الأحد، 30 يناير 2022

مخيم النازحون

تأليف : امل شانوحة 

السائق الصغير


في صباحٍ بارد ..إستيقظ أمجد (18) وأخاه سعيد (12عام) على خبرٍ مُحزن ، بعد أن تركتهما أمهما وحدهما في مخيّم النازحين ! عرفا ذلك من رسالةٍ وجداها على فراشها ، تقول فيها :

((أعرف رفضكما لزواجي وسفري معه للخارج ، لكني لم أعدّ أحتمل حياة التشرّد في خيمةٍ باردة ، فالصقيع يؤلم عظامي .. إنتبها على بعضكما ، فأنتما بعمرٍ يمكنكما الإعتماد على نفسيكما .. امكم التي تحبكما دائماً))


أمّا والدهما فقتل جاره العام الماضي ، بعد أن أمسكه يتلصّص على زوجته اثناء استحمامها في خيمةٍ مُخصّصة لذلك .. وقبل قدوم الشرطة لاعتقاله ، انتحر امام أعين النازحين ، بما فيهم ولديه الّلذين أثّرت الحادثة عليهما بشكلٍ كبير ! 

وبذهاب امهما المُفاجىء ، توجّب على الأخ الكبير الإعتناء بالصغير 


لكن في هذا اليوم ، انقلبت الأدوار بعد نزلة بردٍ شديدة أصابت المراهق .. فخرج سعيد لسؤال أهالي الخيم (الخمسين) عن دواء مُخفّض للحرارة ، لكن لا احد يملكه !

وأخبره العجوز بأن هناك صيدلية على بعد كيلوين ، تتواجد خلف الجبل .. وإن كان يهمّه صحّة أخيه ، فعليه استجماع قوته للذهاب الى هناك 


فمشى سعيد بخطٍ مستقيم حتى لا يضلّ طريق العودة وسط الثلوج .. وظلّ يمشي الى أن اختفى المخيّم بعد اشتداد العاصفة 

وكان جسده يرتجف بقوة تحت ملابسه الخفيفة التي لا تحميه من الجوّ القارص ..

وحين وصل لشارعٍ مُسفلت مُغطّى بالجليد ، رفع أصبعه فور رؤيته سيارة أجرة تقترب من المكان ، رغم ندرة مرور السيارات من هناك !


ومن ناحيته تفاجأ السائق (الأربعيني) برؤية ولدٍ وحده في مكانٍ موحشٍ كهذا ، فظن انه تائه .. 

واقترب منه ليسأله :

- مالذي تفعله هنا ؟ انت بعيدٌ جداً عن المخيّم ! 

سعيد بصوتٍ مرتجف : هل توصلني لخلف الجبل ؟ اريد إحضار دواء لأخي من الصيدلية 

السائق بتهكّم : وبالتأكيد لن تدفع ليّ الأجرة ؟

- لا أملك شيئاً يا عمّ

السائق : وكيف ستشتري الدواء ؟

- أخبروني إن في الصيدلية قسماً مخصّصاً للنازحين ، أدويتها بالمجّان

- حسناً إركب قبل اشتداد العاصفة


وما أن دخل سعيد الى سيارته الدافئة ، حتى أسرع بوضع يديه امام فتحات التهوية التي تُخرج هواءً ساخناً .. 

السائق : نعم دفّئ أصابعك قبل تجمّدهم


وفي الطريق .. سأله عن والديه ، فأخبره سعيد بملخّص حياته البائسة

السائق : اذاً لم يتبقّى من عائلتك سوى أخيك المراهق ؟!

- نعم ، وهو مريضٌ جداً


فأخذت الأفكار السيئة تراود السائق ، لحصوله على ولدٍ لن يسأل أحد على غيابه ! فبدأ يلاطفه بالكلام : 

- ما رأيك لوّ تعيش معي في منزلي ؟

سعيد : تقصد انا واخي ؟

السائق بخبث : لا حاجتي لأخيك .. أريدك انت ، لتُدفئ فراشي بعد هجراني لزوجتي

فشعر الولد بالإرتباك ! 


وما أن وضع السائق يده على فخذ الولد ، حتى فاجأه الصغير بإخراجه سكيناً من معطفه ، وطعنه بقوة في خاصرته !

ويبدو إن الإصابة اخترقت كبد السائق الذي صرخ بألمٍ شديد ، قبل سقوطه ميتاً فوق المقوّد ! 

فأسرع سعيد بالدوس على الفرامل ، وإدارة المفتاح لإطفاء السيارة قبل ارتطامها بالجبل 


وبعد خروجه من السيارة وهو مرتبك مما حصل ، شاهد يافطة الصيّدلية على بعد امتارٍ منه ..

ومن حسن حظه ، انه وجد حفرةً عميقة على جانب الجبل .. فسحب السائق من يده ، ورماه خارج السيارة .. ثم دحرجه داخل الحفرة .. وأخذ يطمّه بالحجارة والثلج إلى أن تمكّن من إخفاء جثته ، بعد سرقة محفظته التي تحوي بعض النقود .. 


ثم أكمل سيره للصيدليّة التي وجد بجانبها بقالة ، فاشترى الدواء وبعض المؤن الغذائيّة ..

وعاد الى سيارة الأجرة ، وجلس مكان السائق بعد مسح دمائه بالمناديل ..وأخذ يتذكّر كلام والده وهو يعلّم أخاه الأكبر القيادة ، قبل خروجهم من بلادهم ..

وبعد وضعه حجرةً كبيرة على دوّاسة البنزين ، قاد السيارة ببطء باتجاه المخيّم .. ووصل قرب مدخلها ، قبل غروب الشمس 


فأوقف السيارة جانباً ، وأكمل سيره باتجاه خيمته .. ليجد أخاه (أمجد) تحسّنت حالته بعد نزول حراراته ، والذي تفاجأ بالأدوية والطعام التي أحضرها معه ! وأخذ يلحّ عليه بالسؤال ..لكن سعيد رفض البوح بما حصل ، قبل تناولهما الطعام

***


بحلول المساء ، ضغط أمجد مجدّداً لمعرفة مصدر الطعام والدواء.. فأخبره سعيد بجريمته..

فجنّ جنون أمجد : 

- هل قتلت السائق بالفعل ؟!! 

سعيد بخوف : رجاءً اخي إخفض صوتك ، لا اريد دخول السجن

- لما فعلت ذلك ؟

سعيد : وهل أتركه يتحرّش بي ؟ كان عليّ الدفاع عن نفسي .. وجيد إن العجوز نصحني بأخذ السكين .. (ثم ابتسم ساخراً).. ظنّ أنها ستحميني من الكلاب الضالّة ، لكني تخلّصت من كلبٍ بشريّ 

أمجد بعصبيّة : الأمر ليست مزحة يا سعيد ، قد تُعدم بسبب جريمتك !! 

- والله غصباً عني يا أخي 


أمجد : واين سيارته الآن ؟

- عند مدخل المخيّم 

أمجد : إذاً علينا إبعادها قبل شروق الشمس .. فمن سيلاحظ الدماء داخلها سيبلّغ الشرطة ، وسيعلمون انك الفاعل حين يجدوا بصماتك على السكين

- لكن السكين ظلّت معي والسائق دفنته جيداً ، فكيف سيعرفون انه أنا؟! 

- لأنك الوحيد الذي خرجت من المخيّم وسط العاصفة .. 


وأسرع أمجد بلمّلمة أغراضهما المهمّة ، ووضعها في صندوقٍ كرتونيّ

سعيد بقلق : الجوّ بارد في الخارج ، فأين سنذهب دون خيمتنا ؟

أمجد وهو يحمل الصندوق : دعني أتصرّف !! وإيّاك التكّلم مع أحد .. هيا إحمل البطانيتين ، والحقني ..


وفور خروجهما من الخيمة ، سألتهما جارتهما : 

- الى اين تذهبان ؟

أمجد : خالنا ينتظرنا خارج المخيّم ، سيأخذنا للعيش في منزله

الجارة : وهل ستتركان الخيمة ؟

أمجد : خذيها إن أردّتِ

الجارة بحماس : بالتأكيد اريدها ، لأوسّع المنامة لإبنائي الثمانية

وأسرعت بدخول خيمتهما لتفقّدها ..

فهمس أمجد لأخيه : لنُسرع قبل أن تُذيع خبر رحيلنا للجميع ، وينكشف أمرنا


وأسرعا في الظلام الى أن وصلا لسيارة الأجرة .. وفتح سعيد ابوابها بمفتاح السائق الذي احتفظ به .. ووضعا الأغراض بصندوقها الخلفيّ .. ثم قادها أمجد بعيداً (فوالده علّمه القيادة قبل انتقالهم للمخيّم) 

***


ظلّ أمجد يقود مسافةً طويلة للوصول للعاصمة ، أثناء نوم سعيد بالمقاعد الخلفيّة .. 


وحين أوقف السيارة أخيراً ، إستيقظ سعيد لسؤاله :

- هل وصلنا وجهتنا ؟

- نعم أخيراً 

- وماذا قرّرت فعله يا أخي ؟

أمجد : طالما بلغت 18 ، فلا مشكلة من عملي كسائق أجرة 

- وماذا لوّ أوقفنا الشرطي وطلب أوراقها الرسميّة ؟

أمجد : وجدّت اوراق السيارة في الدرج الأمامي ، وسأحاول عدم المرور من نقط التفتيش .. وسنعتاش من مال الأجرة ، وننام مساءً في السيارة 

سعيد : وهل تعرف طرقات العاصمة ؟

- سأسال الركّاب والمارّة ، إلى أن أحفظها جميعاً..لا حلّ آخر امامنا

***


ومرّت الشهور ، حفظ فيها أمجد معظم الطرقات بمهارةٍ وذكاء .. أما مال الأجرة , فقسمه بين ثمن البنزين والشطائر الرخيصة للغداء والعشاء .. وتناوبا على النوم في المقاعد الخلفيّة مساءً ، بعد إيقاف السيارة بعيداً عن أعين الناس الفضوليين.. 

***


بعد ستة أشهر .. وفي ظهيرة هذا اليوم ، لم يستطع سعيد مقاومة النعاس والإنتظار حتى المساء .. فتمدّد بالمقاعد الخلفيّة ، لينام على الفور 

ولم يرضى أمجد إيقاظه ، فاكتفى بنقل زبونٍ واحد في المقعد الأمامي 


إلى أن ركب معه شخص سأله مبتسماً ، بعد رؤية سعيد نائماً في الخلف : 

- أهذا اخاك ؟

أمجد : نعم ، لم اردّ إيقاظه

الزبون : لا تفعل ، فبيتي قريب

أمجد : اساساً هذه آخر نقلة ، قبل عودتنا الى منزلنا 

الزبون : يبدو انكما تساعدان عائلتكما ؟

أمجد : هذا صحيح


وهنا انتبه الزبون لإسم السائق الموجود في بطاقة مُلصقة على الدرج الأمامي ، فسأله باهتمام : 

- أهذه سيارة احمد مرتضى ؟!

