الأحد، 26 أغسطس 2018

لعبة المجرمون

تأليف : امل شانوحة


قوانينٌ صارمة للعبةٍ عنيفة !

مع بداية العام .. إتفق رؤساء المدينة على ترحيل مُجرميها الى جزيرةٍ مهجورة بعد ان بنوا فيها ثلاثة سجون : سجن الأحداث , وسجن النساء , وسجن الرجال .. بشرط ان تكون تهمهم جميعاً القتل .. اما المجرمون المقبوض عليهم بتهمٍ أخرى فيبقون في سجون المدينة

وبالفعل !! بغضون شهورٍ قليلة تمّ نقل أخطر المجرمين الى تلك الجزيرة مع حراسةٍ مشدّدة ..

الاّ انه بعد خمس سنوات , بدأ حرّاس السجن بالعودة سرّاً الى المدينة بعد ان ملّوا من البقاء بتلك الجزيرة بعيداً عن أهاليهم , فانتشر الخبر سريعاً بين السجناء بأن أعداد الحرّاس في تناقص .. وبدأ الأمل يعود اليهم بعد معرفتهم بأن أجهزة المراقبة بحاجة الى صيانة , والحرّاس يهملون ذلك 

وكان من بين السجناء : طبيب طوارىء سابق حُوكم ظلماً بقتله لإبنة رئيس البلدية حين لم يتمكّن من إنقاذها بعد إصطدامها بحادثٍ مروري خطير .. فاتهمه والدها بالإهمال ولفّق محاميه له عدة وفيات جرت في المستشفى الذي يعمل فيها , فرضيّ الطبيب مُرغماً بحكمهم الظالم بعد رفض القضاء إستئنافه ..

الاّ ان ابنه المراهق انتقم له وقتل رئيس البلدية عند خروجه من إحدى الحفلات الخيرية .. وبذلك اجتمع الأب والأبن في سجنين متفرّقين بتلك الجزيرة ..

ولأجل مستقبل ابنه خطّط الطبيب الذكي مع رفاقه المساجين لعملية إنقلاب على الحرّاس ..
***

وفي إحدى الليالي .. وقبل عودة المساجين الى زنازينهم (بعد السماح لهم بساعة تجوّل مسائية في حديقة السجن المُسيجة بالأسلاك الكهربائية المُطلّة على البحر من كل جانب) صفّر الطبيب بقوة مُعلناً بدأ العملية .. 
وعلى الفور !! حصل هرجٍ ومرج في الساحة وهجم كل خمسة مساجين على أحد رجال الشرطة لينتزعوا منه مسدسه وصاعقه الكهربائي ..

وفي أثناء المعركة .. جُرح بعض المساجين بالرصاص الطائش لرجال الشرطة , فقام الطبيب بعلاجهم بعد اقتحامه لغرفة الطوارىء بالسجن 
***

وقبيل حلول الفجر .. كان المساجين قد فرضوا سيطرتهم بالكامل على سجن الكبار.. 

وبعدها بساعة .. بدأت العملية الثانية وانقسم المساجين المحرّرين الى قسمين : قسم انطلق بقيادة الطبيب نحو سجن الأحداث القريب منهم , والقسم الآخر اتجه بحماس لإنقاذ المجرمات المحتجزات في سجن النساء المتواجد في أطراف الجزيرة ..

فدبّ الرعب بين رجال الشرطة الذين اسرعوا نحو قوارب النجاة وانطلقوا بها مُبتعدين عن الجزيرة .. اما القسم الآخر من الشرطة النسائية والرجالية فقد تمّ تقيدهم وحبسهم في السجن الرئيسي ..
***

وفي الصباح الباكر .. وصل الخبر الى رؤساء المدينة الذين قاموا بالتواصل مع الخاطفين بقيادة الطبيب الذي وافق على تحرير الحرّاس لكن بشرطين : 

أولاً : يُمنع إقتراب السياسين ورجال الشرطة من الجزيرة مجدداً , لأنها أصبحت مدينة خاصة بالمجرمين 
ثانياً : لن يُعاد الحرّاس سالمين الى المدينة الا بعد وصول المؤن الغذائية والبذور التي يحتاجونها للزراعة مع قطعان من الماشية لإستقلال أهالي الجزيرة عن موارد المدينة 
***

وفي المقابل كان لرؤساء المدينة شرطٌ وحيد : انه في حال فِرار أيٍّ من سجناء الجزيرة فإن عقوبته ستتضاعف , لذلك سيقومون بتكثيف الحراسة البحريّة لحماية مدينتهم 

لكن الطبيب طمأنهم بأن اصدقائه المساجين لن يهربوا من جزيرة الحرّية ليعيشوا في بلد الفساد .. 

