تأليف : امل شانوحة
رمز الحرب الأهليّة
برج المرّ .. البرج الأطول في زمن السبعينات .. عبارة عن مبنى إسفلتي خالي من النوافذ والأبواب ، بعد إيقاف بنائه فور اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة.. حيث عُدّ نقطة إستراتيجية للأطراف المتحاربة .. فمن يستولي عليه ، يتحكّم في وسط البلد !
وبسبب إنقطاع الكهرباء ، لم يتمكّن احد الوصول لطابقه الأخير 40 .. حيث تمركز القنّاصون بين طابقيه 12 و 14 ..
بعد انتهاء الحرب ، اراد المسؤولون هدم البناء القديم .. وكلما حاولوا ذلك ، تعطّلت الجرّافة او صادفتهم مشكلة قانونيّة ، او اعترض أحدّ ملاّك البناء على ذلك ! لهذا توقف مشروع هدمه لسنواتٍ طويلة .. وبات انهياره بسبب قدمه ، يُهدّد العمارات المجاورة ..
ولم يعرف احد سبب تعسّر الهدم ، إلى أن أقدم شابٌ يافع على تحليق طائرته درون لاكتشاف سطح المبنى المهجور وطوابقه العليا ، لعدم وجود مصاعد داخله !
وحين حلّقت هناك .. صوّرت سطحه الذي كان فارغاً تماماً ، فالحرب اندلعت قبل تركيبهم خزّانات المياه او توصيلهم أسلاك الكهرباء ..
وتحكّم الشاب بطائرته الصغيرة للنزول من السطح للطوابق التي تليه ، عابراً الدرج الإسفلتي ..
وكلما وصل لطابق ، بحث في جميع غرفه عن شيءٍ مثير (كما أنبأه حدسه) ..لكن كل الطوابق كانت فارغة تماماً !
إلى أن وصل للطابق العشرين ، وما صوّرته طائرته كان غريباً للغاية ! بعد إيجاده هيكلاً عظميّاً في زيّ عسكري ، ميتاً وهو مستنداً على عامود وسط صالةٍ فارغة ، وبجانبه بندقية من النوع القديم .. ويبدو انه حفر بسكينه على الحائط عدد الأيام التي بقيّ وحده هناك ! جائعاً في النهار وخائفاً من عتمة الليل ..
والتقطت الطائرة صورة للجدار ، ليعدّ الشاب الخطوط من كاميرا جوّاله : ويعلم إن الجندي بقي إسبوعين دون أثر لطعامٍ او قوارير مياه بجانبه !
وتساءل بحيرة :
لما لم ينزل للأسفل ، طالما أن الرمز المُثبّت على بدلته العسكريّة يؤكّد انه من الحزب الذي احتلّ المبنى ايام الحرب الأهلية ؟ فهل تفاجأ باحتلال الجيش المعادي للمبنى ! فصعد للأعلى هرباً منهم ، وعلق هناك حتى مات وحيداً ؟
أمّ إنه تباهى امام الجنود بقدرته على الوصول للسطح .. وتوقف قلبه من الإرهاق عند هذا الطابق ، ولم يستطع رفاقه الّلحاق به ؟!
***
بعد استعادة الشاب لطائرته ، نشر الفيديو بوسائل التواصل الإجتماعي ، ممّا أحدث ضجّة بين اللبنانيين وصل صداها للمسؤولين الذين أمروا فريقاً من عمّال البناء بإحضار رافعة للوصول للجثة العسكري المجهول !
وبحضور مراسلٌ إعلاميّ برفقة طبيبٍ شرعيّ الذي قدِمَ لمعاينة الجثة التي وجد في بنطالها : صورة ممزّقة لزوجة الجندي وابنه الصغير .. كما وجد في جيب قميصه : دفتراً صغيراً كتب فيه بالقلم الحبر آخر كلماته ، قائلاً :
((إسمي وليد ياسين .. عمري 33 سنة .. إلتحقت بجيش الحزب لمهارتي بالقنّص ..وقدمت الى هذا الموقع لمقاتلة الأعداء .. لكني تفاجأت بقائدنا يأمرنا بالقبض على كل من يمرّ بجانب البرج ، باعتبارهم جواسيس ! والذي قام بتعذيبهم في الطابق السفليّ ! .. وقد رأيت الكثير من الفظائع في الشهور الماضية : فبعضهم أُحرق حيّاً ، والبعض الآخر صعقوا كهربائياً حتى الموت .. ومنهم من رُميّ من الطابق الخامس .. وأكثر من شخص رُميّ من الطابق الأول لتحطيم عظامه دون قتله ، للضغط عليه بالإعتراف عن أشياءٍ لا يعرفها ! .. ورأيت زملائي الجنود يقتلون الكثير من الأبرياء : كطفلٍ في طريقه الى المدرسة وامرأة حامل والكثير من العجائز وسائقي الأجرة والباعة المتجوّلين ، حتى المسعفين لم يسلموا منهم ! ولم يعدّ بإمكاني تحمّل المزيد !! وحين أمرني قائدي بتعذيب أحدهم بقلع عينه ، رفضّت طلبه .. فأمر مساعديه بوضعي محل السجين ..فهربت منهم ، وأخذوا يلاحقونني للطوابق العليا .. لكنهم توقفوا عند الطابق 13 .. وانهارت قوايّ عند هذا الطابق الذي لا اعرف رقمه بالضبط ! لكني سمعتهم من مكبّر الصوت يهدّدون بقتلي فور نزولي الأدراج .. وهآ انا عالقٌ هنا منذ مدةٍ طويلة ، فأنا لم أجرأ على عدّ الخطوط التي حفرتها على الجدار ! .. كل ما أعرفه إن قارورة الماء التي معي ، فرغت البارحة .. ولم آكل شيئاً منذ 5 ايام .. وأصبحت ضعيفاً جداً .. أظنهم أيقنوا بموتي الآن ، ولا غرابة في ذلك فأنا أشعر بروحٍ ثقيلة تلاحقني في المساء ! وأظن عزرائيل ينتظر إستسلامي لقبض روحي ..