فسأله أمجد بارتباك : وهل تعرفه ؟

الزبون : هو قريبي ، وزوجته تبحث عنه منذ شهور 

أمجد بقلق : انا اعمل لصالحه

الزبون بحماس : اذاً اتصل به فوراً ، اريد التحدّث معه ..فجوّاله مُغلق منذ فترة ، وأظنه غيّر رقمه ..

أمجد وهو يبلع ريقه : لا املك جوّالاً

الزبون : اذاً خذني الى منزله ، وسأضاعف لك الأجرة

أمجد : منزله بعيد عن هنا ، والبنزين على وشك الإنتهاء

الزبون بعصبيّة : اذاً خذّ جوالي واتصل به !! فطالما تعمل لديه ، أكيد تحفظ رقمه


فمسك أمجد جوّال الزبون بيدٍ مرتجفة ، ليتفاجأ بأخيه سعيد ينهض من الخلف ويذبح الزبون بالسكين !

أمجد صارخاً : ماذا فعلت ؟!!

سعيد بهدوء : كان سيكشفنا ، ولابد من قتله

- هل جننت ؟!!

- سأفعل أيّ شيء لكيّ لا يُفسد احد حياتنا .. والآن لنذهب لمكانٍ خالي لدفن الميت ، بعد سرقة جوّاله ومحفظته


ثم مسح سعيد الدماء عن سكينته بالمنديل مُبتسماً ، كأنه لم يرتكب جريمةً شنعاء ! 

ولم يكن امام أمجد الى الإبتعاد عن الشارع العام ، قبل ملاحظة المارّة للدماء التي تسيل من رقبة الزبون .. 

وفي نفس الوقت راقب أخاه سعيد من مرآته الأمامية ، وهو مُرتعب أن يكون ورِثَ الجينات الإجراميّة لوالده ، وبدأ يستمتع بالقتل رغم صغر سنّه! 


الجمعة، 28 يناير 2022

الحنجرة الذهبية

تأليف : امل شانوحة 

تقليد الأصوات


خسر المراهق جاك حباله الصوتيّة بعد إزالتهم بعمليةٍ جراحية إثر سرطانٍ خبيث أفقده النطق ، ليُصاب بعدها باكتئابٍ حادّ جعله يترك الدراسة ويلازم منزله .. مما أحزن والده (الخبير التقني بالأجهزة الطبّية) الذي قبع في معمله لشهور ، في محاولة لاختراع حنجرة صناعيّة لإبنه 


وفي عيد ميلاده 18 ، أهداه الحنجرة التي تحوي حبالاً مصنوعة من أسلاكٍ طبّية (يتقبّلها الجسم البشري) ..وأخبره أن صديقه الطبيب وعده بالجراحة في عيادته ، في القريب العاجل  

فوافق جاك أن يكون فأر تجارب لإجراء أول عمليّة من نوعها ، فهو لم يتقبّل فكرة خسارته صوته نهائياً 

***


وفي آخر الليل من الموعد المحدّد ، فتح الجرّاح عيادته لأجلهما .. وتمدّد جاك على السرير لبدء العملية .. بينما انتظر والده في الخارج بقلقٍ شديد


وانتهت العملية بعد ساعتين ، ليخبر الطبيب صديقه أنه لن يعرف بنجاح العمليّة إلاّ بعد استيقاظ جاك في الصباح .. 

فقررّ الوالد النوم في صالة العيادة ، بينما عاد الجرّاح الى منزله 

***


في الصباح الباكر ليوم العطلة .. وفور دخول الجرّاح عيادته ، وجد صديقه يحتضن ابنه بسعادةٍ غامرة .. 

ثم توجّه نحوه لشكره على استعادة ابنه النطق بسهولة ، وبصوتٍ عذب خالي من المشاكل !


وبعد فحصٍ سريع .. تأكّد الطبيب من نجاح العمليّة ، بعد إدخاله منظاراً في حنجرة جاك الذي تمكّن بسهولة من رفع وخفض صوته دون مشاكلٍ او ألم 


واتفق الجميع على إبقاء الموضوع سرّاً لحين إجراء المزيد من الأبحاث عن الحنجرة الصناعيّة ، قبل نشر إنجازهم بالمجلّة الطبّية للحصول على براءة الإختراع الذي سيساعد آلاف البكم للنطق من جديد

***


في طريق عودتهما للمنزل ، طلب جاك من والده توصيله غداً للمدرسة 

فأجاب الأب بقلق : أبهذه السرعة ؟! مازلت بحاجة للراحة بعد قيامك بعمليةٍ خطيرة 

جاك : لي شهور وانا ادرس وحدي على الإنترنت ، وعليّ الّلحاق بأصحابي قبل بدء الإمتحانات النهائيّة .. فأنا لا اريد تفويت تخرّجي الثانويّ


الأب بفخر : أحسنت بنيّ !! لكن ماذا ستخبرهم بشأن إستعادتك صوتك ؟

- سأقول إنه خطأ بالتشخيص ، وإنني استعدّت صوتي بعد جلسات التأهيل الطبّي

- جيد !! الأفضل أن لا يعرف أحد باختراعي ، كيّ لا أُسجن انا وصديقي لعدم أخذنا الإذن من نقابة الأطباء ، خاصة إن العملية أُجريت في عيادةٍ عاديّة 

جاك : لا تقلق ابي ، لن أعرّض سمعتكما للأذى  

***


فرح اصدقاء ومعلمون جاك بعودته سليماً ، فهو من الطلاّب المميّزين في المدرسة 


وفي احد الأيام .. قرأ جاك اعلاناً في لوحة نشاطات الطلاّب عن مسابقة غنائيّة ، فسجّل اسمه مع المشتركين 

فسأله صديقه :

- وهل تجيد الغناء ؟

- لم أغني من قبل ، لكني اشعر بقدرتي على المشاركة 

- إذاً عليك التمرّن جيداً حتى لا تصبح إضحوكة امام الطلاّب والمعلّمين

جاك : سأتدرّب جيداً طوال الإسبوع

***


بوجود جاك وحده في المنزل ، أخذ يتمرّن على أغنيةٍ قديمة .. ليتفاجأ أن صوته يشبه صوت المغني الأصلي !

فحاول تقليد مغني آخر معروف بأغانيه الصعبة .. ليكتشف قدرته على تقليد صوته بجميع طبقاته العالية والمنخفضة ، دون أدنى جهد! 

حتى انه استطاع تقليد المغنيات إلى حدٍ كبير ! مما جعله يطير فرحاً بموهبته الجديدة


وما أن قدم والده من العمل ، حتى حضنه شاكراً وهو يقول :

- ابي !! حنجرتك الذهبيّة جعلتني محترفاً

ولم يفهم والده مقصده ، إلاّ بعد غناء جاك امامه لأصعب المقاطع الغنائية

الأب بصدمة : يا الهي ! صحيح إنني وضعت في حنجرتك جميع الأوتار الصوتيّة ، لكني لم أتصوّر النتيجة 

جاك بحماس : ابي رجاءً ، اريدك أن تراني وانا افوز بالمسابقة 


الوالد بقلق : بصراحة بنيّ ، لا اريدك أن تلفت الأنظار اليك .. أخاف أن يصل الخبر للطبيب الذي أزال حنجرتك ، فيدقّق بالموضوع وينكشف أمري ، فأطرد انا وصديقي من العمل

- لا تقلق ابي ، لن تصل أخبار مسابقة الثانوية لطبيبي السابق.. اما سبب رغبتي بالفوز ، كيّ أصبح محبوباً وذوّ شعبيّة بين الطلّاب .. فهل يمكنك القدوم للحفلة ؟ هي بآخر الإسبوع 

الوالد : آسف جاك ، سأكون مشغولاً بعملي 

- حسناً لا يهم ، سأدع صديقي يصوّرني وانا استلم الجائزة ، لتكون فخوراً بإبنك.. والآن سأذهب لاختيار أصعب أغنية للمسابقة ، لأبهر الجميع !! 

وأسرع مُتحمّساً الى غرفته ، تاركاً والده بقلقٍ شديد

***


وحصل ما توقعه الأب ، حيث قام الطلبة المذهولين (من صوت جاك المميز) بتصويره بجوّالاتهم ، ونشر المقطع في معظم وسائل التواصل الإجتماعي .. ليتناقله الناس بعد نجاحه بتقليد مغني قديم ، فشل أشهر المغنيين الحديثين بتقليده ! 

***


لم يمضي اسبوع .. حتى تلقّى جاك دعوة لمقابلةٍ تلفزيونيّة ، للحديث عن مقطعه الذي وصل لملايين المشاهدات !

ورغم رفض والده إلاّ أن جاك أصرّ على الذهاب للمقابلة ، بعد أن وعده بعدم الحديث عن عمليّته السرّية

***


وعُرضت المقابلة مباشرةً على المحطة الرئيسيّة ..وقبل انتهائها ، وصلهم اتصال من طبيب السرطان (بعد إرساله نسخة من ملف جاك الطبّي على إيميلهم) ليؤكّد إزالته لحنجرة المراهق بالكامل ، بسبب سرطانٍ خبيث أصابها مع بداية السنة !


وانفضح أمر جاك الذي لم يستطع نكران الأمر .. ومع إصرار المذيع على معرفة ما حصل ، إنهار تحت الضغط لإخباره عن حنجرته الصناعيّة .. لتبدأ بعدها الصحافة بملاحقة والده وصديقه الطبيب في كل مكان !

***


وفي أحد الأيام ...واثناء هرب والده من صحفي لحوحّ (لحقه بدرّاجته الناريّة) لم ينتبه والده لمنعطف الشارع ، ممّا جعل سيارته ترتطم بعامود الإنارة أودت بحياته !

وانهار جاك باكياً في جنازته ، وهو يلوم نفسه على فضح سرّ والده الذي مات غاضباً منه ..


لكن في المقابل ، ضغط اهالي المعاقين لإعطاء والد جاك براءة الإختراع (رغم موته) وطالبوا نقابة الأطباء بدراسة أبحاثه ، لصنع المزيد من الحناجر الصناعيّة لعلاج اكبر قدرٍ من البكم في العالم

وبضغطٍ من نقابة الأطباء على صديق والده ، وافق على تعليم الأطباء الجدّد طريقة زراعة الحنجرة الصناعيّة.. 

ورغم إن المصانع الطبّية أنتجت العديد منها ، إلاّ انها لم تملك مميزات وقدرات الحنجرة التي صنعها والد جاك بنفسه !

***  


لم تمضي شهور ، حتى أُجريت العديد من العمليات الجراحيّة للمعاقين تكلّلت جميعها بالنجاح .. مما أسعد اهاليهم لسماع أصوات ابنائهم من جديد ، والبعض سمعه للمرة الأولى .. ومع هذا لم يملك ابنائهم الموهوبة الغنائيّة لجميع طبقات الصوت ! لهذا ظلّت حنجرة جاك فريدة من نوعها والذي أنشأ (بعد خسارته والده) موقعاً على جميع وسائل التواصل الإجتماعي لقبول طلبات الناس بتقليد اصوات اقاربهم المتوفيين .. فطالما يملك جميع الحبال الصوتية ، فليس صعباً عليه تقليد أيّ شخص سواءً ذكراً او انثى ، صغيراً او كبيراً بمجرّد سماعه مقطعاً واحداً لهم !