وبعد إمضاء المواثيق بينهم , تمّ الإعلان بوسائل الإعلام بأن : ((جزيرة المساجين أصبحت منذ اليوم مدينةً مستقلة غير تابعة لقوانين دولتهم)) 
***

وبعد سماع المساجين لخطاب رئيس المدينة من مذياع السجن : صفّقوا بحماس لبلدتهم الجديدة !! وعينوا الطبيب رئيساً عليهم والذي قام بإلقاء خطبة خلف اسوار السجون , إجتمع فيها المجرمون من كل الأعمار والأجناس :
- إخواني وأخواتي !! اليوم هو يوم استقلال جزيرتنا عن قيادة المدينة , وبهذا التاريخ أُعلن قيام دولتنا .. دولة الأحرار !!

وصفّق الجميع له بحرارة !!! ..ثم أكمل الطبيب قائلاً بصوتٍ جهوريّ :
- لطالما اعتبرونا بشراً ميؤوساً منا وبأننا حثالة المجتمع ! لكننا وان اخطأنا , نستحق فرصةً ثانية .. لذلك سنثبت لهم بأننا قادرون على بناء دولةٍ منظّمة بقوانين عادلة .. وسيعمّ الأمن والإستقرار بيننا , فلا جرائم هنا على جزيرة السلام ..جزيرتنا ..جزيرة الأبطال !!
وصفّقوا له وهم ينادونه :
- يحيا حاكمنا العادل !! يحيا طبيبنا البطل !! 
***  

بعدها بشهور .. تمّت الإستفادة من خبرات المساجين السابقة في الزراعة ورعاية المواشي , كما في الحدادة والنجارة لبناء دولتهم 
كما انه كان بين المساجين رجلٌ يحفظ الإنجيل , فقام الطبيب بتعينه كرجل دين مسؤول عن تزويج المساجين من السجينات , رغم ان البعض إكتفى بعلاقة الصداقة بينهم .. 

وأُقيمت الأعراس بعد تحويل غرف الزنزانات الى شققٍ صغيرة بعد هدم الجدران الفاصلة لتوسيع الزنزانات الإنفرادية لأجل المتزوجين , حيث نُقلت الأقفال الى الداخل لينفرد العرسان ببيتهم الجديد
***

وبخلال خمس سنوات .. استطاع الطبيب بذكائه بناء دولة تفرض القانون على شعبٍ من أخطر وأعتى المجرمين , بحيث لم تُرتكب جريمة واحدة بينهم طوال تلك السنوات , لكنه ظلّ قلقاً من حماسة شباب الأحداث الراغبون دائماً بإثارة الفوضى والعراك بينهم !
***

وفي خلال تلك الأعوام .. وُلد عشرات الأطفال الذي قدّر لهم ان يعيشوا محتجزين معهم في هذه الجزيرة بعيداً عن مظاهر الحياة في المدينة ..
وفي يوم ..قالت سجينةٌ حامل , لسجينة أنجبت حديثاً : 
- وما ذنب طفلي ان يُولد بجزيرة ليس فيها مدارس او العاب او مدينة ملاهي ؟!
فردّت الأم وهي تُخيط لعبة قماشية لطفلها :
- لقد أرسلنا شكوتنا للطبيب , وهو وعدنا ببناء المدارس في الشهور القادمة
***

وبالفعل !! تمّ تحويل سجن النساء الى مدرسة وعيادة , وسوق للمنتجات المصنوعة يدويّاً لمساجين كانوا حرفيّن سابقين
***

وفي أحد الأيام .. وبينما كان المراهقون يلعبون كرة القدم في حديقة سجنهم القديم , نادى شاب صاحبه الذي جلس بعيداً عنهم : 
- هل ستكتفي بمشاهدة المبارة ؟! هيا تعال والعب معنا !!
فردّ بحزن : أتدرون انه بدأت مباريات كأس العالم , وانا كنت أتابعها دائماً قبل إرسالي الى هنا 
فقال ابن الطبيب (جيم) : 
- لقد أخبرت والدي بالأمر قبل ايام , وهو اتصل بالمدينة وطلب منهم تلفازاً كبيراً مقابل حصاد مزروعاتنا 
الشاب بحماس : وهل وافقوا ؟! 
جيم : نعم وسيرسلونه غداً على ما أعتقد , وسيضعه ابي في الساحة لنشاهد جميعنا المباريات
الشاب بفرح : هذا جميل !!

