امل شانوحة
قطار فضي ينتقل الى السماء
صفّارة القطار القادمة من بعيد , ايقظته
-اين انا ؟!
قالها الرجل الخمسيني و هو ينظر بغرابة للناس من حوله , بعد ان استفاق داخل مطعم جدرانه مطليّة باللون الذهبي !
-هاهو استيقظ اخيراً !
قالتها صبية بعمر الورود , كانت تجلس بجواره على الطاولة الدائرية
-من انتم ؟ ...و اين انا ؟!
-انا سعيد و هذه مريم .. و انت الآن في المرحلة الإنتقالية قبل يوم حسابك .. و بما انك تجلس معنا في هذا المطعم الجميل , فهناك احتمالاً كبيراً ان تكون من اصحاب الجنة بإذن الله
قالها سعيد (الرجل الثلاثيني) و هو يرتشف بعضاً من عصيره
-لم افهم شيء !
-دعني افهمه انا يا سعيد
و اقتربت الصبية من الرجل الخمسيني , و قالت له :
-اسمع يا عم صالح ..
-(مقاطعاً).. لحظة ! كيف عرفتي اسمي ؟!
-هو مكتوب على بطاقتك
فنظر الى ياقته , ليجد اسمه مكتوباً على بطاقة علّقت عليها
-اسمعني رجاءً.. يبدو انك تحتضر في مكانٍ ما على الأرض , و روحك انتقلت الى هنا مثلنا جميعاً..
-(يقاطعها من جديد , و بفزع) .. هل انا ميت ؟!
-لا !! .. انت مازلت تحتضر او في غيبوبةٍ ما
-(بارتباك) ..و ماذا سيحصل الآن ؟!
فأكملت قائلة :
-انت انتقلت الى هذا المكان الذي يشبه الجنة المصغّرة .. انظر مثلاً الى الطاولة التي نجلس عليها .. يمكنك ان تطلب ايّ طعام من ايّ مكانٍ في الأرض , و ستجده امامك في ثواني ..
فتنظر الى سعيد الذي كان يبتسم ساخراً من نظرات الدهشة في عينيّ العجوز , ثم تكمل قائلة :
-يبدو انك لا تصدّقني بعد ..اذاً سأريك
و ضغطت على زرٍ موجود فوق الطاولة , ليخرج منه ضوءاً كالشعاع , يظهر فيه صورة للكرة الأرضية
صالح بدهشة : هذا يبدو كالحاسوب ؟!
-نعم صحيح .. انظر الآن
و بلمسها للكرة الأرضية المرسومة بالهواء , تبدأ الأرض بالدوران .. و من ثم اوقفتها بلمسة على دولة البرازيل .. ثم قالت :
-الآن و بعد ان اخترنا البلد , ستظهر لك قائمة بأشهر الطعام و الشراب التي تشتهر بها البرازيل .. و سأختار لك القهوة فهم مشهورين بالبن الجيد , هذا عدا انك تحتاجها لتركز معنا اكثر
ثم طلبت القهوة من القائمة .. فظهرت على الفور امام صالح كوب القهوة الساخنة .. ففزع و رجع بكرسيه للخلف !
فضحكت الفتاة و سعيد الذي قال :
-لا تقلق , فجميعنا ارتعبنا مثلك في البداية .. لكنك ستتفاجىء اكثر عندما تتذوق طعمها اللذيذ , فهي قادمة اليك مباشرةً من افضل مقهى بالبرازيل...هيا اشرب
-(بتردد) .. لا لا اريد ..اقصد ..انا اعاني من مشاكل صحية على ما اذكر , و القهوة لا تناسبني
فقالت الصبية مبتسمة :
-و انا اصبت بحادث سيارة ادخلتني في الغيبوبة , فهل ترى عظامي مهشّمة مثلاً ؟
-لم افهم !
فقال الشاب :
-يا عم , صحتك هنا مئة على مئة و كأنك مولود من جديد .. و ان كنت لا تصدّقني , انظر بنفسك
و طبع الشاب شيئاً على الأزرار الموجودة على الطاولة , فخرج ضوءٌ شعاعي من جسم العجوز , و ظهر (في هواء فوق الطاولة) شكل جسمه بالأشعة السينية , و فيه يظهر ان كل شيء بداخله يعمل بشكلٍ جيد , حتى قلبه المريض !
