تأليف : امل شانوحة
رهينتي مدى الحياة !
في يومٍ ماطر .. دخل النادل الى مطبخ المطعم ، وهو ينادي الطبّاخة ناديا :
- هناك زبونٌ ثريّ يريد التحدّث معك ، ويبدو غاضباً !
ناديا بقلق : هل طلبني بالإسم ؟!
- نعم .. هل قدمتِ له طعاماً سيئاً ؟!
- وصلت قبل قليل ، ولم أُنهي طبختي بعد !
النادل : إذهبي للتحدّث معه
***
عندما اقتربت ناديا من طاولته ، لم تعرفه .. لكنه اشار لها بالجلوس وهو عاقد الحاجبين ويتنفّس بصعوبة ، كأنه يحاول كتم غضبه !
ناديا بقلق : ماذا هناك يا سيد ؟!
- انت ناديا ، مالكة هذه السيارة ؟
ووضع صورة امامها (إلتقطتها كاميرا فيلته الخارجيّة ، مُظهرةً رقم سيارتها وهي تدهس ابنه بعد عودته من الجامعة)
فنزلت دموعها ، وهي تقول بصوتٍ مُرتجف :
- هو قطع الشارع باتجاه الفيلا دون انتباهه على الطريق ، ولم استطع ضغط الفرامل لأنها مُعطّلة بسيارتي المُهترئة.. وأُصبت بالذعر بعد سقوطه جانباً دون حراك ، وهربت من المكان .. لكني سارعت بالإتصال بالإسعاف ، وأعطيتهم العنوان ..
الثريّ وهو يحاول عدم صفعها من شدّة غضبه :
- عندما سمعت صفير الإسعاف خارج فلّتي ، لم أصدّق رؤيته غارقاً بدمائه وهم ينقلونه للمستشفى !
- رجاءً إخبرني انه بخير
- مات البارحة ، بعد يومين بالعناية المركّزة
فانهارت باكية : آسفة سيدي ، صدّقني لم أقصد دهسه .. رجاءً لا تبلّغ الشرطة ..فأنا مُطلّقة ، وأعتني بإبنتي الصغيرة
فقال بغضبٍ شديد وهو يحاول عدم رفع صوته ، كيّ لا يلفت انظار الزبائن:
- وهو ابني الوحيد الذي اعتنيت به ، بعد وفاة امه .. وبموته ، انتهت حياتي !!
ناديا باكية : رجاءً لا تسجّني ، فليس لإبنتي احداً سوايّ
فوضع ورقة قانونيّة امامها ، وهو يقول بحنق :
- اذاً ستوقعين عقد العمل بخدمتي ، لعشر سنوات مجاناً !!
ناديا بصدمة : عشر سنوات !
- او السجن ، ماذا تختارين ؟!!
- تقصد كطبّاخة في فلّتك ؟
الثريّ بلؤم : وخادمة ايضاً !!
- الا يوجد خدمٌ غيري بتلك الفيلا الكبيرة ؟!
الثريّ : لا ، فأنا لا احب الغرباء .. وبالعادة تتكفّل شركة بتنظيف فلّتي مرة بالشهر .. اما بقيّة الأيام ، سيكون من واجبك الإهتمام بالطبخ والغسيل والتنظيف ، وكل ما آمرك به .. هل لديك إعتراض؟!!
- المشكلة الوحيدة انني اعمل ، كيّ أوفّر..
مقاطعاً : وانا وفّرت لك سكناً مجانيّ في منزلي الفخم ، ماذا تريدين اكثر؟!!
ناديا : كنت أقصد اقساط مدرسة ابنتي .. فوالدها يهتم بزوجته الجديدة وإبنه فقط
فأجاب بلؤم : لا تهمّني ابنتك ، إرسليها لأهلك
ناديا : والدايّ متوفيّان ، ولا إخوّة لي.. وزوجة طليقي تضربها دائماً ، وتجبرها على خدمتها دون طعام .. رجاءً سيدي لا استطيع العيش دونها ، فهي في الثامنة ومازالت صغيرة
فشدّد على كلامه :
- انا بحاجة لخادمة ، لا لأولادٍ يعكّرون مزاجي .. إرسليها لأبيها ، او ستباتين الليلة في السجن !!
فمسحت دمعتها بقهر : على الأقل إسمح لي بتوديعها
- اذاً إذهبي الآن وقدّمي استقالتك .. ثم نأخذها من المدرسة ، لإيصالها الى والدها .. بعدها نذهب للفيلا ، هل كلامي مفهوم ؟!!