جيم : لكن والدي سيضع مسؤولاً عن جهاز التحكّم , فهو لا يريدنا ان نشاهد افلام إجرامية او سياسية او حب وإثارة لأنه لا يريد مشاكل بالجزيرة
الشاب الآخر مُمتعضاً : والدك دائماً يقتل فرحتنا بقوانينه الصارمة
ابن الطبيب بغضب : لولا والدي لما كنت حرّاً يا ولد !!
فردّ الشاب مُهدّداً : لمن تقول ولد ؟! تعال لأريك من منّا الطفل ايها الصعلوك المدلّل

وحصل عراكاً بينهما , أوقفته إحدى السيدات (أكبر السجينات والمسؤولة عن المطبخ) بعد ان هدّدتهم بحرمانهم من طعام الغداء ان لم يهدأوا حالاً  

فعاد كل مراهق الى غرفته غاضباً (التي كانت زنزانته قديماً) وهو يلعن حظه على بقائه في جزيرة الأشرار
***

لكن مع بداية السنة السابعة .. حصلت اول جريمة قتل بينهم ! حين وُجدت جثة شاب مقتولاً في الغابة المتواجدة بأطراف الجزيرة ..
وجنّ جنون الطبيب الذي لطالما أفهم الجميع (ضمن اجتماعاتهم الدوريّة) بأنه سيعاقب بشدّة كل شخص يُؤذي الآخر في دولته المحرّرة , لذلك أرسل أشخاصاً موثوقاً بهم للبحث والتحرّي عن القاتل .. فإذا به شاب مراهق قتل صديقه لمغازلته حبيبته !

ورغم هذا رفض سكّان الجزيرة حبس القاتل في غرفة الإستجواب المتواجدة في قبو سجن الرجال والتي تم إقفالها منذ اعلان الإستقلال ! 
بل ان بعضهم برّر فعلة القاتل , لأنهم مثله يشتاقون للمغامرة بارتكاب المحظورات ! وكان من بين المؤيدين : ابن الطبيب الذي شعر ايضاً بأن حياتهم كئيبة وخالية من التشويق ..
***

وفكّر الطبيب لأيام الى ان وجد فكرةً جيدة , وجمع الرجال فوق سن 20 (دون النساء والمراهقين , بما فيهم ابنه ذو 17 عام) في اجتماعٍ خاص.. 

واقترح عليهم لعبةً سرّية تُقام بنهاية كل شهر مساءً في الغابة حيث يجتمع الرجال للقتال بالأيدي دون استخدام الأسلحة , بشرط لبس الألبسة الموحدّة كيّ لا يميزون بعضهم البعض ..وستقام المعركة بين فريقين : فريق الفهود ضدّ فريق النمور .. والفريق الرابح يمكنه ان يُجبر الفريق الخاسر على خدمته لثلاثة ايام من سقاية الأرض ورعاية الغنم وغيرها .. فتحمّس الجميع للفكرة !! 

ثم وضع الطبيب اسماء كل شخصٍ منهم داخل وعاء وقام بخلط قصاصات الورق .. ثم سحب اسماء المئة شخص التابع للفريق الأول , واسماء المئة للفريق الثاني .. بحيث يلبس الفريق الأول الأقنعة الحمراء , والفريق الثاني الأقنعة السوداء .. 
وبنهاية الإجتماع , وافق الجميع على كتمان السرّ ..

وبدوره وعدهم الطبيب بعلاج الجرحى من كلا الطرفين بعد انتهاء المعارك السلمية , حيث سيكون حكماً حياديّاً بينهم ..
وانتهى الاجتماع وهم في قمّة الحماس لمعركتهم الأولى التي ستُقام بعد اسبوعين , عند نهاية الشهر 
***

وبالفعل !! جرت اللعبة السرّية بسلام .. وعاد اللاعبون الى منازلهم مع تباشير الصباح وقد حصلوا على بعض الكدمات البسيطة أثر العراك بالأيدي , لكنهم كانوا يشعرون براحةٍ كبيرة لتفريغ طاقتهم السلبية ..
وبسبب لعبتهم الخشنة الدوريّة , قلّت المضاربات والمشاجرات بين المساجين الكبار في حياتهم العامة ! 
***

الاّ انه في الشهر السادس .. قام جيم باللحاق بوالده الى الغابة دون علمه ..واسترق النظر بين الاشجار ليرى مشهد تجمّع الرجال ضمن فريقين بانتظار صفّارة الطبيب التي ما ان أطلقها حتى هجموا على بعضهم وهم يسدّدون لبعضهم اللكمات والرفسات بحماسةٍ كبيرة ! 

