة المُخبّأة في المخزن المهجور ، وهو ينوي العودة لفيلا الجرّاح..

***


وإذّ به ينتقل للقرن الثامن عشر ! عرف ذلك فور رؤيته اشكال المرضى في الشارع ، بينما المارّة يحاولون تجنّبهم وهم مُشمئزّين من حكّهم الدائم لجلودهم المليئة بالجدري المًعدي الذي قتل 400,000 الف شخصٍ سنوياً في اوروبا 


ومن حسن حظهم أن الطبيب يحفظ علاج هذا المرض جيداً ، لأنه درسه بالجامعة .. قائلاً في نفسه :

((على ما أذكر انه في عام 1796 قدّم إدوارد جينر ، لقاح الجدري الحديث بعد أخذه عيّنة من قيح مرض الجدري المميت ، صانعاً منه الطُعم الشافي .. جيد ان المحاليل الكيميائيّة اللازمة لذلك العقار في حوذتي .. سأبدأ بصنعها حالاً)) 


واستطاع تأجير غرفة ، بعد رهنه ساعته الفضيّة .. وفي غرفته ، قام بتركيب الطُعم التي وافقت صاحبة النُزل على تجربتها على ابنها الذي يحتضر بعد إصابته بالحمّى من أثر الطفح الجلديّ .. وفور تعافيه ، إنتشر الخبر بين الناس .. ووصل للمسؤولين الذي وفّروا له كل ما يلزم لصنع اكبر قدرٍ من التطعيمات التي انقذت آلاف البشر .. وعاد لآلته المُخبّأة في الغابة ، وهو ينوي إخبار الجرّاح بإنجازاته الفخور بها

***


لكن الآلة نقلته لسنة 1917 (قبل عام من انتهاء الحرب العالميّة الأولى) حيث تطوّع لعلاج آلاف الجنود المصابين داخل المستشفيات المُتنقّلة .. 

وكان مُجبراً على تقسيم الجرحى بين ما يمكن إنقاذه ، وبين من يدعه يموت لقلّة الأدوات الجراحيّة والأدوية الطبيّة  !


وقد حاول جاهداً إنقاذ العديد منهم ، لكنه اضّطر احياناً لبتر اعضاء الجنود اليافعين الذين كان بالإمكان علاجهم لوّ أصيبوا بزمنٍ غير الحروب ! مما خلّف العديد من الشباب المعاقين المُحطّمين نفسيّاً !


بعدها عاد مُنهكاً للآلة ، وهو يتمنّى العودة لعصره بعد أن أتعبته التجربة الصعبة

***


لكن الآلة دارت لفّتين فقط ، قبل توقفها من جديد !

وحين خرج منها ، سأل احد المارّة عن التاريخ .. ليعلم انه انتقل سنةً واحدة للمستقبل ! وأصبح بعام 1918 ، بعد شهور من انتهاء الحرب!

فتساءل بنفسه باستغراب :

((لما لم تنقلني الآلة لعصرٍ مُغاير ؟!))

 

وبدأ بسؤال الناس ، حتى عرف عن انتشار مرض الإنفلونزا الإسبانيّة التي أصيب بها خلال شهورٍ قليلة : 500 مليون شخص ، بينما توفيّ ما بين 50 إلى 100 مليون شخصاً ! وهو رقمٌ مهول ، يُضاف الى ضحايا الحرب العالميّة الأولى ! 

والأسوء ان معدلات الوفاة مرتفعة عند الشباب البالغين الذين امتلأت رئتهم بالسوائل ! 


فأخرج الطبيب الملف من حقيبته ، وفتحها على قسم الإنفلونزا الإسبانية .. ليجد ان علاجها تأخّر حتى سنة 1928 ، بعد اكتشاف المضاد الحيويّ البنسلين لعلاج فيروس الإنفلونزا H1N1...

الشاب بحماس : البنسلين !! أحفظ تركيبته جيداً .. لكن عليّ الإنتقال اولاً الى المرضى 


وسأل الشرطي :  

- لوّ سمحت !! خذني الى المعسكر مرضى الإنفلونزا ، فأنا طبيبٌ محترف

الشرطي : أحقاً ! نحن بحاجة لأطباء ، لعلاجنا من هذا المرض المميت.. لكن عليك حماية نفسك ، فهو مُعدي جداً

فوضع كمّامته الزرقاء ، قائلاً :

- لا تسأل ، هي فعّالة للغاية.. هيا خذني اليهم


وأخذه للمعسكر المليء بالمرضى الذين يسعلون بقوةٍ ، وتعبٍ شديد.. وطلب الطبيب من المسؤول عنهم ، غرفةً خاصة لبدء تركيبته لعلاج مرضهم ..


وفي غرفته الصغيرة .. إستعان بالمحاليل الموجودة بحقيبة الجرّاح .. كما عيّنات المرضى ، لمراقبتها تحت المجهر المتطوّر الذي اخفاه عن بقيّة الأطباء هناك ، لعدم انكشاف امره .. 


ولم يمضي يومان ، حتى أنجز مهمّته الصعبة .. وطلب مُتطوّعاً لتجربة الحقنة عليه ..فخاف المرضى من فشل الطبيب (الجديد على منطقتهم) .. 

فرفع عجوزٌ يده : 

- انا احتضر بجميع الأحوال.. جرّبها عليّ


وبعد الحقنة .. غفى العجوز بنومٍ عميق ، بعد تخلّصه من السعال المزعج ... وانتظر الجميع نتيجة العلاج ، التي ظهرت في اليوم التالي بعد شعور العجوز بنشاطٍ مفاجىء ! مُنادياً بعلوّ صوته :

- لقد نجح العلاج !! لم اسعل منذ البارحة .. انا بخير !!