فأومأت برأسها موافقة ، وهي تشعر بخوفٍ شديد على مصير ابنتها
***
امام منزل طليقها .. بكت ابنتها كثيراً وهي تحتضن امها ، رافضةً العيش دونها .. لكن الأم وعدتها بالإتصال دائماً ، بعد تحجّجها بالضائقة الماليّة بعد طردها من العمل !
ابنتها باكية : عديني ان تأخذيني من هنا بأقرب وقتٍ ممكن
ناديا بقهر : سأحاول يا ابنتي .. فور إيجادي عملاً جديداً ، سآتي وآخذك
- وعد امي
- وعد حبيبتي
واحتضنتها بحنان .. ليقوم الثريّ بالضغط على بوق سيارته ، وهو ينادي الأم للركوب دون مماطلة !
فضغطت ناديا على زرّ منزل طليقها ، وأسرعت الى سيارة الثريّ .. لعدم رغبتها بأن يراها طليقها مع رجلٍ غريب ، فينشر مع زوجته الشائعات القذرة عنها !
ثم راقبت ابنتها وهي تدخل حزينة للمنزل ، بينما تشتمها زوجة ابيها على قدومها دون ميعاد !
والتزمت ناديا الصمت في المقعد الخلفيّ لسيارة المرسيدس ، وهي تشعر بالقلق عمّا ينتظرها بفيلا الثريّ الغاضب من قتلها لإبنه الوحيد!
***
ما ان دخلت فيلته ، حتى قال بلؤم :
- منزلي سيكون سجنك للسنوات القادمة !! تأكّدي بعدم حصولك على حرّيتك بسهولة ، ايتها القاتلة .. والآن توجهي للمطبخ ، ايتها الخادمة المجرمة !!
وبتهديده القاسي ، تحقّقت اسوء شكوكها : بإحضارها الى منزله ، لمعاقبتها جسديّاً ونفسيّاً ، من خلال إجبارها على تنظيف المطبخ كلّه في ليلتها الأولى .. حيث لم تنمّ في غرفة الخادمة إلاّ قبيل الفجر ، وهي بالكاد تقوى على الحراك من شدّة التعب !
ولم يكن هذا العقاب سوى البداية .. ففي الأيام التالية جعلها تنظّف كل الغرف ، وصولاً للعلّية والقبوّ والحديقة ، مع إسماعها الكثير من الشتائم والنقد الهدّام .. رغم إن فيلته تحتاج لخمسة خدمٍ على الأقل ، لإنهاء المهام الصعبة التي أوكلها بها !
وبعد كل هذا التنظيف ، بدأ عملها كطبّاخة .. ولم يكن هذا سهلاً ، لإجبارها على طبخ ثلاثة اصنافٍ كل يوم .. لا يتناول منها سوى لقيمات قليلة ، ويترك الباقي بحجّة طعمها السيء ! فقط لتدميرها نفسيّاً ، وتشكيكها بموهبة طبخها المميزة التي لطالما أعجبت زبائن المطعم التي عملت فيه !
***
وذات يوم .. وصلها إتصال من ابنتها وهي تترجّاها بأخذها ، بعد ان منعها والدها من الذهاب للمدرسة .. وهي تشكو قلّة طعامها ، وإجبارها على خدمة زوجة ابيها التي تضربها دون رحمة !
فدخلت ناديا باكية الى مكتب مراد (بالطابق الأرضيّ للفيلا) ..
فسألها بلؤم : ماذا تريدين ؟
وأخبرته بما حصل ..
فأجابها بلا مبالاة : كم مرّة قلت أن ابنتك لا تهمّني
- ارجوك سيدي .. إن كنت تريد طعاماً لذيذاً ، يجب ان تكون نفسيّتي جيدة .. ولن يهدأ بالي وابنتي بعيدة عني .. اعدك بأن لا تسمع صوتها .. سأبقيها دائماً بغرفتي.. فأنت كنت اباً ، وتعرف تعلّقنا ..
مقاطعاً بعصبية : كنت والداً قبل قتلك ابني !!
- ولوّ اعتذرت العمر كلّه ، لن أوفّيك حقك .. لكن رجاءً لا تحرمني ابنتي ..
فسكت مراد مطوّلاً ، قبل ان يقول :
- حسناً ، أحضريها الى هنا .. لكن لا تدعيني اراها .. فبعد وفاة ابني ، لم يعد باستطاعتي رؤية الأطفال .. لا اريد تذكّر الماضي
فمسحت دموعها بارتياح : حاضر سيدي ، اعدك بأن لا تزعجك مطلقاً .. سأذهب فوراً ، وأعود بعد ساعة .. شكراً جزيلاً لك
وقبل خروجها من المكتب ، قال مهدّداً :
- في حال حاولتي الهرب..