مما أفرح متابعيه لحصولهم على تسجيلٍ بأصوات موتاهم وهم يقولون عبارات معينة لطالما تمنّوا سماعها مثل : ((انا فخورٌ بك بنيّ ، او كل عام وانت بخير ، او مبروك عزيزتي ، او احبك حفيدي)) وعبارات أخرى حنونة ولطيفة وتحفيزيّة ..

وبذلك وفّرت قناته المال الكافي لإكمال تعليمه ، إلى أن وصل للجامعة .. 

***


بعد سنوات ، وفي تلك الليلة .. عاد متأخراً من حفل تخرّجه الجامعيّ ، ليتفاجأ بسيارة ُمظلّلة تقف امام بيته ! 

وما أن اقترب منها ليطلب من السائق الإبتعاد عن باب كراجه ، حتى سحبه رجلٌ ضخم الى داخل سيارته ، ليقوم زميله بتخدير جاك بقماشةٍ مبلولة على أنفه .. ثم خطفاه لمكانٍ مجهول !

***


إستيقظ جاك ليجد نفسه في مقرّ المخابرات الأمريكيّة السريّة ، حيث أخبره القائد : أنهم بحاجة لحنجرته الذهبيّة في مهمةٍ قوميّة ، لكن بعد تعلّمه اللغة الكوريّة !

وكان مُجبراً على تعلّمها بشكلٍ مُكثّف لثلاثة أشهر ، حتى أتقنها تماماً ..


من بعدها أمروه بتسجيل صوته على إنه رئيس كوريا الشماليّة !

وأخذوا يراقبون نبرة صوته بأجهزتهم التي أظهرت إتقانه للصوت بنسبة 99 في المئة ! 

ثم أذاعوا مقطعه الصوتي : وهو يعطي اوامر بقطع علاقة بلاده بالصين وروسيا !


وأرسلت المخابرات الأمريكية (بطريقةٍ سرّية) تلك الأوامر المزيّفة لمخابرات الدولتين التي حصل فيهما بلبلة كبيرة ، بعد نقض الرئيس الكوري للإتفاق بينهم ضدّ أميركا ! 

ليس هذا فحسب ، بل قام جاك بتسجيل صوته (تقليداً للرئيس كيم جونغ أون) وهو يطلب من شعبه التجمّع امام الحدود ، بعد قبوله فتحها مع كوريا الجنوبيّة !


ونشرت المخابرات الأمريكية تلك الأوامر بعد لصق صوت جاك على وجه الرئيس كيم ، مع تلاعبهم بحركة الشفاه لتناسب اوامره المزيّفة !  

ولم يصدّق الشعب ما سمعه ، وأسرعوا بالتجمّهر امام حدود وهم يحملون حقائبهم وأغلى ما عندهم ، للمرور الى كوريا الجنوبية بأكبر نزوحٍ جماعيّ عرفه التاريخ ! وسط ذهول جنود الحدود الذين انتظروا الأوامر النهائيّة لفتح بوّابة العبور 

 

ولم يستطع ظبّاط كيم وقف تدفّق الناس الى هناك ، مما أجبر رئيسهم على القدوم بنفسه ! والذي خاطبهم مباشرةً بمكبّر الصوت : بأنه لم يعطي تلك الأوامر ، وأن عليهم العودة فوراً الى بيوتهم ، وأنه سيعدم من زوّر صوته امامهم بسبب تدخلّه بأمور دولته

فعاد الشعب مهموماً الى مساكنهم وهم يجرّون اذيال الخيبة ، بعد تكذيب رئيسهم للإشاعة التي ظنوا انها ستُنهي عذابهم أخيراً ! 


من بعدها طالب كيم مخابراته بإيجاد الفاعل وإحضاره الى كوريا الشماليّة حيّاً وبكامل صحته ..

ولقوّة مخابراته ، إستطاعوا معرفة استغلال المخابرات الأمريكية لحنجرة جاك الذهبيّة والفريدة من نوعها

***


وفي إحدى الليالي الباردة .. وبعد عودة جاك من إحتفالٍ مع أصدقائه ، خُطف من جديد ! بعد أن غرز رجلٌ مجهول ابرة مخدّر في ذراعه


وعندما استيقظ ، وجد نفسه مُحاطاً بالعساكر الآسيويين ! وما أن سمع لغتهم ، حتى عرف انه في كوريا شماليّة 

فصار يحدّثهم بلغتهم (التي أتقنها في الشهور الماضية) بأنه قلّد صوت زعيمهم مُجبراً  

فأخبره قائدهم : أن الرئيس كيم أمره بعدم إيذائه الى يوم محاكمته العلنيّة امام العالم أجمع !  

***


وأمضى جاك اياماً في زنزانةٍ منفردة ، بعد أن حقّقوا معه أكثر من مرة .. واثناء نومه في ذلك السجن الضيّق ، بكى حسرةً وهو يقول في نفسه :

((ليتني سمعت كلامك يا ابي ولم أشترك بتلك المسابقة الغنائية ، لكن أغرتني الشهرة والثروة السريعة .. وليتك لم تصنع حنجرتي الذهبيّة وتركتني أخرساً ، بدلاً من مواجهتي لأرعب حاكم دكتاتوري في العالم))

***


وفي اليوم المحدّد ..تجمّع الكوريون في ملعبٍ كبير ، لرؤية جاك الأمريكي وهو مقيّد اليدين والقدمين بالسلاسل ، بحدثٍ منقول مباشرةً على جميع قنوات الإخبارية العالميّة .. حيث شاهدوه وهو يبكي ويعتذر للرئيس كيم لتجاوزه الخطوط الحمراء ، وانه فعل ذلك مُرغماً من المخابرات الأمريكيّة


من بعدها أطلق كيم صافرته ، لفتح الأقفاص الحديديّة وإطلاق الكلاب الجائعة التي هجمت على جسد جاك دون رحمة .. ليشاهده العالم وهو يُنهش لحمه حتى الموت ، ولم يبقى من أثره سوى حنجرته الصناعيّة المُحطّمة بأسلاكها المُبعثرة ! 


الأربعاء، 26 يناير 2022

قطع غيار

تأليف : امل شانوحة 

 

الهبة الإنسانيّة


لطالما تساءل والد سليم عن سبب إنجابه إبناً مريضاً بالعضال ؟! فهو منذ صغره يلازم كرسيه المتحرك ، بعكس إخوته الكبار الرياضيين الحاصلين على ميداليات ذهبيّة ، والذين يطمحون للإلتحاق بالأولمبياد بتشجيعٍ من والدهم أخصائي التغذية .. 


اما سليم .. فأمضى معظم حياته (18 عاماً) مُتنقلاً بين المستشفى والعلاج الطبّي ، مما أتعب عائلته نفسيّاً ومادياً ! 

ولأن مدينتهم صغيرة ، لم يتواجد فيها سوى مستشفى واحد .. لهذا صار صديقاً للأطباء والممرّضين الذين اعتادوا على رؤيته من وقتٍ لآخر.. 

كما اصبح لديه اصدقاء في القاعة الكبيرة الموجودة بالطابق السفليّ للمستشفى ، المخصّصة لعلاج الأمراض المستعصيّة : كمرضى السكري وغسيل الكلى والسرطان والمعاقين وغيرهم


وكان سليم اكثر المرضى تفاؤلاً رغم سوء حالته الصحيّة .. فأحياناً يواسي الأهالي الذين يحضرون لاستلام الجثة من المشرحة ، او يتلقون خبر فشل عمليات أقاربهم . 

كما اعتاد شراء الحلويات من مصروفه للمرضى الأطفال الذين يفرحون بقصصه الشيّقة التي يرويها لهم قبل نومهم ، لهذا لقّبه الجميع : ((بملاك المستشفى))

***


في أحد الأيام .. سأل سليم الممرّضة عن الحاج عادل (أكبر المرضى سناً) فأخبرته انه يحتضر وحده في غرفة العناية ، بعد رفض ابنائه الحضور لخوفهم من مرض الجذام الذي أصابه قبل شهرين.. 

فأصرّ سليم على رؤيته ، رغم تحذيرها له من العدوى بسبب مناعته الضعيفة .. فأجابها بعصبية :

- انا ميت بجميع الأحوال !! على الأقل لن اموت نذلاً بالتخلّي عن العم عادل الذي كان بمثابة أبٍ لي ، بعد انشغال والدي بمباريات اخوتي الرياضيّة


فوافقت على أخذه لغرفة العجوز .. وتركته واقفاً بجانب سريره وهو يحاول كتم دموعه ، بعد رؤيته يتألّم من سكرات الموت .. 

فقال العجوز :

- لا تبكي يا سليم ، فأنا عشت حياتي : تعلّمت وسافرت ، وعملت بالتجارة وتزوجت وأنجبت الأولاد والبنات ، وأصبحت جدّاً لثلاثين حفيداً .. ورغم عدم توديعيهم لي قبل وفاتي إلاّ انني لست حزيناً ، فقد التزمت بديني طوال عمري ولم أفعل الحرام او اعتدي على حقوق غيري ولم أوذي انساناً بكلمة ، فلما أخاف من لقاء ربي العادل الذي حتماً سيُجزيني خيراً عن افعالي الصالحة ..هل معقول ان أحزن لدخولي بعد دقائق الى الجنة التي لن أشعر فيها بالألم والخوف والجوع والعجزّ ما حييت 


سليم وهو يمسح دموعه : ليتني لا أخاف من الموت ، مثلك يا عمي 

- وهل عصيت يوماً ربك ؟

- وكيف افعل وانا نصف مشلول ، وأمضيت جلّ حياتي في المستشفيات

العجوز : وكل لحظة شعرت فيها بالألم ، سيكافئك الله عنها بالآخرة ، لدرجة تمنّيك زيادة بلاؤك في الدنيا .. فمع صبرك على المصائب ترتفع درجتك في جنّات الخلد .. الم تسمع قول الله تعالى ))ولا يلقّاها إلاّ الصابرون)) ؟

سليم بتعجّب : هذه اول مرة أفكّر بالموت بأنه راحة من عذاب الدنيا !

العجوز : بل هو بوّابة للإنتقال لعالم الخلود .


ولم يكمل جملته ، حتى انتفض جسمه قليلاً ..ليرتفع بعدها رنين جهاز القلب ! 

فأسرع الطبيب لتأكّد من وفاة العجوز ، بعد أن أمر سليم بالخروج من الغرفة ..

فتمّتم سليم قائلاً :

- ألقاك قريباً يا عمي 

وجرّ كرسيه المتحرّك ، والدموع على وجنتيه..