وظلّ ابن الطبيب يراقبهم بدهشة وقلق ! حتى انتهت المعركة مع شروق الشمس بفوز فريق الأقنعة الحمراء .. 
ثم تفاجأ بهم بعد صافرة النهاية وهم يسلّمون على بعضهم رغم تألّمهم بما أصابهم في المعركة , حيث عاد بعضهم الى بيته وهو يعرج ويضحك من فرط السعادة ! 
فأسرع الشاب الى البيت قبل وصول والده , وهو غاضبٌ منه لعدم إخباره بشأن لعبتهم الحماسيّة ..
***

وفي اليوم التالي .. صارحه ابنه بما رآه , قائلاً بغضب : 
- لقد ضيّعت مستقبلي لأنتقم لك من ذلك الظالم , وانت لا تثق بي بشأن لعبةٍ سخيفة !
الطبيب : إهدأ بنيّ .. انها لعبة لأجل التخفيف من غضبهم المكبوت
فردّ ابنه بعصبية : لكنهم جميعاً فوق سن الثلاثين ! وكان الأجدر بك ان تجعلها للمراهقين , فنحن من لدينا طاقة سلبية أقوى منكم ايها العجائز !!
- تأدّب يا ولد !! فأنا لم أخبركم بها لأن اصدقائك متهورين وربما يتحمّسون زيادة باللعبة ويأذون الآخرين .. بالنهاية انا الطبيب الوحيد على هذه الجزيرة ولست قادراً على إنقاذ الجميع , خاصة اذا أُصيب أحدهم بجروح خطيرة , فالمعدّات الطبّية التي لدينا محدودة ..هل فهمت الآن ؟!
لكن ابنه لم يجيبه , بل ظلّ ينفث انفاسه بغضب ..

فأردف الطبيب قائلاً : إسمع يا جيم .. انا فعلت ذلك لصالح الجميع , لذا رجاءً لا تخبر أصدقائك بأمر اللعبة , وخاصة النساء اللآتي سيفسدنّ كل شيء
- أخائفٌ ان تمنعك عروسك من هذه اللعبة ..(ثم يتنهّد بغضب).. على كلٍ , هي لعبة سخيفة ولا تهمّني
ثم خرج من مكتب والده غاضباً ..
***

ومرّ الشهر بسلام .. لكن في صباح يوم المباراة الجديدة .. ذهب جيم الى أصدقائه في الملعب , فلاحظ صديقه تعكّر مزاجه ..وظلّ يلحّ عليه الى ان أخبرهم باللعبة السرّية..
صديقه : أقلت انها ستُقام هذه الليلة ؟  
جيم بقهر : نعم , بعد منتصف الليل ..ولهم ستة أشهر يلعبونها لوحدهم !
فقال شابٌ آخر مفتول العضلات : ليس بعد الآن 
جيم بقلق : ماذا تقصد ؟!
وأخرج الشاب سكينة من جيبه , وهو يقول لرفقائه :
- عليكم التجهّز جيداً للمعركة , وعلى كل واحدٍ منا ان يصنع سلاحه الخاص .. كما لا تنسوا موضوع الأقنعة .. لأن لعبة اليوم ستكون أكثر إثارة

فحاول ابن الطبيب إفهامهم بقوانين لعبة والده الصارمة , لكنهم أصرّوا على اللعب بطريقتهم .. 
وقال أقوى الشباب بنيةً لبقيّة المراهقين :
- لقد قرّرت ان أكون قائدكم في هذه المعركة , وإخترت ان نسمّي فريقنا : فريق العقارب ..ما رأيكم ؟ 
فأيّدوه على قراره ..
ثم اقترب القائد من جيم وسأله : 
- وانت ..هل ستأتي معنا , ام ستخاف من عقاب والدك ؟
فقال جيم بحزم : انا لست صغيراً لأخاف من ابي
- أحسنت !! ..هل مازالت عصا البيسبول معك ؟
جيم : نعم ..فوالدي طلبها من المدينة كهدية عيد ميلادي الماضي ..لما تسأل ؟!
فيبتسم القائد بخبث : لأننا سنضيف عليها هذه الأشياء البرّاقة

وأخرج من جيبه المسامير الحادة , ليضحك مع أصدقائه .. بعكس جيم الذي فهم حينها حكمة والده بإخفاء الأمر عن هؤلاء المتهورين , لكن ندمه جاء متأخّراً !
***

وفي ليلة المعركة وقبل صفّارة البداية .. تفاجأ الرجال بقدوم فريقٍ ثالث للغابة مكوّناً من المراهقين الملثّمين الذين ارادوا بالقوة الاشتراك باللعبة .. فاعترض الكبار على ذلك وحصلت نقاشات حادة بينهم , أوقفه الطبيب بصفّارته للتفاوض مع الشباب .. 