ناديا مقاطعة : لا سيدي ، لن افعل .. اساساً بعد استقالتي ، لا املك المال لإيجاد سكنٍ لائق.. وسيكون من الغباء القيام بهذه الخطوّة المتهوّرة .. سأعود مباشرةً الى هنا.. أعدك بذلك
وخرجت من المكتب ، وهي تتنفس الصعداء بعد قبوله عيش ابنتها معها
***
وبالفعل ، أمضت الطفلة يومين في غرفة امها..
وفي يوم عطلتها ، سألت امها بضيق :
- لما لا تسمحين بخروجي من الغرفة ؟! فأنا مُجبرة على العودة مباشرةً من المدرسة الى هنا ! .. لما لا تدعيني أكتشف غرف الفيلا ، او اللعب بالحديقة ؟
امها مُحذّرة : أخبرتك ان السيد لا يريد رؤية الأطفال في فيلته
- اعدك باللعب في الحديقة الخلفيّة دون صوت .. وسأعود الى هنا ، قبل خروجه من مكتبه
- ريم !! لا تزعجينني .. عليّ إنهاء الغداء عند الساعة الواحدة ظهراً
- اعدك أن لا أصدر صوتاً.. رجاءً ، دعيني اذهب !!
ففكّرت الأم قليلاً :
- اذاً إلعبي بالحديقة الخلفيّة ، وعودي الى هنا بعد ساعة .. لا اريد ان يطردنا السيد في الشارع
ريم بحماس : حسناً امي !!
^^^
بهذه الأثناء .. شعر مراد بالمللّ ، وخرج لحديقته لتنشّق الهواء .. فسمع صوتاً ، كأن شيئاً وقع خلف فيلته !
فذهب ناحية الصوت ، ليجد ريم تتألّم بعد سقوطها من الدرّاجة التي وجدتها هناك.. فصرخ عليها بلؤم :
- ماذا تفعلين ، ايتها الفتاة الشقيّة ؟!!
ريم بحزن : أأنت ايضاً تصرخ عليّ ، كوالدي وزوجته ؟! .. لما يكرهني الجميع ؟!
فحاول تهدئة نفسه ، فهي بالنهاية طفلة صغيرة :
- من سمح لك بركوب درّاجة ابني ؟
- صور ابنك بالصالة تبدو لشابٍ كبير ، وهذه درّاجة صغيرة !
- هي درّاجته حين كان بعمرك..
- اردّت اللعب بها قليلاً .. آخ ! رجلي تؤلمني
السيد مراد : لقد جرحتي ركبتك .. إذهبي لأمك .. هناك لاصقٌ طبّي في درج المطبخ ، دعيها تطهّر الجرح اولاً .. لكن ضعي هذه المناديل فوقها ، لا اريدك ان تلطّخي سجّاد الصالة بالدماء
وأخرج منديلاً من جيبه ، وأعطاه لها .. لتمشي ريم وهي تعرج باتجاه المطبخ ..
^^^
وهناك لامتها امها ، وهي تضع الّلاصق على جرحها :
- الم تعديني ان لا يراك السيد ؟!!
- آسفة امي ، وقعت غصباً عني
- حسناً لا تبكي ، فالجرح بسيط.. اتمنى ان لا يغضب السيد لمخالفتنا اوامره !
^^^
وفي مكتب مراد .. قدّمت ناديا القهوة ، وهي تعتذر عن تصرّف ابنتها
فقال وهو يتابع الأخبار بجوّاله :
- المهم ان لا تدخل ابنتك مكتبي
- طبعاً سيدي ، لن اسمح لها بذلك
***
بعد يومين .. ارادت ناديا معرفة ان كان مراد يحب اكلةً معينة قبل طبخها ام لا ، لكنها لم تجده في مكتبه !
فصعدت لفوق ، لتجد غرفة ابنه مفتوحة لأول مرة منذ قدومها (فهو منعها من تنظيفها او الإقتراب منها)
وعندما نظرت من شقّ الباب المفتوح ، وجدته يشاهد فيديوهات لإبنه وهو صغير وبجانبه علبة المناديل .. فعرفت انه يبكي قهراً لوفاته ..
فقالت بنفسها ، وهو تشعر بتأنيب الضمير :
((ليتني استطيع تخفيف ألم قلبك .. أعلم من الصعب عليك رؤية قاتلة ابنك كل يوم ! اتمنى ان تسامحني يوماً .. اللعنة عليّ !! ليتني نقلته بسيارتي للمشفى ، لربما انقذت حياته .. (ثم تنهّدت بضيق) .. الأفضل الإبتعاد عن السيد طوال اليوم ، كيّ لا اثير غضبه))
ونزلت مهمومة باتجاه المطبخ
^^^
بهذه الأثناء ، وصله اتصال مهم من شركته .. فخرج من غرفة ابنه دون إقفالها (كعادته منذ وفاته) ..
