الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

ابنة العدوّ !

تأليف : امل شانوحة


لما لم تقتلها حسب أوامرك العسكرية ؟!

بعد سنواتٍ من انتهاء الحرب العالمية الثانية , وتحديداً في سنة 1962 (ايّ بعد سنة من بناء الجدار الفاصل بين الإلمانيتين).. 
وفي ليلة باردة .. قال الوالد (الضابط الإلماني السابق في فرقة المتفجرّات) لإبنته بقلقٍ شديد :
- انها لمُجازفةٍ خطيرة يا اماندا ! أمازلتي مصرّة على قرارك؟ 
فأجابته ابنته , البالغة من العمر (19) سنة : 
- ابي .. خطيبي ينتظرني في الجهة المقابلة , وعلينا الذهاب الى هناك هذه الليلة , والاّ ضاعت فرصتنا بالهروب ! 

فهي كانت إتفقت مُسبقاً مع خطيبها على اللحاق به بعد تخرّجها من المدرسة , بينما فضّل هو متابعة دراسته في برلين الغربية , تماماً كما فعل أكثر من ثلاثة ملايين شخص هربوا الى الجهة المقابلة أبّان صدور القرار ببناء الجدار الفاصل , وقد لُقّبت المنطقة المحيطة به لاحقاً بقطاع الموت ! 
اما الحياة في برلين الشرقية فكانت شاقة على المواطنين الإلمان لخضوعها للحكم السوفيتي الشيوعي الفقير ..

ولهذا السبب قرّرت اماندا الهروب مع والدها من هذا الجحيم من خلال إحدى الأنفاق السرّية المتجهة لبرلين الغربية , والتي كانت خاضعة في تلك الأيام لحكم الحلفاء (اميركا وانجلترا وفرنسا).. 
وقد وصلا في آخر الليل الى ذلك المرحاض الخارجي (الذي يبعد 100 متر عن قبو مخبزٍ قديم في برلين غربية , والمحفور اسفله النفق السرّي) والذي مرّ من خلاله في غضون الأشهر السابقة عشراتٍ من العائلات برلين الشرقية الى الجهة الأخرى 
***  

وعبر الأب وابنته النفق على أمل الوصول الى الطرف الثاني دون ان يلاحظهما ايّاً من الحراس الحدود الذين يقومون بدوريّات حراسة فوق رأسهما مباشرةً .. واضعاً الأب قناع الأكسجين على وجهه , الذي كان استخدمه سابقاً في الجيش بسبب معاناته من مرض الربو , والذي من الممكن ان تزداد مضاعفاته في ذلك المكان الضيق المليء بالغبار ! 

وبعد ساعة محفوفة بالمخاطر , وصلا اخيراً مع تباشير الصباح الى الطرف الآخر.. 
وقد تمّ اللقاء بين اماندا وخطيبها .. لكن شيئاً حصل عكّر صفوّ الجميع .. حين اقتربت ام العريس باتجاههم , ولم تكن اماندا قد تعرّفت بعد على حماتها , والتي قالت لوالد الفتاة بدهشة :
- أهذا انت يا مايك ؟!
والد اماندا بصدمة : ماري ! لقد أخبروني بأنك ميتة ؟!

ابن السيدة (العريس) : ماذا يحدث يا امي ؟! هل تعرفين عمّي ؟!
وهنا تغيّرت نبرة السيدة ماري وقالت بغضب : هذا ليس والد خطيبتك , بل هو والدك الحقيقي يا كارلوس !!
مايك بصدمة : ماذا ! أكنتِ حاملاً مني عندما ..
ماري بعصبية : أكمل !! لما سكتّ فجأة .. عندما تركتني وحدني لأواجه غضب اهلي والمجتمع !!!
والد اماندا بتلعثم : ماري اهدئي قليلاً لو سمحتي ..

ماري بغضب : اهدأ ! .. لطالما اخبرتك إنني من مجتمع متمسّك بتقاليده القديمة , ولهذا طردوني من قريتي بعدما تخلّفت عن حضور عرسنا .. فانتقلت مُجبرة الى برلين الغربية لأربّي ابني بمفردي 
ابنها كارلوس متفاجىء : لحظة امي ! الم تقولي لي بأن والدي متوفّي ؟!
امه بقهر : هو مات فعلاً عندما تخلّى عنّا

الصبية اماندا : ابي ! ماذا تقول هذه السيدة ؟! انا لا افهم شيئاً 
فاقترب والدها من السيدة ماري وقال لها : انا لم اتخلّى عنك , لكن في يوم عرسنا أخذني الجيش بمهمّةٍ سرّية الى فرنسا بعد احتلالنا لها
السيدة بغضب : كاذب !! انت مصاب بالربو , ومُعفى من الجيش
اماندا : لا يا خانم , ابي حارب فعلاً .. صحيح هم رفضوه في البداية , لكنهم استدعوه من جديد بعدما قلّ عدد الجنود 
ابوها : كما انني كنت جيداً بتركيب العبوات الناسفة واتقنّ اللغة الفرنسية , ولهذا اخذوني الى هناك .. لكنهم منعوني من اخبار احدٍ بيوم سفري 

ابنه بقهر : ان كان كلامك صحيحاً , لما لم تعدّ الينا بعد انتهاء الحرب ؟!
الأب : بل عدّت الى قرية والدتك , لكنهم اخبروني بوفاتها بحمّى التيفوئيد ..ولم اكن اعرف حينها أنها كانت حاملاً بك يا بنيّ .. احلف لك
السيدة بغضب: اذا كنت تقول الحقيقة , فاخبرنا بنوعيّة مهمّتك في فرنسا ؟ 

فنظر الأب الى ابنته اماندا بقلق , ثم أخفض رأسه قائلاً :
- اعتذر .. لا استطيع البوح بهذا السرّ , حتى بعد انتهاء الحرب
السيدة بصوت عالي : طبعاً لا تستطيع !! لأن الحقيقة هي انك تزوجت هناك , ولهذا ملامح ابنتك فرنسية  
فارتبك الأب كثيراً , وحاول تغيّر الموضوع ..
- المهم الآن .. انني أطمأنيت على حبيبتي اماندا , لأنها ستتزوج منك يا بنيّ 

العريس : وكيف تريدني ان أتزوجها وهي اختي ؟! 
الأب : بل يمكنك الزواج بها , فهي ليست اختك 
فتصرخ السيدة بغضبٍ شديد : ماذا تقصد بكلامك هذا ؟!! أتشكّ إنني خنتك ايها اللعين !!
الأب بارتباكٍ واضح : لا ! لم اقصد هذا .. (ثم تنهّد بضيق) ..عليّ الذهاب
السيدة ماري : أستهرب ثانيةً ؟!! 
ابنته وهي تمسك بيده : ابي ! الى اين ستذهب ؟ الم تعدني ان نعيش جميعنا هنا ؟

ابوها وقد ترقّرقت الدموع في عينيه : لقد غيّرت رأيّ يا اماندا .. سأعود الى بيتي في المنطقة الشرقية 
ثم ربت على كتف ابنه وقال له : انتبه عليها جيداً يا ولدي 
وأخذ حقيبة ملابسه الصغيرة , ثم اسرع نحو المخبز المهجور (المحفور تحته النفق , الذي قدم منه) ..
فصرخت السيدة بعلوّ صوتها : أهرب ايها اللعين !! لطالما تخلّيت عن مسؤولياتك !!!

فأيقظ صوتها العالي جندي الحدود المتواجد في برج المراقبة القريب من الجدار .. وعلى الفور !! اتصل باللاسلكي بجنود الدورية في برلين الشرقية ليخبرهم بوجود هاربين 

في هذا الوقت .. اسرعت البنت للحاق بوالدها وهي تمسك قناع الأكسجين 
العريس يناديها : الى اين تذهبين يا اماندا ؟!!
اماندا بقلق : لقد نسيّ ابي قناعه معي , وربما يصاب بأزمة ربو في النفق 

وقبل ان يلحق بها الشاب , شدّت امه يده وهي تقول : 
- انظر فوق الى برج المراقبة !
فشاهدا ضوء الإنارة تقترب منهما (فالشمس لم تكن سطعت بعد في هذا الجوّ الغائم) .. 
امه بخوف : علينا الإبتعاد فوراً من هنا , قبل ان يطلقوا النار علينا !!
ابنها بقلق : وماذا عن اماندا ووالدي ؟ 
وهنا سمعا صوت انفجار لقنبلةٍ يدوية !!
امه : يبدو انهم امسكوا بهما ! 

وماهي الا دقائق معدودة , حتى سمعا دويّ انفجارٍ قويّ !!!!
الأم وهي تُخفي حزنها على عشيقها القديم : ومع هذا الإنفجار , اظنهما قُتلا يا بنيّ .. (ثم قالت بصوتٍ منخفض) سامحك الله يا مايك , يا حبيبي الخائن

وبصعوبة استطاعت إبعاد ابنها عن المكان , بعد ان انتابه حزنٍ شديد على اخته التي كانت في يوم من الأيام محبوبته التي ينوي الزواج بها !
***

امّا الذي حصل بالفعل في الجهة المقابلة (برلين الشرقية) فكان كالتالي : 
حيث استطاعت اماندا اللحاق بوالدها داخل النفق , وقد وجدته هناك يسعل بشدّة بعد ان ضاق صدره بدون قناع الأوكسجين , ولذلك استطاع الجنود في الأعلى تحديد مكانهما بالضبط , فرموا بقربهما قنبلة يدوية أحدثت فتحة في سقف النفق , ومنه قاموا بسحبهما الى الأعلى ..

ثم اقتادوهما الى قسم الإستجواب , الموجود قرب برج المراقبة ..
وقد أمر قائد الجيش لاحقاً باطلاق صاروخ آر بي جي (الروسي الصنع  الذي بدأ استعماله في نفس هذه السنة) باتجاه النفق السرّي لردمه بشكلٍ نهائي .. 
***

وفي مكتب ضابط الحدود .. بدأ العسكري بتعذيب مايك (رغم عمره البالغ 52 سنة) بركله وضربه بقسوةٍ بالغة , فصرخت ابنته بخوف :
- لا تضربه !! فهو ايضاً كان جندي سابق في الجيش
الضابط بلا مبالاة : جميع رجال الألمان كانوا جنوداً سابقين .. مالجديد ! 
ثم قال للعسكري : اربط هذه الفتاة بغرفتي , لأستمتع بها لاحقاً

وهنا صرخ والدها بخوف : ايّاك ان تلمسها !!!
الضابط باستغراب : ايّاني ! .. وهل ستمنعني عنها ايها العجوز ؟
ثم قام بصفعه بقوة , لكن ابوها قال بنبرةٍ صارمة وواثقة :
- كنت فقط احذّرك ..لأنك ان لمستها , فربما تُطرد من الجيش ..هذا ان لم تُزجّ في السجن
فابتسم الضابط بسخرية : أحقاً ! وهل ابنتك ابنة رئيس الحكومة مثلاً ؟! 

مايك : بل هي ابنة المناضل الفرنسي .. شارل إكس 
ووقع كلامه كالصاعقة على ابنته ! 
- ماذا تقول يا ابي ؟!
فطأطأ والدها رأسه بحزن , ثم قال لها : انا آسف يا ابنتي , لأنني كذبت عليك طوال حياتك
فقال الضابط : واو ! يبدو ان هناك سراً خطيراً  بين الأب وابنته ..
ثم قرّب كرسيه من الأب (المرمي على الأرض) وقال له : 
- حسناً انا اسمعك .. اخبرنا القصة منذ البداية

فأخبره مايك بأنه كان بمهمّة سرّية ايّام احتلال المانيا لفرنسا , وكان عليه تلغيم منزل المناضل (شارل اكس) لقتله هو وعائلته ..وقد تمّ الأمر بنجاح .. لكن قبل رحيله عن المكان , سمع صوت بكاء طفلةٌ رضيعة قادماً من اعلى الشجرة القريبة من المنزل المدمّر ! فعرف ان قوّة الإنفجار رمت بإبنة المناضل نحو تلك الشجرة , بينما بقيت جثة امها واخويها الصغار عالقة تحت الركام 

وبهذه اللحظات .. كانت ابنته اماندا تستمع للقصة , وهي ترتجف من شدة الصدمة ! 
ثم سأله الضابط من جديد :
- نعم لقد سمعنا بأن عائلة شارل أُبيدت بالكامل , في الوقت الذي كان هو بمهمّة سياسية طارئة خارج منطقته 
مايك : نعم ولذلك طُردت من الجيش , لأنني لم اتأكّد قبل التفخيخ بوجوده داخل منزله 
الضابط : حسناً , لنفترض ان كلامك صحيح .. لما لم تقتلها هي ايضاً حسب أوامرك العسكرية ؟ 
وأشار الى اماندا التي كانت تحاول كتم بكائها بصعوبة , بعد ان شحب وجهها بشكلٍ واضح !