لكن قائد المراهقين قاطع كلامه , قائلاً بحزم : 
- اليوم ستقام المعركة بقوانينا نحن , لا قوانينكم ايها العجائز !!
فردّ الفريق الآخر : أسكت يا صغير !! هي بالأساس لعبتنا نحن ..لعبة للكبار فقط !!
فأجابه الشاب : لكن لعبتكم مملّة , والليلة سنجعلها أكثر حماسة.. هيا يا أصدقاء أروهم اسلحتنا !!
فأخرج المراهقون من جيوبهم السكاكين , ومن حقائبهم العصيّ المدبّبة بالمسامير ! 
فاعترض الكبار بقلق على مخالفتهم للشروط ! 
وقبل ان يُفهمهم الطبيب قوانين اللعبة السلمية , صرخ قائد المراهقين بصوتٍ جهوريّ : 
- هجوووم !!!

وفجأة ! هجم المراهقون بأسلحتهم العنيفة اتجاه الكبار الذين فرّوا خائفين الى مجاهل الغابة .. 
وحينها صرخ الطبيب منادياً ابنه بخوفٍ شديد :
- جيم !! ان كنت معهم , فاترك اللعبة حالاً !! 
لكنه فات الآوان لإنسحابه بعد ان انخرط مع الجموع المقاتلة !

وحصلت معركة وحشية بينهم اضطر فيها الكبار لاستخدام أيّ شيء للدفاع به عن أنفسهم سواءً أغصان أشجار او أحجار او حتى لعب الكارتيه الذي يتقنه بعضهم , مما أدّى لجروح خطيرة بين الفريقين ..
***

وقبيل الفجر .. استيقظت النسوة على صراخ ازواجهنّ القادم من الغابة ! لكن خفنّ ان يدخلوها كيّ لا يتعرضنّ لما أصابهم .. وانتظروا بفارغ الصبر لخروج أحدهم سالماً ليخبرهم بما يحصل بالداخل , ظنّاً منهنّ أن الشرطة اقتحمت الجزيرة ليلاً , ورجالهم يحاولون الدفاع عن استقلالية بلدتهم ..

ولم تختفي اصوات الصراخ المفزعة الا مع شروق الشمس حيث عمّ السكون المرعب الذي زاد من خوف النساء !
***

وبعد ساعة ..خرج الطبيب بثيابه الملوثة بالدماء وهو يحمل جثة ابنه لينهار أمامهنّ باكياً وهو يقول :
- هذا خطئي .. لقد ماتوا جميعاً بسبب لعبتي .. سامحوني ارجوكم

ولم تفهم النساء ما حصل الا بعد اقتحامهنّ للغابة واكتشافهنّ لجثث رجالهم ورفقائهم الشباب مقتولين بوحشيّة في كل مكان !
***

بعدها بساعات .. بلّغ الطبيب رؤساء المدينة بانهيار دولة الجزيرة المستقلّة وبفشله بإدارة الحكم .. ليقوم المسؤولون بإرسال جنودهم لنقل بقيّة المساجين الى سجونهم القديمة .. 

وتمّ إغلاق الجزيرة بعد ان حكمها الطبيب بعدلٍ وأمان لسبع سنوات وبضعة أشهر , لتصبح اليوم خالية الاّ من الزيارات السنويّة للسوّاح ! 

الأربعاء، 22 أغسطس 2018

الأُمنية السحريّة

تأليف : امل شانوحة

هل سأنزف حتى الموت ؟

في الحرب العالمية الثانية مات آلاف الجنود الإلمان خلال عاصفةٍ ثلجيّة ضربت المناطق الروسيّة مُخلّفين ورائهم آلاتهم الحربية التي خرِبت بسبب الصقيع .. وفي إحدى السرايا التي خرجت في مهمّةٍ عسكرية في ذلك الطقس السيء , تجمّد مئات العساكر ولم يبقى منهم سوى القائد وجنديين إلمان أكملوا طريقهم باتجاه قريةٍ روسية صغيرة.. 