فدخلت ريم الى هناك ، للعب بمجموعة سيارات ابنه الصغيرة التي جمعها منذ طفولته ..
وقبل وصول مراد لمكتبه (بالطابق الأرضيّ لفيلته) تذكّر غرفة ابنه ، فصعد من جديد لإقفالها .. ليتفاجأ بالصغيرة تجلس على سرير ابنه وهي تلعب بألعابه .. فصرخ بوجهها غاضباً :
- من سمح لك بدخول غرفته ؟!!
وأمسكها من طرف قميصها ، وأخرجها عنّوةً للخارج ..
بينما صعدت الأم فور سماعها صراخ السيد ، وحضنت ابنتها التي كانت تبكي بخوف .. وقالت لها :
- إذهبي لغرفتنا فوراً
فنزلت ابنتها وهي ترتجف..
ناديا : آسفة سيدي لما حصل .. لكنها فتاةٌ صغيرة ..
مراد مقاطعاً بعصبيّة : إفهميها ان هناك اماكن ممنوع عليها دخولها!!
- رجاءً سيدي ، والداها عاملها دائماً بقسوة عند زيارتها منزله .. لا تكن قاسياً عليها ايضاً ، هذا سيجعلها تخاف من كل الرجال ، مما سيؤذي مستقبلها
- سأحاول الهدوء قدر الإمكان ، لكن لا اريد أن اصادفها في وجهي
ناديا : سأفهمها ذلك
ونزل غاضباً الى مكتبه
***
بعد ايام .. واثناء انشغال ناديا بالطبخ ، دخلت ريم الى مكتبه ومعها كتاب الرياضيات
- سيدي .. أمازلت غاضباً مني ؟
- ماذا تريدين ؟
ريم : هل يمكنك مساعدتي بحلّ هذه المسألة ؟ فأمي مشغولة
- الم تخبرك امك بأن لا تدخلي مكتبي ؟
- رجاءً سيدي .. لا اعرف حلّ الواجب ، بعد ان منعني ابي الذهاب إسبوعاً للمدرسة .. لا اريد ان ابدو كسولة امام زملائي .. هل يمكنك شرح الدروس التي فاتتني ؟
مراد : كنت تريدين حلّ الواجب ، والآن تريديني ان اشرح الدروس لك .. هل اخبروك انني استاذك الخاص ؟
- أمعقول انك لا تعرف جدول الضرب ؟!
فتنهّد مراد بضيق :
- حسناً هاتي الكتاب ، واجلسي بجانبي .. لكن هذه آخر مرّة تدخلين فيها مكتبي ، مفهوم !!
- حاضر سيدي
^^^
كادت القهوة تسقط من يد ناديا بعد دخولها المكتب ، ورؤية السيد يشرح الدرس لإبنتها ! فسارعت بسحب ذراع ريم ، وهي تعتذر منه:
- لم اعلم انها في مكتبك سيدي ، ارجوك سامحها
فابتعدت ريم عنها ، وهي تقول :
- رجاءً امي ، لا تقاطعي درسنا !!
السيد مراد بابتسامة : هذا صحيح ، فقد أوشكنا على الإنتهاء .. (ثم مسّد شعر الطفلة) .. ابنتك ذكية ، تتعلّم من الشرح الأول !
ناديا بفخر : هي دائماً من الأوائل.. لهذا حزنت عندما منعها والدها من الدراسة
ريم بقهر : البارحة قدم ابي الى مدرستي ، وأخبرني انه سيعيدني الى بيته لأن زوجته بحاجة لمن تخدمها ..
الأم بغيظ : لما لم تخبرينني ؟!
ريم : لم اردّ ان تتشاجري معه ثانيةً
السيد مراد : اظن من الأفضل نقلها لمدرسةٍ ثانية ، كيّ لا تجتمع بوالدها مجدّداً
الأم : هذه ارخص مدرسة في المنطقة
ريم بضيق : وهي سيئة للغاية
السيد مراد : سأنقلها لمدرسة ابني ، فهي ذكيّة وتستحق تعليماً جيداً
الأم بإحراج : لا اريد تكليفك بمصاريفها
السيد مراد : لا تفكّري بالموضوع .. سأذهب غداً الى مدرستها وأسحب ملفها ، لتسجيلها بالمدرسة الجديدة
فقفزت ريم فرحاً : سأدرس في مدرسةٍ فخمة .. شكراً لك !!