فطالب الجميع الطبيب الشاب ان يعالجه بحقنته السحريّة لإنقاذه من الموت.. خاصة اهالي الأطفال المرضى .. 


فجمع بقيّة الأطباء في مختبرٍ طبّي بدائي ، لصنع اكبر كمية من العقار الشافي ..وحقنوا اولاً المرضى ، الذين تعافوا خلال ايام .. ثم بدأوا بحقن بقيّة السكان لحمايتهم من المرض المميت ... وسرعان ما انتقلت تركيبته الكيميائيّة للبلدان المجاورة للوقاية من الإنفلونزا القاتلة .. 


وخلال اسابيع ، إنشهر الطبيب الشاب بالصحف الورقيّة بعد اكتشافه علاج المرض المُعدي.. وعندما ارادوا معرفة المزيد عنه ، وسؤاله عن ثيابه المختلفة عنهم ..خاصّة بعد اكتشاف احد الأطباء لمجهره المتطوّر .. تسلّل ليلاً بالطرقات الفارغة ، للعودة الى الكوخ الصغير على اطراف المدينة .. وجلس في آلة الزمن ، ليدير مفتاحها ..وهو يأمل العودة لفيلا الجرّاح ، وإخباره بما حصل 

***


وبالفعل عاد الى قبوّ فيلّا الجرّاح الذي وجده يشرب الشاب ، وهو يسأله :

- كيف وجدّت التجربة ؟

الشاب بصدمة : هل انتظرتني هنا لشهور ؟!

فنظر الجرّاح لساعته :

- انت غائب منذ نصف ساعة فقط

- أمعقول انني تنقّلت بين أربعة عصور بنصف ساعة ؟ هذا مستحيل!!

- نعم ، فالآلة اسرع ممّا تتصوّر .. لم تخبرني بعد ، كيف كانت النتيجة ؟ هل مازلت تريد إنقاذ البشريّة كلها ؟! 

الشاب بخيبة امل : يبدو الأمر مستحيلاً

- طبعاً ، فهناك من سيُصاب بإعاقة او مرضٍ مزمن ، وحتى الموت ..وهو شيء ليس بأيدنا ، فلا تلمّ نفسك .. كل ما عليك فعله ، هو علاجهم قدر الإمكان .. والباقي ، أتركه للقدر .. 


الشاب : لكنك الطبيب الوحيد الذي لم يمت أحد على طاولته الجراحيّة طوال مسيرتك الطبيّة ؟

الجرّاح : هذا لأنني لا اعالج المُحتضرين.. فكلما تعمّقت بهذا المجال ، سيصبح لديك خبرة لمعرفة من يمكن إنقاذه او لا .. فاخترّ مريضك بعقلك ، لا بعاطفتك..

- وهل ندمت يوماً على ذلك ؟

- ندمت مرة ، بعد رفضي إجراء عملية جراحيّة لأمي بسبب فحوصاتها المُخبريّة السيئة ، لأني لم اردّ موتها على يديّ .. لكن كلمتها الأخيرة أحزنتني : بأنها لم تستفد شيئاً من علم ابنها الذي فضّل سمعته الطبّية على إنقاذ والدته !

الشاب : لا تلمّ نفسك ، فحالتها كانت صعبة (كما اخبرتني) ولا مجال لإنقاذها

- ليتني حاولت بدل إنسحابي المُخزي .. (ثم تنهّد بضيق).. على كلٍ ، هل استفدّت من تجربتك الغريبة ؟

- يعني ، أصبحت اكثر خبرة بالتعامل مع المرضى

الجرّاح بفخر : أحسنت !! والآن يمكنك خوض معاركك الطبيبّة ، وانت على ثقة من نجاحك بعد تجربتك للعلاجات القديمة.. (ثم وقف للسلام عليه) .. عُدّ الى منزلك ، لترتاح قليلاً.. ورجاءً لا تخبر احداً بهذه الآلة.. اساساً خرج منها دخان قبل توقفها عن الدوران ، وأظنها تعطّلت نهائياً ! لهذا سنظهر كغبيّن إن اخبرنا الناس والإعلام بتجربتنا الغريبة


فوعده الشاب بكتمان السرّ .. وعاد الى منزله وهو يأمل بتفوّقه على زملائه في نجاحاته القادمة ، بعد اكتسابه خبرةً طبيّة من تجربته الفريدة .. والأهم من ذلك ، أنه سيحاول جاهداً لعلاج أكبر قدرٍ من المرضى حول العالم ! فهي نيّته منذ التحاقه بكليّة الطبّ .. والتي لن يعرف قيمتها سوى من يملك في قلبه ، الرحمة الإنسانيّة النادرة ! 


الثلاثاء، 19 ديسمبر 2023

مذكّرات سفّاحة

فكرة وكتابة : نايا
تنسيق : امل شانوحة 

 

المُتعطّشة للدماء !


سأسرد في هذا الدفتر تفاصيل جرائمي القادمة .. فهدفي ان أكون أرعب سفّاحة ببلادي .. وقد بدأت مهمّتي باكراً ..ففي طفولتي لم اشمئزّ يوماً من قتل الحشرات والفئران .. بل تجرّأت على قتل كلب جارتنا وانا بعمر الثامنة ، بعد أن أزعجني بنباحه طوال الليل .. ربما لا تعدّونها جريمة .. لهذا سأروي في هذه المذكّرات ، جرائمي الفخورة بها 


الجريمة الأولى : 

لازلت اذكر ذلك اليوم جيداً ، وكأنه البارحة .. فأول ضحيّةٍ بشريّةٍ لي ، كانت لطفلٍ رضيع !