كل ما أتمنّاه أن لا يعاقبني الله على عدم إنقاذي المساجين السابقين .. وأن يكون اعتراضي على تعذيب أحدهم ، سبباً في غفرانه ذنوبي .. وما يحزنني هو فراق أمي وابي وإخوتي ، وزوجتي وابني الصغير الذي لن اراه ثانيةً ..
ورجائي لمن يجد هذا الدفتر أن يوصله لإبني ، ويخبره أن والده كان انساناً شريفاً وعليه أن يفخر بي ، كما كنت فخوراً بوجوده في حياتي .. سامحوني جميعاً !!
آخر ما اريد قوله : الوداع يا لبنان الجريح ، أتمنى أن يتوقف الحاقدون عن أذيّتك ، لتصبح يوماً بلداً مزدهراً كما حلمنا بك دوماً))
وعندما لم يعثر الطبيب الشرعيّ على آثار رصاص في الهيكل العظمي ، نُقلت الجثة للمشرحة لحين إيصالها لأقارب الميت..
***
لاحقاً ، قام وزير الإعلام بحملةٍ مُكثّفة لإيجاد عائلة جندي البرج ..
وآخر ما توصّل اليه : إن زوجة وليد وإبنه هاجرا لإستراليا في اواخر الحرب الأهليّة .. اما أهله ، فماتوا جميعاً بعد انهيار مبناهم بالقصف الإسرائيلي
وعلى الفور !! أُرسل فريقاً للبحث عنهما في إستراليا ..
وبعد اسابيع من زيارة الدوائر الرسميّة ، علموا بأن زوجته توفّيت بالسرطان ..اما ابنها الصغير فقد أصبح في الأربعينات من عمره ، والذي أحزنه كثيراً موت والده وحيداً في ذلك الطابق العالي بسبب الجوع والبرد والخوف !
وحين سأله المذيع عن لحظة اختفاء والده ، أجاب بقهر :
- كنت في السابعة حين انقطعت اخباره عنّا .. وقام عمي رحمه الله بزيارة البرج للسؤال عنه .. فأخبره القائد انه ارسله في مهمّةٍ ميدانيّة .. ولأنه لم يعدّ كرفاقه ، ظنّ إنه اعتقل من حزب البعث الذين ارسلوه لسجون الإعتقال في سوريا .. ولسنواتٍ طويلة تأمّلنا عودته حيّاً الى لبنان ، او على الأقل يسلّمونا جثته .. وهآ انا أكتشف من مذكّرات والدي : إن قائده اللعين تركه يموت وحيداً ! وكذب علينا ، رغم علمه بانتظارنا عودته على أحرّ من الجمر !! ولوّ أخبرنا بهربه صعوداً ، لأنقذناه قبل فوات الأوان
المذيع : كان والدك رجلاً شريفاً ، وجميعنا فخورين به
فتنهّد الإبن بضيق ، قبل أن يسأله : واين هو الآن ؟
- مازالت جثته في ثلاّجة المستشفى الحكوميّ
الإبن : إذاً سأسافر معكم ، لدفنه في قريته بشكلٍ لائق
***
وتناقل الإعلام مشهد دفن الشهيد وليد الذي استقبله اهل قريته بالأرز والزغاريد .. ليُدفن في مدافن العائلة كبطلٍ شريف ، بعد أكثر من ثلاثين عاماً لبقائه وحيداً في الطابق العلويّ للبرج المهجور
وعقب دفنه بيومين ، إنهار جزءاً من البرج لوحده ! ممّا استدعى التدخّل الهندسيّ لتفجيره بطريقة لا تضرّ بالعمارات المجاورة
والغريب إنه انهار من المحاولة الأولى ، بحضور عددٍ كبير من اللبنانيين الذين علّق بعضهم في وسائل التواصل الإجتماعي : إن روح البطل وليد هي التي أعاقت هدم البرج طوال السنوات الماضية .. وبعد دفنه وإراحة روحه ، لم يعدّ للمبنى هدفاً للبقاء ، فانهار سريعاً مع كل ذكريات الحرب الشنيعة وصراخ المظلومين التي تشرّبت داخل جدرانه الموحشة !