***


بعد هذه الحادثة ..فكّر سليم كثيراً بالموضوع ، قبل حسم أمره ..

ودخل غرفة مدير المستشفى ليخبره بقراره الجريء ، فسأله باستغراب :

- هل انت متأكّد من ذلك ؟

سليم : نعم ، حدّد الموعد بعد انتهائي من المهمّة 

المدير : لكنها عملية خطيرة ، وقد لا تنجو منها

- اعرف هذا ، لهذا طلبت منك إبقاء الأمر سرّاً بيننا .. 

- أمصرّ أن لا تخبر اهلك بقرارك ؟

سليم بحزم : لا داعي لذلك ، فقد تجاوزت سن 18 ومن حقّي تحديد مصيري 

- ومتى تريد إجراء العمليّة ؟

سليم : بعد إيجاد الأشخاص الذين يستحقون أعضائي 


وخرج من مكتبه ، بعد توقيعه ورقة رسميّة بموافقته على التبرّع بأعضائه فور فشل عمليّته الخطيرة

***


خلال الأيام التالية .. تجوّل سليم مع الممرّضة (بأمرٍ من مديرها) على غرف الحالات الصعبة ، وهي تخبره عن حالتهم الصحيّة 


الممرّضة : وهذه غرفة فتاة صغيرة تعاني من فشلٍ كلويّ

سليم : ما اسمها لأقيّده في لائحتي ؟

وقبل أن تخبره ، إقترب والد الفتاة صارخاً :

- الم ينتهي غسيل الكلى ؟!! لي ساعتين وانا انتظرها في الممرّ

الممرّضة : سيدي ، لا يمكننا الإستعجال ف..

الأب مقاطعاً بغضب : زيدي سرعة الجهاز ، فورائي اعمال أهم من هذه الفاشلة !!


فبكت ابنته فور سماعها كلام ابيها الجارح ، فأسرعت الممرّضة بإخراج والدها من الغرفة .. فاقترب سليم بكرسيه المتحرك من سريرها ليسألها :

- هل اعتاد والدك على ضربك ؟

الفتاة بحزن : كان يفعل ذلك قبل إصابتي بفشلٍ كلويّ ، لكنه مازال يضرب امي !

- وهل لديك إخوة ؟

- هو لا يريد اولاد معاقين مثلي

سليم : أتدرين يا صغيرتي ، يبدو من الأفضل أن تعيشي في مكانٍ أجمل من بيتك الحاليّ

الفتاة : أين ؟

سليم : في الجنة ، مع آباء رحماء كالعم عادل

وخرج من الغرفة ، بعد شطب إسمها من اللائحة..

***


بعد قليل لحقته الممرّضة ، لتريه غرفة مريض آخر يحتاج على الدوام لتغير دمه .. فشاهده سليم وهو يصرخ على عاملة النظافة بشتائم بذيئة ! فأخبرته الممرّضة انهم اعتادوا على طباعه السيئة 

فشطب سليم اسمه من اللائحة ، وهو يقول :

- الدنيا لا تحتاج للمزيد من سيئي الخُلق .. رجاءً خذيني لأصدقائي بالطابق الأرضيّ ، فهم اولى بأعضائي

***


وفي القاعة السفليّة ، راقب سليم تصرّفات المرضى دون علمهم .. الى ان لاحظ مريضة جديدة (بسن المراهقة) حسنة الخلق مع الجميع ، ودائماً تشكر الممرّضين بامتنان ، وحنونة مع المرضى الأصغر سناً 

فبدأ يتقرّب منها للتعرّف عليها .. 

وبعد محادثتها لساعتين ، تفاجأ بصفاتهما المشتركة !

***


مع الأيام .. أُغرم بالصبيّة ، خاصة لكونها تُخفي ألمها رغم حاجتها لمتبرّعٍ للقلب بأسرع وقتٍ ممكن !

لهذا كتب إسمها بلائحته ، فهي الوحيدة التي تستحق قلبه 


وكذلك اختار أم لثلاثة اطفال لإعطائها كبده.. اما كليته اليمنى فقرّر إعطائها لرياضيّ يافع يحلم بالبطولة .. وقزحيّة عينيه لولدٍ صغير حتى لا يصاب بالعمى .. أما دمه فوزّعه على ثلاثة اولاد يعانون من فقر الدم.. ورئتيه لرضيع يعاني من صعوبة التنفّس .. 


وهكذا أكمل لائحته بأسماء المستفيدين التي أعطاها لمدير المستشفى بسرّيةٍ تامة ، والذي بدوره حدّد موعد عمليته الخطيرة بنهاية الإسبوع 

***


في الموعد المحدّد .. تفاجأ سليم بتجمّع أهله في غرفته ، وهم يلومونه على اتخاذه قراراً مصيرياً دون استشارتهم (بعد اتصال المدير بهم)

فأخبرهم انه تعب من الإبر والأدوية والعلاج الفيزيائي ، كما ارهقهم كثيراً بمصاريفه الماديّة ، وانه يرغب حقاً بإنهاء عذابه : إما بشفائه التام ، او موته ليريحهم من همّه


وبعد توديعه ، دخل غرفة العمليات .. وقبل تخديره ، أمسك يد الطبيب قائلاً :

- إتفقت مع مدير المستشفى بأن لا تنعشني في حال فشلت العملية ، وأن تبدأ على الفور بإزالة اعضائي للمستفيدين الذين عيّنت اسمائهم

الطبيب : اعلم هذا ، وهم متواجدون في المستشفى بانتظار النتيجة

سليم بحزن : تقصد بانتظار موتي .. اذاً دعنا لا نضيّع الوقت ، وضع لي جهاز التخدير 

***


وكما توقع الطبيب سابقاً ، لم تنجح عمليته ! وحزن اهله بخبر موته ، رغم علمهم بارتياحه من عذابه


وحين طالبوا المستشفى بتسليمهم سليم لدفنه.. تحجّجوا بالأوراق الرسميّة ، ووعدوهم بتسليم الجثة في اليوم التالي


بعد خروج اهل سليم من المستشفى ، بدأت عمليات جراحيّة مُستعجلة لنقل أعضائه للمستفيدين .. والتي نجحت جميعها ، لتهلّل عائلاتهم فرحاً وامتناناً للبطل سليم الذي أهدى مرضاهم فرصة جديدة للحياة

***


وفي اليوم التالي .. إستلم الأهل جثته مُكفّنة ! فعاتبهم الوالد :

- لما لم تسمحوا لنا بذلك ؟!

الطبيب : لدينا فريق عمل مُتخصّص بالغسل والتكفين ، عليكم فقط أخذه للجامع للصلاة عليه ..

وبذلك دُفن سليم ، دون علم اهله بتبرّعه بأعضائه !

***


ولم يعلموا بالأمر ، إلاّ بعد إقامتهم مجلس عزاء آخر بمرور 40 يوم على وفاته (حسب عادات منطقتهم)..

ليتفاجأوا برجلٍ ثريّ يقدّم لهم شيكاً بمبلغٍ كبير (بعد تبرّع سليم بكليته الأخرى لإبنه الوحيد)

وقبل أن يعيّ الأهل ما حصل ! قدم 8 اشخاص وعائلاتهم الى العزاء لشكرهم على تبرّعات سليم لإبنائهم

مما أغضب والده ، لعدم استشارة المستشفى له بهذا الخصوص.. 


ولم تهدأ اعصابه إلاّ بعد قدوم مدير المستشفى ، لتسليمه الورقة الرسميّة الموقّعة من سليم الذي اشترط سرّية تبرّعاته .. كما أعطاه رسالة منه ، طلب تسليمها لأبيه في العزاء ..

وكان فيها :

((ابي العزيز .. سمعتك مرة تكلّم صديقك : بأنك لا تعرف سبب إنجابك لولدٍ معاق مثلي ؟ وقد أحزنني كلامك ! لهذا بحثت عن مريضٍ ثريّ لأتبرّع له بكليتي ، لسداد ديون علاجي الذي كلّفتك بها منذ ولادتي ، وأتمنى أن يكون المبلغ كافياً .. اما بقيّة المستفيدين ، فهم اصدقائي ويحتاجون لفرصةٍ ثانية للحياة ، وقد اخترتهم بعناية ليستحقوا أعضائي ..رجاءً لا تغضب مني ، فالله خلقني لأكون قطع غيار للناس الصالحين .. فهل أنت فخورٌ الآن بإبنك المعاق ؟))


فبكى الأب حزناً على فراق ابنه .. بينما اقتربت الصبيّة من أم سليم وهي تقول :

- ابنك تبرّع لي بقلبه ، فهل تريدين سماع نبضاته ؟

وأعطتها السمّاعة الطبّية التي وضعتها الأم على صدرها ، لتقول باكية :

- نعم !! هذا قلب سليم الطيّب بالفعل

وانهارت عائلته بالبكاء..

***


بعد سنوات .. قدمت الفتاة مع طفلها الى المقبرة ، ووقفت امام قبر سليم :

- هذا ابني ، سمّيته على اسمك .. فزوجي يعلم إنك حبي الأول ..وكيف لا ، وانا احتفظ بقلبك داخلي .. شكراً لأنك أعطيتني فرصة للحياة ، يا صديقي الغالي


ورمت الورود على قبره ، وهي تقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة التي يندُر وجودها بحياتنا الحاليّة !


الثلاثاء، 25 يناير 2022

إمتحان الصبر

تأليف : امل شانوحة 

 

الله يبلي ويُعين


جلس مروان على الشاطىء في عطلة نهاية الإسبوع وهو يتأمّل البحر ، قبل ملاحظته بصّارة تراقبه من بعيد بتمعّن ! 

فابتسم لها ، ليجدها تشير بيديها بإشارة الصمّ والبكم ! 

فحرّك شفتيه لإخبارها إنه لا يفهم لغة الإشارة ، لكنه تفاجأ بنفسه يُحرّك يديه بطريقة مُشابهة للبصّارة ! 

ليس هذا فحسب .. بل سمع ما تقوله بمجرد مراقبته يديها ، وكأنه يتقن لغة الإشارة منذ سنوات !


ليدور بينهما هذا الحديث الصامت :

- آسف يا سيدة ، لا أفهم لغتكم

البصّارة : لكنك تتقنها بالفعل

- لما أحرّك يدايّ هكذا ؟!

- يبدو إن الله وهبك المعرفة ، لتصبر على البلاء القادم

مروان بقلق : عن أيّ مصيبةٍ تتحدثين ؟!


وقطع حديثهما مرور رجلٌ بثيابه السوداء وهو ينظر بحديّة الى مروان الذي شعر بالقشعريرة المرعبة تسري في جسده ! مُكتفياً بقول عبارةٍ واحدة ، قبل إكمال طريقه :

الرجل بصوتٍ رخيم : الله يبلي ويعين


وبعد ذهابه ..التفت مروان للبصّارة ، ليجدها ترتعش بخوف ! بعد رؤيتها الرجل الغامض ، وهي تشير بيديها لمروان :

- لقد نزل القدر ولا يمكنك تجنّبه ، كان الله في عونك يا مروان


فأفزعه معرفتها لإسمه ، قبل إختفائها بين المصطافين المتواجدين على البحر !