-هل اطمأننت الآن ؟
قالتها الفتاة , و هي تدني منه كوب القهوة و تقول :
-و الآن اشرب قهوتك , و ستشكرني لاحقاً
فأخذ العجوز قهوته بتردّد .. لكن ما ان ارتشف القليل منها , حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة الرضا
-يا الهي ! انه اجمل كوب قهوة شربته بحياتي
-مريم : طيب ما رأيك الآن يا عم ان تشاركنا الطعام ؟
-سعيد : نعم ..فنحن كنا على وشك ان نطلب طعامنا , قبل ان تظهر امامنا فجأة .. بالمناسبة اسمي سعيد , او يمكنك تلقيبي بالشاب المتهوّر كما كان يفعل اصحابي
-صالح : و لماذا يسمونك هكذا ؟
-مريم : رجاءً لنأجّل الكلام الى ما بعد طعام العشاء
-صالح : و هل دخل الليل علينا ؟!
سعيد : نعم منذ ساعتين .. هيا مريم اطلبي طعامك , فالسيدات اولاً
-مريم : شكراً لك .. و على فكرة يا عم صالح , الطعام هنا لا يسمن ابداً مهما كان مليئاً بالدهون
ثم ضغطت على زر الطاولة , فظهرت لها الكرة الأرضية من جديد
-مريم : حسناً سأطلب افضل شريحة لحم من الولاية الأميركية ...
-صالح (مقاطعاً) : لحظة يا بنتي , هم لا يذبحون وفقاً للشريعة
فضحك الشاب و الفتاة..
-لا تقلق يا عم , لن يقدّم لك حاسوب المطعم سوى الطعام الحلال
سعيد : هذا عدا انه يوجد هنا خدمة الخمور الشرعية
صالح بدهشة : لم افهم !
مريم : انظر تحت قدميك
فلاحظ صالح ان ارضية المطعم من الزجاج , و يجري من تحتها ماءٌ احمرٌ قرمذي .. فسأل :
-و هل هذا خمرٌ فعلاً ؟!
مريم : نعم و هو احد روافد نهر الخمر الموجود في الجنة , و يمكنك تذوقه
سعيد : هو لا يسكر , بل طعمه لا يصدّق !
ثم تنادي مريم النادل .. فيمرّ من بين الطاولات (المليئة بالزبائن) ولد بعمر العاشرة , و هو يحمل صوّان فيها آنية ذهبية و عليها بعض الأقداح الكريستالية .. و بعد ان سكب فيها الخمر , قال لهم :
الولد (النديم) : تفضلوا يا سادة
و اخذ كل واحداً منهم كأسه ..
سعيد و هو يرفع كأسه : بصحة الجميع
مريم و هي تعطي صالح الكأس : لا تقلق يا عم , هذا خمر الجنة
و بعد ان ارتشف القليل منه
صالح : يا الهي ! كم هو لذيذ , و كأن فواكه الدنيا عصرت معاً
-نعم و الآن دورك , ايّ طعام ستختار ؟
فيفكر قليلاً ثم يقول :
صالح : حسناً سأختار الكسكسي من بلدي المغرب
فضحكا عليه , ثم قالت مريم :
-يعني كم مرة اكلت الكسكسي في حياتك يا عم ؟
-ربما مرة كل اربعة ايام تقريباً
سعيد : اذاً اختار شيئاً آخر , فأمامك كل مطاعم العالم
صالح متضايق : لكني اريد ان آكل كسكسي الجنة
سعيد مبتسماً : كما تشاء ...و انا سأختار السوشي من أفضل مطعم في اليابان
مريم : المهم ان لا ننسى الحلويات , بعد ان ننتهي من الطعام
***
و مرّت الساعات ..تناولوا بها الكثير من الأطعمة وسط الضحك و الذكريات , و الغريب انهم لم يشعروا بالتخمة او الرغبة بدخول الحمام او النعاس !
ثم ظهر صوت القطار ثانية..
صالح : ما هذا الصوت ؟!
مريم : هذا قطار يمرّ مرتين في اليوم لمن يرغب منا العودة الى الدنيا
صالح باهتمام : و هل ركبتما به ؟!
سعيد : اذا ركبناه فلن نعود الى هنا ثانية , و نحن سعيدون هنا
صالح : و ماذا عن اهلكم الذين ينتظروكم في الدنيا ؟!
سعيد : هذا ما يحزننا فعلاً , لكن من يريد ان يترك هكذا حياة
صالح : و كم لك هنا ؟
سعيد : تقريباً 20 سنة
صالح بدهشة : انت تمزح ! لك كل هذه المدة بالغيبوبة , و لم يفصلوا عنك اجهزة الإنعاش ؟!