هو ابن خالتي بعمر الثمانية اشهر .. كان مازال يحبو حين كسر لعبتي المفضّلة ، مما أصابني بالجنون .. واستغلّيت وجودنا بمفردنا ، لخنقه بقوّة حتى توقف عن الحِراك .. وتركته مُمدّداً على الأرضيّة ، بعد رميّ بطانيّته المُفضلّة فوق رأسه .. وعدّت الى غرفتي ، كأن شيئاً لم يكن ! 


الى ان سمعت صرخة خالتي وهي تحاول إنعاشه بكل طاقتها .. بينما اسرعت بالإتصال بأبي ، كأن مصير الوغد الصغير يُهمّني !

وظنّ الجميع انه مات اختناقاً بالبطّانيّة الصغيرة .. كل هذا وانا لم أتمّ الثانية عشر من عمري ! 

***


الجريمة الثانية : 

تفاصيل هذه الجريمة مازالت ترعبني ، فمازلت لليوم اخاف انكشاف امري 

رُبا هي ابنة عمتي ..وينادوننا بالتوأم ، لولادتنا في نفس التاريخ .. فأنا أكّبرُها بساعتين فقط !

فضلاً عن تشابهنا بالشكل ، كأننا اخوات ! لطالما كانت صديقتي المفضّلة في طفولتي ، لكن غيرتي منها زادت بعد بلوغنا .. فهي تميّزت بنوعمتها وجاذبيتها المُلفتة ، وتصرّفاتها الراقية وأناقتها المميّزة كالأميرات ! فهي أكثر شخصٍ عرفته ، إقترب من المثاليّة! 

 

وزاد كرهي لها ، بعد تنافسنا على ابن عمنا الوسيم (حسام) .. فبينما حاولت لفت نظره بكل الطرق ، استطاعت جذب اهتمامه بتجاهله المُتعمّد! 

مما اشعل غيرتي ! فحاولت نكران المشكلة قدر الإمكان ، الى ان عرفت بنيّة حسام لخطبتها .. حينها بدأت التخطيط للتخلّص منها 


وذات يوم .. بقيت لوحدي في المنزل ، بعد ذهاب والدايّ لعرس قريبنا مع اخي الصغير .. وأخبروني انهم سيتأخروا حتى منتصف الليل.. 

فاتصلت بربا للقدوم حالاً .. ورغم ان منزلهم في نفس الحيّ ، إلاّ انها تحجّجت بعدم قدرتها على الخروج دون علم اهلها (الذين ذهبوا ايضاً للعرس) خاصة بعد غروب الشمس !

فأخبرتها بأن حسام قادمٌ بعد قليل ، ونسيت إخبار اهلي بالموضوع .. ولا اريد ان يظنّ اهلي السوء بنا .. فوقعت الحمقاء بالفخّ


وبوصول رنا ، جلسنا نتحادث في انتظار قدوم حسام (المزعوم) .. وقدّمت لها العصير الذي أذبت فيه نصف علبة المنوّم الخاصة بأمي 

فشعرت بالدوّار ، وسألتني عن السبب ؟! 

فأجبتها بلؤم : 

- يكفي هذا القدر من لفت انظار القريب والغريب اليك ، وكأنني غير موجودة

فسألتني بقلق : 

- ماذا تعنين ؟! 

- ستة عشر عاماً وانتِ الأفضل والأجمل والأكثر جاذبيّة .. وبعد كل هذا ، تريدين الزواج من حبيبي حسام 


ثم همست في اذنها وهي تغفو ، وتعصر بطنها ألماً : 

- انتهى عصرك يا عزيزتي .. أراك في الجحيم 

فنظرت اليّ بعينين دامعتين ، قبل استسلامها للنوم الأبديّ ! 


حتى انني لم انتظر لفظ انفاسها الأخيرة ، بل قمت بسحبها الى الحمام ..وأحضرت منشاراً كهربائيّاً من حديقة ابي .. وبدأت بتقطيع اطرافها !

ودمها يتطاير فوق السيراميك الأبيض ، ملوثاً كل شيء .


وبعد تقطيع يديها وقدميها ، وضعتهما في حقيبة سفرٍ قديمة .. 

وبقيّ الرأس .. ولأني لا اريدهم ان يكتشفوا هويّة الجثة ، شوّهت وجهها بالموس الى ان اصبح دون ملامح .. ثم حشرت رأسها بالحقيبة ، دون أن يرفّ لي جفن !


وبقيّ جسدها .. وطالما مازال امامي وقت ، اردّت الإستمتاع قليلاً ..

وأحضرت اكبر سكينٍ من المطبخ ، وأخرجت احشائها التي وضعتها في كيسيّن نفاياتٍ سوداء .. 

ربما تظنون انني كنت حينها مُرتبكة.. لا ابداً !! بل ضحكت بسعادةٍ غامرة ، وكأنني الجوكر !


أمّا بقيّة لحمها الذي لا يختلف شكله عن الذي تُحضره امي من السوق ، فوضعته بعلبٍ في الثلّاجة .. فأنا انوي الإدعاء لاحقاً ، بأنه تقدمة من جارتنا الفضوليّة .. لأني متشوّقة لمعرفة طعم منافستي اللعينة ! وكانت بالفعل ليلةٍ طويلة .. لكني لم اجدها مخيفة ، بقدر ما كانت مشوّقة وممتعة!  


اما ما حصل بعدها ، فكان كارثيّاً ! بعد إخبارهم بأني رأيتها تذهب بسيارة شابٍ معروف بأخلاقه السيئة في مدرستنا .. مما صدم اهلها ! وكذلك حسام الأحمق الذي أحزنه تبرّي والدها منها بعد غيابها المُفاجئ ، وخيانتها بعد تعبيره عن محبته لها ! 


وبذلك انتهت هذه الجريمة المليئه بالمغامرة والتشويق .. وداعاً عزيزتي ربا ! 