فأجابه مايك وهو ينظر بشفقة وقلق الى ابنته التي كانت ترتجف في زاوية الغرفة : كنت سأفعل , لكني عجزت بعد رؤية وجهها الملائكي .. وعندما سمعت اصوات الناس تقترب لرؤية الإنفجار , أسرعت بتخبئتها داخل حقيبتي ..ومن ثم عدّت الى كتيبتي المتواجدة في اطراف العاصمة الفرنسية , زاعماً بأن زوجتي سلّمتني ابنتي قبل عودتها الى المانيا 
الضابط : ولم يشكّ احد بالموضوع ؟! 
- لا ابداً , وبعدها بيومين سرّحوني من الجيش وعدّت الى بلدتي الموجودة في برلين الشرقية 

- اذاً لماذا كنت تهرب اليوم الى برلين الغربية ؟
- كنت آمل ان اتصل من هناك على والدها الحقيقي , كي يحضر  عرس ابنته 
ثم التفت الى ابنته :
مايك بحزن : والله كنت سأفعل .. كنت اريد ان أسلّم والدك الأمانة .. صدّقيني يا ابنتي 

لكنه تفاجأ بردّة فعلها ! حين انفجرت في وجهه باكية :
- كيف طاوعك قلبك على قتل امي واخوتي الصغار ؟!!! 
- اماندا ! ارجوك اهدئي يا بنتي .. فأنا لم اكن .. 
مقاطعة والدها بغضب : 
- انا لست ابنتك !! انت لديك ولدٌ وحيد , وتخليّت عنه ايضاً ! انت بالفعل ابٌ سيء .. انا كرهك جداً !! ليتني لم الحق بك لأعرف هذه الحقيقة المرّة

فابتسم الضابط ابتسامةٍ لئيمة , وقال لها : 
- اهدئي يا بنت !! فربما والدك اخترع كل هذه الحكاية لنطلق سراحك
مايك وهو يمسح دموعه : لا ابداً سيدي.. اذا شئت اتصل بضبّاط الحدود في برلين الغربية , واجعلهم يتصلّون بالمناضل (شارل اكس) فهو كما تعرف ..أصبح اليوم رمزاً سياسياً في فرنسا بعد استقلالها ..وانا مستعد لتكلّم معه على الهاتف امامك , كيّ تتأكّد بنفسك من كلامي 

فاقترب العسكري (المسؤول عن التعذيب) من الضابط , وهمس له:  
- لو كان كلامه صحيحاً , فسنطلب بعض المال من السياسي شارل قبل ان نسلّمه ابنته , فهو كما سمعت اصبح رجلاً غنياً ومشهوراً في فرنسا , وانت تعرف ان حياتنا هنا في برلين الشرقية سيئة , ورواتبنا زهيدة للغاية ..
ففكّر الضابط قليلاً , ثم قال للعسكري بصوتٍ منخفض : 
- حسناً , لكن ايّاك ان يعرف احد خارج هذه الغرفة بموضوع ابنة المناضل , كي نتقاسم الجائزة بيننا نحن الأثنين .. اسمعت !!

ثم وجّه الضابط كلامه لمايك : 
- حسناً ... سأقوم باتصالاتي للمسؤولين في برلين الغربية , ثم نرى النتيجة .. لكن في حال كنت تكذب عليّ , فسأجبرك على قتل ابنتك بنفسك .. أفهمت !!
فهزّ مايك رأسه موافقاً , وهو مازال ينظر الى ابنته التي كانت تنظر اليه شزراً وبغضبٍ شديد
***

وبحلول المساء .. وصل الخبر أخيراً الى السياسي الفرنسي (شارل اكس) الذي اتصل بضبّاط الحدود في برلين الشرقية , ومنه الى مايك الموقوف هناك .. 
وجلس الضابط والعسكري يستمعان الى المحادثة , رغم معرفتهما القليلة باللغة الفرنسية التي كان يتقنها مايك باحتراف , والذي سأل المناضل الفرنسي عن يوم وفاة اهله بالتفجير 

شارل الفرنسي بدهشة : لما تسألني عن ذلك اليوم ؟ ولما تصرّ على مكالمتي انا بالتحديد ؟! 
فأجابه مايك باللغة الفرنسية : لأن ابنتك معي
الفرنسي بغضب : ماهذا الهراء ! طفلتي توفيت مع اخويها وامها بالإنفجار قبل سنواتٍ عديدة , فلما تنكأ لي جراحي يا رجل ؟! 
- نعم اعرف بشأن انفجار منزلك , لكن ابنتك لم تقتل معهم .. وانا الضابط الإلماني الذي وجدها هناك حيّةٌ ترزق , وقمت بتربيتها وتعليمها .. لكنها الآن محتجزة معي بمركز الحدود ببرلين الشرقية , فقد قبضوا علينا اثناء هروبنا الى برلين الغربية 
- لا اصدّق هذا الكلام ابداً !!
- اليست لأبنتك وحمة على شكل فرولة على فخدها الأيمن .. فأنا اعرف ذلك , لأنني قمت بتربيتها منذ طفولتها 

فسكت الفرنسي بعد ان أثار اهتمامه .. فتابع مايك كلامه :
- كما انني عندما رأيتها بالصدفة بجانب منزلك المحطّم , كانت تلبس عقداً فيه صورة لك ولأمها 
- يا الهي ! هذه كانت هدية مني لها 
- نعم والعقد موجود في بيتي , سأعطيك ايّاه عندما تأتي لإنقاذ ابنتك , فحياتها الآن في خطر .. ارجوك تعال واستلم أمانتك , قبل ان يتلاعب بها العساكر
***

وبالرغم من شكوك الفرنسي (شارل) بقصة مايك , الاّ انه قدم على اول طائرة أوصلته الى برلين الغربية .. وباتفاقٍ سرّي بين جنود الحدود , تم نقل مايك واماندا الى برلين الغربية , بعد ان قام شارل بدفع مبلغٍ من المال لأكثر من ضابط وعسكري على كلا الحدود 

لكن ما لا يعرفه مايك ان الضابط (الذي عذّبه في برلين الشرقية) قام بإخبار شارل بقصة التفجير كاملةً 
وفي المخفر الموجود في برلين الغربية .. رأى الفرنسي شارل ابنته لأول مرةّ .. وقد صُعق للغاية ! 
حين قال لها (باللغة الألمانية التي يتقنها) والدموع في عينيه :
- يا الهي .. كم تشبهين والدتك !
مايك مُبتسماً : هل صدّقتني الآن ؟

لكنه تفاجأ بلكمةٍ قويّة على وجهه !! وقبل ان يعي ما حصل , شاهد فوهة مسدس شارل موجهاً اليه ! 
وعلى الفور !! اسرعت اماندا بالوقوف بين شارل الغاضب ومايك الخائف , وهي تقول للفرنسي (باللغة الإلمانية) : 
- لن اسمح لك بقتل ابي !!
الفرنسي بغضب : هو ليس والدك , بل انا !! .. الا تعرفين ان اللعين هو من قام بقتل والدتك واخويك الصغار , فكيف تدافعين عنه ؟!
اماندا : كان مجبوراً .. فهو في تلك الأيام كان جندياً بسيطاً ينفّذ اوامر قائديه .. الم تقتل انت ايضاً اناساً ابرياء تنفيذاً للأوامر العسكرية ؟ 
فتفاجأ كلا الوالدان بردّة فعلها الغير متوقعة ! 

فأكملت اماندا كلامها قائلةً : 
- نعم انا غاضبة منه جداً ..(وأشارت الى والدها مايك) ..لأنه كذب عليّ طوال حياتي ! لكنه ايضاً كان بإمكانه قتلي , الاّ انه فضّل تربيتي وتدليلي قدر استطاعته دون ان يُشعرني بسوء احوالنا الإقتصادية التي عانى منها في برلين الشرقية 

ثم بدأت بسرد محاسن والدها مايك .. الى ان هدأ غضب والدها الفرنسي قليلاً .. لكن اماندا لم تكتفي بذلك , بل اصرّت عليه ان يضغط بوساطته السياسية على ضبّاط الحدود لإطلاق سراح مايك دون توجيه اي تهمة اليه .. وقد نفّذ شارل طلبها مُرغماً..
***

وبعد اجتماعهم جميعاً (اماندا وخطيبها وامه , ووالداها الأثنان) خارج سياج الحدود , فاجئهم مايك برغبته العودة من جديد الى منزله في برلين الشرقية .. فقام بتوديعهم سريعاً , ثم رحل !
***

اما شارل فطلب من ابنته تأجيل زواجها الى ما بعد انهاء دراستها الجامعية في فرنسا .. وبعد ان أقنعها بذلك , ودّعت خطيبها على أمل الإجتماع به لاحقاً ..ثم سافرت مع والدها الحقيقي الى قصرها الفخم في فرنسا
*** 

ورغم مرور سنوات على تغير حياتها في فرنسا نحو الأفضل (بعد اتقانها للغة الجديدة) .. الا انها إفتقدت كثيراً حياتها البسيطة مع والدها الحنون مايك الذي إنقطعت اخباره تماماً , فإبنه لم يكن يزوره دائماً رغم الحاح اماندا في جميع رسائلها لخطيبها على الإطمئنان على صحته , لكنه كان دائماً يبرّر تقصيره بصعوبة أخذ الإذن للزيارة من حرّاس الحدود الفاصلة بين الإلمانيتين..
***

ومرّت السنوات .. وتخرّجت اماندا من الجامعة .. ورغم قدوم خطيبها الى فرنسا لخطبتها (كما وعده والدها شارل من قبل) , الا انه رفض تماماً تزويج ابنته الوحيدة من ابن قاتل عائلته .. 
فعاد كارلوس حزيناً الى المانيا الغربية , بينما أُصيبت اماندا بإكتئابٍ شديد لنكث والدها بالوعد الذي بسببه قبلت السفر معه الى فرنسا .. 
ورغم تقدّم الكثير من كبار السياسين الفرنسين لخطبتها الا انها رفضتهم جميعاً 
***

لكن بعد شهور من وفاة والدها الفرنسي شارل , تفاجأت بخطيبها السابق كارلوس يزورها بقصرها في فرنسا لتقديم التعازي .. 
وبعدها بشهرٍ واحد .. تزوجا وعاشا معاً في فرنسا مع والدته , بعد ان بلغت اماندا 28 سنة ..وكانت لم ترى والدها مايك منذ 9 سنوات
***

ثم رُزقا بعد سنة بطفلةٍ جميلة .. 
وبعد بلوغ ابنتهما روز سن السادسة , وفي صيف عام 1978..
اقتربت الصغيرة من والدتها ومعها وسادتها , وطلبت منها تحويلها الى دميّة من القماش 
فابتسمت اماندا قائلة : 
- لكن يا روز , انت لديك العديد من الألعاب الجميلة 
- نعم لكن معلمتي تريدنا ان نصنع العاباً بأنفسنا
- حسناً اذهبي الى جدتك الآن , وسأحاول خياطتها لك لاحقاً

وبينما كانت اماندا تُخيط اللعبة القماشية لإبنتها , توقفت فجأة ! بعد ان عادت اليها ذكريات الطفولة : وكيف كان والدها الإلماني مايك يصنع لها العاباً من القماش , ويقصّ عليها القصص الخيالية لتنام .. كما انه كان بارعاً في صنع الكعك الطيب .. هذا عدا عن نزهاته الجميلة 
وقد لاحظ زوجها دموعها التي كانت تكبتها بصعوبة , فسألها بقلق: 
- ما بك اماندا ؟!
- لقد تذكّرت ابي .. اقصد والدك مايك

زوجها بنبرةٍ غاضبة : ومالذي ذكّرك به الآن ؟!
- اعرف انك تضايق من هذا الموضوع , لكنك لا تعرفه مثلي ..هو كان والداً جيداً بالنسبة لي
- أنسيت انه قتل عائلتك ؟
- قلت لك الف مرة انه كان ينفّذ الأوامر العسكرية , وقد سامحته منذ وقتٍ طويل .. يكفي انه لم يقتلني ولم يحرمني من ايّ شيء , رغم ضيق حالتنا المادية في ذلك الوقت .. فهو احياناً كان يضّطر للعمل بداومين في احدى المطاعم الشعبية كيّ يدفع اقساطي المدرسية , كما انه دائماً يناديني بأميرتي 

وهنا لم يعد باستطاعة اماندا مسك دموعها أكثر من ذلك , فانهارت بالبكاء ..فقام زوجها وحضنها قائلاً :
- ليتني تعرّفت عليه مثلك , لكن امي منعتني حتى من السؤال عنه ! فهي تظنّ الى اليوم انه خانها مع امرأةٍ اخرى
- اذاً اذهب الآن الى غرفة امك ..وإقنعها ان تأتي معنا الى المانيا كيّ تسمع الحقيقة منه قبل فوات الآوان , لأني خائفة كثيراً على صحته بعد ان كبر في العمر 
- هذا ان كان مازال على قيد الحياة , فهو كما أظن بلغ السبعين عاماً .. اليس كذلك ؟ 
- بل 68 , وانا متأكدة انه مازال ينتظرني في بيتنا القديم

ففكّر زوجها قليلاً , ثم قال : حسناً .. لنذهب ونراه 
فقامت وحضنته بفرحٍ شديد : أحقاً !! كم احبك يا زوجي الغالي 
وهنا عادت ابنتهما الصغيرة الى الغرفة , لترى امها في غاية السعادة , فسألتها باهتمام : 
- ماذا هناك يا امي ؟!
امها بسعادة : أخيراً سنرى جدك يا روز !!
- لكن جدي شارل مات قبل ان أُولد , هل نسيتي ؟!
- كنت اقصد والدنا انا وابوك
الطفلة بدهشة : لم افهم شيئاً !
فقال والدها : ستعرفين عندما تكبرين يا ابنتي .. (ثم قال لزوجته) .. سأذهب الآن لأتكلّم مع امي , ثم اذهب لأرتّب امور سفرنا
*** 

وقد استطاعوا العبور الى برلين الشرقية بعد ان سمح ضبّاط الحدود لعائلة ابنة المناضل الفرنسي شارل بالدخول الى هناك بإذنٍ خاص
لكنهم مع الأسف وجدوا مايك على فراش الموت , بعد ان ساءت حالته كثيراً بسبب الربو ! ورغم تعبه الشديد الاّ انه سعد تماماً برؤية حفيدته , حيث قال لأماندا : 
- انها تشبهك كثيراً عندما كنتِ في مثل عمرها ! 