سعيد : لا يا صديقي ..20 سنة هنا كثلاثة شهور بالدنيا
صالح باستنكار : ربما تراها قليلة , لكنها اكيد طويلة على والديك
سعيد بحزن : نعم و على خطيبتي ايضاً .. فقد كنت مهوساً بعمل حركات بطولية بدراجتي الهوائية , الى ان سقطت يوماً بقوة على رأسي
صالح : و هل يمكننا ان نرى ما يفعلون اهلنا في هذه اللحظات ؟
مريم بحزن : نعم يمكننا .. لكني و سعيد نرفض ذلك , لأننا لا نريد الإحساس بهذا الألم
صالح بعصبية : الإحساس بالألم , ام انكم لا تريدون ان يعكّر شيء على سعادتكم هذه ؟!!
فسكتا بإحراج..
صالح بنبرة عتاب : عارٌ عليكم ان ترفضا العودة , و اهليكم يتعذبون كل يوم برأيتكم تموتون امامهم ..على كلٍ هذا قراركم , لكني لن افعل ذلك بزوجتي و اولادي .. هيا اروني الطريقة التي استطيع فيها رؤيتهم
سعيد : اذا كنت مصراً فتعال معنا
***
ثم خرجوا جميعاً من المطعم ليجد صالح نفسه عند محطة قطار , و الذي كان يخرج منه اعداد من الناس من مختلف الجنسيات , لكن القليل منهم كان يتجه (بدهشة) نحو نفس المطعم , اما الباقون فظلّوا ينتظرون (بذهول) حول المحطة !
ثم جلس الأصدقاء الثلاثة على المقاعد المواجهة للقطار , و كان امامهم طاولة بها شاشة حاسوب
صالح و هو ينظر لسعيد و مريم باستغراب : و لما جلسنا هنا , لما لا نركب القطار ؟!
سعيد : لأنك وحدك ستركبه , اما انا و مريم فسنبقى هنا ..اليس كذلك يا مريم ؟
مريم : نعم فأنا لا اريد ان العودة لزوج امي القاسي , فحياتي هنا اجمل بكثير
صالح : و الى متى ؟!
مريم بحزن : الى ان يفصلوا انابيب الإنعاش عني , و انتقل حينها الى فوق
و أشارت الى السماء التي كانت تظهر منها قمر غريب منير وسط الظلام !
صالح باستغراب : الى القمر ؟!
فتبتسم مريم : لا يا عم , هذا ليس قمراً بل الجنة ..و ما رأيته في ذلك المطعم لا يساوي شيئاً امام ما ينتظرنا فوق
فيدير صالح وجهه نحو سعيد و يسأله :
-و انت .. ماذا عن خطيبتك ؟
سعيد بلا مبالاة : اكيد ستملّ من فرصة نجاتي , و ستجد غيري .. (ثم يقول بحماس) ..اما انا فأكيد في انتظاري حوريات الجنة , و هنّ اجمل بكثير منها
يسكت صالح قليلاً ثم يقول بتصميم :
-لكن انا لا اريد سوى زوجتي ... (ثم يقف) .. سأركب القطار
مريم : برأيّ لا تستعجل يا عم , تعال و شاهدهم بالحاسوب قبل ان تتخذ قراراً مهماً كهذا
فيعود صالح و يجلس بقربهم , و يقوم سعيد بالبحث عن عائلته بعد ان اخبره صالح ببعض المعلومات عنهم ..
سعيد : هآقد وجدتهم اخيراً , و الآن تستطيع ان ترى ما فعلته عائلتك طوال شهورك الخمسة بالغيبوبة
و شاهد صالح عائلته في الأيام الأولى بالمشفى , حيث كانت زوجته تحضر مع ابنائه المراهقين كل يوم لزيارته و هم يبكون ..ثم بدأت تقلّ زيارتهم و صاروا يحضرون بأيام العطل , لأن زوجته عادت لوظيقتها القديمة التي كان زوجها قد طالبها بالإستقالة منها بعد زواجهم .. اما اولاده فقد انشغلوا لاحقاً بالنادي مع اصدقائهم ..
ثم رأى زوجته و هي تتشاجر مع ادارة المستشفى على تكاليف الغرفة الغالية .. و من ثم تم نقله الى البيت مع ممرضة , ثم بعد اسابيع رآى زوجته و هي تقول لها :
-لا انا لست حمل مرتبك , انت مطرودة
الممرضة : لكن يا سيدتي انت تعملين و اولادك لا يأتون حتى المساء , فمن سيهتم بالعم صالح في غيابكم ؟!
