تأليف : امل شانوحة
السائق الصغير
في صباحٍ بارد ..إستيقظ أمجد (18) وأخاه سعيد (12عام) على خبرٍ مُحزن ، بعد أن تركتهما أمهما وحدهما في مخيّم النازحين ! عرفا ذلك من رسالةٍ وجداها على فراشها ، تقول فيها :
((أعرف رفضكما لزواجي وسفري معه للخارج ، لكني لم أعدّ أحتمل حياة التشرّد في خيمةٍ باردة ، فالصقيع يؤلم عظامي .. إنتبها على بعضكما ، فأنتما بعمرٍ يمكنكما الإعتماد على نفسيكما .. امكم التي تحبكما دائماً))
أمّا والدهما فقتل جاره العام الماضي ، بعد أن أمسكه يتلصّص على زوجته اثناء استحمامها في خيمةٍ مُخصّصة لذلك .. وقبل قدوم الشرطة لاعتقاله ، انتحر امام أعين النازحين ، بما فيهم ولديه الّلذين أثّرت الحادثة عليهما بشكلٍ كبير !
وبذهاب امهما المُفاجىء ، توجّب على الأخ الكبير الإعتناء بالصغير
لكن في هذا اليوم ، انقلبت الأدوار بعد نزلة بردٍ شديدة أصابت المراهق .. فخرج سعيد لسؤال أهالي الخيم (الخمسين) عن دواء مُخفّض للحرارة ، لكن لا احد يملكه !
وأخبره العجوز بأن هناك صيدلية على بعد كيلوين ، تتواجد خلف الجبل .. وإن كان يهمّه صحّة أخيه ، فعليه استجماع قوته للذهاب الى هناك
فمشى سعيد بخطٍ مستقيم حتى لا يضلّ طريق العودة وسط الثلوج .. وظلّ يمشي الى أن اختفى المخيّم بعد اشتداد العاصفة
وكان جسده يرتجف بقوة تحت ملابسه الخفيفة التي لا تحميه من الجوّ القارص ..
وحين وصل لشارعٍ مُسفلت مُغطّى بالجليد ، رفع أصبعه فور رؤيته سيارة أجرة تقترب من المكان ، رغم ندرة مرور السيارات من هناك !
ومن ناحيته تفاجأ السائق (الأربعيني) برؤية ولدٍ وحده في مكانٍ موحشٍ كهذا ، فظن انه تائه ..
واقترب منه ليسأله :
- مالذي تفعله هنا ؟ انت بعيدٌ جداً عن المخيّم !
سعيد بصوتٍ مرتجف : هل توصلني لخلف الجبل ؟ اريد إحضار دواء لأخي من الصيدلية
السائق بتهكّم : وبالتأكيد لن تدفع ليّ الأجرة ؟
- لا أملك شيئاً يا عمّ
السائق : وكيف ستشتري الدواء ؟
- أخبروني إن في الصيدلية قسماً مخصّصاً للنازحين ، أدويتها بالمجّان
- حسناً إركب قبل اشتداد العاصفة
وما أن دخل سعيد الى سيارته الدافئة ، حتى أسرع بوضع يديه امام فتحات التهوية التي تُخرج هواءً ساخناً ..
السائق : نعم دفّئ أصابعك قبل تجمّدهم
وفي الطريق .. سأله عن والديه ، فأخبره سعيد بملخّص حياته البائسة
السائق : اذاً لم يتبقّى من عائلتك سوى أخيك المراهق ؟!
- نعم ، وهو مريضٌ جداً
فأخذت الأفكار السيئة تراود السائق ، لحصوله على ولدٍ لن يسأل أحد على غيابه ! فبدأ يلاطفه بالكلام :
- ما رأيك لوّ تعيش معي في منزلي ؟
سعيد : تقصد انا واخي ؟
السائق بخبث : لا حاجتي لأخيك .. أريدك انت ، لتُدفئ فراشي بعد هجراني لزوجتي
فشعر الولد بالإرتباك !
وما أن وضع السائق يده على فخذ الولد ، حتى فاجأه الصغير بإخراجه سكيناً من معطفه ، وطعنه بقوة في خاصرته !
ويبدو إن الإصابة اخترقت كبد السائق الذي صرخ بألمٍ شديد ، قبل سقوطه ميتاً فوق المقوّد !