وبدوره غادر المكان بعد شعوره بالضيق مما حصل .

***


في طريقه الى منزله ... شاهد ولداً اخرساً يشير بيديه لمجموعة من الأولاد الذين لم يفهموا ما يريد !

والغريب إن مروان استطاع بسهولة فهم لغة الإشارة ، وأخبر الأولاد بأن الصبي يريد اللعب معهم لبراعته بتسديد الكرات .. فوافقوا على مشاركته المبارة .. فالتفت الصبي لمروان ليشكره على الترجمة 

وأكمل مروان طريقه ، وهو لا يفهم كيف أتقن هذه اللغة الخاصّة دون تعلّمها !

***


بعد ايام ... زار مروان قريبه الذي يعمل بدار المعاقين لإخباره بما حصل ، والذي اعتبرها صدفةً غريبة دون تفسيرٍ لها !


وقبل خروج مروان من الدار ، دخل بالخطأ الى غرفة تدريس الصمّ والبكم ، ووجد نفسه يُشارك المعلمة بتدريسهم ..


وبعد الحصة سألته : إن كان احد اقاربه أبكماً ، وتعلّم اللغة لأجله ؟

فأخبرها بما حصل عند الشاطىء..

فقالت بدهشة :

- صحيح لغة الإشارة ليست صعبة ، لكن أن تتعلّمها في لحظة لهو شيءٌ غريب بالفعل !.. (ثم سكتت قليلاً)..ربما أعطاك الله هذه القدرة للإستفادة منها بعملك ؟

مروان : أعمل مذيعاً للنشرة الرياضيّة ، فكيف ستفيدني لغة الصمّ؟!

وتحدثا قليلاً ، قبل عودته للمنزل

***


في اليوم التالي ..وبعد انتهاء نشرة الأخبار ، تعثّر احد العاملين بشريط الإنارة التي وقعت بقوة على رأس مروان ، مما أفقدته الوعيّ


واستيقظ بعد ساعتين في المستشفى .. وحين سأله الطبيب : كيف يشعر بعد خياطة 5 غرز في رأسه ؟

أجاب مروان بلسانٍ ثقيل ، وهو يجد صعوبة بنطق الحروف !

فقال الطبيب :

- يبدو إن الإصابة أضرّت مركز النطق في الدماغ ! سنصوّر رأسك بالأشعة لنتأكّد من الموضوع


وكان توقع الطبيب في محله ، حيث بات كلام مروان صعباً وغير مفهوم

***


بعد خروجه من المستشفى .. أخبره مدير الإذاعة باضّطراره لإحضار موظفاً غيره للنشرة الرياضيّة

فقال مروان (بلسانٍ ثقيل) : انه على استعداد للعمل بترجمة نشرة الأخبار بلغة الصمّ والبكم ..

فسأله المدير :

- وهل تجيد لغة الإشارة ؟!

مروان : تعلّمتها الإسبوع الفائت

- حسناً سأحضر شخصاً من دار المعاقين لامتحانك .. وإن نجحت ، أعيّنك في نشرة الأخبار .. فأنت موظفٌ قديم ويعزّ عليّ طردك


وبالفعل نجح بالإمتحان وعُيّن بوظيفته الجديدة

***


بعد شهر.. اراد مرشحٌ جديد للحكومة بإلقاء خطبته السياسيّة لحملته الإنتخابية في مستشفى افتتحت حديثاً ..

فأرسله مدير الإذاعة في مهمّة لترجمة كلام الرئيس للصمّ والبكم من الحضور والمشاهدين في بثٍ مباشر من القاعة السفليّة للمستشفى


وأثناء انشغال مروان بعمله ، لمح ولداً معاقاً يدخل القاعة وهو يشير بيديه لمروان لترجمة كلامه ، وهو يقول برعب :

((هناك رجلٌ يضع المتفجّرات على بطنه .. شاهدته بالحمام قبل قليل ، وهو قادمٌ الى هنا))


وما أن لمح مروان الشخص المشبوه يقتحم القاعة ، حتى سحب الرئيس من يده ..ثم دفعه لداخل المصعد ، ليلحقه حارساه الشخصيان ..

وما أن أُغلق باب المصعد ، حتى دوّى انفجارٌ هائل !


بعد هدوء الوضع وإنارة اضواء المصعد الخاصة بالطوارىء ، سأله الرئيس عن كيفية معرفته بالقنبلة ؟

فأخبره مروان (بلسانه الثقيل) عن الولد الصغير الذي يبدو انه مات مع المتواجدين في قاعة المستشفى !


من بعدها حاول الحارسان بكل قوتهما كسر باب المصعد العالق ، ليتفاجؤا جميعاً بحجم الدمار والركام الذي يفصلهم عن بوّابة الخروج من المبنى المنهار !


ومشوا خلف بعضهم محاولين تجاوز شظايا الزجاج او التعثّر بالأحجار ، الى أن بات مستحيلاً رؤية طريقهم بعد تعمّقهم في الظلام


وحين توقفوا لانعدام الرؤية ، تفاجأ مروان بقدرته على مشاهدة كل شيء باللون الرمادي ، كأنه يضع جهازاً على عينيه للأشعة تحت الحمراء او إن عينيه تحوّلتا لرادار الوطواط ! وطلب منهم بثقة الّلحاق به


وبالفعل تمكّن من إخراجهم بسلام لخارج المبنى المنفجر ، ليُسرع رجال الرئيس بأخذه في سيارته المظلّلة..


وقبل ابتعاد مروان عن موقع الدمار ، لمح البصّارة ذاتها واقفة بين الحشود (الذين قدموا لرؤية مكان الإنفجار) وهي تقول بلغة الإشارة :

- هآقد منحك الله موهبة ثانية ، قبل إعاقتك التالية

فأشار مروان بيديه مُستفسراً بخوف :

- أيّةِ إعاقة ؟!


وفجأة ! سقطت حجرة على رأسه ، أوقعته ارضاً .. وحين فتح عينيه ، تحوّل العالم لظلامٍ دامس !


ورغم ارتفاع صُراخ الناس المطالبين بإنقاذه ، إلاّ أنه تمكّن من تميّز صوت الرجل الغامض الذي همس في إذنه :

- الله يبلي ويعين


فعلم إن الله وهبه القدرة على الرؤية في الأماكن المُعتمة (فقط) بعد إصابته بالعمى الدائم ، ليمتحن صبره على إعاقتين قي غاية الصعوبة !


الاثنين، 24 يناير 2022

مسابقة دموية

تأليف : امل شانوحة 

رهان الأثرياء


إستيقظت جاكلين على سريرٍ في غرفةٍ ضيّقة ! محاولةً تذكّر اين كانت قبل تواجدها في هذه الغرفة الكئيبة بجدرانها البنفسجيّة

((كنت في سيارة أجرة بطريقي للعمل ! كيف وصلت الى هنا ؟!))


وتذكّرت كلام السائق وهو يسألها :

((الا تتمنّين لوّ تصبحي مليونيرة بغضون دقائق ؟))


وقبل أن تجيبه ، شعرت برذاذٍ يُرشّ عليها من سقف السيارة !  

((هل خدّرني اللعين ليحضرني الى هنا ؟! وهل أذاني اثناء نومي؟))


وقيل إستغراقها بالتفكير ، سمعت صوتاً من الميكرفون المُعلّق بسقف الغرفة :

- اهلاً بك يا جاكلين في مسابقتنا !!

فردّت بعصبيّة : من انتم ؟!! ومن سمح لكم بإحضاري الى هنا دون إذني؟


فلم يهتم لسؤالها ، وأكمل قائلاً :

- عليك الخروج من فندقنا بخلال 5 دقائق .. وإن فعلت ذلك ، تكسبين مليون دولار .. العدّ يبدأ الآن !!


وظهرت الثواني العكسيّة على الساعة الرقميّة المُعلّقة فوق باب الغرفة .. فشعرت جاكلين بالحماس ، لكونها ستصبح ثريّة بعد دقائق..


وخرجت من الغرفة .. لتجد عدّة غرف في ممرٍّ رفيع ، دون وجود مصعدٍ او ادراج على طول الممرّ ! 

بينما تواجدت ساعات رقميّة فوق كل غرفة وهي تتحرّك بشكلٍ عسكيّ ، لتُعلمها بالوقت المتبقي لخسارتها المسابقة .


ففتحت الغرفة الأولى على أمل إيجاد مخرج الفندق ، إلاّ أنها وجدت ثلاثة كلابٍ بوليسيّة شرسة تتناول طعامها ! 

فأغلقت الباب بهدوء قبل هجومهم عليها


ثم فتحت الباب الثاني : لتجد تمساحاً كبيراً وسط الغرفة ! 

فأسرعت بقفل الباب ، وهي تلعن عقليّة مُخترع المسابقة المُتخلّفة .


اما الغرفة الثالثة : فكانت أشبه بالفرن ، بعد اشتعال النيران من فتحات الغاز على جدرانها الجانبية ! 

فأعادت إغلاقها من جديد


والغرفة التي تليها : وجدت مُهرّجاً يحمل فأساً ، وهو يدنّدن اثناء تأرجحه على الكرسي الهزّاز ! 

فأسرعت بقفل الباب ، خوفاً أن يقتلها بفأسه


وكل غرفة فتحتها ، وجدت نوعاً مختلفاً من التعذيب النفسي او الجسدي .. الى أن وصلت لنهاية الممرّ ، دون عثورها على مخرج المتاهة !


ومع انتهاء الدقائق الخمسة ، ظهر صوتٌ من الميكرفون :

- خسرت المسابقة !!!


ليُرشّ عليها الماء من سقف الممرّ ، لكنه لم يكن ماءً عادياً بل أسيدٍ كاوي!

فأخذت تصرخ بألم ، وهي تركض عائدةً لغرفتها الأولى (التي نامت فيها) لكنها اخطأت بفتح غرفة المهرّج الذي هجم عليها ، وقطع رأسها بالفأس !

***


إستيقظ المتسابق الثاني جيم في ذات الغرفة البنفسجيّة ، وهو لا يعيّ كيف وصل اليها !

وأخذ يسترجع افكاره واين تواجد هذا الصباح ! فتذكّر استقلاله لسيارة أجرة للذهاب للمطار .. وحين سأله السائق ذات السؤال ، أجابه بسخرية :

((لا يوجد مكافئات مجانيّة في هذه الدنيا ، عليك العمل ليل نهار لتوفير قوت يومك))

وقبل إكمال نظريته ، سقط مغشياً عليه فوق المقاعد الخلفيّة لسيارة الأجرة!


ثم حصل معه ما حصل مع جاكلين ..

فخرج مُسرعاً من الغرفة لإيجاد المخرج ، أملاً في الكسب السريع


لكنه ايضاً لم يحالفه الحظ .. وقبل انتهاء الثواني الأخيرة ، حاول كسر النافذة الوحيدة المتواجدة بنهاية الممرّ الطويل..