-لا تقلقي , سأتدبّر امري
و بعد اسابيع .. صار صالح يرى كيف ابنائه يتهرّبون من مساعدة امهم في تنظيفه , بحجّة انشغالهم بالدراسة
ثم يرى ذات يوم زوجته و هي متضايقة جداً بعد عودتها من عملها متعبة , لتجد زوجها النائم و قد وسّخ نفسه
-كان ينقصني طفلاً كبيراً معاقاً !!
ثم اقتربت من اذنه (و صالح مازال بالغيبوبة) :
-يا رجل متّ , ارجوك متّ و ارحنا من هذا القرف كل يوم !!
ثم رفعت الوسادة فوق وجهه , في محاولة منها لكتم انفاسه .. لكنها تتوقف و هي تقول :
-لا ..استغفر الله .. لن اقتله .. لكن ارجوك يارب ارحني منه قريباً , فقد تعبت حقاً
***
و في هذه اللحظات .. اطفأ سعيد شاشة الحاسوب , بعد ان رأى الحزن و الغضب الباديان على وجه العم صالح
سعيد : ارأيت لما نصرّ على البقاء هنا
مريم : البشر يا عم بطبعهم ملولين , فلا تغضب منها ..
لكن صالح فاجئهما بوقوفه و سيره ناحية القطار المتوقف , و هو يقول بتصميم :
-لابد ان اعود فوراً الى عائلتي
و بدأ القطار بالتحرّك , فناداه سعيد :
-يا عم الا ترى ! هم لا يريدونك ؟!
صالح بغضب : و لهذا السبب سأذهب اليهم , لكيّ اربّيهم من جديد !!!
ثم انطلق القطار بلمحة بصر ليختفي من تلك المحطة
***
و بعد دقائق معدودة فتح صالح عينيه ليجد نفسه داخل غرفة منزله النتنة الرائحة بعد ان وسّخ نفسه , فصار يصرخ لعائلته ..لكن يبدو انهم تركوه لوحده في المنزل !
فقام من سريره و بدأ يتكىء بصعوبة على الجدران
-يا الهي ما هذا الالم , و كأني في الثمانين من عمري !
حتى وصل الى هاتف المنزل بصعوبة , ثم اتصل على زوجته فوجد جوالها مغلق و كذلك ابنه الكبير , فاتصل على جوال ابنه الصغير , الذي اسرع قائلاً :
-امي ليس الآن , فعندي مباراة كرة قدم بعد قليل
فقال صالح بصوتٍ مرهق :
-انا والدك
فأجاب بدهشة :
-ابي ! ...هل استيقظت ؟!
***
و في الليل ..كانت العائلة و الأصدقاء مجتمعين حوله في الغرفة بينما استلقى هو على سريره (بعد ان اخذ دشاً بمساعدة ابنه الكبير و زوجته)
احد اصدقاء العائلة يسأل زوجته :
-و متى ستحضرون الطبيب ليفحصه ؟
زوجة صالح : سآخذه غداً الى المستشفى بعد ان اعود من عملي , و بذلك نطمئن عليه اكثر
و بعد ان ذهب الجميع ..
قال صالح لزوجته : أعدّتي لعملك رغم اعتراضي سابقاً على ذلك ؟
-و ماذا افعل يا صالح , فأنت في غيبوبة منذ شهور و كان عليّ تأمين مصاريف المنزل و الأولاد و ادوية علاجك ..
-حسناً لكن فقط الى ان تتحسن حالتي ثم اعود لعملي و انت ترتاحين في المنزل , هل اتفقنا ؟
-لكن شركتك يا صالح سرّحتك من العمل , و اعطتنا تعويضك الذي دفعناه كمصاريف المستشفى
-كنت اتوقع هذا ..لا بأس ..سأبحث عن عمل جديد ..لا تقلقي
-لا تفكر بهذه الأمور , المهم ان تتعافى الآن
ثم اقتربت منه لتضع وسادة ثانية تحت رأسه , لكنه انتفض مبتعداً
-مابك يا صالح ؟!
-ظننتك ستقتليني بالوسادة كما حاولتي سابقاً
-ماذا ؟! لا مستحيل
-و هل تظني بأنني كنت فعلاً بغيبوبة ..لقد كنت معكِ و اسمع بوضوح تأفّفك من تنظيفي كل يوم
بدهشة : انا لم..