*******
ملاحظة :
برج المرّ المهجور يُعدّ رمزاً من رموز الحرب الأهليّة اللبنانيّة ، وهو لم يُهدم حتى الآن .. فتخيّلت إن سبب عسر هدمه : هو الجثث مجهولة الهويّة التي دُفنت في مركز التعذيب في طابقه السفليّ .. او إن أحدهم تمكّن من الهرب صعوداً ، وظلّ هناك حتى مات وحيداً .. وبسبب ارواحهم المظلومة والغاضبة من عدم المساءلة القانونيّة لمجرمي الحرب ، مازال المبنى موجوداً حتى اليوم !
قصة حزينة ومعبرة بنفس الوقت عن الحرب اللبنانية بس توضيح بعض المعلومات عن برج المر لم يتمركز فيه قناصة خلال الحرب الأهلية كان برج رزق في شرق بيروت مركز القناصة الحقيقين هناك كان قناصي الكتائب والقوات اللبنانية يقنصون المواطنين في غرب بيروت وبرج المر اول الحرب تمركز فيها مقاتلي حزب المرابطون والفلسطينيين كانو يقصفون منه المنطقة الشرقية وبعد ذلك تمركز الجيش السوري فيه حتى سنة 1982 تمركز الجيش اللبناني فيه وعاد وتمركز فيه مقاتلي حركة امل ومرة أخرى مقاتلي حزب التقدمي الاشتراكي الدرزي حتى عاد الجيش السوري وتمركز فيه من أواخر الثمانينات وعاد وسلمه للجيش اللبناني منتصف التسعينات وما زال الجيش اللبناني يعتبره مقر له وما يعيق هدمه وهو مالكه ميشال المر قدمه للجيش اللبناني ليظل فيه يعني يمكن القول مرت جيوش وميلشيات على هذا البرج
ردحذفمعلومات رائعة أخي ربيع ستفيد القرّاء ، شكراً لك .. تخيّل معي الفيلم لوّ صوروا طوابق برج المرّ بطائرة درون عند غروب الشمس ، مع موسيقى وطنية حزينة .. سيكون جميلاً بالفعل
حذفلا ادري لماذا لا يقبل قوقل تعليقي رغم كتابته وارساله اربع مرات
ردحذفالتعليقات لا تنشر الا بعد قراءتي لها ، وحاسوبي كان معطلاً طوال الإسبوع الماضي.. الحمد الله أصلحته اليوم ، وسأقوم قريباً بنشر قصص جديدة .. أعتذر عن التأخير
حذفاردت بتعليقي أن اخرج ما بقلبي عن حرب لبنان الاهليه ومجرميها من زعماء المليشيات الذين ارتكبوا ابشع الجرائم والفضائع ضد مئات الالاف من الابريا اللبنانين ولم يحاسبوا او يحاكموا ولكن تعليقي لم يلقى طريقة
ردحذفعلى العموم مشكورة يا رمز الوطنية مشكورة يا اخت أمل مشكورة يا رمز الوفاء عشتي وعاش زمانك يا ابنة الكرام
قصة رائعة أنا جدا متأثر بما حصل في لبنان
ردحذفلم أكن أعرف كم عشتم من صعاب هذا كلام من شخص
أشد ما حصل له هو أغلاق ألكهرباء لساعة على الأكثر فليفرجها الله لكم
تألمت حقاً و الواقع أكثر ألماً.. حسبي الله
ردحذفالله يحفظك أختي و يحفظ بلداننا العربية من شرور البشر
أسفة لخروجي عن الموضوع لكنني أقوم أحياناً بنشر روابط لبعض قصصك فى حسابي على تويتر مع تعريف بسيط لها و فى آخر مرة أقتبست جملة فى حوار من قصة برج الشيطان مع الإشارة بجملة *من إحدى قصص أمل شانوحة* بدون رابط ؛ أسفة جداً لأني قمت بذلك بدون إذنك لكنني فحسب أردت أن أعرف الناس على كتاباتك أولاً و أسهل الطرق لهم هي الإقتباسات لذا كنت فكرت بالإستمرار بالإقتباس لكن أرى أنها وقاحة أن أفعل ذلك بدون رأيك و إذنك.. و أسفة إن أغضبتك و إن أردتِ أن أمسح تلك التغريدات فـ سأفعل ، إنها فقط ثلاثة
تحياتي الحارة لك :)
وفقك الله
طالما تكتب إنها قصصي ، فلا بأس بتغريداتك .. وشكراً لك مقدماً على شهري في تويتر
حذفشكراً لكِ :) العفو ؛ بل الشكر لكِ
حذفأنا فتاة بالمناسبة