وقبل قفزه منها رغم ارتفاع المكان ، هجمت عليه الكلاب البوليسيّة بعد نسيانه قفل باب غرفتهم جيداً ، ونهشوا جسده حتى الموت

***


اما المتسابق الثالث اريك : فقرّر الدخول لإحدى الغرف الفارغة التي تحوي باباً ثانياً ، ظنّاً بأنه الباب الموصل للسلالم .. لكن فور تجاوزه الباب الآخر ، فتحت الأرضيّة اسفل قدميه ! ليسقط في غرفةٍ مليئة بالمسامير الطويلة الحادّة التي اخترقت كل جزءٍ من جسمه .

وظلّ ينزف لساعتين وهو يطلب النجدة دون سماعه احد ، حتى فارق الحياة !

***


اما المتسابق الرابع جاك : فكان مختلفاً عن الباقين ، حيث فاجأ المتراهنين الأثرياء (الذين يراقبونه من الكاميرات) بتغطية وجهه بالّلحاف ، رافضاً الخروج من الغرفة البنفسجيّة ، دون اكتراثه بسريان وقت المسابقة !


فظهر صوتٌ من الميكرفون :

- مازال امامك دقيقتين ، أخرج الآن من الفندق لكسب المليون دولار!!

فأجاب جاك بنعاس :

- النوم الآن يساوي عندي مليار دولار ، فأنا لم أنمّ منذ مدةٍ طويلة على سريرٍ دافىء ومريح كهذا الفراش الناعم


وبعد انتهاء الوقت ، قال الصوت غاضباً :

- هل تسخر منا ؟!! اذاً سنريك ما خسرته

ودخل عليه حارسٌ ضخم وهو يوجّه مسدسه نحوه ، ويأمره بالّلحاق به


فاضّطر جاك للذهاب معه ، بعد إغماض الحارس عينيه حتى لا يرى الغرفة التي فيها مخرج المتاهة 


ثم ازال عِصابة عينيه بعد وصولهما لقبو الفندق الذي فيه خمسة مشتركين آخرين منوّمين هناك ، بانتظار دورهم لنقلهم الى الغرفة البنفسجيّة !

وهنا قال الحارس :

- أترى ذلك الباب بجانب فراشهم .. هذا هو مخرج الفندق !! ولن أفتحه لك ، قبل قتلك واحداً من المشتركين

جاك : وماذا عن الجائزة ؟


ففتح الحارس الحقيبة (أخرجها من خزانةٍ هناك) التي فيها رزم الدولارات قائلاً :

- إن قتلت احدهم برصاصة في رأسه ، سأعطيك المبلغ كاملاً

جاك : يُحزنني قتلهم بهذه الطريقة ، الا يمكنك إيقاظهم اولاً ؟


فأخرج الحارس دواءً صغيراً من جيبه ، وهو يقول :

- بالعادة نرشّ الدواء على وجه المتسابق بعد تمديده في فراش الغرفة البنفسجيّة ، ليبدأ العدّ العكسي للمسابقة .. لكن طالما تريد إيقاظهم لاختيار ضحيتك ، فلا مانع من ذلك

جاك : نعم أيقظهم جميعاً ، فلست جباناً لقتل شخصٍ نائم


فقام الحارس بوضع الدواء امام انوفهم .. وفور إشتمام المتسابقون الخمسة لرائحة الدواء القويّة حتى نهضوا من فراشهم ، لتظهر علامات الرعب على وجوههم ! بعد رؤية جاك يوجّه مسدسه نحوهم وهو يقول :

- آسف يا اصدقاء .. عليّ قتل احدكم لكسب مليون دولار ، وقد  اخترت ضحيّتي من بينكم


ليتفاجأ الجميع بإطلاقه النار على الحارس الذي سقط ميتاً برصاصةٍ في رأسه !

ثم أسرع جاك بسحب المفتاح من جيب الحارس ، وفتح الباب الرئيسي وهو يأمر المتسابقين بالهرب فوراً من هذا الجحيم !!!


فركضوا مترنّحين من أثر المخدّر باتجاه الطريق العام الذي لا يبعد كثيراً عن الفندق المهجور الذي قام الأثرياء بتجديد طابقٍ واحدٍ منه لأجل مسابقتهم الدمويّة !


ثم نظر جاك للشاشة المتواجدة هناك ، قائلاً :

- ايها الأغبياء !! الم تجدوا سوى مشرّداً مثلي لتلعبوا معه .. في المرّة القادمة اختاروا ضحاياكم جيداً , وعيّنوا حارساً أذكى من هذا الغبي الذي سلّمني سلاحه


ثم خرج من الباب ، ومعه الجائزة التي كسبها دون خضوعه للمسابقة المميتة !


الأحد، 23 يناير 2022

عاقبة الفضولي

تأليف : امل شانوحة 

 

إيقاظ الوحش


اراد كاتبٌ مُبتدىء (يحلم بالشهرة) كتابة قصّة بوليسيّة مستوحاة من احداثٍ حقيقيّة . وبعد حصوله على إذن الشرطة ، بحث في أرشيفها عن قضايا قديمة صدر بها حكمٌ نهائيّ


وبعد البحث والتدقيق لأسابيع ، وجد جريمة حصلت منذ 10 سنوات : حيث قام قاتلٌ متسلّسل بقتل وأكل ضحاياه العشرين الذين أوقفوا شاحنته لأجل نقلهم للمدينة بالمجّان ، وأكثرهم من النساء الهاربات من بيوتها .


وكلما بحث الكاتب بأقوال المجرم تأكّدت شكوكه بكونه مريضاً نفسيّاً ، إثر معاناته من طفولةٍ سيئة لوالدٍ قاسي وأمٌ مستهترة .

فبعد موت والده ، ربّاه زوج امه الذي أجبره على العمل بسن المراهقة في مجال الكهرباء ، بعد إخراجه من مدرسته المتوسطة


وبعد مقتل والدته بحادث سيرٍ مروّع ، هرب من منزله لعدم تحمّله قذارة زوجها الذي حاول التحرّش به اثناء سكره ! ليُصبح مُشرداً بالشوارع حتى سن الثلاثين ، قبل رؤيته إعلاناً عن وظيفة سائق شاحنة لإحدى المصانع 


فعمل بتوصيل المؤن بين المدينتين لعشر سنوات ، قبل ارتكاب جرمه الأول : بعد أن أوقفته فتاة ليل مساءً ، لتوصيلةٍ مجانيّة. 

وقبل الوصول لوجهتهما ..حاول التقرّب منها ، فصفعته بقوة ! فجنّ جنونه وقيّدها بجانب بضاعته . 


وعندما حاول الإعتداء عليها .. عضّت أذنه بقوةّ ، وقصّت جزءاً منها ! 

فلم يجد نفسه إلاّ وهو ينقضّ على رقبتها ويقطع عرق عنقها . ثم يقف مذهولاً وهو يراقب إحتضارها !


وبعد سرده الحادثة للمحقّق ، قال المجرم مُبتسماً :

((كانت ما تزال قطعة من لحمها في فمي وبدلاً من بصقها ، بلعتها فأعجبني مذاقها ! فنقلت الجثة الى منزلي وبدأت بتقطيعها ووضع لحمها بالثلاجة . ثم عزمت رفاقي من سائقي الشاحنات بنهاية الإسبوع على حفلة شواء . وقد وفّر لحمها الرخيص الكثير من تكلفة الحفلة))


وكانت هذه جريمته الأولى ، التي تكرّرت مع كل تعساء الحظ 19 الذين أوقفوه لأجل توصيلةٍ مجانيّة أنهت حياتهم !


ورغم محاولة محامي الدفاع إرساله لمصحّةٍ نفسيّة ، إلاّ أن القاضي أصرّ على الحكم عليه بالسجن المؤبد .. قضى منها حتى الآن عشرين سنة ، ليصبح عمره 60 عاماً


وقد أُعجب الكاتب بقضيته كثيراً ، حيث استطاع بموهبته الفريدة تحويلها لقصةٍ مثيرة ، مُحاولاً التركيز على ماضي القاتل الحزين والمؤلم .

***


ولاحقاً وافق المنتج على تحويلها لفيلمٍ دراميّ ، الذي سرعان ما آثار ضجّة في صالات السينما .. حيث تعاطف المشاهدون مع المجرم ، مُتناسين حجم الألم الذي سبّبه لأهالي الضحايا !


وأدّى ضغط الرأيّ العام على طلب الإستئناف في قضية المجرم ، واستحقاقه للعلاج النفسي بدل السجن المؤبد


وبسبب تقاعد القاضي السابق ، واستلام قاضي جديد قضيته (الذي ظهر تأثّره بسياق الفيلم الدراميّ) حيث وافق على طلب الدفاع بنقل المجرم الى مصحٍّ نفسي ، بشرط وضعه في غرفةٍ مشدّدة الحراسة 


وأدّى تغيّر حكم القضيّة ، لغضب اهالي الضحايا الذي كان موقفهم ضعيفاً هذه المرة بسبب الفيلم السينمائي الذي قلب اراء الناس ضدّهم !

***


وبعد شهر من انتقال المجرم لمستشفى الأمراض النفسيّة ، قابله الكاتب الذي عرّف عن نفسه بفخر : بكونه من غيّر مجريات القضية لصالحه


ففاجأه المجرم بجوابٍ صادم :

- أتعلم إن حراسة المصحّ غير مشدّدة كالسجن الذي كنت فيه ، وهذا يعني إن هربي ليس صعباً .. وأول شيءٍ سأفعله بعد خروجي من هنا ، هو تذوّق لحم جسدك


فارتعب الكاتب من كلامه ! وأسرع بطرق الباب للخروج من الغرفة


وبعد عودته للمنزل .. شعر الكاتب بارتكاب خطأٍ فادح بإطلاقه وحشاً من السجن ، وتمنّى موته بالمصحّ قبل ارتكابه جريمةً أخرى

***


بعد شهرين .. تعرّض الكاتب لكوابيس وأرقٍ شديدين بعد علمه بفرار المجرم من المصحّ ، عقب قتله زميله وحارسيّ أمن وجرحه لممرّض وطبيبه المعالج بعد جلسة علاجٍ جماعيّة ، حيث ثار جنونه بعد سؤال الطبيب عن موقف امه من تعذيب زوجها له ؟


ولم يستطع احد إيقافه بعد قفزه من سور المستشفى ، رغم إصابته برصاصة في قدمه !

***


لاحقاً قام الكاتب بتركيب جهاز إنذار وكاميرات مراقبة في بيته ، وإحضار كلباً بوليسيّاً لحمايته من أيّ دخيل


وفي ليلةٍ باردة .. شعر الكاتب بشيءٍ لزجّ يُصبّ على خدّه ! 