فأسرع سعيد بالدوس على الفرامل ، وإدارة المفتاح لإطفاء السيارة قبل ارتطامها بالجبل
وبعد خروجه من السيارة وهو مرتبك مما حصل ، شاهد يافطة الصيّدلية على بعد امتارٍ منه ..
ومن حسن حظه ، انه وجد حفرةً عميقة على جانب الجبل .. فسحب السائق من يده ، ورماه خارج السيارة .. ثم دحرجه داخل الحفرة .. وأخذ يطمّه بالحجارة والثلج إلى أن تمكّن من إخفاء جثته ، بعد سرقة محفظته التي تحوي بعض النقود ..
ثم أكمل سيره للصيدليّة التي وجد بجانبها بقالة ، فاشترى الدواء وبعض المؤن الغذائيّة ..
وعاد الى سيارة الأجرة ، وجلس مكان السائق بعد مسح دمائه بالمناديل ..وأخذ يتذكّر كلام والده وهو يعلّم أخاه الأكبر القيادة ، قبل خروجهم من بلادهم ..
وبعد وضعه حجرةً كبيرة على دوّاسة البنزين ، قاد السيارة ببطء باتجاه المخيّم .. ووصل قرب مدخلها ، قبل غروب الشمس
فأوقف السيارة جانباً ، وأكمل سيره باتجاه خيمته .. ليجد أخاه (أمجد) تحسّنت حالته بعد نزول حراراته ، والذي تفاجأ بالأدوية والطعام التي أحضرها معه ! وأخذ يلحّ عليه بالسؤال ..لكن سعيد رفض البوح بما حصل ، قبل تناولهما الطعام
***
بحلول المساء ، ضغط أمجد مجدّداً لمعرفة مصدر الطعام والدواء.. فأخبره سعيد بجريمته..
فجنّ جنون أمجد :
- هل قتلت السائق بالفعل ؟!!
سعيد بخوف : رجاءً اخي إخفض صوتك ، لا اريد دخول السجن
- لما فعلت ذلك ؟
سعيد : وهل أتركه يتحرّش بي ؟ كان عليّ الدفاع عن نفسي .. وجيد إن العجوز نصحني بأخذ السكين .. (ثم ابتسم ساخراً).. ظنّ أنها ستحميني من الكلاب الضالّة ، لكني تخلّصت من كلبٍ بشريّ
أمجد بعصبيّة : الأمر ليست مزحة يا سعيد ، قد تُعدم بسبب جريمتك !!
- والله غصباً عني يا أخي
أمجد : واين سيارته الآن ؟
- عند مدخل المخيّم
أمجد : إذاً علينا إبعادها قبل شروق الشمس .. فمن سيلاحظ الدماء داخلها سيبلّغ الشرطة ، وسيعلمون انك الفاعل حين يجدوا بصماتك على السكين
- لكن السكين ظلّت معي والسائق دفنته جيداً ، فكيف سيعرفون انه أنا؟!
- لأنك الوحيد الذي خرجت من المخيّم وسط العاصفة ..
وأسرع أمجد بلمّلمة أغراضهما المهمّة ، ووضعها في صندوقٍ كرتونيّ
سعيد بقلق : الجوّ بارد في الخارج ، فأين سنذهب دون خيمتنا ؟
أمجد وهو يحمل الصندوق : دعني أتصرّف !! وإيّاك التكّلم مع أحد .. هيا إحمل البطانيتين ، والحقني ..
وفور خروجهما من الخيمة ، سألتهما جارتهما :
- الى اين تذهبان ؟
أمجد : خالنا ينتظرنا خارج المخيّم ، سيأخذنا للعيش في منزله
الجارة : وهل ستتركان الخيمة ؟
أمجد : خذيها إن أردّتِ
الجارة بحماس : بالتأكيد اريدها ، لأوسّع المنامة لإبنائي الثمانية
وأسرعت بدخول خيمتهما لتفقّدها ..
فهمس أمجد لأخيه : لنُسرع قبل أن تُذيع خبر رحيلنا للجميع ، وينكشف أمرنا
وأسرعا في الظلام الى أن وصلا لسيارة الأجرة .. وفتح سعيد ابوابها بمفتاح السائق الذي احتفظ به .. ووضعا الأغراض بصندوقها الخلفيّ .. ثم قادها أمجد بعيداً (فوالده علّمه القيادة قبل انتقالهم للمخيّم)
***
ظلّ أمجد يقود مسافةً طويلة للوصول للعاصمة ، أثناء نوم سعيد بالمقاعد الخلفيّة ..