فقالت حماتها له بقهر : وتشبه ابنك ايضاً , لكنك لا تعرف شكله عندما كان صغيراً
فأمسك يد السيدة ماري , وقال لها : 
- سامحني يا عزيزتي .. فوالله لم اكن أرغب في تركك ابداً , لكن الظروف أجبرتني على الإبتعاد عنك وعن ابننا  
فسكتت السيدة العجوز بقهر .. فقال مايك لأماندا :
- اخبري حماتك .. هل رأيتني يوماً مع امرأة اخرى ؟
فقالت اماندا لحماتها : طوال 19 سنة التي عشتها معه , لم اره يوماً يُكلّم ايّةِ امرأة .. وعندما كنت اسأله : لما لم تتزوج ثانيةً , خاصة انه ربّاني وهو في 33 من عمره ؟ كان يُجيبني دائماً : انه عشق امرأة واحدة في حياته , لكن قلبه مات بوفاتها

وهنا قال مايك لحبيبته السابقة ماري : كنت وقتها أحسبك ميتة .. لكن في حال كنتِ مازلتي لا تصدقينني , فسأثبت لك كلامي .. اماندا عزيزتي !! 
- نعم ابي
- احضري الصندوق الخشبي الموجود في درجي
وعندما احضرته له ... انتظروا قليلاً الى ان توقف سعاله المفاجىء .. ثم فتح الصندوق ليُخرج منه اولاً العقد الذهبي الصغير .. واعطاه لأماندا :
- هذا عقدك عندما كنت طفلة و فيه صورة امك وابيك .. فوالدك لم يعطني وقتها فرصة لأعطيه ايّاه , وأسرع بتسفيرك الى فرنسا .. لكن الآن عاد العقد الى صاحبته

فصارت اماندا تتمعّن النظر في صورة امها التي تراها لأول مرة , لأن صور عائلتها إحترقت جميعها بالتفجير .. ثم مسحت دموعها قائلة : 
- يا الهي ! كان والدي شارل على حق , فأنا اشبه امي كثيراً !

ثم اخرج مايك من الصندوق : سلسلة بها قلبٌ حديدي , وأعطاه الى حماة اماندا قائلاً لها :
- أتذكرينه يا ماري ؟ لقد اعطيتني هذا العقد في بداية تعارفنا , وقلت لي : ان اعيده اليك في حال أحببت امرأة ثانية .. ولهذا لم أردّه لك , لأن قلبي لم يحب غيرك 
فاستلمت السيدة ماري العقد منه , وهي تكبت دموعها بصعوبة .. ثم قال لها وهو يسعل بشدةّ : 
- لكني اعيده لك الآن , لأنني أشعر بقرب أجلي .. 

وقد تفاجأ الجميع ! عندما قامت السيدة العجوز بحضنه بقوة , وهي تنهج بالبكاء :
- ليتك اخبرتني بذلك قبل سنوات ايها الشقيّ 
فربت مايك على كتفها بحزن وهو يقول :
- يكفيني ان تسامحيني انت وابني على تقصيري معكما , يا حبيبتي ماري

وقد امضوا تلك الليلة سوياً كعائلة واحدة مُحبّة دون ايّةِ أحقاد , بعد ان سامح الجميع مايك على اخطائه السابقة .. 

لكن مع تباشير الصباح .. إشتدّ سعاله كثيراً ! 
وقبل وصول الطبيب , كان مايك قد فارق الحياة بين احبائه ..

وبعد دفنه .. عادت اماندا مع عائلتها وحماتها الى فرنسا من جديد 
***

وبعد 11 سنة , وتحديداً في يوم 9 نوفمبر 1989 , ايّ يوم هدم جدار برلين الفاصل بين الإلمانيتين الذي شهده العالم أجمع عبر شاشات التلفاز .. كانت اماندا (46 سنة) وزوجها وابنتهما المراهقة من ضمن المحتفلين بسقوط الجدار الذي كان شاهداً على عشرات القتلى الأبرياء الذين حاولوا عبوره خلال 28 عام من بنائهِ ..
***

وقد استمرّت عائلة اماندا لسنواتٍ بعدها بالذهاب كل صيف الى المانيا لزيارة قبر والدهما مايك.. 

ذلك الجندي الذي فضّل تربية ابنة العدو على تنفيذ اوامر قائديه الجائرة ! 
فهنيئاً لكل قلبٍ ظلّ ينبض بالإنسانية رغم قساوة الحروب
*************** 

التواريخ المهمّة لهذه القصة :
- الحرب العالمية الثانية : هي حرب دولية بدأت في الأول من سبتمبر من عام 1939 في أوروبا .. وانتهت في الثاني من سبتمبر عام 1945
- فرنسا الفيشية (اي عقب سقوط فرنسا بيد ألمانيا النازية) : استمرّت بين تموز / يوليو 1940 ..وأيلول / سبتمبر 1944
- جدار برلين : بين برلين الغربية وألمانيا الشرقية ، بدأ بناؤه في 13 أغسطس 1961 ، وجرى تحصينه على مدار الزمن .. لكن تم فتحه في 9 نوفمبر 1989

ولمعرفة المزيد عن جدار برلين , شاهدوا هذا الفيديو الوثائقي :

https://www.youtube.com/watch?v=NGDE9Rm1-ws&t=1152s


ملاحظة :
لقد راعيت في قصتي تسلسلّ الأحداث , كما قمت بحساب اعمار ابطال القصة على حسب التواريخ الحقيقية .. اتمنى من الله ان تنال إعجابكم

الثلاثاء، 14 نوفمبر 2017

طريق الرحمة

تأليف : امل شانوحة 

لم يكنّ ولداً شقياً !

- دوريات !! دوريات !! .. من الأقرب منكم الى شارع 212 ؟
فاستلم الشرطي ادوارد هذه المهمّة , حينما أجاب المركز .. 
- انا على بعد شارعين من الموقع , مالقضية ؟

فقال له موظف اللاسلكي في قسم الشرطة :
- هناك ولدٌ مراهق قام بتهديد والده بالسلاح لأخذ المال منه , كما انه سرق مفاتيح سيارته .. وهو الآن هاربٌ من منزله في المنطقة القريبة منك
الشرطي ادوارد : حسناً .. إخبرني برقم السيارة ونوعها لأقوم بملاحقتها 
موظف اللاسلكي : عندما اتصل والده بنا , أعطانا جميع المعلومات .. سأرسلها لك الآن
***

وبعد ساعتين من البحث المتواصل .. وصلته إخبارية جديدة تقول : بأن السيارة المسروقة متوقفة الآن في محطة البنزين

وعلى الفور !! أسرع الشرطي ادوارد الى هناك للقبض على المراهق المشاغب , الذي كان حينها يُعبأ سيارة والده بالبنزين ليُكمل طريقه نحو المدينة المجاورة 

وما ان رآى جون (البالغ من العمر أربعة عشر سنة) سيارة الشرطة متجهة نحوه .. حتى انطلق هارباً نحو الشارع العام .. الاّ انه لم يبتعد كثيراً , حيث أجبره ادوارد على الإصطفاف جانباً بعد ان صدمَ خلفية سيارته .. 

ولم يجدّ الصبي فائدة من مقاومة الإعتقال , فرفع يديه مُستسلماً .. 
وبدوره قام ادوارد بتفتيشه جيداً , وأخذ سلاحه .. ومن ثم تقييد يديه خلف ظهره , ورميه في المقاعد الخلفية لسيارة الشرطة .. 
ثم أبلغ المركز بنجاحه في القبض على المراهق
***

وفي طريقهما نحو المخفر .. لاحظ الشرطي هدوء الصبي , الذي اكتفى بمسح دموعه بكتفه من حينٍ لآخر .. فقال له ادوارد :
- لما فعلت ذلك ؟ لما سرقت محفظة وسيارة والدك ؟
لكن جون لم يجيبه ..
فتابع الشرطي قوله : مازلت ولداً يافعاً , اتريد ان تقضي شبابك كلّه في سجن الأحداث ؟ الا تدري ما يحدث للأولاد الضعفاء أمثالك في ذلك المكان المخيف ؟ 
فقال جون بصوتٍ منخفض وبحزن : أردّت فقط رؤية امي

الشرطي : ماذا قلت ؟ ارفع صوتك !! 
- قلت .. انني سرقت المال والسيارة كيّ أرى امي
- واين هي امك ؟
- في المدينة المجاورة 
- هل والديك مطلقين ؟
- نعم منذ ان كنت في الثامنة من عمري
- الم ترى امك منذ ذلك الحين ؟
- لا , وابي يرفض إعطائها عنوان بيتنا الجديد .. وللأسف لا اعرف رقم جوالها لأكلّمها .. والمشكلة ان امي لا علاقة لها بوسائل الإتصال الإجتماعي , والاّ لكنت حادثتها بالإنترنت

- وطالما انك لا تعرف كيف تتواصل معها , فلما هربت اذاً من بيتك ؟!
- لأنني مازلت أذكر الشارع الذي فيه بيتنا القديم , واظنّ انني سأعرفه فور وصولي الى هناك 
- الم تطلب من والدك ان يأخذك اليها في العطل المدرسية ؟
- بل ترجّيته كثيراً , لكنه يصرّ عليّ بأن انساها تماماً .. 
- ومالذي تغيّر في هذا اليوم ؟
- اليوم فقدّت اعصابي تماماً , لأنه عيد ميلاد امي وأردّت ان أعايدها بالهاتف 
- وهو رفض طلبك ؟

الصبي بغضب : هو لم يكتفي بالرفض فحسب !! بل ضربني بقسوة ! وحبسني في الغرفة .. لكني تمكّنت من الهرب بصعوبة من نافذة غرفتي 
- ثم قمت بسرقة سيارة والدك , اليس كذلك ؟ 
- نعم , فكما قلت لك : منزلنا القديم في المدينة المجاورة , واحتاج على الأقل الى يومين في الطريق لأصل الى هناك , عرفت ذلك من خلال بحثي في الجوجل .. لكن كان عليّ اولاً الحصول على بعض المال لمصاريف هذه الرحلة الطويلة 
- ومن اين حصلت على المسدس الذي هدّدت به والدك ؟
- هذا مسدسه هو , كان يستعمله في رحلات الصيد مع اصدقائه ..وقد رأيته مرّة يُخبئه في درجه .. (ثم يتنهد بضيق) .. لكنني لم أضع الرصاصات فيه , لأنني لا أنوي قتل والدي .. فأنا لست سيئاً لهذه الدرجة , يا سيدي 

فسكت الشرطي قليلاً وهو محتار بشأنه ! لأنه يبدو له صادقاً , فكل ما أراده الصبي هو زيارة أمه التي لم يرها منذ وقتٍ طويل ..

وهنا قطع تفكير ادوارد صوت اللاسلكي , الذي قال له :
- والد الصبي وصل الآن الى المخفر !! وهو يريد رؤية ابنه قبل ان ننقله الى سجن التوقيف , في انتظار يوم محاكمته
فأجابه الشرطي : حسناً , نحن في طريقنا اليكم

وبعد ان اطفأ اللاسلكي , قال له الصبي (من المقاعد الخلفية) بخوفٍ وترجّي : 
- ارجوك سيدي !! لا تأخذني الى والدي , فأنا أخاف منه
- وهل يعاقبك دائماً بقسوة ؟ 
- نعم كثيراً !! فهو بالعادة يحبسني في قبو بيتنا المظلم , ويحرمني من الذهاب الى المدرسة , وأحياناً يُطعمني مرة واحدة في اليوم .. ارجوك سيدي ..لا اريد ان أُسجّن , فحياتي سيئة بما فيه الكفاية 
- وللأسف ستصبح أسوء عند دخولك سجن الأحداث

- ارجوك لا ترسلني الى هناك , فأنا سمعت بأنهم يعتدون على المساجين الجدّد ..
- بالتأكيد يفعلون
- ارجوك لا اريد ان اصبح شاذاً , فلديّ حبيبة
- أحقاً ! .. أبهذا العمر ؟
- نعم هي ابنة الجيران التي كبرت معها .. فأنا كنت وعدتها قبل ان أرحل مع ابي : بأنني سأعود اليها يوماً  
فيمازحه الشرطي : آها ...اذاً هربت من بيتك لأجل صديقتك , وليس لأجل امك ؟
- بل لأراهما سويّاً .. فأبي لم يكن يحقّ له أن يُبعدني عن اصدقائي وكل من أحب في مدينتي التي ولدت فيها من أجل مشاكله الشخصية مع امي .. الا ترى ان الحق معي , سيدي ؟

وقد أعاد كلام الصبي بعض الذكريات السيئة الى ذهن الشرطي , الذي قال له : 
- طبعاً الحق معك .. لأنه لا يجوز لأيّ أحد ان يحرم شخصاً من احبّائه .. وأنا أتفهّمك جيداً يا جون
- وكيف يمكنك الشعور بألمي , هل والدك كان سيئاً معك ايضاً ؟
- لا .. لكن طليقتي حرمتني من ابنتي , بعد مقتل ابني مايكل 
الصبي بدهشة : وهل قُتل ابنك ؟!

الشرطي : نعم للأسف ! ..(يتنهد بحزن) .. كنت حينها قد تمكّنت من إلقاء القبض على تاجر مخدراتٍ مهم , رغم اعتراض زوجتي مُسبقاً على خوضي لهذه المغامرة الشائكة .. 
جون : وهل انتقمت منك افراد العصابة ؟
ادوارد بحزنٍ شديد : نعم .. لقد قام أحدهم بإطلاق النار على ابني الصغير اثناء خروجه من مدرسته .. وقد انهارت حياتي بعدها .. فزوجتي لم تسامحني ابداً على تعريض عائلتنا لهذا الخطر .. وفي احد الأيام , تفاجأت بسفرها مع ابنتي المراهقة الى الخارج , بعد ان طلقتني بالمحكمة ! 

