تأليف : امل شانوحة
العلاج الإجباريّ
بعد عجزّ الطبيب النفسي (الثريّ والشهير) على علاج خمسة من مرضاه المُصابين بالوسّواس القهري ، قام باستدراجهم لمسابقة غريبة من نوعها .. بعد ان أغراهم بجائزةٍ ماليّة قدرها : مئة الف دولار ، على أن يُبقيهم تحت سيطرته لمدة اسبوع !
فوافق المرضى الخمسة على إجراء الإمتحان ، بشرط عدم الضغط عليهم لإكمال المسابقة في حال قرّروا الإنسحاب
***
وفي ذلك المساء .. أوصلتهم الحافلة (المُؤجّرة من قبل طبيبهم) الى فلّة موجودة على رأس جبل (دون وجود منازل حولها) لحين إرسالهم لمكان الإختبار ..وأخبرهم أنه سيراقبهم من خلال كاميراتٍ مُوزّعة في غرفهم المُحتجزين فيها ، التي تحوي دورة مياه خاصّة لهم.. اما الطعام : فسيوصله الخدم الى غرفهم بأوقاتٍ محدّدة
في الليلة الأولى ، لم يحدث شيء ! ونام المتسابقون الخمسة في سرائرهم المريحة
***
في اليوم التالي .. وبعد تناول فطورهم ، وإعادة قفل الغرف عليهم .. تواصل معهم الطبيب عبر مكبّر الصوت ، ليخبرهم عمّا ينتظرهم.. قائلاً للمتسابق الأول :
- سيتم نقلك بعد قليل الى القبوّ
فردّ بقلق : لوحدي ؟!
الطبيب : نعم ، لتنفيذ مهمّة هناك
^^^
وبالفعل إنزله الخادم للأسفل ، بعد عصب عينيه (كما امره الطبيب).. ليتفاجأ المتسابق بعد حجزّه بالقبو (المُفترض بقائه فيه لأسبوعٍ كامل) بأنه قبوّ قذرٌ للغاية ! والماء في حمامه الوسخ ، مُعطّل .. او بالأصحّ مُغلق اوتامتيكيّاً !
فأصيب فوراً بالهلع ! فهو لديه وسّواسٌ قهريّ من النظافة .. حيث اعتاد الإستحمام مرتيّن في اليوم ، عدا عن غسل يديه عشرات المرّات !
ليس هذا فحسب ، بل اخبره الطبيب انه سيتناول المُعلّبات الموجودة في صندوقٍ كرتونيّ دون غسلها !
فصرخ غاضباً امام الكاميرا :
- انت تعرف قصة تسمّمي التي كادت تودي بحياتي ، بسبب مُعلبٍ أكلته وانا صغير ، الملوّث بفضلات الفئران ! رجاءً إفتح صنبور الماء ، كيّ لا اموت جوعاً !!
صوت الطبيب : عليك التعوّد على بعض القذارة في حياتك ، فلا يُعقل تضيّع معظم وقتك بالإستحمام المتواصل !
فردّ بعصبية : لا دخل لك بحياتي !! رجاءً أخرجني من هنا
- المسابقة لم تبدأ بعد ، عليك البقاء اسبوعاً في القبوّ.. فكّر بالجائزة ، وما يمكنك فعله بمئة الف دولار .. ربما تتزوّج حبيبتك التي تنتظر علاجك ، لبدء مراسم الزواج
فسكت الشاب مُمتعضاً ، وهو يفكّر بالموضوع .. فأكمل الطبيب كلامه :
- هل ستحاول لأجلها ؟ فالحياة معك ستكون مستحيلة إن أجبرتها على التنظيف طوال الوقت .. وسيتحوّل لكابوس بعد إنجاب الأطفال المعتادون على توسيخ أنفسهم خلال لعبهم
الشاب بضيق : حسناً سأحاول ، لكن في حال طلبت منك الإنسحاب بالمسابقة..
فأكمل الطبيب : لن أُجبر احداً على العلاج.. والآن سأتركك لكيّ..
الشاب مقاطعاً : لحظة دكتور .. مالذي ستستفيده من المسابقة ؟ فحسب ما اراه ، انك تُعالجنا بالمجّان ، بالإضافة لخسارتك مال الجائزة !
الطبيب : هذه المسابقة ستُسجّل وتُدرّس لطلّابي الجامعيين ، لهذا لن أخسر شيئاً .. لا تقلق بشأني ، وحاول الإسترخاء قليلاً.. القاك لاحقاً
وأنهى الإتصال .. تاركاً المتسابق بحيرة واشمئزاز من القبوّ القذر ، والسرير النتن الذي يُفترض ان ينام عليه لأسبوعٍ كامل !