***


الجريمة الثالثة :

في هذه الجريمة كنت بلغت الثمانيّة عشر .. وربما هروب رنا مع عشيقها (كما ادّعيت) جعل والدايّ يضيّقان عليّ الخناق ! ومنعاني الخروج مع صديقاتي او استخدام الجوّال .. والأسوء انهم انتقداني دائماً على معدّلي المنخفض بالثانوية العامة ، وأنهما لن يصرفا مالهما على دراستي الجامعيّة إن لم أُحسّن مستوايّ الدراسيّ ! فزاد كرهي لهما ، ولقيودهما الخانقة .. وانعزلت عن عائلتي ، ببقائي لساعاتٍ طويلة في غرفتي .. ليس بكاءً وندماً على جرائمي السابقة ، بل تخطيطاً لجريمتي القادمة 


فبعد إلحاحٍ شديد مني ، وافقوا بصعوبة المبيت في منزل صديقتي المواجه لمنزلنا .. وبعد ان تسلّينا كثيراً .. غطّت لُمى بنومٍ عميق ، فهي معروفة بنومها الثقيل  


وانتظرت حلول الثالثة بعد منتصف الليل ، والجميع نيام  

بعدها خرجت من نافذة غرفتها .. وعدّت الى منزلي .. 


وفي غرفتي : أخرجت من حقيبتي سكينةً كبيرة ، وغرزتها مراراً في قلب اخي الصغير (10 سنوات) لأتأكّد من موته.. ثم بدأت بتشويه وجهه ، بقلع عينيه ولسانه .. الى أن اصبح مسخاً مخيفاً ، اكثر من المسخ الذي يسكن روحي ! 

تخلّصت منه اولاً لأنه ابنهما المدلّل ، لتفوّقه الدائم بالدراسة .. 


ولرغبتي التخلّص من والدايّ بأقل مجهود ، قمت بفتح انبوبة الغاز بعد إغلاقي جميع النوافذ .. وعدّت سريعاً الى منزل صديقتي ، لتكون حجّة غيابٍ مقنعة امام الشرطة 


ونمت ليلتها ملء جفوني ، بعد تخلّصي من جميع اعدائي ! 


في الصباح .. استيقظت على صراخ جدتي التي جاءت الى منزل صديقتي لإخباري بما حصل .. وان أحدهم تسلّل لمنزلي ليلاً ، وقتل اخي .. وفتح الغاز على والدايّ اللذيّن ماتا بالحادث الغامض !


وبالطبع مثّلت دور الإبنة المصدومة ، وانا ابكي بهستيريا على فقدان اهلي! 

وكانت جدتي هي من اكتشفت الجريمة ، بعد إعلامها والدايّ بزيارتها الصباحيّة .. وعندما لم يفتحا الباب ، إستخدمت مفتاحها .. وبعدها ابلغت الشرطة الذين تجوّلوا في ارجاء منزلي لأخذ البصمات .. لكن ذلك لم يرعبني ، لأنني وضعت قفّازين سميكين اثناء جريمتي المحترفة .. 


بعدها بدأت التحقيقات المملّة الكريهة .. وانا مازلت أمثّل دور الإبنة المصدومة من خسارة عائلتها .. وأبكي بحرقة امام المحقّق ، لدرجة جعلته يؤجّل التحقيق معي  لحين انتهاء العزاء ! 


ولأنه كان ذكيّاً لدرجةٍ بغيضة ، شكّك في كل كلمةٍ قلتها عن تلك الليلة ! ولا أنكر ان ذلك اخافني ! خاصّة بعد شهادة اقاربي الأعزّاء عن علاقتي المتوتّرة بعائلتي واخي المدلّل في الأونة الأخيرة .. فلم يبقى شيء إلاّ واتهمونني فيه ، كأن جميع اقاربي اتفقوا على زجّي في السجن ، حتى لوّ كنت بريئة !  


ولحسن حظي ان كاميرا الشارع كانت مُعطّلة ، واهل صديقتي شهدوا بنومي عندها ليلة الحادثة .. 

لكن كل شيء تغيّر ، بعد ظهوري بكاميرا المتجر الخارجيّة .. وانا اقطع الشارع بين المنزلين في آخر الليل ! 

فقُبض عليّ ، لحين بدء محاكمتي بجريمةٍ هزّت مجتمعنا الصغير المسالم !


وبسبب ضغط المحقّق المتواصل عليّ ، إعترفت بجميع جرائمي .. فصدر حكم اعدامي بعد قتلي خمسة اشخاص : بدءاً بطفلٍ صغير ، ثم قريبتي المغرورة .. وبعدها عائلتي 


واليوم هو آخر يومٍ لي وانا على قيد الحياة ، فغدًا يوم اعدامي !

*** 


الخاتمة : 

هذه آخر سطور اكتبها لكم .. بعد قدوم الحارسة الى زنزاتي هذا الصباح ، لتنفيذ امنيّتي الأخيرة قبل اخذي الى الكرسي الكهربائي !


فطلبت منها الإنتظار قليلاً لحين انهاء مذكّراتي ، التي طلبت منها إعطائها للمحققّ البغيض .. الذي لا يعلم انه حين يصل لهذا السطر ، ستحلّ عليه لعنتي .. وستتلبّس روحي الشريرة فيه ، لإكمال جرائمي .. فما لا تعلمونه انني تواصلت بالإنترنت مع مشعوذٍ خطير ، يبدو ان شياطينه أخبرته بسوء نوايايّ .. فأعطاني تعويذةً قاتلة مجانيّة ! سأنفخها على المذكّرات قبل تسليمها للحارسة .. وبذلك اضمن ان المحقّق المُتذاكي ، سيُكمل مسيرتي المتعطّشة للدماء .. 