- الا تعرف الى اين ذهبتا ؟ 
- لم اعرف الاّ من وقتٍ قصير , حين ارسلت ابنتي صورة لحفيدتي
- ماذا ! هل تزوجت ابنتك دون ان تعزمك على عرسها ؟!
- أعتقد ان امها منعتها من ذلك , خوفاً من انتقام اعدائي من العصابات التي قبضت عليها طوال حياتي المهنية .. لكن مع هذا , قامت ابنتي بإرسال عنوان بيت زوجها لي  
- الم تذهب بعد الى هناك لرؤية حفيدتك ؟

- لا .. فكلما اردّت الذهاب , أخاف من معاتبتها لي على مقتل اخيها الصغير .. فقلبي لا يتحمّل خوض ذلك مجدّداً
- هذا ليس مبرّراً لتمنّعك من الذهاب اليها .. (وسكت قليلاً) ..آه صحيح لم اسألك .. منذ متى لم ترى ابنتك ؟
الشرطي بحزن وقهر : منذ ثلاثة عشر سنة 
- يا الهي ! أنا لم ارى امي منذ ستّ سنوات وأكاد اختنق , فكيف تحمّلت انت كل هذا الفراق ؟!
- أشغلت نفسي بالعمل 
- برأيّ عليك تحديد التاريخ الذي ستذهب فيه لرؤيتها , فقد لا يحالفك الحظ كما حصل معي اليوم
ثم عمّ السكوت في سيارة الشرطة .. 
***

لكن وقبل ان يصلا بأمتارٍ قليلة الى المخفر .. تفاجأ الصبي بالسيارة تنحرف عن طريقها , لتسير في الإتجاه المعاكس ! 
جون بدهشة : ماذا حصل ؟! لما ابتعدنا عن المخفر ؟!
الشرطي ادوارد : لأنني سآخذك بنفسي الى منزل والدتك 
الصبي بصدمة : أحقاً !
الشرطي بحزم : نعم !! لأنه من حقك ان تراها , ولا يجوز لوالدك ان يحرمك منها .. فالأولاد بحاجة الى كلا والديهما
- لا اصدّق ما اسمعه ! انا حقاً ممّتناً لك كثيراً , وامي ايضاً ستشكرك على معروفك معي .. لكن ماذا ستقول لإدارتك ؟

فسكت الشرطي وهو يفكّر بحلّ مناسب لهذه المشكلة ..
الصبي : هل ستخبرهم بأنني هربت منك ؟
- لا لأنني ان فعلت , ستصبح جريمتك أكبر
- اذاً ماذا ستفعل ؟
- سأخبرهم الحقيقة
- لكن هذا سيضرّ سمعتك , وربما تُطرد من عملك !
- أحياناً علينا تطبيق العدالة بأنفسنا , فأنا بالنهاية أعرف شعور امك لأنني حُرمت ايضاً من ابنتي , وهو شعورٌ ظالمٌ جداً ! 
- لا ادري ماذا اقول .. شكراً لك , سيدي

وهنا ظهر صوت اللاسلكي من جديد : 
- الضابط ادوارد !! اين انت ؟ لقد تأخّرت كثيراً ! هل الأمور على ما يرام ؟
لكن الشرطي لم يجيبه , بل أقفل اللاسلكي تماماً ! 
ثم قال للصبي : اسمع يا جون ..كما ترى .. أنا أعرّض مهنتي للخطر من أجلك , لذا عليك ان تعدني بأن تصبح شاباً صالحاً , وأن ترعى امك جيداً

- سأفعل سيدي , أعدك بذلك .. فأنا كل ما أرجوه هو ان اعيش معها بدلاً من حياتي مع ابي الظالم
- حسناً اذاً .. إعطني الآن كافة المعلومات عن امك , كيّ ابدأ البحث عنها
- وهل تستطيع إيجادها فعلاً ؟
- لا تقلق , عندي صديق يعمل في بلدية تلك المدينة , ويمكنني طلب المساعدة منه

وبعد ان أخبره جون بكلّ ما يتذكّره عن ماضيه , قام الشرطي ادوارد باتصالاته لتحديد عنوان منزل الأم ..
وقد استغرق ذلك ساعاتٍ طويلة , مما أتعب جون الذي غفى فوق المقاعد الخلفية , بعد ان حلّ المساء.. 
***

وفي منتصف الليل .. كان مايزال الشرطي يقود سيارته باتجاه المدينة المجاورة .. 
الا انه قررّ ايقاف السيارة , كيّ يُفاجأ جون بفكّ أصفاده 
فاستيقظ جون مندهشاً , وقال (وهو مازال يشعر بالنعاس) : ماذا تفعل ؟!
- لا ضرورة لتقيدك , لأني أثق بك
- شكراً لك , والله انك أحنّ عليّ من والدي !
- هيا عدّ الى النوم , وانا سأكمل القيادة
- وهل وجدت عنوان امي ؟
- ليس بعد

لكنه بالحقيقة عرِفَ العنوان , الاّ انه رغِبَ في مفاجأته بالأمر غداً 
***

وفي صباح اليوم التالي ..
استيقظ الصبي بعد ان ترنّحت السيارة يميناً ويساراً ! فأسرع بالطرق على الزجاج الفاصل بينه وبين الشرطي الذي استعاد وعيه مُرتعباً , وبالكاد أوقف السيارة قبل لحظاتٍ قليلة من إرتطامها بالسور ..

وبعد ان هدأ الوضع ..قال الشرطي لجون وهو يُخفي خوفه :  
- الحمد الله على سلامتنا .. هل انت بخير ؟
الصبي وهو يستعيد انفاسه : نعم بخير .. هل غفوت بسبب قيادتك طوال الليل ؟
- كنت مضّطّراً لذلك , لأنني عرفت البارحة اثناء نومك من اللاسلكي بأنهم اصدروا بياناً بالبحث عنّا ! 
- اذاً لابد من إكمال المسير .. هيا تعال ونمّ قليلاً مكاني , وانا سأقود بالنيابة عنك .. ولا تقلق , فأنا ماهرٌ جداً بالقيادة

الشرطي بتردّد : لا يا جون , انا بخير 
- هل تخاف مني ؟! الم تقلّ لي البارحة انك تثقّ بي ؟
فسكت الشرطي مُحتاراً !
المراهق : لا تقلق سيدي , فأنا سأقود الى ان أصل لأقرب محطة كيّ نتزوّد بالوقود ونُحضر بعض الطعام , فأنا جائع كثيراً وأظنك جائعٌ ايضاً .. لكن اولاً عندي شرط !!
- وما شرطك ؟
- ان اشتري الطعام من مالي  

- تقصد من مال والدك ؟
بنبرةٍ غاضبة : لا هو حقي انا !! لأن ابي حرمني من المصروف الدراسي طوال الشهر الفائت 
- حسناً لا تغضب , كنت أمزح معك .. (وسكت قليلاً , ثم قال) .. اذاً دعنا نُبدّل أماكننا .. لكن عليك ان توقظني قبل ان نصل الى المحطة , فأنا لا اريد لأحد ان يراك وانت تقود سيارة الشرطة
- إتفقنا .. هيا افتح بابيّ الخلفي 
***

وبعد ان تناولا طعامهما في المحطة .. أكمل الشرطي سيره نحو المدينة , بعد ان كان قد نام لأكثر من ثلاث ساعات كانت كافية لإراحة بدنه 
***

ومع تباشير الصباح .. وصل الشرطي الى الحيّ الذي تعيش فيه والدة الصبي .. فأوقظه قائلاً :
- جون !! لقد وصلنا 
فاستفاق الصبي من نومه على الفور (من المقاعد الخلفية) وهو يكاد لا يصدّق ما سمعه ! 
- أحقاً ما تقول ! (ثم نظر الصبي نحو الشارع) .. آه نعم !! هذا حيّنا القديم بالفعل  
الشرطي : هل تذكّرته الآن ؟

- نعم تذكّرته حينما مررّنا بالقرب من الحديقة العامة التي كان يأخذني اليها والد امي يومياً عندما كنت صغيراً .. ياه !! كم اشتقت الى جدّي.. آه ! انظر هناك !! انها مدرستي الإبتدائية ..لا تدري كم انا متحمّسٌ لرؤية حبيبتي ليندا 
- بصراحة يا جون ..لم اخبرك بما حصل معي البارحة 
الصبي بقلق : وماذا حصل ؟!
- لقد تكلّمت مع والدتك .. وفي سياق حديثنا , سألتها عن صديقتك القديمة

بدهشة : أوجدت رقم امي ؟! 
- نعم 
- طيب ماذا أجابتك ..هل مازالوا أهل ليندا جيراناً لها ؟ 
- لا للأسف , لقد انتقلوا الى ولايةٍ جديدة .. لكن لا تحزن , لأنك ستنتقل مع امك الى هناك ايضاً
- لم افهم !
- ستفهم بعد قليل
***

وبعد ان مشوا قليلاً في شوارع المدينة .. صرخ الصبي فجأة بفرح !!
- هذا هو !! هذا هو بيت امي , عرفته من الأزهار التي في ساحته
- نعم صحيح , هذا هو العنوان
- ارجوك افتح لي الباب , اريد ان أراها
- انتظر قليلاً , ستكسر القفل يا جون

وما ان فتح له الباب الخلفي , حتى انطلق الصبي كالمجنون نحو باب منزله القديم .. وطرق عليه بكلتا يديه , صارخاً بحماس :
- امي !! افتحي الباب , انا جون !!!!

وقد شاهد الشرطي كيف استقبلته الأم بالأحضان والدموع , وهي تكاد لا تصدّق بأن ابنها الصغير أصبح شاباً يافعاً ! 

ثم اقترب منهما الشرطي , حين سمعها تعاتب ابنها ..
الأم : لقد اتصل بي والدك غاضباً , وأخبرني بما فعلته معه ؟!
ابنها : كنت مضّطراً يا امي , فهو لا يسمح لي برؤيتك او مكالمتك
وعندما رأت الشرطي , سألته :
- هل انت من تكلّمت معي البارحة ؟ 
الشرطي ادوارد : نعم , سيدتي 
الأم بقلق : وهل ستعتقل ابني ؟! 
فقال ابنها لها : لا يا امي , بل هو من أحضرني اليك
فقال الشرطي للأم : من الأفضل ان نتكلّم في الداخل
الأم : آه نعم .. تفضّل 
***

وبعد ان دخلوا المنزل ..اخبرها الشرطي بكل الموضوع ..
الأم : لا ادري كيف اشكرك سيدي .. لكن ألن تتعرّض للمساءلة من قِبل ادارتك , بسبب تهريبك لإبني ؟ 
الشرطي : لقد فعلت ذلك بكامل ارادتي , وانا مستعدّ لتحمّل كافة المسؤولية لوحدي .. المهم الآن ان تهربي مع ابنك قبل ان يصلوا اليكما 
جون بصدمة : أسيلحقوننا الى هنا ؟! 

ادوارد : طبعاً , انسيت ان والدك رفع شكوى ضدّك .. لكن لا تقلقا , فأنا لي صديق بالولاية القريبة من هنا , وهو سيساعدكما على الإستقرار هناك بعد تغير هويتكما 
جون : امي ...هو يقصد الولاية التي انتقلت اليها عائلة صديقتي ليندا 
الأم : آه فهمت , أظنّ ان قوانين تلك الولاية تراعي حقوق الأولاد والعائلة أفضل من ولايتنا هذه , اليس كذلك سيدي ؟
الشرطي : نعم , ولهذا عليكما الإسراع بترتيب اموركما , وانا سأحضر في المساء لآخذكما الى الحدود 

جون : وهل ستأتي معنا ؟
الشرطي : لا .. فبعد الإطمئنان عليكما , سأقوم بتسليم نفسي للمركز 
الصبي بحزن : لكني لا اريدك ان تُسّجن بسببي ! 
فيبتسم الشرطي : لن يسجونني يا جون , لا تقلق .. والآن سأذهب لأقوم باتصالتي لتسهيل اموركما في الخارج .. ارآكما في المساء 
***

وعلى الفور !! قامت الأم بترتيب اغراضها داخل شنطتها .. كما طلبت من والدها العجوز ان يشتري بعض الملابس لجون , ويأتي اليهما فوراً .. 

وفي المساء .. حضر الشرطي ادوارد لأخذهما , فقام الجدّ بشكره على تضحياته لإنقاذ عائلته .. 
ثم ودّعته ابنته (والدة الصبي) بعد ان سلّمته مفاتيح منزلها , قائلة :
- سأجد طريقة للإتصال بك يا ابي
وقام الحفيد بتقبيله وهو يبكي : سامحني يا جدي , فأنا لم أردّ توريطك بهذا الموضوع .. لكني اعدك بأن اصبح ولداً جيداً من اليوم فصاعداً 
الجدّ مبتسماً : ووعدك هذا يكفيني يا جون , انتبه على امك يا صغيري .. ولا تقلقوا بشأني , فأنا لن اخبر الشرطة بشيء .. بالسلامة يا أحبائي !! 
***

وعلى الحدود بين الولايتين .. إستلم صديق الشرطي ادوارد : الصبي جون وامه من نقطة التفتيش , بعد ان ادخلهما الى مدينتهما الجديدة بهويتين جديدتين , ومن دون ايةِ مشاكل ..
وبعد ان جلسا في سيارة الشرطي آدم .. اقترب من صديقه ادوارد وسأله بقلق : 
الشرطي آدم : انا لا افهم حتى الآن لما عرّضت سمعتك ومهنتك للخطر من أجل صبيٍّ لا تعرفه ؟! 
ادوارد مبتسماً : لي اسبابي يا صاحبي .. رجاءً انتبه عليهما .. اما انا.. (يتنهد بقلق).. فسأعود الآن الى المركز 
صديقه بحزن : امامك ايامٌ صعبة , كان الله في عونك يا صديقي ..