وحضنته بامتنان ، وسط ارتباك السيد وإحراج ناديا من ردّة فعل ابنتها الطفوليّ !
***
بعد ايام .. اخبرته ناديا بأن الثلاّجة شبه فارغة ، وعليها التسوّق .. فطلب منها تجهيز نفسها ، لأخذها هي وابنتها للسوبرماركت
^^^
في السيارة :
جلست ناديا وابنتها في المقعد الخلفيّ ..
وفي الطريق ، سألته ريم :
- سيد مراد ، لما ليس لديك سائق كبقيّة الأثرياء ؟
الأم معاتبة : ريم !! لا تتحدّثي دون اذن
مراد : لا احب الغرباء .. عشت حياتي كلها مع المُربّين والخدم ، لانشغال ابي بسفريات العمل ، وأمي بسفريّات التسوّق في اوروبا .. لهذا اردّت لإبني ان يعيش ضمن عائلةٍ حقيقية .. وهذا لم يسعد زوجتي التي ارادت التباهي امام صديقاتها ، بثراء زوجها .. ولولا موتها بمرض القلب ، لكنا حتماً تطلّقنا ..
ناديا : إن سمحت لي بالسؤال .. كم كان عمر ابنك عند وفاة امه ؟
مراد : عشر سنوات .. وربيته وحدي ، قبل ان ..
وسكت وهو ينظر بالمرآة العلويّة بوجه ناديا (المُحرجة) محاولاً كتم غضبه من جريمتها .. ليكملوا الطريق بصمتٍ ثقيل !
^^^
عندما وصلوا لسوبرماركت ، اخبرهم انه سينزل لاحقاً لدفع حساب المشتريات .. فدخلت الأم وابنتها ، بينما ينتظرهما في موقف السيارات
بعد ساعة ، نظر لساعته بقلق :
- تأخرتا كثيراً .. أمعقول انهما هربتا من الباب الخلفيّ للسوبرماركت؟!
ونزل سريعاً الى هناك.. وبعد بحثه في ارجاء السوق ، وجد ناديا تُحدّث ابنتها :
- هيا أعيدي الشوكولا مكانها !!
ريم بضيق : الم تعديني بشراء الحلوى مرة بالأسبوع ؟
- ليس لديّ راتب .. ولن اشتري الحلوى من مال السيد مراد .. إرجعيه رجاءً
- كنت وعدّتني ان مستقبلنا سيكون اجمل ، وهاهو اصبح اسوء!
وأعادت ريم الشوكولا بحزن الى مكانها
ثم انتظرتا بالسيارة ، ريثما يحاسب مراد عن الأغراض .. لتتفاجأ الصغيرة بشرائه صندوق من شوكولاتتها المفضلّة ، وهو يقول لها:
- المستقبل دائماً افضل .. ثقي بذلك
وقد فرحت ناديا بحنانه على ابنتها ، رغم ثقل تأنيب الضمير من تركها ابنه ينزف حتى الموت !
***
وبمرور الأيام ، تعوّد السيد على مذاق قهوة ديانا وطعامها الفاخر.. كما صار يسعده فضول ابنتها التي تدخل مكتبه من وقتٍ لآخر للحديث معه ، او لمساعدتها بالدراسة اثناء انشغال امها بأعمال المنزل
الى ان تفاجأ يوماً بقدوم طليق ناديا الى فيلته ، وهو يصرخ عليها :
- من سمح لك بالعمل عند ارملٍ يعيش وحده ، ايتها الفاسقة ؟!
ناديا بعصبية : وما دخلك انت ؟!! نحن مُطلقيّن ، ولا سلطة لك عليّ
طليقها : لكني مسؤول عن ابنتي ، ولن اسمح بتواجدها مع هذا الغريب !!
وسحب ذراع ابنته بعنف ، والتي بكت خوفاً وهي تستنجد بالسيد :
- رجاءً عمو مراد !! لا اريد الذهاب معه ، فهو يضربني بقسّوة .. وزوجته تعاملني كخادمة ، وتمنعني الإقتراب من اخي الصغير
ناديا باكية : رجاءً سيد مراد ، لا تدعه يأخذ ابنتي
لكن مراد لم يستطع التدخل ، فهو بالنهاية والد الطفلة الذي أخذها بالقوّة .. تاركاً امها تبكي بقهرٍ شديد
***
ومرّ الأسبوع صعباً على ناديا التي تلقّت اتصالاً من جارتها القديمة : بأن ريم أخبرتها بأنها ستقفز من النافذة وتنتحر ، إن لم تعيدها للفيلا حالاً !