اراكم جميعاً في الجحيم ، فكلكم ضحايا مُحتملين للمحقّق المسحور !



الأحد، 17 ديسمبر 2023

حاوية البحر

تأليف : امل شانوحة 

رحلة الخوف


في نزهةٍ جامعيّة .. وقفت ديانا امام البحر وهي تشعر بخفقان قلبها السريع .. وخوفها الذي تزايد مع تلاطم الأمواج ، دون فهمها السبب! 

وأثناء لعب اصدقائها الكرة على الشاطىء .. تناهى الى سمعها صرخات اطفالٍ مرتعبة .. ورائحة انفاسٍ مكتومة .. وعتمةً هزّت كيانها ! 


ففتحت عينيها الدامعتيّن ، وهي تتساءل :

((لما يتردّد هذا الكابوس في منامي ، وفي يقظتي ايضاً ؟! .. لما اخاف لهذه الدرجة من البحر ؟!))


وهنا اقترب منها زميليّها ، وهي شاردة بأفكارها .. وما ان وضع الشاب يده على كتفها ، حتى انتفضت مُرتعبة !

زميلها بضيق : يا الهي يا ديانا ! الن تكفّي عن حركاتك الغريبة ؟!

فقالت زميلتها باستهزاء :

- هي تدّعي العفّة والبراءة.. 

ديانا مقاطعة : لا ادّعي شيئاً !! لكني لا احب ان يلمسني احد.. (ثم تنهّدت بضيق) .. سأعود للحافلة


وابتعدت عنهما ، وهي تسمع تلميحاتهما المُستفزّة :

الشاب : يالها من فتاةٍ مُعقّدة ! 

زميلتها : أكيد حصل شيء في ماضيها ، جعلها ترفض العرسان باستمرار! 

- لا يهم ، دعينا نعود للمباراة


بينما عادت ديانا لوحدها الى الحافلة ، وهي تشاهد زملائها يتسلّون امام البحر بحرّيةٍ وسعادة..

فتساءلت بضيق : ((لما انا هكذا ؟! والدايّ رائعان ، ومحبّان للغاية .. فلما اشعر بالخوف الشديد من الرجال ومن البحر ومن الأماكن الضيّقة ومن الظلام ؟! ..لما لديّ كل هذه العقد الغريبة ؟!))

***


وفي احد الأيام ، إقترحت عليها صديقتها تجربة اليوغا لإراحة اعصابها


وفي الصالة الرياضيّة ، طلبت امنهم لمُدرّبة : إغماض اعينهم اثناء استماعهم لموسيقى ، تُنشّط الشاكرات السبعة


وخلال ذلك ، شاهدت ديانا الكابوس من جديد ! وهذه المرة ، كان اكثر وضوحاً : حيث رأت رجلاً مخيفاً يرميها داخل حاويّةٍ مُتنقلة (حديديّة) مُكتظّة بعشرات الأطفال ، منهم المشرّدين والشحاذين والمختطفين امثالها ! لتبدأ معهم رحلةً طويلة بالبحر..


واثناء الرحلة.. أختار القبطان وربّانه (من وقتٍ لآخر) اولاداً وبناتاً من الحاويّة لأخذهم لغرفهم ، لمتعتهم الخاصّة ! 

وتذكّرت اشكال الأولاد المزريّة بعد عودتهم للحاوية ، وهم منهارين بالبكاء .. بعضهم ينزف ، وآخرون يتمنّون الموت رغم صغر سنهم!

لم تفهم ما حصل ، كونها آنذاك في السادسة من عمرها..


وعندما حان دورها ، اخذها القبطان الى كابينته .. وبعد تمعّنه فيها جيداً ، قال لها : 

- انت جميلةٌ جداً .. لهذا لن يلمسك احد لحين بلوغك ، وبيعك بالمزاد لأحد الأثرياء 


ثم نادى مساعده :

- إخبر بقيّة الرجال بأن هذه محجوزة .. اما بقيّة الأوغاد ، فاختاروا ما تشاؤون منهم .. فأعضائهم ستُباع كقطع غيار للمرضى الأثرياء

^^^


بعد تذكّرها الماضي ، انهارت ديانا بالبكاء اثناء جلسة اليوغا..

فأخذتها المدرّبة جانباً :

- هل انت بخير ؟!


فلم تستطع إخبارها بأنها اكتشفت : أنها خُطفت من تجّار الرقيق وبيع الأعضاء في طفولتها ، وأن والديّها أخفيا الموضوع عنها !

***


وعادت سريعاً الى منزلها لمعرفة الحقيقة..

فتنهّد والدها بحزن :

- كنت تلعبين خارج منزلنا.. ولم ننتبه على غيابك إلاّ بعد ساعة من اختطافك ، بعد أن أخبرنا بائع المتجر انه رآكِ داخل سيارة رجلٍ مجهول ، ربما وعدك بحلوى او نزهةً جميلة !

ومسحت الأم دموعها ، قائلةً : 

- لم نعرف شيئاً عنك لثلاثة شهور .. وأبلغنا المحقّق عن اشتباهه بعصابة لبيع الرقيق ، نقلوك بالسفينة لدولةٍ اخرى !

الأب : لكن القدر اعادك الينا بعد غرق حاوية الأطفال ، عقب عاصفةٍ هوجاء ضربت سفينة العصابة


((وهنا استعاد ذهن ديانا صوراً من الحادثة : وصراخ الأولاد فزعاً بعد تسرّب مياه البحر الى حاويتهم المُظلمة ! ولولا الموجة الضخمة التي فتحت القفل اليدويّ الخارجيّ ، لغرقت مع بقيّة المُختطفين .. لكن حتى بعد تحرّرها من الحاوية ، باعدت الأمواج العاتية بينها وبين القلّة الناجين منهم.. الى ان بقيّت وحدها وسط البحر المُعتم !