وحين أدرك القائد الإلماني بأن موتهم محتّم , أصدر أمراً لجنديه بتدمير القرية المتواجدة أسفل الوادي , معلّلاً ذلك بقوله : 
- أصبحنا ثلاثة ! وبعددنا القليل هذا لن نتمكّن من السيطرة على اهالي القرية , لكننا بالمقابل نملك عدّة صورايخ مدمّرة في مركبتنا الوحيدة التي لم تتعطّل ..لذلك قرّرت !! إن كان قدرنا ان نموت في هذا البلد اللعين , فعليهم ان يموتوا قبلنا.. فهيا نفذا الأوامر قبل غروب الشمس !! 

لكن الجندي رودولف رفض تنفيذ اوامره بحجّة انه مُسعف السَّرِيّة ولم يقتل أحداً في حياته .. لذلك قام الجندي الآخر بإطلاق الصواريخ باتجاه الأهالي من فوق التلّ , لتؤدي الى تدمير جميع الأكواخ العشرين مع زرائبهم بما فيها من مواشي , بالإضافة الى عشرات النساء والأطفال الروس الذي تولّى القائد بنفسه قتلهم من رشّاشه الآلي (إم جي-42) أثناء هروبهم من منازلهم التي خلت من الرجال الذين التحقوا إجباريّاً بالجيش الروسي !  
***

وبعد ان أفنوا القرية كلّها ولم يبقى فيها جداراً على جدار , نام القائد مرتاحاً لإنجازه مهمّته التي شعر انها الأخيرة بعد نفَاذ الذخيرة والطعام .. كما استسلم الجنديان للنوم بعد حلول المساء واشتداد البرد متدفئين جميعهم بشعلةٍ من النار أوقدوها بجانبهم وهم يدركون تماماً بأنها لن تحميهم من قضمة الصقيع التي أودت بالمئات من اصدقائهم ممّن لم تُنجيهم بتر أطرافهم !
***

وفي الصباح التالي .. تفاجأ رودولف بموت القائد وصديقه متجمّدين خلال المساء بعد ان خمدت النار , بينما استفاق وهو يرتجف من شدّة البرد  
وحين نظر من فوق التلّ على القرية المهدّمة , قال بغيظ :
- قائدي الأحمق !! مالذي استفاده من تدمير القرية وقتل البشر والمواشي ؟! الم يكن من الأفضل لوّ سمع كلامي وطالبناهم بالملابس السميكة والطعام لتقينا من برد بلدتهم القارص ! 
ثم أخذ معطف قائده وصديقه بعد ان نزعهما من جثتهما وقام بلبس إحداها ..اما الثانية فجعلها سقفاً لكوخٍ صنعه من أغصان الأشجار اليابسة ..

وفي أثناء محاولته إيقاد النار من جديد , سمع ولداً ينادي على عائلته التي دُفنت تحت الركام .. فحمل رودولف سلاحه ونزل باتجاهه .. 

وما ان رآه الولد الروسي (10سنوات) قادماً نحوه , حتى رفع يديه مستسلماً وهو يعرج من قدمه التي تنزف بغزارة بعد خروجه بصعوبة من تحت الحطام .. وكان يصرخ بفزع :
- لا تقتلني ارجوك !! 
- إهدأ يا ولد , فأنا لن أؤذيك 
قالها رودولف باللغة الروسية التي يتقنها , ثم حاول إقناع الصبي بالبقاء معه فوق التلّ حيث يوجد كوخه الصغير الدافىء كما قال له..

ووصلا الى هناك بعد ان إتكأ الصبي عليه , ثم قام المسعف بتضمّيد جراحه التي نزفت كثيراً منذ البارحة , والأسوء انه كان ينظّف الزريبة وقت اطلاق الصواريخ لذلك تلوّث جرحه بفضلات المواشي وأحشائها التي تناثرث في كل مكان ممّا أدى الى تورّم قدمه , كما قاربت أصابعه الصغيرة ان تسودّ بسبب البرد القارص .. فعلِمَ المسعف ان الصبي أُصيب بالغرغرينا وعليه قطع قدمه حالاً , الا انه رفض ذلك بقوة وفضّل الموت على ان يصبح معاقاً .. فاضطّر الجندي للإكتفاء بتطهير الجرح وهو يعرف انه ليس كافياً لإنقاذ حياة الصبي خاصة بعد ارتفاع حرارته وهذا يعني انه مصاب بالحمى .. وللتخفيف من برده , أعطاه معطف القائد ليتدفأ به .. لكنه أدرك إن عليه إطعامه سريعاً كيّ تقوى مناعته ..لهذا نزل رودولف وحده الى القرية للبحث تحت ركام المنازل المهدّمة عن بقايا الطعام . 
***