ثم ودّعا بعضهما عند الحدود .. وذهب كلاً منهما في طريقه (بولايتين مختلفتين)  
***

لكن الغريب في الموضوع ! وبالرغم ان والد الصبي (جون) أحضر محامياً بارعاً قام بتلقيب ادوارد : بالشرطي الفاسد والمُهمل في جميع مرافعاته التي استمرّت لأكثر من شهرين .. الاّ ان القاضي تفهّم اخيراً الدافع وراء مجازفة الشرطي (ادوارد) بمهنته .. فلم يحكم بسجنه , بل إكتفى بطرده من العمل دون حصوله على تعويض نهاية الخدمة ..

وبعد ان خرج الجميع من قاعة المحكمة , اقترب القاضي العجوز من ادوارد , وربت على كتفه قائلاً :
- معك حق يا ادوارد , فأحياناً علينا تطبيق العدالة بأنفسنا .. واعذرني لسحبي رخصتك , لأنني بالنهاية ملزمّ بتطبيق القانون .. لكن مع هذا , أبقى فخوراً بما فعلته , لأن حياة الصبي جون ستتغير للأفضل بسبب تضحيتك هذه .. أحسنت يا بنيّ 

فشكره الشرطي المعزول بدوره , والذي ذهب بعد انتهاء المحاكمة الى مركز الشرطة للمّلمة أغراضه , غير مُكترثٍ بنظرات رفقائه له , والتي تفاوتت بين الإستحقار والإستغراب ! لكن هذا لم يُضاهي شعوره بالفخر والإعتزاز بما فعله .. حيث قال لصورة ابنه الصغير , وهو يضعها بالصندوق : 

((اتدري يا مايكل انني أنقذت جون لأجلك , لأنني مدينٌ لك بذلك .. فأنا من تسبّبت في موتك وعجزت عن الإنتقام لك , ولهذا كان عليّ التصرّف بإيجابية هذه المرّة لإنقاذ ذلك المراهق .. (ثم يمسح دمعته) .. كما انني قرّرت السفر غداً لرؤية اختك وحفيدتي , فلا تردّد او خوف في حياتي بعد اليوم !! أعدك بذلك يا بنيّ .. يا فقيديّ الغالي))

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2017

البالونات السحرية

تأليف : امل شانوحة


لقد جمعنا القدر !

في عصر ذلك اليوم .. جلس رجلٌ عجوز في شرفته , يرتشف فنجان الشايّ الذي أعدّته له خادمته .. 
وكان شارد الذهن , حيث قال في نفسه بيأس :
- كل يومٍ كسابقه , لا جديد في حياتي .. (ثم تنهّد بحزن) .. يارب ! لما انا حيٌّ الى الآن ؟ لما لا تأخذني اليك لأرى زوجتي بعد ان سافر اولادي وتركوني وحيداً ؟! يا الهي ..لقد انهيت مهمّتي الدنيوية , فلما تبقيني في هذه الحياة الكئيبة ؟!

ثم عاد بذكرياته .. وتذكّر زوجته وهي تسقي الزرع في الشرفة , واولاده الصغار يلعبون من حولها .. 
فقال بحزن : اللهم لا إعتراض على حكمك .. لكني أتمنّى ان تُسخّر ما تبقّى من قوتي لفعل الخير .. 
وهنا أتت خادمته ومعها الصحيفة اليومية .. 
***

وبعد ساعة ..
وقبل ان يعود العجوز الى غرفته بعد انتهائه من قراءة الصحيفة , لاحظ بالوناً من الهيليوم يرتفع من الأسفل , ثم يعلق بقفص طائره (المعلّق بسقف الشُرفة) .. 

وعندما اقترب منه ..لاحظ ورقة معلّقة بذيل البالون , وكانت عبارة عن رسالة مكتوبة بخط طفلٍ صغير , قال فيها :
(( الهي !! ارجوك خذني اليك لأعيش مع امي .. فأنا لا اريد البقاء مع زوجة ابي , لأنها تضربني كثيراً .. وأعدك يا ربي بأن أكون فتاةً مطيعة في السماء))

فأطلّ العجوز الى أسفل عمارته , لكنه لم يرى أيّ طفلٍ في الشارع بعد ان قارب وقت غروب الشمس , فعرف بأن البالون إنطلق من أحدى الشقق التي تحت بيته ..

ولم يستطع العجوز النوم تلك الليلة , بعد ان إنشغل باله كثيراً بمشكلة هذه الطفلة المجهولة !
***  

وفي صباح اليوم التالي .. طلب العجوز من خادمته ان تنادي له البواب .. 
وبعد ان قدِمَ الى شقته , سأله :
- ابو علاء .. هل يوجد اطفالٌ في عمارتنا ؟
- بالطبع سيد احمد , هناك الكثير
- وكم طفل عندنا دون سن العاشرة تقريباً ؟
- لحظة دعني أفكّر....(وسكت قليلاً) .. أظن هناك 3 اطفال في العمارة .. فسكّان الطابق الرابع لديهم طفلان : أحدهما في سنته الأولى , والثاني اربع سنوات تقريباً
العجوز : وماذا عن الطفل الثالث ؟
البواب : هي بنت في الثامنة من عمرها , تعيش مع والدها وزوجته
العجوز بحماس : نعم , هذه هي !! 
البواب بقلق : ماذا تقصد ؟! 

- لا يهم , فقط إخبرني : ما اسمها , واين تسكن ؟
- اسمها لينا , وهي تسكن أسفل منك ..
- أتقصد في الشقة التي تحت بيتي ؟
- بالضبط .. لكن مالموضوع سيد أحمد ؟
- إخبرني اولاً ..هل صادف انك سمعت صراخ وبكاء هذه الصغيرة ؟ 
- نعم كثيراً .. حتى انني وجدتها مرة تجلس بحزن امام باب شقتهم .. وأعتقد انه في ذلك اليوم , قامت زوجة ابيها برميها الى الخارج  
العجوز بضيق : ألم يحاول أحداً من الجيران مساعدتها ؟!

- لا , لأن زوجة ابيها امرأة سيئة الطباع , وجميع من في المبنى يتجنّبها قدر المستطاع .. الم تسمع صراخ السيدة قبل ايام ؟
- أكانت هي ؟!
- نعم , ومن غيرها .. فهي اسوء شخص في العمارة كلّها , ولا ادري كيف يتحمّلها زوجها .. كان الله في عونه !
- وماذا عن والدة الطفلة , كيف كانت ؟
- كانت رائعة وطيبة والجميع يحبها .. رحمها الله 
- حسناً يمكنك الذهاب يا ابو علاء .. وشكراً لك

وظلّ العجوز طوال الليل يجمع المعلومات حول الطفلة لينا , بعد ان علِمَ بأن ابنة صديقه تعمل معلمة في مدرستها , والتي أكّدت للعجوز : بأنها لاحظت أكثر من مرّة آثار الضرب على جسمها .. هذا عدا عن نفسية الطفلة المتعبة من محاولة إخفاء مأساتها عن الجميع حتى عن والدها , ربما خوفاً من تهديدات زوجة ابيها لها , في حال عرِفَ أحدٌ بالموضوع !
*** 

وبعد اسبوع .. اراد العجوز ان يتمشّى لوحده حول المبنى ليحرّك عضلاته , بعد ان وعد خادمته بأن لا يبتعد كثيراً عن المكان .. 

وبعد ساعة .. عاد الى المبنى ودخل المصعد وهو يتكأ على عصاه , فأوقفته الطفلة لينا التي عادت من مدرستها :
- توقف يا عمّ !! اريد ان أصعد معك
- تعالي يا ابنتي
وبعد ان دخلت معه المصعد , سألها :
- هل انت لينا ؟
- وكيف عرفت اسمي يا عم ؟!

وكان على وشك ان يُخبرها برسالة البالون التي قرأها , الاّ ان الكهرباء إنقطعت فجأة ! ليعلق المصعد بهما .. 
فصرخت البنت بفزع !!! 
وحاول العجوز تهدأتها بعد ان أضاء نور جواله , قائلاً :
- لا تخافي يا لينا , سيُصلحه البواب بعد قليل ..اهدأي قليلاً
وهي مازالت تبكي : انا أخاف كثيراً من الظلام يا عمّ

ففاجئها بسؤاله :
- وهل زوجة ابيك تحبسك في غرفةٍ مظلمة ؟
البنت بدهشة : وكيف عرفت ذلك ؟! فأنا لم أخبر احداً بالأمر !
- لقد أخبرتني العصفورة وقالت لي : بأنك حزينة جداً بسبب قساوتها معك , فهل هذا صحيح ؟
فأجابته بحزن : هي لا تحبني , لأنني لست ابنتها 
- ولما لم تخبري والدك بالأمر ؟
- أخبرته سابقاً لكنه لا يصدّقني , وقال : بأن عليّ إطاعة اوامرها لأنها في مقام امي .. (ثم تسكت قليلاً) .. لكنها في العادة لا تضربني الا بعد سفره  
- وكم مرة يسافر والدك ؟ 
- مرة كل اسبوعين , وعادةً يغيب عنّا يوم الى اربعة ايام .. وهي تعاقبني دائماً في غيابه , حتى دون إرتكابي ايّ ذنب !  
- وماذا تفعل بالضبط ؟

فتنهّدت الطفلة بحزن , ثم قالت : تحبسني في الحمام بعد ان تُطفأ عليّ النور , فمكبس الإضاءة من الخارج , وأجلس هناك في الظلام لساعاتٍ طويلة .. وأحياناً تُمزّق كتبي , او ترمي الألعاب التي يُحضرها لي ابي من السفر .. هذا عدا عن الضرب والقرص وخربشة اظافرها في جسمي , فهي تتعمّد ان لا تجرح وجهي كي لا يلاحظ ابي ذلك .. لكن ما يحزن قلبي هو عندما تشتم امي المرحومة .. فأسوء يوم في حياتي : كان حينما مزّقت كل صوري القديمة  
ثم بكت الصغيرة قائلة : لم يعدّ لديّ ايّةِ صورة لأمي المرحومة , وانا خائفة كثيراً ان أنسى شكلها ! 

فربت العجوز على كتف الطفلة , وهو يشعر بالغضب الشديد اتجاه تلك المرأة الشريرة التي تحاول وبكل الطرق تدمير نفسيّة الصغيرة!

لكن فجأة ! أتته فكرةً غريبة , فسأل الصغيرة : أتذكرين اين كانت امك تتصوّر ؟
فأجابته بحزن : آخر صورة تصوّرتها معها , كانت قبل ان تدخل المستشفى منذ سنتين .. ومن ثم ماتت هناك 
- رحمها الله .. المهم إخبريني .. بأيّ محل تصوّرتما فيه ؟
- المحل الذي بآخر الشارع .. 
- نعم عرفته ..
- لما تسأل يا عم ؟

وهنا !! عاد المصعد الى العمل .. فخرجت الفتاة سريعاً بعد ان وصلت الى بيتها , حيث استقبلتها زوجة والدها على الباب بوجهٍ عابس , وقد لمحها العجوز الذي أكمل طريقه الى بيته (الذي فوقهم) وهو يقول في نفسه :
((عليّ فعل شيء لأنقاذ لينا من تلك اللعينة !!))
***

وبعد ايام .. شاهد العجوز لينا ترسم في شُرفة غرفتها (فهندسة العمارة تسمح لكل شقة برؤية نصف شُرفة الشقة التي تحتها) وفي نفس الوقت شاهد زوجة والدها تخرج من العمارة نحو الشارع , تاركةً الصغيرة لوحدها بالشقة , حيث كان البواب أخبره هذا الصباح : بأن والد الصغيرة سيغيب طوال الأسبوع القادم في رحلة عمل !
***

ولكم تفاجأت لينا بالبالون (العادي) الذي سقط فجأة في شرفتها بعد ان أثقله الكيس المعلّق به , والذي إمتلأ بالحلويات اللذيذة ! هذا عدا عن الرسالة المهمّة التي كانت بداخله .. والتي فيها : 

((حبيبتي لينا .. انا والدتك .. لقد وصلتني رسالتك , وحزنت كثيراً .. فأنا لا اريد لصغيرتي ان تفكّر بالموت ..صحيح انني بالجنة , واشتاق اليك كل يوم .. لكني مع هذا لا اريدك ان تأتي اليّ الا بعد ان تصبحي امرأةً عجوز ..اما الآن فأحتاج منك ان تنتبهي على والدك .. اما زوجته : فأنا سأعاقبها على طريقتي , لا تقلقي بشأنها .. فقط إهتمي بدراستك ..وان كنت تحبيني فعلاً , فلا تبكين بعد اليوم مهما كانت الأسباب ..عديني بذلك حبيبتي .. 
ملاحظة : 
ارسلت لك صورتنا معاً كيّ تحتفظي بها , ولا تدعي تلك الشريرة تراها .. كما ارسلت لك بعض الحلوى , أتمنى ان تعجبك ... 
توقيع : 
امك التي ترعاك وتحرسك من السماء))

ففرحت الفتاة كثيراً بالرسالة والصورة !!! 
وقد شاهدها العجوز وخادمته (من فوق , خلف الستار) وهي تقفز بفرحٍ وسعادة , وتضحك من قلبها كما لم تفعل منذ وقتٍ طويل 

فابتسم العجوز : ارأيتي كيف فرحت بصورة امها المتوفاة ؟ 
الخادمة : جيد ان صاحب محل التصوير قَبِلَ بإعطائك نسخة من صوره القديمة 
- لقد أخبرته بأنني جدّ لينا , وهو صدّق كلامي .. المهم الآن !! ان خطتنا نجحت والحمد الله 
الخادمة : ليس بعد
- ماذا تقصدين ؟!
- ستعرف بعد قليل
***

وقبيل غروب الشمس .. سمع العجوز صراخاً قادماً من الأسفل ..ثم رأى خادمته تأتي فرِحة من الخارج..
العجوز : ماذا حصل ؟!
وبإبتسامةٍ عريضة تعلو وجه الخادمة , أجابته بحماس : اظنّ ان زوجة والد لينا كسرت يدها للتوّ !! فقد رأيت جارنا وهو يأخذها الى المستشفى 
- ولما انت سعيدة هكذا ؟!
- الم يخبرك البواب ان المصعد معطل لهذا اليوم ؟ 
- نعم
- لهذا أسرعت بوضع الزيت فوق الدرج الموصل الى بيتها 
بدهشة وغضب : ماذا ! لما فعلتي ذلك ؟!!