وفي الصباح .. وقبل موتها جوعاً وعطشاً ، شاهدت زعنفة تقترب منها ..فظنت انها سمكة قرش ! لكنها كانت دُلفينا ودوداً.. أمسكت بزعنفته بقوّة وهي شبه واعية ، الى ان استيقظت فوق رمالٍ دافئة على صراخ احد المصطافين وهو ينادي خفر السواحل لإنقاذها !


وبعد اسبوع من وجودها في مركز الشرطة ، توصّلوا لعنوان اهلها الذين أبلغوا عن اختطافها بالدولة المجاورة ، في نفس تاريخ إبحار سفينة العصابة من الميناء ! وأعادوها اليهم ، دون تذكّرها ما حصل من أثر الصدمة))


ديانا : ألهذا كنت اكره الرجال طوال عمري ، وأخاف البحر و..

الأب مقاطعاً :

- هذا خطأنا ، كان علينا علاجك عند طبيبٍ نفسيّ .. لكننا لم نردّ ان تستردّي ذكرياتك المؤلمة .. بل شكرنا الله على نسيانك لها.. وأعدناك للمدرسة ، كأن شيئاً لم يكن

الأم : وكلما صرختي خوفاً من الكوابيس ، نحاول إقناعك إنك شاهدتِ فيلماً مرعباً في صغرك ، أثّر عليك ! كيّ لا تتذكّري عمليّة اختطافك .. لكن يبدو عليك البدء بالعلاج النفسي بأقرب وقتٍ ممكن

***


وافقت ديانا بتردّد الذهاب عند طبيب تخرّج حديثاً ، لكنه بارع في عمله.. والذي أخضعها لتنويمٍ مغناطيسي .. أخبرته فيه عن تفاصيل دقيقة طوال شهور خطفها : وعن نفسيّة الأولاد المحطّمة بعد عودتهم للحاوية.. وغيظهم منها ، لعدم الإعتداء عليها مثلهم ! لهذا تنمّروا عليها اثناء تناولها الطعام ونومها بزاوية الحاوية ، لعلمهم بأنها لن تُمسّ إلاّ بعد بلوغها سن المراهقة .. بينما سيتمّ إهدار دمهم ، فور وصولهم للميناء !


واستيقظت من التنويم باكية :

- كيف سأنسى كل هذا الرعب الذي عشته في طفولتي ؟!

الطبيب : سأحاول علاجك اولاً بأول ، حتى تتعافين تماماً

وحين حاول إمساك يدها ، إنتفضت برعبٍ شديد !

الدكتور بابتسامةٍ حنونة : لا تقلقي .. عندما تُنهين علاجك ، سيخفّ رعبك من الجنس الآخر

وهي تمسح دموعها : أتعدني بذلك ؟

فأومأ برأسه إيجاباً ..

***


إستمرّ العلاج عاماً كاملاً ..شعرت فيها ديانا بتقاربٍ فكّري بينها وبين الطبيب الشاب الذي كان حنوناً عليها ، وصبوراً على علاجها الطويل


وذات يوم أخبرها :

- هذه آخر جلسة علاجيّة لك

بقلق : لماذا ؟!

الطبيب : لأنك تحسّنتِ بشكلٍ ملحوظ.. يمكنك الآن متابعة حياتك بسلام

فردّت بحزن : هل مللّت مني ؟

- مستحيل ان أملّ من مريضتي المفضّلة

ديانا : اذاً كيف سآراك ثانيةً ؟

- هل تريدين ذلك فعلاً ؟

فسكتت بخجل ..


الطبيب : ليس ضروري ان نلتقي هنا

ديانا : بعد شهرين عيد ميلادي ، هل يمكنك الحضور ؟

بابتسامة : سأحاول

***


وفي عيد ميلادها .. قدِمَ الطبيب بملابس رياضيّة (زادته وسامةً) بعد تعوّدها على رؤيته بالروب الأبيض وبذلتة الرسميّة !

ديانا : هكذا افضل ، تبدو من جيلي .. وكأنك .. (وسكتت بارتباك) 

فأكمل الطبيب : صديقك

- يعني افضل من طبيب ومريضة

فأعطاها هديّته .. لتفتح الصندوق ، وتجد لعبةً صوفيّة


فقال بصوتٍ منخفض : لا تخبري احداً انني أجيد حياكة الصوف ، لأني تربّيت عند جدتي بعد طلاق والدايّ

ديانا بدهشة : لم اكن اعرف !

- انت حظيتي بفترةٍ سوداء في طفولتك .. وأنا عشت حياةً مُختلفة عن بقيّة الأطفال ! بعد إمضاء طفولتي بغسل الصحون والطبخ وزراعة الحديقة ، وإطعام الطيور بالحديقة مع جدتي التي بالكاد تقوى على الحِراك ! لهذا لم استطع تركها وحدها ، للعب مع اصدقائي.. يعني باختصار كنت ارعاها ، بدل ان ترعاني ! لهذا استوعبت مشكلتك ، لأني مثلك لم أحظى بطفولةٍ رائعة

ديانا : هل حقاً حكت اللعبة لأجلي ؟!

- الم تخبريني اثناء وجودك بالحاوية ، كنت تنامين وانت تحتضنين لعبةً صوفيّة تخصّ فتاةٍ ماتت بعد نزيفٍ حاد من الإعتداء المتواصل عليها؟

- نعم ، لكن اللعبة غرقت مني بالبحر

الطبيب : وهذه بدالها


ودون انتباهٍ منها ، حضنته بامتنان ..وسط دهشة والديّها وصديقاتها بالحفل ، لعلمهم بنوباتها الهستيريّة إن اقترب منها احد ! وعمّ الصمت بين المعازيم الذين يراقبانهما بحذر..