وبعد بحثٍ طويل لم يجد شيئاً ! فكل مظاهر الحياة تبعثرت بفعل الصواريخ 
فعاد عصراً الى كوخه الخشبي الصغير بإعلى التلّ ليجد الصبي نائماً , فصار يهزّه بقلق : 
- لا , إيّاك ان تنام يا ولد !!
الصبي بإرهاق : لكني متعب وجائع , الم تجد أيّاً من مواشينا حيّاً ؟!
فتنهّد الجندي بحزن : لا للأسف ..
فقال الصبي وهو يشعر بخيبة امل : اذاً من الأفضل ان تقتلني , كما نقتل الحصان حين تنكسر قدمه
- مستحيل !! ولا تفكّر بالموت ثانيةً , فأنت مازلت صغيراً
- لكنني اتألّم بشدّة

فأراد الجندي ان يخفّف عليه , فقال له :
- إسمع , سأخبرك بسرٍ خطيرٍ عني 
الولد باهتمام وقلق : ماهو ؟! 
- الم تسألني هذا الصباح , لما لم أمت مع فرقتي ؟
الولد : نعم , لأنني استغربت انك الإلماني الوحيد الذي لم يتجمّد مع رفاقه 
رودولف : هذا لأنني مميّز عن الجميع .. أتدري بماذا ؟
- ربما الحظ أنقذك , كما أنقذني 
الجندي : هذا صحيح فأنا محظوظ , لكن ليس لنفس سببك .. بل بقيت حيّاً الى اليوم , لأن لديّ من يجلب لي الطعام حينما أريد .. أتدري من ؟ 
الولد باهتمام : من ؟! 
الجندي : امي 
الصبي بدهشة : ماذا ! وكيف أتت امك الى روسيا ؟!
- عبر الأحلام
- لم أفهم ! 

الجندي : انا حين أريد شيئاً , أغمض عينايّ وأطلب من امي ان تطبخ لي إحدى أكلاتها اللذيذة .. وبالفعل أنقذتني شوربة الدجاج الساخنة التي أحضرتها لي أثناء هبوب العاصفة الثلجية من الموت الذي أودى بحياة معظم جنود سريتي 
الصبي بعصبية : هل تظنني طفلٌ امامك ؟!! انا في العاشرة من عمري وكنت أتدرّب على السلاح كيّ أنضمّ الى الجيش مثل المرحوم والدي 
رودولف : أعرف انك بطل , من قدرتك على استحمال الألم كالرجال
الصبي بغضب : ليتني كنت رجلاً !! لقاومتكم بشراسة وحميت قريتي .. (ثم يتنهد بحزن) .. أكيد والدي غاضبٌ مني لأنني خذلته 
الجندي : هذا ليس ذنبك .. ثم من يستطيع ان يقف في وجه الصورايخ ؟! 

الولد : هل حقاً رفضت أمر قائدتك بتدمير قريتي , أمّ كنت تكذب عليّ ؟!
- مستحيل ان أكذب عليك .. كما انك تقاطع قصتي .. الا تريد سماع حكايتي للنهاية ؟ 
الصبي بعصبية : لكنها قصة للأطفال , وهذا يغضبني !! 
الجندي : أجبني أولاً .. هل كان لديكم مذياع ؟
- لا , لكنني سمعت مرة نشرة الأخبار عند حلّاق المدينة .. فنحن قريةً تهتم بتربية المواشي , لذلك رفض الكبار شراء هذا الإختراع كيّ لا يُلهينا عن واجباتنا الصباحيّة .. مع ان امي كانت تدخّر المال لشرائه كيّ تسمع ما يحصل بالحرب بيننا وبينكم .. المهم , لماذا سألتني ؟!
الجندي : لأنه لوّ كان لديكم واحداً لعرفت انني أقول قصةً عادية , فهناك الكثير أمثالي حول العالم ممّن ذُكر اسمائهم بالراديو
الولد باستغراب : أحقاً ! لم أكن أعرف ... إذاً إكمل قصتك