***
بينا عاد الطبيب للتحدّث مع المتسابقة الثانية :
- والآن دورك !! سيأتي خادمي لنقلك لمكانٍ خارج الفيلا
السيدة بقلق : الى اين سأذهب ؟!
- ستعلمين بعد قليل
بالفعل اخذها الخادم لحضانة اطفال بدار الأيتام ، والبقاء معهم في غرفة مُراقبة من الطبيب (المُتفق سابقاً مع إدارة الميتم) .. حيث يتوجّب عليها رعايتهم لأسبوعٍ كامل!
فنظرت للكاميرا ، وهي توشك على فقدان اعصابها :
- هل جننت يا دكتور ؟!! انت تعلم خوفي الدائم على اولادي ، وحرصي على سلامتهم ، رغم تجاوزهم سن الطفولة .. كيف تريدني ان ارعى هؤلاء الصغار ، وأنا ..
الطبيب مقاطعاً : خوفك الدائم عليهم ، وسهرك طوال الليل حتى لا يتضرّروا اثناء نومهم سيُصيبك بالجنون يوماً ما .. وأعلم السبب هو : وفاة طفلتك إختناقاً ببطانيّتها.. لذلك سأجبرك على رعاية الأطفال العشرة ، المعروفين بالميتم بمشاغبتهم وحركتهم المُفرطة .. وهذا لمصلحتك .. لأنك ستدركين بنهاية المسابقة بأن المشاغبة والتعرّض للأذيّة هو جزء من الطفولة ، وبذلك يقلّ التوتّر لديك .. كما يجعلك تُعطي المزيد من الحرّية لأولادك لاكتشاف العالم ، والسماح لهم بمصاحبة الآخرين
- بقائي هنا ، سيُصيبني بالجنون .. فأنا لديّ ثلاثة اولاد ، وبالكاد انام .. كيف سأنتبه على عشرة مشاغبين صغار ؟! الأمر شبه مستحيل !!
الطبيب : فكّري بالجائزة .. وما يمكنك شرائه لأولادك من هدايا ، في حال كسبتي المسابقة
فسكتت قليلاً ، قبل ان تقول بضيق :
- حسناً .. سأحاول
الطبيب : أحسنت !! اراكِ لاحقاً
***
ثم تحدّث مع المتسابق الثالث الذي نقله الخادم الى سوبرماركت قيد الإنشاء ! حيث تواجد عشرات الصناديق لبضائع متنوّعة ، التي من المُفترض ترتيبها على الأرفّف قبل يوم الإفتتاح..
المتسابق مُعترضاً : هل تريد إفقادي عقلي ، دكتور ؟!! انت تعرف هوسي بالترتيب!
الطبيب : انت بالذات ستكسب فوق الجائزة ، راتباً يومياً من إدارة السوبرماركت التي ستراقب معي عملك المُتقن .. وأخترتك لهذا الإمتحان ، كيّ تستفيد من مرضك بأمرٍ نافع
- انا احب ترتيب اغراضي ، لا اغراض غيري !
- انت عاطل عن العمل لسنوات ، جعلك تخسر زوجتك واولادك بسبب عنادك وهوسك المرضيّ .. لهذا اردّت توجيهك لعملٍ ، يمكنك الإستفادة فيه من خبرتك الواسعة بالترتيب .. هيا فكّر بالجائزة
الرجل : والراتب اليوميّ ؟
الطبيب : مع الراتب ايضاً
فردّ بحماس : حسناً ، سأبدا العمل فوراً
وبدأ بفتح الصناديق وترتيب البضائع على الأرفّف
***
ثم تحدّث الطبيب مع متسابقة اخرى : وهي مراهقة لديها هوس التأكّد مراراً من الأعمال اليوميّة .. لذلك نقلها الى كوخ به ادوات كهربائيّة قديمة ، ودورة مياه بصنابيرٍ مُعطّلة (تُسرّب الماء من قساطلها الصدئة) بالإضافة لبابٍ خارجيّ مخلوع .. وعليها البقاء هناك لأسبوع !
وما أن تجوّلت بالكوخ ، حتى صرخت امام كاميرا السقف :
- دكتور !! لا يمكنني تحمّل صوت الماء المُنهدر ، ولست سبّاكاً لأصلح العطل.. كما لن اشعر بالأمان مع باب الكوخ المخلوع ، فربما يهجم عليّ ذئب او دب او افعى !! وماذا عن الأدوات الكهربائيّة ؟ فالثلاّجة والغسّالة أسلاكهما قديمة ، وأخاف من ماسٍّ كهربائي يُشعل الكوخ اثناء نومي.. هذا إن لم تنفجر إسطوانة الغاز الصدئة اولاً !!