لينتبه الطبيب على نظرات والدها القلقة .. فاقترب منه ، بعد إنشغال ديانا مع صديقاتها..

- انا لا اتلاعب بمشاعر ابنتك

الأب بحزم : الأفضل ان لا تفعل ، فأنت حبها الأول

الطبيب : وهي حبيّ الحقيقي

الأم باهتمام : ماذا يعني هذا ؟! 

الطبيب : إن وافقتما عليّ ، يمكنني خطبتها الآن

وأخرج خاتماً من جيبه.. ممّا افرح الأم كثيراً..


الطبيب : ديانا لم تره بعد .. اريد اولاً محادثتها على انفراد .. إن سمحت لي ، عمي

الأب : طالما نيّتك جيدة ، فلا بأس

^^^


وخرجا للحديقة .. والمعازيم يراقبانهما من خلف الستائر باهتمام

ديانا بقلق : لما خرجنا الى هنا ؟!

الطبيب : هل مازلتِ تخافين الظلام ؟

- لا ابداً .. فمع جلساتك العلاجيّة ، إنتهت معظم رهاباتي السابقة


فسكت مطوّلاً ، قبل ان يقول : 

- لا تعلمين كم ضاق صدري بعد انتهاء علاجك

ديانا : وانا ايضاً ، إفتقدتك الشهرين الماضيين .. وكلما مررّت اسفل عيادتك ، رغبت بالصعود للسلام عليك !

- طالما شعورنا مُتبادل

وجثا على ركبته ، وهو يرفع الخاتم..

الطبيب : هل تقبلين الزواج بي ؟


وهنا ارتبكت بعد رؤيتها لنظرات المعازيم من خلف الستائر !

فطلب الأب ابتعادهم عن النوافذ ، كيّ لا تغيّر رأيها..


في هذا الوقت .. أمسكت ديانا يد الطبيب ، وأوقفته من جديد

- انا فعلاً احبك.. اساساً لم اشعر بهذا الشعور مع شخصٍ آخر ! لكني مازلت قلقة بشأن الزواج بحدّ ذاته.. فأنت لم ترى منظر الفتيات الصغيرات بعد عودتهنّ للحاوية ، وكأن روحهنّ اقتلعت من اجسادهنّ ! عدا عن تأوّهاتهنّ المؤلمة طوال الليل ، ونزيفهنّ الحادّ..

الطبيب : الزواج يختلف كثيراً عن الإعتداء.. كما لم يكنّ بالغات ، لهذا ماتت بعضهنّ بالنزيف

- اليس الأمر مُقلقاً ؟

- لا تربطي زواجنا ، بقساوة العصابة


ثم همس في اذنها : 

- لن اقترب منك حتى تكوني مستعدة نفسيّاً لذلك.. اعدك عزيزتي

ديانا : حتى لوّ مرّت ايام بعد الزواج ؟!

الطبيب بحنان : حتى لوّ مرّ العمر كلّه.. سأنتظرك

ديانا بتردّد : اذاً .. انا موافقة


فوضع الخاتم بيدها ، واحتضنها ..وسط تصفيق وصفير المعازيم من داخل المنزل ، بعد شفائها اخيراً من عقدتها المُزمنة !


الخميس، 14 ديسمبر 2023

مُهمّةٌ إنسانيّة

تأليف : امل شانوحة 

 

مسألة حياة او موت


أمسك جاك جوّاله بيدٍ مُرتجفة ، وهو يسأل بهلع : 

- هل زوجتي وابني بخير ؟

- ستعلم بعد إيصالك شحنة الماريجوانا الى الحدود المكسيكيّة

جاك : لكن الشرطة ستقبض عليّ حتماً

- لا تُكثر الشكوى ..نريد المخدّرات التي بحوذتك ، والتي ستوصلها بسيارة الإسعاف التي قمنا بتجديدها من الكراج .. ستجدها متوقفة في المنطقة الفلانيّة وفيها المفتاح.. قدّها مباشرةً باتجاه الحدود.. فالشرطة لن تشكّ بسائق سيارة إسعاف.. عليك إيصال الحقيبة قبل غروب الشمس ، وإلاّ سنقتل زوجتك او ابنك ، او كلاهما !!

جاك بخوف : حسناً سأفعل ، لكن رجاءً لا تؤذوا عائلتي

***


عندما وصل جاك للمنطقة المنشودة ، بحث في الأرجاء ..الى ان وجد سيارة إسعافٍ متوقفة اسفل الجسر.. ولم يكن فيها سائق ، والمفاتيح مازالت داخلها ! 

فركب فيها بعد وضع الحقيبة امامه ، والتي فيها نبتة الماريجوانا.. وانطلق مباشرةً باتجاه الحدود الأمريكيّة المكسيكيّة

^^^


في الجهة الخلفيّة للإسعاف.. سألت الأم المُسعف (وهي تمسك يد ابنتها الصغيرة الموضوعة فوق النقّالة .. والمصابة بأزمة ربوٍّ قويّة ، أفقدتها الوعيّ) :

- الم نصل للمستشفى بعد ؟!

فنظر المُسعف من النافذة ، ليجد انهم في طريقٍ صحراويّ ! 

فطرق على الباب الفاصل بينه وبين السائق :

- الى اين نحن ذاهبون ؟!!


مما أفزع جاك الذي لم يكن يعلم بوجود احدٍ بسيارة الإسعاف ، التي يبدو إن سائقها توقف جانباً لقضاء حاجته ! بينما سيارة الإسعاف المنشودة ، تعطّلت قبل وصولها لنقطة التسليم..