الخادمة : الم تكتب في رسالتك للطفلة : بأن امها ستعاقب زوجة والدها على طريقتها ؟ ففعلت ذلك , كيّ تتأكد الطفلة بأن امها تحرسها بالفعل  
العجوز بعصبية : يا مجنونة ! إذهبي فوراً واغسلي مكان الزيت قبل ان تعود الشريرة وتظنّ بأن لينا هي من قامت بذلك , فتعاقبها بقسوة 
- آه ! لم افكّر في هذا .. حسناً سأذهب لأخفي الدليل حالاً
- ولا تتركي ايّ أثر ..مفهوم !!  

وبعد ان ذهبت الخادمة , حاملةً الممسحة وبعض المنظفات ..قال العجوز في نفسه (بعد ان هدأ قليلاً) :
- من يدري ؟ لربما كسر يد الملعونة يمنعها من ضرب الصغيرة .. (ثم يبتسم قائلاً) .. يالا خادمتي المجنونة !
***

وبالفعل !! لم تستطع السيدة إثبات الجرم على الطفلة او البواب بعد ان رأت الدرج سليماً لا يشكو من ايّ كسر , او ان به مادة زالقة كما إدّعت مُسبقاً  

كما ان الخادمة كانت على حق , لأن العجوز التقى بالطفلة في اليوم التالي عند باب العمارة وكانت السعادة واضحة عليها , حيث بدتّ نفسيتها مُتحسّنة بشكلٍ ملحوظ ! وكيف لا ؟ بعد ان تأكّدت بنفسها بأن فحوى الرسالة صحيح , وبأن امها ستكون ملاكها الحارس للأبد
***

وعلى مدى اسابيعٍ طويلة .. ظلّ العجوز وخادمته يرسلان بعض الحلوى والألعاب بالبالونات (العادية) لتسقط في شرفة غرفة الطفلة , ولهذا لم يلاحظ والدها او زوجته تلك الرسائل التي كانت تخبئُها في صندوقها الزهريّ الصغير لتقرأها من وقتٍ لآخر .. ومن وقتها , لم تعدّ مضايقات زوجة والدها تؤذيها.. وقد لاحظت الملعونة ذلك , لكنها لم تفهم السبب !
***

وفي إحدى الليالي .. استيقظ العجوز في منتصف الليل .. فقرّر الجلوس في شرفته ومراقبة الشارع الذي خلا من المارّة الاّ من بعض السيارات .. 

وبعد دقائق .. شاهد شيئاً فاجئه ! حيث رأى تلك المرأة بثيابها الفاضحة تصعد الى سيارة يقودها شابٌ صغير !
كان من الممكن ان يكون مشهداً عادياً .. لكن العجوز يعلم بأن والد الطفلة خارج البلد , كما ان الوقت تعدّى الواحدة مساءً .. والأهم من ذلك هي الطريقة المشبوهة التي حضنت فيها الشاب .. 

فتمّتم العجوز في نفسه قائلاً : 
((وأخيراً وقعت في يديّ ايتها الخائنة .. الآن اصبح لديّ دليل يُخلّص لينا ووالدها من شرّك للأبد .. (ثم فكّر قليلاً) .. المهم الآن !! ان أبقى مستيقظاً الى حين عودتها , كيّ أصوّرها بالجوال .. فهي حتماً ستعود قبل شروق الشمس , حتى لا يلاحظ الجيران غيابها طوال الليل))
*** 

ومرّت الساعتين والنصف ببطءٍ شديد , كان يقاوم فيهم العجوز رغبته في النوم .. 

لكن ما ان عادت تلك السيارة المجهولة .. حتى أسرع العجوز بتصوير لحظة إحتضانها لعشيقها بشوقٍ كبير .. ثم نزلت من سيارته وهي تترنّح في سكرٍ واضح , أثناء دخولها العمارة ..
فقال العجوز في نفسه مُحتاراً :
((والآن لم يبقى سوى إيجاد الطريقة لتوصيل هذا الفيديو الفاضح الى يد زوجها.. لكن كيف ؟)) 
***

الاّ ان العجوز تردّد كثيراً بعد عودة والد لينا من سفره , فهو بالنهاية لا يرغب في خراب بيت الرجل ! 

وقد لاحظت خادمته توتّره على مدار ايام .. وبعد اصرارٍ منها لمعرفة السبب , أخبرها بما صوّره تلك الليلة..
الخادمة بارتياح : ممتاز !! اذاً إنقل لي الفيديو على جوالي , وانا أريه لجارنا
بعصبية : لا طبعاً !! 
- حرامٌ عليك سيد أحمد ! فالملعونة تخونه , ومن واجبك إنقاذه 
- لكن الله أمرنا بالستر 
- الا تفكّر بالصغيرة لينا ؟ هل ترضى بأن تربّيها هذه المرأة الفاسقة ؟ الا تخاف أن تُفسد اخلاقها حينما تكبر ؟

العجوز : طيب في حال طلّق زوجته , فمن سيبقى مع الصغيرة عندما يسافر والدها ؟
الخادمة بحماس : تبقى معنا !! لا أظنّ ان والدها سيرفض مثل هذا العرض.. هيا رجاءً إعطني الفيديو , وانا سأقوم بالأمر 
فيسكت قليلاً ثم يقول : لا , ليس الآن ..
ثم يدخل غرفته وهو يفكّر بطريقة لحلّ هذه المشكلة ..
***

وبعدها بإسبوعين .. دخلت الخادمة بيت السيد احمد ومعها الطفلة لينا .. وبعد ان وضعت لها الغداء في المطبخ .. دخلت غرفة العجوز وأخبرته بأنها وجدت الطفلة جالسة امام باب شقتها , لأن زوجة والدها غارقة في النوم , لهذا لم تسمع جرس الباب ..
العجوز بغضب : طبعاً ستكون نائمة , فهي تقضي الليل كلّه مع عشيقها
الخادمة : والآن !! أمازلت تصرّ على عدم فضح الملعونة , وتخليص الصغيرة من هذا العذاب ؟
فسكت العجوز مُحتاراً , فقالت له الخادمة بعصبية :
- ارجوك جدّ حلاً سريعاً لهذا الموضوع , أو سأفعل انا !!
***

وعندما حلّ العصر .. نزلت الصغيرة برفقة العجوز الى بيتها , لكنه صادف والدها هناك ومعه شنطته (بعد ان عاد من سفره) ..فأخبره العجوز بأن ابنته تغدّت عندهم .. فشكره الأب على كرمه 

لكن مشهد الزوجة الخائنة وهي تستقبل والد لينا بالأحضان , إستفزّ العجوز كثيراً .. وحينها فقط !! قرّر فضح الموضوع الذي أخفاه لأسابيع
***

في المساء .. إشترى العجوز رقم جوالٍ جديد , وأرسل منه فيديو الخيانة الى جوّال والد لينا , بعدما إستطاعت الخادمة أخذ رقمه من ابنته ..

وماهي الا دقائقٍ معدودة حتى اشتعل شجارٌ عنيف بين الزوجين , سمعه سكّان العمارة بأكملها .. 
كما شاهدها الجميع وهي تهرب باكية الى خارج المبنى .. 

وهنا ربتتّ الخادمة على كتف العجوز , قائلةً بابتسامة : 
- كنت أعرف إنك ستفعل الصواب
لكن العجوز شعر بندمٍ شديد ! 
وظلّ لأيامٍ طويلة يُعاتب نفسه على تدميره عائلة لينا 
***

وبعدها بإسبوع , وفي الصباح الباكر .. التقى صدفةً بوالد لينا عند المصعد 
العجوز : مابك ؟ أراك مهموماً يا ولدي ؟  
والد لينا بقهر : أتدري يا عمّ ..رغم انني مازلت حزيناً على تلك الفضيحة , لكني اتمنى ان اعرف الشخص الذي فضح طليقتي كيّ أشكره بنفسي 
العجوز بدهشة  : أحقاً ! 
الرجل : طبعاً , فهو أنقذني من تلك الملعونة .. كما أخبرتني نّسوة العمارة لاحقاً بأنها كانت تضرب ابنتي دائماً ! ووالله لوّ كنت اعرف هذا , لطلّقتها على الفور , فوالدتها المرحومة أوصتني بها

وهنا شعر العجوز بارتياحٍ شديد .. ثم قال له : 
- أعرف انك تسافر من وقتٍ لآخر..
الرجل مقاطعاً : لا أظنني سأسافر بعد اليوم , وسأحاول إيجاد وظيفةٌ أخرى
- لا , لا تفعل .. إسمعني يا بنيّ .. انا اعيش وحدي مع خادمتي , فأبنائي تزوجوا وسافروا الى الخارج , ولديّ الكثير من وقت الفراغ ومستعد انا وخادمتي ان نهتم بإبنتك طوال فترة غيابك ..ما رأيك ؟ 
- الن يتعبك وجود الصغيرة في بيتك ؟ 

- بالعكس تماماً , ستونّس وحدتي ..وسأعاملها كإحدى حفيداتي
الرجل بارتياح : والله لا تدري يا عمّ كم أرحتني بإقتراحك هذا
- ومتى كنت تنوي السفر ؟
- غداً صباحاً , ولأربعة ايامٍ متتابعة 
العجوز : اذاً احضرها الينا اليوم مساءً , مع حقيبة دراستها وبعض الغيارات .. ونحن سنعتني بها جيداً , لا تقلق ابداً 

الرجل : سأخبر لينا بالأمر بعد عودتي من العمل 
العجوز : وهل هي في المدرسة الآن ؟ 
- لا في البيت , فاليوم لديها عطلة .. لكنني حذّرتها أن لا تفتح الباب في غيابي 
- آه فهمت 
***

وعلى الفور !! طلب العجوز من خادمته (بعد عودته الى منزله) ان تنزل الى البقالة , وتحضر له بعض الحلوى مع بالونٍ عادي .. 

ثم قاموا بالخطة نفسها : وأرسلوا كيس الحلوى المربوط بذيل البالون الى شرفتها , ثم راقبوا الصغيرة (من فوق) وهي تقرأ الرسالة التي كان فيها : 

((هذه رسالتي العاشرة لك يا ابنتي .. وانا سعيدة لأنني إستطعت إبعاد المرأة الشريرة عنك , لكن بنفس الوقت اريد ان اطمئن عليك .. ولهذا طلبت (بطريقتي الخاصة) من جاركم العجوز الطيب الذي يسكن فوقكم بأن يهتم بك طوال فترة غياب والدك .. لذا رجاءً ابنتي ..عامليه باحترام وكأنه جدك .. وهو سيحبك ايضاً كأنك حفيدته .. وانا سأراقبكما من فوق 
التوقيع : 
امك التي سترعاك طوال حياتك .. وقبلة شوق كبيرة مني , أرسلها لك من السماء .. يا حبيبتي لينا)) 
***

وفي المساء .. تفاجأ الأب بقبول لينا البقاء مع الجيران طوال فترة غيابه دون ايّ اعتراضٍ منها ! بل حتى انها حزمت أمتعتها وسبقته الى فوق بحماسٍ شديد , وسط استغراب الوالد !
***

ولسنواتٍ طويلة , والى يوم تخرّجها من الجامعة .. عاشت لينا مع العجوز وكأنه جدّها بالفعل .. بل انه أصرّ على حضور زفافها (برفقة خادمته المخلصة) رغم مرضه الشديد .. 

وبعد ان شاهدها تُزفّ الى عريسها , قال لخادمته (التي كبرت في السن ايضاً) : 
- الآن انهيت مهمّتي في هذه الدنيا , وانا مستعدٌ للحاق بزوجتي
فقالت له الخادمة : أطال الله في عمرك يا ابو احمد , لقد قمت بواجبك اتجاه لينا على أحسن وجه
***  

وبعدها بشهرين .. زارته لينا وعريسها في المستشفى , والتقت هناك بأولاده الذين عادوا من الخارج لرؤيته ..