-لا يهم الآن .. دعينا ننام
***
في الصباح..
استيقظت عائلة صالح على صرخته الأليمة , فأسرعوا به الى المشفى
و هناك اخبرهم الطبيب بأنه تعرّض لجلطة قوية اصابته بالشلل الدائم
زوجته بضيق : اللعنة !! هل عاد من الغيبوبة ليصبح مشلولاً , ما هذا الحظ !!
***
-الم نقل لك الا تعود للأرض ثانيةً
كان هذا صوت مريم الذي سمعه صالح قبل ثواني من استيقاظه , ليرى نفسه و قد وضعه الممرض على كرسي متحرّك
-لا !! لا اريدك ان تدفعني , انا سأحرّكها بنفسي
ثم خرج صالح من غرفة المشفى , ليجد ابنه الصغير يقول لزوجته (في الرواق) :
-لكنك وعدتني يا امي بأنك ستدفعين لي ثمن الرحلة المدرسية
-لقد دفعت كل ما معي لمصاريف المشفى , هذا غير تكلفة شراء كرسي متحرّك لوالدك
و هنا انتبهت على صالح الذي كان يجلس بعيداً على كرسيه (بحزن)
فاقتربت منه و هي تقول :
-هيا يا صالح , لنذهب الى منزلنا
***
و مرّت الأسابيع ..و صالح مازال يحاول ان يقف على قدميه او ان يجد عملاً له , لكن بلا فائدة ..و بدأت زوجته تتأفّف من تنظيفه كلما عادت من العمل متعبة .. و صالح يصبح في كل يوم اكثر ندماً على ركوبه ذلك القطار و عودته الى هذه الحياة الكئيبة..
و ذات يوم..و بعد ان ركب مع زوجته في السيارة
-الى اين نحن ذاهبان ؟!
-الى مكان سيعجبك
-و لما لم يذهب الولدان معنا ؟
-هما مشغولان بالإمتحانات
و بعد ساعة , توقفت عند مبنى حكومي ..
صالح : لما توقفنا قرب دار المسنين ؟!
فسكتت زوجته .. فقال لها بغضب :
-لا !! انا لن اسمح لك بأن ترميني هنا , انا لم ابلغ الستين بعد يا امرأة !!
-اسمع يا صالح , لقد تعبت من الإهتمام بك .. و اريدك الآن و فوراً ان تطلّقني
-ماذا ؟!
-انظر اليّ !! انا مازلت في 38 من عمري , الا يكفي ان اهلي زوجوني لشخص يكبرني بعشرين سنة ..لما تريدني ان اضيّع كل حياتي مع شخصٍ مشلول مثلك ؟!!
-لا الموضوع ليس انا .. انا متأكد ان هناك شخصاً آخر بحياتك..اليس كذلك ؟
-انا لا اخونك يا غبي !! لكن مديري معجبٌ بي , و هو رجلٌ غني جداً و يمكنه ان يأمّن حياة جيدة لي و لأولادي ..لذا طلقني و حالاً .. هيا يا صالح !!
-انت تعلمين جيداً بأن لا اهل لي , ولّو كان..
-طلقني يا صالح ..الآن !!
و بعد تردّد , قال بحزن :
-انتِ طالق
فنزلت من السيارة و هي تنادي على الممرض الذي يجلس بجانب مبنى دار المسنين
-هاى انت لو سمحت !! تعال و خذ هذا الرجل من سيارتي .. آه لحظة .. دعني احضر كرسيه المتحرّك من الصندوق
و قبل ان يأخذه الممرض الى داخل الدار تقول له :
-صالح !! لا تقلق ..سأترك زوجي الجديد يدفع لك مصاريف الدار , فهذا اتفاقي معه.. سلام
ثم انطلقت سريعاً بسيارتها
و بذلك اصبح صالح اصغر من في الدار عمراً , و اكثرهم حزناً و اكتئاباً حيث لم يزره ابناءه منذ ذلك اليوم
***
و في احد الأيام .. و بعد ان عاتبته الممرضة على توسيخ نفسه , خرج من غرفته حزيناً و هو يجرّ كرسيه بغضب , فوجد رجلاً يتكلّم من جواله
-نعم اختي لقد زرت امي قبل قليل ..لا لم تتذكرني كالعادة , فالزهايمر حذف كل الذكريات من رأسها
فانتظره حتى اغلق جواله , ثم اقترب منه
-يا اخ لو سمحت .. هل يمكنني ان اكلّم ابني من جوالك ؟
-تفضل يا عم
و اتصل اولاً بإبنه الكبير لكنه لم يردّ عليه , فعاد و اتصل بإبنه الصغير
-ابني حبيبي .. ارجوك تعال و خذني من هنا
-ابي ...امي تزوجت منذ ايام ..و سأذهب انا و اخي معهم الى باريس , سيدخلني زوجها الى مدرسة داخلية هناك , و اخي الكبير سيتعلّم في احدى اهم الجامعات في فرنسا .. انا آسف يا ابي لكن عليّ ان اغلق الهاتف , لأننا ذاهبون الى المطار بعد قليل .. الوداع يا ابي
و اغلق السمّاعة سريعاً ..