ففتح عينيه بتعب ، ليجد المجرم امام سريره وهو يسكب العسل على وجهه قائلاً :

- اللحم البشري مالحٌ جداً ، والعسل يجعله قابل للبلع


وقبل نهوضه من سريره بفزع ، ثبّته المجرم بيده الضخمة على صدره بعد إطباق يده الثانية على فمه لإسكاته ، وهو يكمل قائلاً :

- كان عليك إطعام كلبك ، قبل قتله بلحمٍ مسموم .. اما أجهزتك الغبيّة فسهلٌ عليّ فكّها ، أنسيت انني عملت كهربائي في مراهقتي ؟ والآن لنتذوّق لحم الكاتب الفضولي الذي أعادني لعالم الجريمة


وقبل صراخ الكاتب ، إنقض المجرم على رقبته لقطع عرق عنقه ، ممّا جعله ينتفض إنتفاضة الموت .. بينما يراقب المجرم خروج روحه ليبدأ بتقطعيه ، وهو يفكّر بحفل شواءٍ لأصدقائه القدامى !


السبت، 22 يناير 2022

إنتقام الشهداء

تأليف : امل شانوحة 

الأحزاب اللبنانيّة


في تلك الأمسية الباردة . وفي مقبرة شهداء الحرب الأهلية مجهولي الهوية ، حدث شيءٌ غريب بعد أن ضربت صاعقة مجموعة من المقابر ! حيث بدأت الأتربة القريبة من الشواهد تهتز وحدها ، قبل خروج يد لميت من القبر والذي أكمل الحفر حوله ، الى أن أخرج جسده بالكامل . وكذلك فعل بقيّة الموتى ! 

وكان هناك نوراً خافتاً قادماً من إنارة الشارع القريبة منهم ، فاستطاعوا فهم ما حصل.


والغريب انهم لم يتحولوا لهايكل عظميّة ، بل خرجوا بالهيئة التي ماتوا عليها ! بقصّة شعرهم وملابسهم التي تعود لسبعينات القرن الماضي. فمعظمهم مات برصاص القنّاصة. حتى من دُفن كأشلاء بعد انفجاره بسيارة مفخّخة ، عاد كما كان قبل وفاته بعد تجمّع اشلائه المدفونة معه الى جسده. والشيء الوحيد الذي يفرّقهم عن الأحياء هو وجوههم الشاحبة فحسب !


وما أن التفت احدهم للآخر ، حتى صرخ غاضباً :

- هل عدّت ايضا ايها الكتائبيّ ؟

- كنت أتمنى أن لا القاك ايها السنّي !!


وهجما على بعضهما .. لكن ضرباتهما اخترقت اجسادهما ، ففهما إنهما تحوّلا لأشباح !

- غريب ! ظننت اننا في الآخرة

- وانا ايضاً ! يبدو مازلنا في الدنيا ، ترى لماذا ؟!

- يبدو إن دورنا لم ينتهي بعد

- هل جننت ؟!! جميعنا متنا منذ...آه صحيح كم مرّ الوقت على وفاتنا ؟!

- سنعرف فور خروجنا من هنا

- هيا يا رفاق لنستغلّ الظلام ونخرج من هذه المقبرة الكئيبة

***


وتساعدوا فيما بينهم ، حتى وصلوا للجهة الأخرى من السور. واتفقوا أن لا يفترّقوا بعد رؤيتهم التغيرات في شوارع ومناطق بيروت.


ومشى الثلاثون شاباً معاً ، الى أن سمعوا صاحب القهوة يناديهم :

- يا شباب !! لدينا خصم على الأراجيل والقهوة. أسعارنا لن تجدوها في قهوة أخرى بعد ارتفاع الدولار

فقال أحدهم باستغراب : إرتفاع الدولار !

فهمس رفيقه : ظننت بأن لا احد يرانا !

- وانا ايضاً ، دعونا ندخل

- ليس معنا المال

- لن نشتري شيئاً ، فقط نشاهد التلفاز


ودخلوا القهوة وطلبوا من صاحبها رفع صوت الأخبار ، بعد أن أطلعهم على تاريخ اليوم


- هل تصدّقون انه مرّ اكثر من ثلاثين سنة على وفاتنا !

فقال الآخر هامساً : إخفض صوتك ولا تجعل الأحياء يشكّون بنا

- إنظروا للأخبار ، مازالت ذات الشخصيات السياسيّة تحكم لبنان !


وبعد سماعم نشرة الأخبار ، هلّل احدهم بفرح :

- القائد عون أصبح رئيس الجمهورية ، وأخيراً !!!!

فنظر المتواجدون في القهوة اليه بغضب ، فسكت على الفور !


فهمس زميله مُنبّهاً :

- إصمت ولا تفضحنا

- انا فقط سعيد لأن موتي لم يذهب سدى

- الم تشاهد اسوء الأحداث الحاصلة في البلاد التي عرضتها النشرة ؟ يبدو إن زعيمك أفسد إقتصاد البلد ! لهذا لا تُبيّن فرحك امامهم ، فيهجمون علينا


ثم قال الشبح الآخر لزميله ساخراً :

- أنظر ايها الكتائبيّ ، انك في صفّنا الآن

فردّ بدهشة : هل هذا ابن رفيق الحريري ؟!

- يبدو ذلك !

- هل اتفق المسيحون والإسلام ؟!

- ونحن من قُتلنا دفاعاً عن الدينين !

- لحظة يا شباب ! هل حزب الله مُتفقٌ الآن مع حركة امل ؟ وأنا من عاديت اخوتي بعد انضمامهم للحزب !

- ماذا يحصل بحقّ الجحيم ، اعداء الأمس أصبحوا زملاء اليوم ؟!

- ما أسمعه يا رفاق يضايقني للغاية

- وانا ايضاً ، أشعر إن حياتنا ضاعت بلا مغزى


وهنا أعلن رئيس الجمهورية (في الأخبار) عن إجتماعٍ عاجل للنّواب في صباح الغد

فقال الشبح لزملائه بقهر :

- هل تفكّرون بما أفكّر به ؟

- نعم !! سنعلّمهم درساً لن ينسوه ابدا

***


في صباح اليوم التالي.. إستطاع الأشباح الثلاثين المرور بسهولة من حرس مجلس النّواب بعد تحوّلهم لظلال . الى أن قرّروا الظهور بمظهرهم الشاحب امام حارس بوّابة المجلس النيابي ، مما جعله يفقد الوعيّ.

ومن بعدها فتحوا الباب ، ودخلوا وهم يحملون العصا والسكاكين الحادّة ...


فصرخ عليهم رئيس المجلس :

- من سمح لكم بالدخول ؟!!

فأجابه الشبح :

- أتدرون من نحن ؟!!

- نحن شهداء الحرب الأهليّة

- وقفنا سابقاً مع احزابكم ونحن نؤمن بمبادئكم ، وإذّ بكم الآن تتفقون مع الأعداء ، غير مباليين بدمائنا التي أُهدرت بسببكم

- ويبدو اللبنانيون مازالوا يعانون منكم حتى وقتنا الحالي

- لهذا قرّرنا أخذ حقّ المظلومين في الماضي والحاضر .. هجوم يا شباب!!


وصرخ النّواب والوزراء بفزع وهم يحاولون الهرب من الأشباح الغاضبين . حتى بعضهم توسّل بأنها السياسية التي تتغير حسب الوقت والوضع الراهن ، لكن هذا لم يشفع لهم

***


بعد ساعتين ...أُذيع الخبر العاجل بالأخبار عن موت من في المجلس ! قائلا المذيع بذهول :

((تفاجأ الحرس قبل قليل بجثث النّواب والوزراء ! ولم تُظهر كاميرات المراقبة مُرتكب الجريمة ، بالرغم من تسجيل صراخ المجني عليهم وتطاير دمائهم واشلائهم . فهل هجم الجن والشياطين عليهم ؟! شاهدوا الفيديو واحكموا بأنفسكم))


ورغم غرابة الحدث ! إلاّ أن اجواء لبنان امتلأت برصاص الفرح والزغاريد ، وساد الإعتقاد : (أن الملائكة قتلت السياسين الفاسدين بعد تدميرهم اقتصاد البلد في السنتين الفائتتين ، مُعرّضين الشعب للهلاك والفقر)


وعمّت الإحتفالات البلاد ، فيماعدا القلّة من رجال السياسيين وأزلامهم الذين سارعوا بالفرار للخارج خوفاً من غضب الشعب

***


في هذه الأثناء ...عادت اﻷشباح للمقبرة بضميرٍ مرتاح ، قائلاً احدهم :

- اخيراً انتقمنا لموتنا

- وانتقمنا للشعب اللبناني بجميع طوائفه

- أشعر أن روحي ارتاحت اخيراً

- وانا ايضاً ، يكفي تعليمنا الظالمين درساً لن ينسوه ابدا

- اظننا سنلتقي ثانية ، لكن في الآخرة هذه المرة

- الوداع يا اصدقاء !!


وفور استلقائهم في قبورهم حتى اختفوا تحت الأرض ، لتعود المقبرة هادئة كما كانت طوال العقود الماضية !


الجمعة، 21 يناير 2022

إعلانين وطنيين (دعاية)

الإعلان الأول :


نضع الكاميرا على مكعب روبيك . كل جهة تحمل شعار لحزبٍ من الأحزاب اللبنانية . اما الجهة السادسة والأخيرة فيكون للعلم اللبناني

تنتقل الكاميرا من يدٍ ليد . وكل واحداً منها يحاول ضبط الوان حزبه . وبعد إكمال شعاره يقول :(هلأ ظبط الوضع) ونصوّر الجهة الأخرى من المكعب ، ليبدو العلم اللبناني مُلخبط الألوان ! 

فتأتي يدٌ أخرى وتسحب المكعب منه بعنف ، وهي تقول:(بس هيك إتخربط وضعي) ويعود لترتيب الوان حزبه . 

وكل شخص بعد ضبط شعار حزبه ، يفسد في المقابل ترتيب العلم اللبناني!


الى أن تأتي يد لرجلٍ يلبس طقماً رسمياً ، ويقوم بضبط ألوان العلم اللبناني وهو يقول: (بس الأهم !! يزبط الوطن)

***


الإعلان الثاني : 



في مدرسة حضانة .. تطلب المعلمة من التلاميذ رسم العلم اللبناني بالألوان المائية .

فيبدأ كل ولد برسم العلم الذي يراه في منزله . 

ونضع الصورة على ولد رسم العلم اللبناني صحيحاً ، والذي تفاجأ بأكواب الماء لأصدقائه التي صُبغت باللون الأزرق والأصفر والأخضر والبرتقالي!

فيذهب ويأخذ اكوابهم ويضعها فوق كوبه ، ليتحوّل للون الأسود. 