وظلّت تزوره من وقتٍ لآخر , حتى توفّاه الله 
***

وبعد انتهاء أيام العزاء .. زارتها الخادمة في بيتها الجديد (في الوقت الذي كان زوج لينا في عمله) وأعطتها رسالة العجوز الأخيرة , التي قال فيها : عن كل ما فعله لأجلها , وكيف خلّصها من زوجة ابيها , كما أخبرها بسرّ البالونات السحرية التي كانت تقع فجأة في شرفتها 

وبعد ان انتهت لينا من قراءة رسالته , ابتسمت قائلة :
-   كنت اعرف ان له يدّاً في الموضوع .. آه يا جديّ الماكر

وبعد توديعها للخادمة .. وضعت رسالة العجوز الأخيرة في صندوقها الصغير الزهريّ الذي امتلأ برسائل امها الوهمية .. 
***

ثم ذهبت لينا الى الحديقة العامة واشترت مجموعة من بالونات الهيليوم , وكتبت رسالتها الأخيرة للعجوز , قالت فيها :

((شكراً لأنك كنت ملاكي الحارس .. وحينما ترى والدتي إخبرها : بأن ابنتها أصبحت بخير , بفضل حكمتك وحنانك .. 
في رعاية الله وحفظه يا جدي الغالي))

ثم أطلقت البالونات نحو السماء , مع هذه الرسالة التي كان عنوانها:  
((الى إحبّائي في الجنة))

الخميس، 2 نوفمبر 2017

رجل الكهف الغامض

تأليف : امل شانوحة


من هناك في الداخل ؟!

كان جيم قد إعتاد على مضايقات المتنمّرين له , والتي رافقته طوال سنوات دراسته بسبب شعره الأصهب .. لكن الأمر زاد عن حدّه بعد  رحلته مع الكشّافة المدرسية (للمرحلة الثانوية) في عطلة الربيع , حيث كان من المفترض ان يخيّموا التلاميذ لثلاثة ايامٍ في البرّية .. لكن بعض المتنمّرين إستغلّوا إنشغال الأستاذة (المسؤولين عن الرحلة) بمساعدة الطلاّب في نصب خيامهم لمضايقة جيم بكافة الطرق : حيث مزّقوا خيمته التي جمع ثمنها من مصروفه طوال السنة بسبب فقر والده , كما انهم وضعوا التراب داخل طعامه الذي أعدّه بنفسه , لأن إمه توفيت منذ ان كان في العاشرة من عمره , ومن حينها يعيش وحده مع والده المنشغل دائماً بعمله .. ولم يكفيهم كل هذا , بل صاروا ينادونه باللقب الذي يكره كثيراً وهو الأصهب الفاشل مع ضحك بقيّة الطلاب عليه .. ممّا جعله يحمل حقيبته على ظهره وينسحب من المخيّم بعد ان انشغل الجميع بتناول عشائهم .. والمحزن ان لا احد منهم انتبه على غيابه , الا بعد ساعاتٍ طويلة من تلك الليلة التي غيّرت حياته للأبد !

وقد مشى جيم طويلاً متوغّلاً اكثر واكثر داخل الغابة التي أصبحت موحشة مع غياب الشمس , لكن الغضب الذي كان يشتعل في قلبه جعله  يرغب في الإبتعاد قدر المستطاع عن أولئك الحمقى المتنمّرين الذين جعلوا حياته أكثر سوءاً .. 

ولم يعيّ جيم بأنه ضلّ الطريق , الاّ بعد ان وصل قرب جبلٍ موجود بآخر الغابة .. فأضاء مصباحه وبدأ يلوّح به في الهواء , صارخاً بقلق :
- هاى !!! هل يسمعني احد ؟ انا هنا قرب الجبل !! 

وظلّ بهذا الوضع المزري لساعتين ممّا أضعف نور مصباحه , فقرّر ان يتناول شيئاً من بعض طعامه الذي سلَمَ من يدّ المتنمّرين 

وبعد ان تناول لقمتين من سندويشته , لاحظ نوراً يشعّ من فوقه .. فرفع نظره للأعلى ليشاهد شعلة من النار تدخل الى داخل الجبل , فعرف ان هناك شخص يعيش داخل كهفٍ ما موجود بأعلى الجبل  
فصرخ بعلوّ صوته :
- انت هناك , أتسمعني ؟!! ساعدني رجاءً , لقد أضعت الطريق !! 

وعندها لاحظ نوراً قويّاً يشعّ من داخل الكهف , حيث أصبحت كالمنارةً تُضيء له خطواته باتجاهها ! 
وبعد ان تسلّق بحذر الى فوق .. وقف قرب فتحة الكهف , وصار ينادي من جديد :
- هل يوجد احدٌ هنا ؟!!
فسمع صوت رجلٍ من الداخل يقول له :
- تعال اليّ !!

فدخل جيم بخطواتٍ حذرة , ليجد رجلاً عجوز يجلس قرب موقد النار ..
وقد لاحظ العجوز على الفور نظرات جيم الخائفة والمرتبكة , فرفع اليه كوباً وهو يقول له :
- إشرب هذه كيّ تُدفئك بهذا الجوّ البارد
فاستلم منه الكوب الفخاري وجلس قرب النار .. وبعد ان رشف جيم قليلاً قال له :
- يا الهي ! هذا أطيب شايّ ذقته في حياتي
- هذا ليس شايّاً بل اعشابٍ غليّتها لتُعطي مذاقاً أشبه بالشايّ , لكنها صحيّة أكثر

وبعد ان أنهى كوبه , سأله بتردّد : 
- هل يمكنني سؤالك يا عم , فهناك شيءٌ يُحيّرني ؟
- أتريد ان تسألني عن سبب وجودي هنا بمفردي ؟
- نعم بالضبط
- لقد أتيت الى هنا لأرى امي
وقد فاجأه جوابه ! فالعجوز يبدو وكأنه في التسعين من عمره , فهل معقول ان امه مازالت حيّة !
وبعد ان لاحظ العجوز نظرات الدهشة في عينيّ جيم , قال مبتسماً: 
- لقد اتيت الى هنا اول مرة عندما كنت في مثل عمرك
- يا الهي ! وهل عشت هنا وحدك طوال هذه السنوات ؟!
- ليس تماماً , فأنا آتي الى هنا من فترةٍ لأخرى .. وبالرغم من مشقّة الطريق الا انني مستعد لفعل المستحيل لأجل امي .. وأظنك ستفعل الشيء ذاته لرؤية امك المتوفاة , اليس كذلك ؟

فسرت قشعريرة الخوف في جسد جيم , فكيف للعجوز أن يعرف بأن امه متوفاة ! 
وقبل ان يقف جيم ليهرب من هذا المكان المخيف , أوقفه العجوز قائلاً : 
- أعرف ان كلامي أخافك .. (ثم تنهّد قليلاً) .. وأظنني مستعد  لأخبرك بسرّي الذي أخفيته عن الجميع ولسنواتٍ طويلة , لكن عندي شرط !! هو ان تعدني بأن لا يعرف أحد بالأمر , والاّ سيختفي سحر هذا الكهف للأبد .. وقبل ان تسألني عن قصدي , سأخبرك بقصتي منذ البداية 

ثم عدّل العجوز جلسته .. وسكت قليلاً وكأنه يحاول تذكّر الماضي , ثم قال: 
- اولاً أعرّفك بنفسي .. اسمي جيم
فقاطعه الشاب : وانا إسمي جيم ايضاً !  
العجوز مبتسماً : أعرف هذا .. وارجوك لا تقاطعني ثانيةً .. (ثم سكت قليلاً) ..كنت قد عانيت طيلة حياتي من أذى المتنمّرين ..وقبل ان تقول شيئاً , أعرف انها نفس معاناتك , ويبدو ان شعرنا الأحمر يجلب الينا المتاعب ! ..(ثم يتنهد بضيق)..او بالأصح نحن من تسبّبنا بذلك لأنفسنا , لأنه في نهاية الأمر , الناس ستتعامل معك كما سمحت لهم أن يعاملوك 
فطأطأ الشاب رأسه بحزن : كلامك صحيح يا عمّ

ثم اكمل العجوز قصته قائلاً :
- وفي أحد الأيام .. لم أعدّ قادراً على تحمّل مضايقاتهم لي , ومشيت غاضباً وشارد الذهن في هذه الغابة , حتى وصلت الى هنا .. ووجدت بداخل الكهف إمراة عجوز , أخبرتني عن ممرّ الكهف السحري ..
الشاب مقاطعاً وبحماس : وأين هو ؟!

- سأدلّك عليه بعد قليل .. المهم انها قالت لي : بأن من يمرّ من خلاله يمكنه ملاقاة أقاربه المتوفيين 
بدهشة : وكيف هذا ؟!
- الم تسمع من قبل بالبعد الزماني ؟
- نعم فقد قال بعض علماء الطاقة : بأن هناك اماكنٌ على الأرض تأخذك الى بعدٍ زماني مختلف , سواءً نحو الماضي او المستقبل
- وكلامهم صحيحٌ تماماً 
بحماس : أحقاً !

- نعم والممرّ السرّي داخل هذا الكهف هو إحدى المعابر باتجاه الماضي ..وحين تدخل به , تعود ولداً صغيراً .. يعني ستعيش في الزمان الذي كانت ماتزال فيه امك حيّة .. وقبل ان تتحمّس اريد إخبارك بأن هذا المعبر يُفتح ليومٍ واحدٍ كل عشر سنوات .. وانا أتيت البارحة الى هنا لأرى امي التي لم أرها مند السنوات العشر الأخيرة , لأنني جرّبت هذا الممرّ لسبع مراتٍ حتى الآن .. يعني عشت سبعة ايامٍ فقط مع المرحومة امي 
- طيب ومتى سيُفتح هذا الممرّ ؟
فنظر العجوز الى ساعته القديمة ثم قال :
- بعد قليل

بحماس : أحقاً يا عمّ !! .. اذاً اريد ان أدخل معك لأرى امي , فقد اشتقت اليها كثيراً
- حسناً ستراها .. لكن عليك الخروج ثانيةً من نفس الممرّ بعد انتهاء الليلة , والاّ علقت في زمن الماضي للأبد
- وما المشكلة اذا علقتُ مع امي , على الأقل يبقى أفضل من حاضري المُتعب
- وهذا ما فعلته المرأة العجوز بآخر مرة رأيتها فيها , حيث قالت لي : بأن عمرها تجاوز المئة ولم تعدّ ترغب بالمعاناة من أمراضها , لهذا قرّرت ان تعيش مع اهلها في زمن الماضي للأبد
الشاب : وهذا ما سأفعله انا ايضاً !!
العجوز بحزم : ايّاك يا بنيّ !! لأن الأحداث ستتكرّر هي نفسها دون ايّ تغير 
- أتقصد انني سأعيش مع امي نفس الأحداث التي مرّت في حياتي ! الا استطيع تغيرها ؟

- لا احد يستطيع تغير ذكرياته القديمة .. والأسوء من ذلك انك ستعيش تلك اللحظات بعقلك الحالي , لكن تصرّفاتك ستبقى تصرّفات ولدٍ صغير .. سأعطيك مثالاً كيّ تفهمني أكثر : عندما تنتقل الى الماضي سيتكرّر يوماً واحداً كنت عشته مُسبقاً مع امك سواءً كان حادثةً سعيدة او تعيسة , يعني انت وحظك ..فمثلاً انا عشت في محاولاتي السبع الماضية , اليوم اللعين ذاته .. وهو يوم عيد ميلادي الذي أقامته لي والدتي .. ففي بدايته كان يوماً جميلاً .. لكن في المساء , يأتي والدي غاضباً من السفر بسبب المصاريف التي دفعتها امي ثمناً للزينة والهدايا .. وحين أدافع عنها , أنالُ منه عقاباً قاسياً ! ودائماً ما ينتهي ذلك اليوم ببكائي وحيداً في فراشي .. وبآخر الليل يظهر نورٌ من جدار غرفتي , فأدخل فيه لأعود رجلاً كبيراً داخل هذا الكهف 

- طيب طالما تتكرّر معك نفس الحادثة المؤلمة , فلما تصرّ على العودة للماضي من جديد ؟
- لأنه يكفيني ان أحتفل مع امي ثلاثة ساعاتٍ متواصلة , وبأن أتذوق كعكتها اللذيذة , والعب معها بالدمى التي أحضرتها لي .. ولأجل هذه اللحظات الجميلة , مُستعد لأن أكرّر هذه التجربة آلاف المرات 
- طيب وماذا كنت تفعل بعد عودتك من الماضي ؟
فأجابه العجوز بحزن : أخرج من الكهف لأعود الى بيتي الكئيب , لكن الأسوء هو ما كان يحصل في غيابي 
الشاب باهتمام : وماذا كان يحدث لك ؟! 
- كانت تضيع سنة كاملة من عمري في عملية التنقّل بين الماضي والحاضر 
- كيف ! الم تقلّ انها ليلةٌ واحدة فقط ؟

- نعم , لكن فارق الزمن يجعلك تخسر اياماً كثيرة من حياتك .. وعندما كنت اعود الى عائلتي بعد انتهاء التجربة , أجد بأن ابنائي الصغار كبروا سنة من دوني .. وفي المرة الرابعة لغيابي , قامت زوجتي بتطليقي في المحكمة .. وفي المرة الخامسة , قامت الملعونة بحرماني من رؤية ابنائي للأبد بعد انتقالها معهم الى منطقةٍ اخرى , والى اليوم لا اعرف الى اين ذهبوا ! 
- طيب لما لم تُخبر زوجتك بسرّك , بدل ان تخسر كل عائلتك؟ 
العجوز بحزم : قلت لك في بداية حديثنا : بأنه ممنوع ان يعرف احد بهذا الأمر !! والاّ تغير مكان الممرّ السرّي الى مكانٍ آخر مجهول .. هل تفهمني ؟
فأومأ الشاب برأسه موافقاً ..