وحين أوقف السيارة أخيراً ، إستيقظ سعيد لسؤاله :
- هل وصلنا وجهتنا ؟
- نعم أخيراً
- وماذا قرّرت فعله يا أخي ؟
أمجد : طالما بلغت 18 ، فلا مشكلة من عملي كسائق أجرة
- وماذا لوّ أوقفنا الشرطي وطلب أوراقها الرسميّة ؟
أمجد : وجدّت اوراق السيارة في الدرج الأمامي ، وسأحاول عدم المرور من نقط التفتيش .. وسنعتاش من مال الأجرة ، وننام مساءً في السيارة
سعيد : وهل تعرف طرقات العاصمة ؟
- سأسال الركّاب والمارّة ، إلى أن أحفظها جميعاً..لا حلّ آخر امامنا
***
ومرّت الشهور ، حفظ فيها أمجد معظم الطرقات بمهارةٍ وذكاء .. أما مال الأجرة , فقسمه بين ثمن البنزين والشطائر الرخيصة للغداء والعشاء .. وتناوبا على النوم في المقاعد الخلفيّة مساءً ، بعد إيقاف السيارة بعيداً عن أعين الناس الفضوليين..
***
بعد ستة أشهر .. وفي ظهيرة هذا اليوم ، لم يستطع سعيد مقاومة النعاس والإنتظار حتى المساء .. فتمدّد بالمقاعد الخلفيّة ، لينام على الفور
ولم يرضى أمجد إيقاظه ، فاكتفى بنقل زبونٍ واحد في المقعد الأمامي
إلى أن ركب معه شخص سأله مبتسماً ، بعد رؤية سعيد نائماً في الخلف :
- أهذا اخاك ؟
أمجد : نعم ، لم اردّ إيقاظه
الزبون : لا تفعل ، فبيتي قريب
أمجد : اساساً هذه آخر نقلة ، قبل عودتنا الى منزلنا
الزبون : يبدو انكما تساعدان عائلتكما ؟
أمجد : هذا صحيح
وهنا انتبه الزبون لإسم السائق الموجود في بطاقة مُلصقة على الدرج الأمامي ، فسأله باهتمام :
- أهذه سيارة احمد مرتضى ؟!
فسأله أمجد بارتباك : وهل تعرفه ؟
الزبون : هو قريبي ، وزوجته تبحث عنه منذ شهور
أمجد بقلق : انا اعمل لصالحه
الزبون بحماس : اذاً اتصل به فوراً ، اريد التحدّث معه ..فجوّاله مُغلق منذ فترة ، وأظنه غيّر رقمه ..
أمجد وهو يبلع ريقه : لا املك جوّالاً
الزبون : اذاً خذني الى منزله ، وسأضاعف لك الأجرة
أمجد : منزله بعيد عن هنا ، والبنزين على وشك الإنتهاء
الزبون بعصبيّة : اذاً خذّ جوالي واتصل به !! فطالما تعمل لديه ، أكيد تحفظ رقمه
فمسك أمجد جوّال الزبون بيدٍ مرتجفة ، ليتفاجأ بأخيه سعيد ينهض من الخلف ويذبح الزبون بالسكين !
أمجد صارخاً : ماذا فعلت ؟!!
سعيد بهدوء : كان سيكشفنا ، ولابد من قتله
- هل جننت ؟!!
- سأفعل أيّ شيء لكيّ لا يُفسد احد حياتنا .. والآن لنذهب لمكانٍ خالي لدفن الميت ، بعد سرقة جوّاله ومحفظته
ثم مسح سعيد الدماء عن سكينته بالمنديل مُبتسماً ، كأنه لم يرتكب جريمةً شنعاء !
ولم يكن امام أمجد الى الإبتعاد عن الشارع العام ، قبل ملاحظة المارّة للدماء التي تسيل من رقبة الزبون ..
وفي نفس الوقت راقب أخاه سعيد من مرآته الأمامية ، وهو مُرتعب أن يكون ورِثَ الجينات الإجراميّة لوالده ، وبدأ يستمتع بالقتل رغم صغر سنّه!