فأعاد صالح (بحزن) الجوال الى الرجل .. ثم بدأ يجرّ كرسيه الى ان وصل للمصعد الذي خرج منه الممرض
-يا عم هذا المصعد فقط لعمّال المشفى , انت تعرف القوانين
-بنيّ هل ترى ساعتي هذه ؟ انها هدية من جدي , و هي من الذهب الخالص ..سأعطيها لك بشرط ان تأخذني الى سطح الدار لأشتمّ بعض الهواء , فأنا اختنق هنا
-حسناً , لكن رجاءً لا تخبر احد بذلك , فأنا جديد هنا و لا اريدهم ان يطردوني لمخالفة القوانين
-لن اخبر احد , اعدك بذلك
و اخذه الممرض الى السطح (فوق الطابق السادس) ..
-يا عم صالح , تمشى في السطح قليلاً و سأعود بعد ساعة لأخذك .. و رجاءً ابتعد عن الحافة
-سأنتبه جيداً , لا تقلق
و بعد ان ذهب الممرض , اقترب صالح نحو الحافة و هو يتذكّر كل الذكريات السيئة بحياته ..
فاغمض عيناه و هو يقول بندم :
-مريم .. سعيد ..اتمنى انكا مازلتما تنتظراني فوق عند المطعم الذهبي
و فجأة !! سمع صوت القطار نفسه !
فصرخ بحماس : انا قادمٌ اليكم !!
ثم حمل نفسه بصعوبة و استلقى عند حافة السطح , ثم رمى بنفسه الى الأسفل..
***
و عندما فتح صالح عيناه .. وجد نفسه في محطة القطار قرب المطعم الذهبي , لكنه كان مقيداً بمقعد قطارٍ اسود و لا يستطيع فك الحزام !
فنظر للنافذة ليجد مريم و هي تركب قطاراً فضي , و يودعها سعيد من النافذة .. فصرخ قائلاً :
-مريم !! انا العم صالح
مريم و هي تنظر بدهشة و حزن الى القطار الأسود الذي يركبه صالح :
-يا الهي ! ماذا فعلت يا عم صالح ؟!
و هنا قال سعيد الذي مازال في المحطة قرب القطارين :
-يا عم !! ارى انك عدت ..انظر الينا .. انا لم امت بعد , لكن مريم رفعوا عنها قبل قليل اجهزة التنفس , و هي ذاهبة الآن الى فوق .. الى الجنة يا عم صالح !!
صالح بخوف : و ماذا عني ؟! لما قيدوني بهذا القطار الكئيب , و لم يجعلونني اركب معها ؟!
مريم بحزن : هل انتحرت يا عم صالح ؟
صالح : نعم , لكن ..
سعيد : الم يكن افضل لو بقيت معنا .. لقد اخترت بنفسك مصيراً سيئاً
صالح بقلق : ماذا يعني هذا ؟!
و قبل ان يجيباه , ينطلق القطار الفضي (التي به مريم) سريعاً نحو القمر الغريب في السماء , ليصبح كشهابٍ مضيء نحو الأعلى .. بينما تحرّك القطار الأسود المكّفهر الوجوه (للناس التي فيه) نحو نفقٍ بباطن الأرض !
ليعمّ الظلام الدامس مع ازدياد في درجات الحرارة ! ليظهر من بعيد ضوء يشبه لهيب النار لتزداد معه حرارة القطار بشكلٍ مفاجىء ! و يرتفع معها صرخات الركاب التي احترقت جنباتهم من المقاعد الساخنة
و هنا سمعوا جميعاً صوت سائق القطار و هو يقول لهم :
-اهلاً بكم الى جهنم !!!
مع ضحكته المجلجلة المرعبة !
النهاية