ثم يضع شريطاً اسوداً على جانب علمه اللبناني (إشارة الموت)


ونكتب بنهاية الإعلان :(اذا بقينا متفرقين ، رح يموت الوطن)


الأربعاء، 12 يناير 2022

البرج المهجور

تأليف : امل شانوحة 

 

رمز الحرب الأهليّة


برج المرّ .. البرج الأطول في زمن السبعينات .. عبارة عن مبنى إسفلتي خالي من النوافذ والأبواب ، بعد إيقاف بنائه فور اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة.. حيث عُدّ نقطة إستراتيجية  للأطراف المتحاربة .. فمن يستولي عليه ، يتحكّم في وسط البلد ! 

وبسبب إنقطاع الكهرباء ، لم يتمكّن احد الوصول لطابقه الأخير 40 .. حيث تمركز القنّاصون بين طابقيه 12 و 14 .. 


بعد انتهاء الحرب ، اراد المسؤولون هدم البناء القديم .. وكلما حاولوا ذلك ، تعطّلت الجرّافة او صادفتهم مشكلة قانونيّة ، او اعترض أحدّ ملاّك البناء على ذلك ! لهذا توقف مشروع هدمه لسنواتٍ طويلة .. وبات انهياره بسبب قدمه ، يُهدّد العمارات المجاورة ..

ولم يعرف احد سبب تعسّر الهدم ، إلى أن أقدم شابٌ يافع على تحليق طائرته درون لاكتشاف سطح المبنى المهجور وطوابقه العليا ، لعدم وجود مصاعد داخله !


وحين حلّقت هناك .. صوّرت سطحه الذي كان فارغاً تماماً ، فالحرب اندلعت قبل تركيبهم خزّانات المياه او توصيلهم أسلاك الكهرباء ..

وتحكّم الشاب بطائرته الصغيرة للنزول من السطح للطوابق التي تليه ، عابراً الدرج الإسفلتي ..


وكلما وصل لطابق ، بحث في جميع غرفه عن شيءٍ مثير (كما أنبأه حدسه) ..لكن كل الطوابق كانت فارغة تماماً !


إلى أن وصل للطابق العشرين ، وما صوّرته طائرته كان غريباً للغاية ! بعد إيجاده هيكلاً عظميّاً في زيّ عسكري ، ميتاً وهو مستنداً على عامود وسط صالةٍ فارغة ، وبجانبه بندقية من النوع القديم .. ويبدو انه حفر بسكينه على الحائط عدد الأيام التي بقيّ وحده هناك ! جائعاً في النهار وخائفاً من عتمة الليل .. 

والتقطت الطائرة صورة للجدار ، ليعدّ الشاب الخطوط من كاميرا جوّاله : ويعلم إن الجندي بقي إسبوعين دون أثر لطعامٍ او قوارير مياه بجانبه ! 


وتساءل بحيرة :

لما لم ينزل للأسفل ، طالما أن الرمز المُثبّت على بدلته العسكريّة يؤكّد انه من الحزب الذي احتلّ المبنى ايام الحرب الأهلية ؟ فهل تفاجأ باحتلال الجيش المعادي للمبنى ! فصعد للأعلى هرباً منهم ، وعلق هناك حتى مات وحيداً ؟ 

أمّ إنه تباهى امام الجنود بقدرته على الوصول للسطح .. وتوقف قلبه من الإرهاق عند هذا الطابق ، ولم يستطع رفاقه الّلحاق به ؟! 

***


بعد استعادة الشاب لطائرته ، نشر الفيديو بوسائل التواصل الإجتماعي ، ممّا أحدث ضجّة بين اللبنانيين وصل صداها للمسؤولين الذين أمروا فريقاً من عمّال البناء بإحضار رافعة للوصول للجثة العسكري المجهول !

  

وبحضور مراسلٌ إعلاميّ برفقة طبيبٍ شرعيّ الذي قدِمَ لمعاينة الجثة التي وجد في بنطالها : صورة ممزّقة لزوجة الجندي وابنه الصغير .. كما وجد في جيب قميصه : دفتراً صغيراً كتب فيه بالقلم الحبر آخر كلماته ، قائلاً :


((إسمي وليد ياسين .. عمري 33 سنة .. إلتحقت بجيش الحزب لمهارتي بالقنّص ..وقدمت الى هذا الموقع لمقاتلة الأعداء .. لكني تفاجأت بقائدنا يأمرنا بالقبض على كل من يمرّ بجانب البرج ، باعتبارهم جواسيس ! والذي قام بتعذيبهم في الطابق السفليّ ! .. وقد رأيت الكثير من الفظائع في الشهور الماضية : فبعضهم أُحرق حيّاً ، والبعض الآخر صعقوا كهربائياً حتى الموت .. ومنهم من رُميّ من الطابق الخامس .. وأكثر من شخص رُميّ من الطابق الأول لتحطيم عظامه دون قتله ، للضغط عليه بالإعتراف عن أشياءٍ لا يعرفها ! .. ورأيت زملائي الجنود يقتلون الكثير من الأبرياء : كطفلٍ في طريقه الى المدرسة وامرأة حامل والكثير من العجائز وسائقي الأجرة والباعة المتجوّلين ، حتى المسعفين لم يسلموا منهم ! ولم يعدّ بإمكاني تحمّل المزيد !! وحين أمرني قائدي بتعذيب أحدهم بقلع عينه ، رفضّت طلبه .. فأمر مساعديه بوضعي محل السجين ..فهربت منهم ، وأخذوا يلاحقونني للطوابق العليا .. لكنهم توقفوا عند الطابق 13 .. وانهارت قوايّ عند هذا الطابق الذي لا اعرف رقمه بالضبط ! لكني سمعتهم من مكبّر الصوت يهدّدون بقتلي فور نزولي الأدراج .. وهآ انا عالقٌ هنا منذ مدةٍ طويلة ، فأنا لم أجرأ على عدّ الخطوط التي حفرتها على الجدار ! .. كل ما أعرفه إن قارورة الماء التي معي ، فرغت البارحة .. ولم آكل شيئاً منذ 5 ايام .. وأصبحت ضعيفاً جداً .. أظنهم أيقنوا بموتي الآن ، ولا غرابة في ذلك فأنا أشعر بروحٍ ثقيلة تلاحقني في المساء ! وأظن عزرائيل ينتظر إستسلامي لقبض روحي .. 

كل ما أتمنّاه أن لا يعاقبني الله على عدم إنقاذي المساجين السابقين .. وأن يكون اعتراضي على تعذيب أحدهم ، سبباً في غفرانه ذنوبي .. وما يحزنني هو فراق أمي وابي وإخوتي ، وزوجتي وابني الصغير الذي لن اراه ثانيةً .. 

ورجائي لمن يجد هذا الدفتر أن يوصله لإبني ، ويخبره أن والده كان انساناً شريفاً وعليه أن يفخر بي ، كما كنت فخوراً بوجوده في حياتي .. سامحوني جميعاً !!

آخر ما اريد قوله : الوداع يا لبنان الجريح ، أتمنى أن يتوقف الحاقدون عن أذيّتك ، لتصبح يوماً بلداً مزدهراً كما حلمنا بك دوماً))


وعندما لم يعثر الطبيب الشرعيّ على آثار رصاص في الهيكل العظمي ، نُقلت الجثة للمشرحة لحين إيصالها لأقارب الميت..

*** 


لاحقاً ، قام وزير الإعلام بحملةٍ مُكثّفة لإيجاد عائلة جندي البرج .. 

وآخر ما توصّل اليه : إن زوجة وليد وإبنه هاجرا لإستراليا في اواخر الحرب الأهليّة .. اما أهله ، فماتوا جميعاً بعد انهيار مبناهم بالقصف الإسرائيلي 


وعلى الفور !! أُرسل فريقاً للبحث عنهما في إستراليا .. 

وبعد اسابيع من زيارة الدوائر الرسميّة ، علموا بأن زوجته توفّيت بالسرطان ..اما ابنها الصغير فقد أصبح في الأربعينات من عمره ، والذي أحزنه كثيراً موت والده وحيداً في ذلك الطابق العالي بسبب الجوع والبرد والخوف !  


وحين سأله المذيع عن لحظة اختفاء والده ، أجاب بقهر :

- كنت في السابعة حين انقطعت اخباره عنّا .. وقام عمي رحمه الله بزيارة البرج للسؤال عنه .. فأخبره القائد انه ارسله في مهمّةٍ ميدانيّة .. ولأنه لم يعدّ كرفاقه ، ظنّ إنه اعتقل من حزب البعث الذين ارسلوه لسجون الإعتقال في سوريا .. ولسنواتٍ طويلة تأمّلنا عودته حيّاً الى لبنان ، او على الأقل يسلّمونا جثته .. وهآ انا أكتشف من مذكّرات والدي : إن قائده اللعين تركه يموت وحيداً ! وكذب علينا ، رغم علمه بانتظارنا عودته على أحرّ من الجمر !! ولوّ أخبرنا بهربه صعوداً ، لأنقذناه قبل فوات الأوان

المذيع : كان والدك رجلاً شريفاً ، وجميعنا فخورين به 


فتنهّد الإبن بضيق ، قبل أن يسأله : واين هو الآن ؟

- مازالت جثته في ثلاّجة المستشفى الحكوميّ 

الإبن : إذاً سأسافر معكم ، لدفنه في قريته بشكلٍ لائق 

*** 


وتناقل الإعلام مشهد دفن الشهيد وليد الذي استقبله اهل قريته بالأرز والزغاريد .. ليُدفن في مدافن العائلة كبطلٍ شريف ، بعد أكثر من ثلاثين عاماً لبقائه وحيداً في الطابق العلويّ للبرج المهجور

 

وعقب دفنه بيومين ، إنهار جزءاً من البرج لوحده ! ممّا استدعى التدخّل الهندسيّ لتفجيره بطريقة لا تضرّ بالعمارات المجاورة 

والغريب إنه انهار من المحاولة الأولى ، بحضور عددٍ كبير من اللبنانيين الذين علّق بعضهم في وسائل التواصل الإجتماعي : إن روح البطل وليد هي التي أعاقت هدم البرج طوال السنوات الماضية .. وبعد دفنه وإراحة روحه ، لم يعدّ  للمبنى هدفاً للبقاء ، فانهار سريعاً مع كل ذكريات الحرب الشنيعة وصراخ المظلومين التي تشرّبت داخل جدرانه الموحشة !  

*******


ملاحظة : 

برج المرّ المهجور يُعدّ رمزاً من رموز الحرب الأهليّة اللبنانيّة ، وهو لم يُهدم حتى الآن .. فتخيّلت إن سبب عسر هدمه : هو الجثث مجهولة الهويّة التي دُفنت في مركز التعذيب في طابقه السفليّ .. او إن أحدهم تمكّن من الهرب صعوداً ، وظلّ هناك حتى مات وحيداً .. وبسبب ارواحهم المظلومة والغاضبة من عدم المساءلة القانونيّة لمجرمي الحرب ، مازال المبنى موجوداً حتى اليوم ! 


العرش اللاصق

تأليف : امل شانوحة  يوم الحساب إتصل بيدٍ مرتجفة بعد سماعه تكبيرات الثوّار في محيط قصره : ((الو سيدي .. لقد انتهى امري .. جنودي الجبناء هربوا...