الطبيب : كما حصل بطفولتك والذي تسبّب بحرق قدميّك ، ووفاة اختك ؟
- انت تعرف عقدتي النفسيّة ، فلما تعذّبني هنا ؟!! سأظلّ اتأكّد كل خمس دقائق من الباب والماء والكهرباء والغاز ، حتى أفقد عقلي!!!
- بل علاجك هو توكيل امرك للقدر
الصبية : لا اريك ان أُحرق من جديد .. انت لا تعرف ما عانيته من تنمّر طوال حياتي !!!
- إهدأي قليلاً وفكّري بالجائزة التي يمكنك بها شراء منزل احلامك
فتنهّدت بضيق :
- حسناً ، سأحاول .. لكن ان خرجت من الكوخ ، فعليك توفير وسيلة نقل لإعادتي لمنزلي بالمدينة
الطبيب : كما تشائين
وتركها وهي تُسرع للحمام ، في محاولة لإيقاف تسرّب ماء الذي يُثير اعصابها
***
ثم تكلّم مع المتسابق الأخير الذي ما ان سلّم عليه ، حتى انفجر غاضباً
- ساعتان وانا انتظرك ! لما تأخّرت عليّ ؟!!
الطبيب : كنت أنقل المتسابقين الأربعة لغرف الإمتحان
فردّ بعصبية : ولما لم تبدأ بي ؟ انت تعرف كرهي بأن يُهمّشني أحد!!
- معك حق ، نسيت عدوانتيّك وعصبيتك الزائدة تجاه الغرباء
- لا تلومني على ذلك ، فأنت لم تعشّ مع جدي الظالم
الطبيب : عليك مسامحته على ..
مقاطعاً بغضب : على ماذا ؟!! على إفساده طفولتي .. هو لم يراعي يُتمي بعد فقدان عائلتي بذلك الحادث ، وانا لم أتمّ العاشرة بعد ! وبدل ان يحِنّ عليّ ، عذّبني جسديّاً ونفسيّاً ..لهذا أكره كبار السن
- ولهذا السبب بالذات ، سينقُلك خادمي الى دار العجزة
- مستحيل !! والله أحرق الدار على اولئك السفلة !!
الطبيب : اهدأ قليلاً ، فكل ما عليك فعله : هو البقاء معهم لأسبوعٍ واحد
- أحلف إن رأيت شبيه جدي ، قد أفقد اعصابي وأخنقه حتى الموت!!
- فكّر بالجائزة .. الم يكن حلم حياتك شراء سيارة شبيهة بسيارة والدك قبل موته مع امك وأخيك بالحادث ؟
فسكت قليلاً ، وهو مازال ينهج بغضب :
- حسناً .. اسبوعٌ واحد !! لكن إن طلبت منك إخراجي من هناك ، فعليك تحريري قبل ارتكابي جريمة تقضي على مستقبلي
- لك ذلك
ثم نقله لدار العجزة ، وهو يتأفّف بضيق من منظر العجائز الذين يذكّروه بجده الظالم
***
وبدأ العدّ التنازلي لإسبوع الإمتحان .. حيث راقب الطبيب تفاعلات مرضاه من خلال خمس شاشاتٍ في مكتبه
وكما توقع ، إنهار المتسابق الأول بعد يومين من بقائه بالقبوّ القذر ! بعد رميه المُعلّبات القذرة في كل مكان ، وهو يصرخ بهستيريا لشعوره بالقذارة من استعمال الحمّام المعطّل
وبصعوبة استطاع الطبيب تهدئته (بمكبّر الصوت) لحين قدوم الخادم وتحريره من هناك .. لكنه لم يرضى العودة مع السائق الى منزله ، قبل صعوده لغرفته السابقة بالفيلا للإستحمام ، ولبس ثياب جديدة من خزانة الطبيب (المتواجدة هناك) قبل عودته لمنزله الذي نظّفه قبل التحاقه بالمسابقة .. وركب السيارة وهو يتنفّس الصعداء لانتهاء الكابوس ، غير مكترثٍ بخسارته الجائزة الماليّة !
***
بعدها بيوم .. فقد المتسابق (المُحتجزّ بالسوبرماركت الجديد) اعصابه .. حيث اعطى الطبيب اوامره للموظفيّن ، بتغيّر ترتيبه الدقيق للبضاعة بعد نومه !