ثم تنّهد العجوز بضيق قائلاً :
- لقد قمت بحفظ هذا السرّ كما وعدت المرأة العجوز لسبعين سنة .. لكن الأمر لم يعدّ يهمّني كثيراً الآن 
- ماذا تقصد ؟!
- أقصد بما انني نقلت السرّ اليك , فيمكنني العيش بالماضي للأبد .. فجسمي لم يعدّ قادراً على تسلّق الجبل , لهذا ستكون هذه تجربتي الأخيرة , ولوّ إضّطررت لإكمال حياتي وانا اضرب يومياً من والدي  
- وما يدريك يا عمّ ..لربما حين تقرّر البقاء في الماضي , تعيش أياماً مختلفة عن تلك الذكرى التي عشتها مراراً وتكراراً 
- أتمنى ذلك حقاً ... (ثم قال بحماس) .. آها !! أنظر هناك  

وهنا شاهد جيم نوراً قادماً من داخل الكهف المظلم .. 
فقال بدهشة : هل حان الوقت يا عمّ ؟! 
العجوز بسعادة : نعم لقد فُتح الممرّ السرّي أخيراً .. هل ستأتي معي ؟
فأجابه الشاب بحماس : بالطبع !! فأنا أتلهّف لرؤية امي 
- اذاً هيا بنا
ثم اتكأ العجوز على الشاب , وعبرا سويّاً النفق السرّي ..

لكن ما ان فتح جيم عيناه , حتى وجد نفسه داخل صالة بيته وامامه كعكة عيد ميلاده الخامس , وبيته مزيناً بالبالونات !
فقال في نفسه بقلق : ما هذا ! لما أعيش ماضي العجوز ؟!
وهنا قدمت سيدة من المطبخ , تحمل اكواب العصير .. وهي تقول له : 
- لا تحزن يا جيم .. صحيح ان طائرة والدك تأخرت قليلاً , لكنه أخبرني بأنه سيحاول الحضور في أقرب وقتٍ ممكن .. والى ذلك الحين , سنحتفل انا وانت طوال اليوم يا صغيري الغالي  
وقد صُعق جيم كثيراً حين تعرّف على تلك السيدة , التي لم تكن سوى امه المتوفاة ! 

وعلى الفور !! ركض اليها , ليحضنها بشوقٍ كبير وهو منهارٌ بالبكاء.. 
- جيم عزيزي ! كنت تُسقط العصير من يدي .. ارجوك لا تبكي , هيا دعني أُضيء لك شموع كعكتك 

وبعد ثلاث ساعاتٍ من الإحتفال الرائع مع امه , وبينما هو في قمّة سعادته دخل والده الى البيت يجرّ حقيبة سفره .. وقد تفاجأ جيم كثيراً برؤية والده في سن الشباب , فهو بالكاد يبلغ الثلاثين من عمره ! 

وقبل ان يتوجّه جيم ناحيته , تفاجأ به يصرخ على زوجته بعد رؤيته لمصاريف الحفلة , قائلاً باستياء : 
- ما كل هذه المصاريف يا امراة !! الم أخبرك قبل ايام بأن الشركة التي أعمل بها على وشك الإفلاس .. يعني سيطردون كل العمّال قريباً , ونحن بحاجة الى كل فلس .. 
زوجته مقاطعة وبصوتٍ منخفض : ارجوك إخفض صوتك , فاليوم عيد ميلاد ابنك .. لهذا دعنا نحتفل سويّاً دون مشاكل , رجاءً

فقال جيم : ابي تعال وذقّ كعكة امي , انها لذيذة جداً
فصرخ الأب في وجهه قائلاً : لقد انتهت الحفلة !! هيا ادخل غرفتك حالاً , لأنني اريد التحدث مع والدتك 
- لكني لا اريد النوم الآن يا ابي , فالوقت مازال مُبكراً
الأب وهو يفكّ حزام بنطاله بغضب : جيم !! لا تجعلني أضربك بالحزام 
فأسرعت الأم لتمسك يد زوجها : ارجوك توقف !! على الأقل لا تضربه في عيد ميلاده !

وهنا صرخ جيم مُعترضاً : لن اسمح لك بأن تضربني بعد اليوم , فقد أصبحت كبيراً
فتمّتم الأب بعصبية : اللعنة على هذا الأصهب الفاشل !!
فنزلت الكلمة على جيم كالصاعقة ! فهي نفس اللقب الذي رافقه طيلة فترة دراسته .. وحينها إنفجر في وجه والده غاضباً :
- الآن تذكّرت !! انت ناديتني بهذا اللقب حينما تأخرت بالخروج اليك من مدرستي المتوسطة , وقلتها امام جميع اصدقائي ..ومن حينها واللقب يطاردني .. انت السبب !! 
وقد تفاجأ كلا والديه بطريقة كلامه التي تكبر سنواته الخمس ! كما انه لم يدخل المدرسة بعد 

لكن جيم لم يكترث بأن كلامه يفوق عمره , وأكمل قائلاً بغضب : 
- انت كنت دائماً والداً سيئاً لي , ولم يهمّك سوى عملك .. ليتك متّ انت بدل امي !!
الأم بصدمة : لكني لم امتّ بعد يا جيم !
وهنا لوّح الأب بحزامه مهدّداً :
- جيم !! انا لا اعرف من أفسد اخلاقك , لكني سأربّيك اليوم من جديد

ولم تستطع الأم إيقاف الوالد الغاضب , فعُوقب جيم بقسوة تلك الليلة التي انتهت ببكائه مقهوراً في سريره ..

وبعد ساعتين من انتهاء تلك المشاجرة , نام والداه في غرفتهما .. 
اما جيم وبعد ان خفّت آلام ضربات الحزام التي تركت أثراً على جسده ونفسيته , بدأ يُفكّر بكل ما حصل له خلال هذه التجربة الغريبة ..

فقال في نفسه مُحتاراً : 
- تُرى لما عشتُ ذكريات العجوز ؟! او بالأصح , لما عاش العجوز أحداثاً من ماضيّ ؟! فهو حين أخبرني بهذه الحادثة , لم أتذكر بأنها حصلت لي لصغر سني ! لكنها تبقى ذكرياتي انا !! فما دخل العجوز بها ؟!

وقبل ان يعيّ ما حصل معه , خرج نورٌ من جدار غرفته .. 
فعرف جيم ان تجربة الإنتقال انتهت , وعليه عبور النفق السرّي مجدّداً قبل ان يعلق في زمن الماضي 

وبعد ان عبره , عاد الى الكهف من جديد .. لكن هذه المرّة كان لوحده , ففهم بأن العجوز فضّل البقاء في الداخل 
الاّ ان هناك شيئاً جديداً ظهر على جدار الكهف , وهي رسمة لطفلٍ صغير يطير في السماء , وكأنه رجلٌ خارق .. 
فتذكّر جيم على الفور انه كان دائماً يرسم نفسه كسوبرمان في صغره !

وعندما وضع يده فوق الرسمة : مرّت أمام عينيه شريط حياة العجوز , منذ ان كان صبياً في المدرسة يُعاني من معاملة المتنمّرين السيئة له بسبب شعره الأصهب , الى يوم تخرّجه .. 
ثم شاهد العجوز عندما كان شاباً .. وكيف عمِلَ في وظيفةٍ روتينية لم يحبها على الأطلاق , وكل هذا بسبب والده الذي أجبره عليها .. 
ثم شاهده بعد ان تزوج من تلك السيدة التي لم تهتم به كثيراً .. 
ثم كيف تحوّل العجوز الى أبٍ غير مبالي , تماماً كوالد جيم ! 
ثم شاهد لحظة خسارة العجوز لعائلته , بعد إبتعادهم عنه .. 
وانتهى هنا شريط ذكريات العجوز , ليعود جيم الى الواقع وهو يقف مندهشاً قرب جدار الكهف ! 

وبهذه اللحظة بالذات !! فهِمَ بأنه هو نفسه العجوز , فحياتهما تتشابه كثيراً !
جيم وهو يكلّم نفسه بصدمة : أهذا يعني انني التقيت بنفسي في زمن المستقبل ؟! وهل ستصبح حياتي فاشلة كهذا العجوز ؟! 

وقبل ان يستوعب ما يحصل له , سمع بعض اصدقائه ينادونه من اسفل الجبل , وكان الوقت قارب على شروق الشمس ..
فنزل اليهم بسرعة , قبل ان يبتعدوا عن المكان ..
وكانوا ثلاثة بنات برفقة رئيس المتنمّرين , الذي قال له بغضب ما ان رآه :
- اللعنة عليك يا جيم !! 
جيم باستغراب : ماذا حصل ؟!

فأجابته إحدى صديقاته : لقد أخفت الأساتذة المسؤولين عن الرحلة , ولهذا قاموا بتقسيمنا الى مجموعات للبحث عنك 
فقال المتنمّر بعصبية : لقد أضعت علينا سهرةً جميلة .. أصلاً لما تركت المخيّم , وأتيت الى هنا يا غبي ؟
وكان جيم على وشك ان يجيبه : تركت المخيم بسبب مضايقتك لي انت واصحابك , ايها اللعين !!

لكنه فضّل السكوت لأن شيئاً آخر كان يشغل تفكيره , حيث قال في نفسه مُحتاراً : 
((هل يا ترى أُخبرهم بشأن الجبل والفاصل الزماني الموجود بداخله , ام ان هذا سيجعل المعبر السرّي يختفي تماماً كما حذّرني العجوز ؟))
لكن قطع تفكيره , سؤال المتنمّر الذي قال بغضب : 
- لما لا تجيبنا ايّها الأحمق , وتُخبرنا بما كنت تفعله بأعلى الجبل ؟!!

وهنا لم يستطع جيم كتمان السرّ أكثر من ذلك , وأخبرهم بكل شيء  
وبالطبع لم يصدقوه , بل نعتوه بالمجنون .. لكن رغم ذلك , صعدوا معه الى الكهف ليتأكّدوا من كلامه ..

وعندما دخلوا سويّاً الى الداخل .. تفاجأ جيم بتغير المكان ! فقد إختفى موقد النار وحاجيات العجوز التي تركها هناك , حتى ان رسمة السوبرمان التي كانت على الحائط إختفت تماماً ! كما انه سُدّ مكان المعبر السرّي بالصخور! 
فعرف جيم على الفور بأن الفاصل الزماني إنتقل الى مكانٍ آخر .. 
فتمتمّ بقهر : يالي من غبي ! لقد أفسدّت كل شيء , ولم يعدّ باستطاعتي رؤية امي بعد عشرة سنواتٍ من الآن 

لكن أفكاره تلاشت بسبب ضحكة المتنمّر الساخرة , حيث قال للبنات الثلاثة: 
- يبدو ان جيم الأحمق فقد عقله من الخوف , بعد مبيته لوحده هنا .. (ثم قال لهم) : المهم الآن !! علينا العودة سريعاً الى المخيّم , فالجميع في انتظارنا

وقبل ان يلحقهم جيم , نظر نظرةً أخيرة الى الكهف .. ليتفاجأ برؤية عبارة ظهرت فجأة (مكان الرسمة التي كانت موجودة على جدار الكهف) ! وقد كتب فيها :
((لا يمكنك تغير الماضي , لكن قرار المستقبل بين يديك))

وما ان قرأها جيم , حتى إختفت العبارة من جديد ! 
فعرف انها كانت نصيحة أخيرة من العجوز , او بالأصح نصيحته هو لنفسه بعد ان يُصبح عجوزاً (وكأنها قادمة من زمن المستقبل)
فأومأ جيم برأسه موافقاً , وهو يقول بصوتٍ منخفض : سأعمل بنصيحتك ايّها العجوز .. سأفعل حتماً !!

وعندما نزل الى اصدقائه (اسفل الجبل) .. قال له المتنمّر بسخرية: 
- والآن ايها الأصهب الفاشل , إخبرنا كيف سنعود الى المخيّم من هنا  

لكنهم تفاجأوا جميعاً ! حين لكمهُ جيم على وجهه بقوّة , ممّا أدمى أنفه .. ثم صرخ في وجهه قائلاً :
- ايّاك ان تناديني بهذا اللقب ثانيةً , والاّ والله سأجعل حياتك جحيماً .. أسمعت أيّها التافه !!!
فصُعق المتنمّر الذي أخافته تعابير جيم الغاضبة !
ثم تابع جيم كلامه بعصبية : منذ اليوم سيحترمني الجميع , وأولهم انت !!
وأشار للمتنمّر الذي مازال واقعاً على الأرض ..

ثم قال جيم بنبرةٍ واثقة وقوية : انا قائدكم منذ اللحظة !! لأنني الوحيد الذي يعرف كيف يتجاوز هذه الغابة للوصول الى المخيّم .. ومن لا يسمع كلامي فسأتركه خلفي ليتوه وحده في البراري .. فهل هناك معترض على كلامي ؟!!!
فأومأت البنات الثلاثة برأسهنّ موافقات , وهنّ مازلنّ مُندهشات من  التغير المفاجىء الذي حصل في شخصيّة جيم ! 

ثم اقترب جيم من المتنمّر (الواقع على الأرض) ومدّ له يده , ليوقفه على قدميه .. ثم قال :
- هيا بنا نعود الى المخيّم يا اصدقاء 

وبالفعل !! مشوا جميعاً خلف جيم بكل طواعية وهدوء , وهم يتابعون قيادته لهم بنظرات الإعجاب والدهشة ! 
بينما كان جيم غارقاً في التفكير بتجربته الفريدة مع رجل الكهف الذي غيّر شخصيته الى الأبد , بعد ان جعله يشعر بقوته لأول مرة في حياته .. 

ثم قال في نفسه مُبتسماً :
((صدقت ايّها الرجل الغامض .. لربما لا استطيع تغير ماضينا الكئيب , لكني حتماً سأغيّر مستقبلنا (انا وانت) نحو الأفضل !! أعدك بذلك يا جيم العجوز)) 

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...