فسارعت ناديا فزعةً الى مكتب مراد ، لإخباره بتدهوّر نفسيّة ابنتها.. خاصة بعد تلقيه إتصالاً من مدير المدرسة الجديدة ، يُخبره بغياب ريم طوال الإسبوع الفائت !
فوعد ناديا بإعادة الصغيرة اليها ..
***
وفي المساء .. أعطى مراد مالاً لزوجة بوّاب عمارة والد ريم ، والتي تمكّنت من خطف الصغيرة وتسليمها لمراد الذي ينتظرها اسفل المبنى لإعادتها الى فيلته
وطوال الطريق ، عاتبت ريم مراد على تسليمها لوالدها .. وهي تُريه آثار الضرب على ذراعيها ووجهها..
ريم باكية : كيف سمحت له بأخذي ؟!! انا اكرهك عمو مراد
فأوقف سيارته جانباً ، وحضنها بحنان :
- اعدك يا صغيرتي بأن لا تريه ثانية
- كيف ؟
- أتريدنني ان اكون والدك ؟
ريم بدهشة : هل ستتزوج امي ؟
- علينا سؤالها اولاً
فحضنته بقوّة : انا سأقنعها ، عمو مراد !!
***
في الفيلا .. تكلّم مراد مع ناديا في مكتبه
ناديا بحزن : ليتك لم تعدها بالوصاية ، فالأمر ليس سهلاً
مراد : لن يكون صعباً ان تزوجنا
ناديا بصدمة : ماذا !
- لا تقلقي ، زواجٌ صوريّ .. فقط لحين حصولنا على الوصاية .. والأفضل ان نُسرع ، كيّ يرى القاضي آثار الضرب على جسد ريم ، فهذا سيجعلنا نفوز بالقضيّة .. ماذا قلت ؟
ناديا بتردّد : أظن .. لا حلّ آخر امامنا
- اذاً غداً نذهب للمحكمة الشرعيّة ، ونكتب الكتاب .. بعدها أوكّل المحامي برفع قضية الوصاية
وخرجت من مكتبه وهي تشعر بالإرتباك .. فهي مُعجبة بشخصيته القويّة وتصرّفاته الّلائقة وحنانه على ابنتها ، لكنها تعلم أنه مستحيل أن يُغرم بقاتلة ابنه !
***
وبالفعل حصل السيد مراد على وصاية ريم التي اختارت العيش معه امام القاضي .. فخرج والدها وهو يلعن تربيتها السيئة ، بينما تنفّست زوجته الصعداء لتخلّصها من ابنته للأبد !
^^^
وفي طريق عودتهما ، طلبت ريم من امها الجلوس في المقعد الأمامي بجانب زوجها ! كما اقترحت عليهما الإحتفال بالملاهي ، لتخلّصها اخيراً من زوجة ابيها
وفي الملاهي ، أمضوا ليلةً سعيدة .. وعادوا للفيلا ، والطفلة تحمل العابها الصوفيّة التي فاز بها مراد من اكشاك الألعاب المتواجدة هناك ..
وعندما ارادت امها دخول غرفتها ، منعتها الصغيرة .. وطلبت منها النوم بالغرفة العلويّة مع زوجها..
الأم بدهشة : متى كبرتي ، لتعلمي بهذه الأمور ؟!
ريم : عمو مراد ، أليس المفترض للزوجيّن ان يناما في نفس الغرفة؟
فاكتفى بالإبتسام..
ريم : امي لا تقلقي ، لن اخاف النوم وحدي .. اساساً غداً يصبح عمري تسع سنوات
مراد : أحقاً ! اذاً علينا الإحتفال بعيد ميلادك
ريم : اريد فقط دمية كبيرة وكيك بالشوكولا
مراد : سيكون لك ذلك ، يا صغيرتي
فحضنته بامتنان : كم احبك عمو مراد ، انت أحنّ من ابي الحقيقي .. شكراً لك على كل شيء .. هيا ، خذّ ماما واصعدا لفوق .. تصبحا على خير
^^^
ودخلت غرفتها .. بينما صعدت ناديا بخجلٍ ممزوج بقلق ، فهي لا تدري ما سيحصل لاحقاً ..
وعندما دخل مراد الحمام ، أمسكت صورة عرسه وهي تتأمّل زوجته المتوفية .. وسرحت بأفكارها قبل ان يسحب الصورة منها ، وهو يقول :
- كانت تحب نفسها ، تماماً كأمي وابي .. وكنت انا وابنها بالمركز الثاني بعد اصدقائها .. لا يهم الآن ، هي مع ابنها في السماء
ووضع صورتها بالدرج ، كيّ لا تشعر ناديا بالغيرة .. ثم فرش الأريكة للنوم عليها ، بعد سماحه بنومها على سريره .. وهو يقول :
- لا تقلقي ، سنمثل دور الزوجيّن جيداً امام ابنتك وامام الناس .. تصبحين على خير
ورغم احترامها لتصرّفه النبيل ، لكنها حزينة لعدم اعتبارها زوجته بالفعل .. وفي نفس الوقت لا تلومه ، فهي بالنهاية قاتلة ابنه الوحيد !