(وهو لم يقصد بذلك إثارة اعصاب المتسابق ، بل إفهامه درساً بعدم الهوس بالترتيب ، لأن من عادة المتسوّقين تغيّر اماكن البضائع)
لكن هذه الحيلة ، أفقدت المتسابق اعصابه تماماً .. وصار يرمي البضاعة يميناً ويسارا ، بعد ان وجد الهرم الذي صنعه من المُعلّبات طوال الليل مُهدّماً !
فأرسل الطبيب ممرّضاً لإعطائه ابرة مخدّر ، وإعادته نائماً الى منزله بعد خسارته المسابقة .. (بعد تعهّد الطبيب لإدارة السوبرماركت بدفع الأضرار التي سبّبها مريضه المهووس !)
***
بعدها بيوميّن .. إنسحبت الصبية المتواجدة بالكوخ من المسابقة بعد انهيار اعصابها من قلّة النوم ، بسبب صوت ماء الصنبور المُعطّل .. ورفضها استخدام الكهربائيّات القديمة ، بعد إزالة قوابسها المهترئة .. حيث اكتفت بأكل المعلّبات في الأيام السابقة
وفور حصولها على إذن الطبيب بالرحيل ، ازاحت الكنبة التي وضعتها خلف الباب المخلوع .. وهي تطلب بعصبية من الكاميرا :
- متى يصل سائقك ؟!! اكاد أجنّ هنا
صوت الطبيب : اهدأي قليلاً ، هو في طريقه اليك .. كان عليك الإنتظار يوميّن للفوز بالجائزة !
- وما ينفعني مالك إن فقدّت عقلي .. هيا ارسل اللعين الى هنا !!
- كما تشائين
وبذلك خسرت المسابقة كزميليّها !
***
وقبل يومٍ واحد من نهاية الإسبوع .. طلبت السيدة بهدوء من كاميرا الحضانة الإنسحاب من المسابقة !
فردّ الطبيب : راقبتك على مدى ايام .. كنت متوتّرة جداً في اليوم الأول ، وبالكاد نمتي ساعتين خوفاً على الأطفال .. لكنك مع الوقت اعتدّتي على سقوطهم المتكرّر ، وأذيّتهم لبعضهم
- هذا صحيح .. فقد فهمت انها طبيعتهم وفطرتهم ، وأن الشقاوة ضروريّة لنضوجهم مستقبلاً
الطبيب : اذاً لماذا تنسحبين ؟!
- لم اعدّ أطيق البعد عن اولادي
- مازال هناك يوماً واحداً !
السيدة : علمت من جارتي ان ابني مُصاب بالحمّى ، وعليّ العودة للإهتمام به
الطبيب باستغراب : الم يأخذ خادمي منك الجوّال ، كما فعل مع المتسابقين الآخرين؟!
- بلى ، لكني احتفظت بجوّالٍ صغير في حذائي قبل بدء المسابقة .. وجارتي لن تنتبه على ابني مثلي .. رجاءً أعدني الى منزلي
- حسناً ، كما تشائين
***
اما المتسابق الأخير .. ففاجأ الطبيب بعد انتهاء المسابقة : بتسجيله التطوّعي بدار العجزة ، بزيارتهم في نهاية كل اسبوع ! بعد استمتاعه بالحديث مع بعضهم عن تجاربهم بالحياة التي أعطته دافعاً للنجاح .. حيث فهم ان ليس كل العجائز سيئين كجدّه.. وبذلك فاز بالجائزة الماليّة ، بالإضافة لشفائه من افكاره الشيطانية التي تراوده دائماً بقتل كبار السن !
***
لاحقاً عرض الطبيب تجربة المسابقة على طلاّبه ، وهو يحدّثهم قائلاً:
((قد تكون اسباب الوسّواس القهري : عوامل حيويّة ، كتغيّرات في كيماء الدماغ .. او وراثة جينيّة .. او تقليد لأحد افراد العائلة على مدى سنوات .. او بسبب صدمةٍ عصبيّة .. بجميع الأحوال هو مرضٌ نفسيّ ، يتفاقم مع الأيام .. صحيح اكتشفنا بعض العلاجات للتقليل من اعراضه ، لكنه مازال السبب الأول للجنون والسلوكيّات الخطيرة .. ولهذا لم ينجح جميع مرضايّ بالمسابقة ، كما لاحظتم .. لكن مهما حصل !! سنتابع انا وانتم علاج المصابين بالأمراض النفسيّة ، فهذا هو دوّرنا بالحياة.. كان الله في عوننا جميعاً))
وانتهت المحاضرة بتصفيق طلاّبه ، وهو يستلم درعاً تكريميّاً من مدير الجامعة على تجربته النفسيّة الشيّقة !