فأوقف السيارة جانباً .. وفتح بابها الخلفيّ وقلبه يرتجف خوفاً ، ليجد الأم وابنتها المريضة والمُسعف الذي سأله بقلق :

- من انت ؟! واين السائق ؟ هل سرقت سيارة الإسعاف ؟! سأتصل بالشرطة حالاً !!


وأخرج الجوّال من جيبه .. ممّا أجبر جاك على تهديده بالمسدس : 

- سأطلق النار ، إن حاولتم إيقافي !!

وسحب جوّال المُسعف والأم التي توسّلت اليه باكية :

- ارجوك !! ابنتي تحتضر .. وبحاجةٍ ماسّة لغرفة الإنعاش ، فهي مصابة بضيقٍ شديد بالتنفّس

فنظر للفتاة الفاقدة الوعيّ (7 سنوات) وهي بعمر ابنه !


ليجد نفسه بوضعٍ صعب : فإمّا ان ينقذ الطفلة ، او يُقتل ابنه وزوجته إن وصل متأخّراً بشحنة المخدّرات !

واثناء ارتباكه .. إرتفع رنين جهاز القلب بعد توقفه ، وسط صراخ الأم التي شاهدت المُسعف يقوم بالصدمات الكهربائيّة لإبنتها التي عاد نبض قلبها ببطءٍ شديد !


المُسعف : رجاءً ..أوصلنا للمستشفى ، ثم اسرق السيارة ..فحياة الصغيرة في خطر

الأم وهي منهارة بالبكاء : ارجوك سيدي !! أنقذ ابنتي من الموت


فاضّطر جاك لاتخاذ اصعب قرارٍ في حياته ! والعودة سريعاً للطريق العام ، ومنه الى اقرب مستشفى ..ثم ساعد بإنزال نقّالة المريضة ، بعد أن وعدته الأم والمُسعف بعدم إبلاغ الشرطة عنه.. 


ثم انطلق سريعاً باتجاه الحدود ، مُحاولاً الإتصال بالعصابة دون إيجاده شبكة على طول الطريق الصحراويّ ! 

***


وصل جاك بعد حلول المساء ، ليجد ابنه يبكي بهستيريا بعد قتلهم امه امامه! 


وبعد حصول جاك على حقيبة المال ، اسرع بالعودة مع ابنه الى اميركا قبل دقائق من وصول الشرطة المكسيكيّة التي علمت بمكان التسليم ! والتي ألقت القبض على افراد العصابة مع حقيبة الماريجوانا

***


وبعد شهرين .. زار جاك منزل الطفلة المُصابة ، بعد علمه بعنوانها من خلال رشوةٍ ماليّة اعطاها لممرّضة المستشفى !


وما ان رأته والدة الفتاة ، حتى شحب وجهها خوفاً :

- أحلف انني لم ابلّغ الشرطة عنك !

فنادى ابنه الذي خرج من السيارة :

- اردّت ان يتعرّف ابني على ابنتك


وقبل إكمال كلامه ، فاجأت الصغيرة الأبويّن باحتضانها الولد بسعادة : 

- امي !! هذا إريك ، صديقي في المدرسة

فاضّطرت امها لإدخالهما المنزل

^^^


بعد الغداء ، إعتذر جاك عن ذلك اليوم العصيب..

فردّت الأم : بل انا اشكرك ، لأنك فضّلت إنقاذ ابنتي على عائلتك.. وآسفة لما حلّ بزوجتك !

فتنهّد بحزن : زوجتي هي السبب بانحرافي عن القانون .. فقد كنت مزارعاً متواضعاً .. لكنها أصرّت على زراعتي الماريجوانا ، لكسب المزيد من المال ! وهي من ورّطتني مع العصابة .. لكن لحسن الحظ ان المستشفى التي ارسلتكم اليها بحاجة للكثير من الماريجوانا لمختبرها ، لتحويلها لمخدّرٍ طبّي.. واتفقوا معي على بيعهم المحصول ، مقابل أجرٍ مُجزّي.. مما اراح قلبي ، لعدم إضراري بالشباب  وإدمانهم المخدّرات !


وهنا اقتربت الطفلة منه :

- عمي ..هل فعلاً تملك ارضاً زراعيّة ؟

جاك : نعم ، وفيها اشجار الكينا التي نقلتهم من اميركا الجنوبيّة .. وهي مناسبة لعلاج الربوّ

فسألته الأم بصوتٍ منخفض :

- الم تقل انها مزرعة الماريجوانا ؟!

جاك : تلك مزرعتي الصغيرة..اما منزلي ، فمُحاط بأشجار الكينا .. فمستحيل أن أربّي ابني قرب حقل المخدّرات


ثم عادت الصغيرة لسؤال امها : 

- اريك يقول ان لديه ارنباً وحصاناً صغيراً ، اريد رؤيتهم.. رجاءً !!

^^^


إتفقوا لاحقاً على قضاء العطلة السنويّة في مزرعته .. وبالفعل تحسّن الجهاز التنفّسي للفتاة التي اصبحت صديقةً مُقرّبة من اريك الصغير


وفي الوقت ذاته ، إكتشف الوالدان الكثير من الصفات المشتركة بينهما (عكس طليقيّهما) وكان ابنائهما السبب في زواجهما ، وانتقالهما للعيش معاً في مزرعته .. بعد ان تعاهد الأبوان بعدم إخبار ولديّهما عن سيارة الإسعاف المسروقة التي جمعتهما معاً ، بتخطيطٍ مُحكمٍ من القدر !


لقاءٌ ساحر (الجزء الأخير)

تأليف : الأستاذ عاصم تنسيق : امل شانوحة  رابط الجزء الأول من القصة : https://www.lonlywriter.com/2024/10/blog-post_4.html مفتاح الحرّية بعد ...