***
في يوم العطلة .. لحقت ريم مراد قبل خروجه من الفيلا
- عمو مراد !! الى اين انت ذاهب ؟
- الى المقبرة .. اريد زيارة ابني ، فاليوم يصادف عيد ميلاده
ريم : لم تخبرني بعد ، كيف مات وهو مازال شاباً يافعاً ؟!
- صحيح.. كان في بداية عمره ، بسنته الأخيرة بالجامعة .. كنت انتظر تخرّجه لتزويجه ، واللعب مع احفادي .. لكن احدهم ..
ونظر لناديا التي كانت بالحديقة ترتجف ، لخوفها من إخبار ابنتها بجريمتها
ريم : ماذا حصل له ؟
مراد : مات بحادث سير ..
ريم : رحمه الله .. هل يمكنني الذهاب معك للدعاء له ؟ فالموتى يحبون ذلك
مراد : حسناً تعالي
وخرجا من الفيلا ، بينما حمدت ناديا ربها لعدم تشويه صورتها امام ابنتها .. وفي نفس الوقت شعرت بتأنيب الضمير لكسر قلبه ، رغماً عنها !
قائلةً في نفسها بحزن :
((أتمنى يوماً ان تسامحني ، يا زوجيّ العزيز))
***
وفي يوم .. عادت ريم مع مراد سعيدة من المدرسة ، وهي تنادي امها :
- لقد حضر معي جلسة اولياء الأمور !! وأخبرت زملائي بأنه والدي
امها : هذا رائع !! هيا إغسلي يديك لتناول الغداء
وبعد ذهابها ، شكرته على الإهتمام بإبنتها :
- والدها لم يهتم بها مطلقاً .. فهو طلّقني فور ولادتها ، لكرهه للبنات .. شكراً جزيلاً لك
مراد : لقد أسعدني ذلك .. وتذكّرت ابني وانا أتجوّل بمدرسته القديمة
فتنهّدت ناديا بحزن : لن اسامح نفسي على قتلي إبنك .. فرغم بيع سيارتي بعد الحادث ، لعدم رغبتي القيادة ثانيةً.. مع ذلك أكره نفسي كل يوم
- اظن أيّ شخص لديه مسؤولية طفل ، سيربكه الحادث .. على الأقل اتصلتي بالإسعاف ، بينما سيكتفي غيرك بالهرب
- لا تبدو غاضباً هذه المرة !
مراد : لأني راجعت فيديو وفاته مع خبراء بحوادث السير .. جميعهم اكدوا انه لم يكن بإمكانك تفادي الحادث ، بعد قطعه الشارع بسرعة دون إلتفاته للطريق .. كما كنت تقودين بسرعةٍ متوسطة ، عدا عن سيارتك المُهترئة .. لكنها ستبقى غصّة في قلبي لمعرفة سبب ركضه ذلك اليوم ، فهي ليست من عادته ! هل اراد إخباري بأمرٍ مشوّق ؟ هل كان مغرماً بإحدى زميلاته ، لهذا كان متحّمساً بالعودة لبيته .. هل نجح بإحدى الإمتحانات ؟ .. سيبقى هذا السؤال يُشغل تفكيري لآخر عمري
فأمسكت يده لأول مرة ، بحنان :
- لن اغفر ذنبي حتى اسمعك تقول بأنك سامحتني .. فكوابيس الحادث تلاحقني كل ليلة ، وصوت ارتطامه بمقدّمة سيارتي لن تُمحى ..
مراد مقاطعاً : توقفي يا ناديا .. كان مقدّراً له الموت ذلك اليوم .. ربما لكيّ يجمعني بك وبإبنتك التي اصبحت بغلاوته .. لا تحزني ، فأنا رجلٌ مؤمنٌ بالله
- انت رائعٌ حقاً.. واحترامي لك يزداد كل يوم
- أيعني هذا انك سامحتني على قساوتي معك ، بأيامك الأولى بالقصر؟
- بالتأكيد سيد مراد
مراد معاتباً : هل هناك زوجة تنادي زوجها بالسيد ؟ .. فقط مراد ، رجاءً
ووضع يده على كتفها بحنان ، وهو يسألها :
- ماذا طبختي لنا اليوم ؟
- أكلتك المفضّلة .. سأسكب لك حالاً ، وأضع الطبق فوق مكتبك
مراد : لا هذه المرة سنتناول الطعام على مائدة ، كعائلةٍ مترابطة
فابتسمت له ، والدموع في عينيها بعد تحسّن الأحوال بينهما اخيراً
***
بنهاية الإسبوع ، أخذ ناديا وابنتها برحلةٍ في اليخت .. مما اسعد ريم كثيراً وهي تستمع الى قصص البحّارة التي سمعها مراد من الصيادين
وفي المساء ، وبعد نوم ريم في الغرفة السفلية لليخت .. سهرت ناديا مع مراد وهما يتحدثان عن الماضي والمستقبل ، كأنهما زوجيّن لأول مرة !
وعندما نزلا للأسفل .. استفاقت ريم ، وهي تطلب نومهما بجانبها.. وكانت المرة الأولى التي ينام فيها الزوجيّن بذات السرير !
فحاولت الأم رغم ارتباكها الإستسلام للنوم .. بينما سهر مراد وهو يتأمّل وجه زوجته ، قائلاً في نفسه :
((كيف لم انتبه لجمالها كل تلك الأيام ؟! هي فعلاً تشبه فتاة احلامي التي تخيّلتها دائماً .. يالا غرابة القدر الذي جمعني بأرقّ إنسانة ، وألطف طفلة.. شكراً لك بنيّ ، لطالما اهتممت بسعادتي.. وهآ انت بموتك ، جمعتني بعائلتي اللطيفة))
وأمضى ليلته وهو يتخيّل حياته مع ناديا !
***
لكن بالحقيقة لم تتطوّر حياتهما العاطفيّة إلاّ بعد اصابة مراد بالحمّى ، واعتناء ناديا به .. بعد قضاء ليلتها وهي تضع الضمّادات الباردة على رأسه ، وتحضّر له الشوربة الساخنة .. الى ان خفّت حراراته قبيل الفجر
ولم يمضي يومان ، حتى أصيبت هي بالعدوى .. ليبدأ دوره بالإهتمام بها ، مما اشعل مشاعرهما التي كتماها في قلبيهما !
***
وذات يوم .. طلبت ناديا الإذن لزيارة اقاربها بالقرية بعد وفاة احد اقاربها ، وهي تعده بالعودة للفيلا بأقرب وقتٍ ممكن
وخلال الأيام الثلاثة لغيابها ، شعر مراد بوحشةٍ كبيرة في الفيلا ! خاصة بعد تعوّده على قهوتها الصباحيّة وطعامها اللذيذ ، وحديثها المميّز .. كما اشتاق لحيويّة ابنتها التي أشعلت منزله بضحكاتها وحركاتها العفويّة
^^^
وبعد عودتهما لمنزله ، سارع بحضن الطفلة بشوقٍ كبير .. بينما اقتربت ناديا منه ، وهي تسأله :
- اظنك جائع ، سأحضّر الغداء فوراً
مراد : لا اريد سوى قهوتك .. لا تدرين كم اشتقت لها
ففهمت من نظرته الحنونة ، انه مشتاقٌ اليها .. لكنها سارعت للمطبخ بارتباك ، لإعداد قهوته
***
في المساء وبعد نوم الطفلة .. صعدا الى غرفتهما
واثناء حديث ناديا عن العزاء ، تفاجأت باحتضانه لها بقوّة !
مراد : لا تدرين كم اشتقت اليك ، فالمنزل كئيب من دونك.. هل تصدّقين انني لم استطع النوم إلاّ بعد احتضان وسادتك ؟ فقط لاشتمّ عطرك الرائع
ناديا بخجل : هو عطرٌ رخيص
- لكنه جميل ، وناعمٌ مثلك
- يبدو انك نسيت اتفاقنا ، بخدمتك لعشر سنوات ؟!
فأخرج الورقة من الدرج (التي وقّعتها سابقاً) ومزّقها ، وهو يقول :
- ستكونين سيدة قصري مدى الحياة
وجثا على ركبته ، وهو يخرج خاتماً :
- اشتريته البارحة .. فهل تتزوجينني حقاً يا ناديا ؟
- وكيف أرفض اباً رائعاً لإبنتي
- فقط لإبنتك ؟!
ناديا بابتسامة : وزوجاً حنوناً لي .. اكيد موافقة
وألبسها الخاتم ، ليقضيا ليلة العمر بعد مسامحة بعضهما على قسّوة الماضي وآلامه .. لتكتمل روعة عائلتهما بإنجابها لطفلٍ ، أسمياه على إسم ابنه الراحل .. ويصبحوا بذلك عائلةً سعيدة ، جمعها النصيب والقدر في يومٍ ماطر !