فاستطرد الجندي قائلاً : حسناً , سأخبرك بقصتي منذ البداية .. (ثم سكت وكأنه يفكّر قليلاً) .. بالحقيقة .. انا ولدت في العصر القديم .. عصر مرض الطاعون والجذام .. أسمعت عنهما ؟
الولد باستغراب : الم تنتشر هذه الأمراض بالعصور الوسطى ؟! أخبرني والدي بذلك , فهو كان يعشق القراءة.. 
- صحيح .. كنت حينها في مثل عمرك , وكنت وحيداً ويتيماً .. وحين انتشر مرض الجذام في اوروبا , أصدر الحاكم أمراً بقتل المشعوذات الذي برأيه جلبنّ اللعنة الى بلدته
الولد : أتقصد قتل النساء العجائز ؟
- بل تحديداً , العجائز القبيحات اللآتي يعشنّ وحدهنّ ولديهنّ طباعٌ صعبة
- فهمت , ثم ماذا حصل ؟ 

الجندي : وفي يوم من الأيام (بعد هدوء حملة الحرق العلني للمشعوذات في ساحة المدينة) كنت العب في الغابة فوجدت بالصدفة مكنسة قديمة مرمية بين الأعشاب .. ثم سمعت صوتاً من بعيد لإمرأة تؤنّب كلبها على إخفائه مكنستها .. فتقدّمت نحوها وأعطيتها إيّاها .. وقبل ان تشكرني , سمعنا رجال الشرطة تقترب من المكان .. وعلى الفور !! جلست العجوز وكلبها الأسود فوق المكنسة القديمة , ثم أمسكت بيدي بقوّة لتُجبرني على الجلوس خلفها .. وقبل ان استوعب الموقف , طرنا بعيداً في الهواء 
الولد : لكن ! ألم ..

رودولف مقاطعاً بحزم : لا تقاطعني يا ولد , ودعني أكمل القصة .. المهم .. وصلنا الى قريةٍ في أعلى الجبل يسكنها نساءٌ عجائز قبيحات المنظر ! فعلمت بأنني في قرية المشعوذات اللآتي هربنّ من حكم الملك الجائر ..وهناك سألتني رئيستهنّ : ان كنت اريد ان أكون مخلداً ولا أصاب بمكروه طوال حياتي .. وبالطبع وافقت .. ومنذ ذلك الحين أصبحت أنادي تلك العجوز (صاحبة الكلب) بأمي وهي بدورها تكفّلت بتنفيذ مطالبي أينما كنت , حتى ولوّ وسط المعارك 

الولد : وكيف لم يروها بقيّة الجنود حين كانت تُطعمك ؟!
- لأنها ببساطة تستطيع إيقاف الزمن .. فتحضر لي ما لذّ من الطعام قبل ان تطير عائدةً الى كوخها المتواجد في غابةٍ مُهملة في المانيا , فأنا عشت معها لأكثر من ثلاثة قرون قبل ان أستقلّ لوحدي .. والقرن يعني مئة عام
الصبي : أعرف هذا .. اذاً كم عمرك الحقيقي ؟
- لم أعد أتذكّر ! ربما بين 450 و500 سنة .. اما امي فأظنها تجاوزت الألفين سنة
الصبي مُستنكراً : لا هذا مستحيل ! فالبشر بالعادة لا يعيشون أكثر من مئة عام 
الجندي : يا عزيزي هناك الكثير من الخوارق حولنا , الم تسمع بالمخلّدين؟
فقال الولد بتهكّم : إن كان كلامك صحيحاً , فاطلب من امك ان تحضر لنا الطعام الآن 
- حسناً .. سأسألها ان كان هذا ممّكناً , لكن عليك ان تُغمض عينيك لأنك ان رأيتها دون إذنٍ منها فقد تفقد بصرك للأبد 

فأغمض الولد عينيه , ليسمع الجندي الإلماني وكأنه يُكلّم نفسه .. 
وبعد دقائق قال للصبي :
- يمكنك ان تفتح عينيك الآن 
الولد باهتمام : هآ.. ماذا قالت لك ؟
الجندي : قالت انه يمكنك ان تطلب ما تشاء من امك 
الولد بقهر : لكنكم قتلتم امي البارحة مع بقيّة أفراد قريتي , أنسيت ؟!
- وامي ايضاً متوفية ولأكثر من مرة 
الصبي بدهشة : ماذا تقصد ؟!
- في عالم الأرواح يكون من السهل على الموتى الإنتقال عبر الأزمنة والأماكن .. لكن بما ان امك إنسانة عادية وليست مشعوذة كأمي فلديك فقط أمنية واحدة سحرّية ... لهذا فكّر جيداً قبل ان تختار 
لكن الولد التزم الصمت لعدم إقتناعه بعد بالموضوع ! 
الجندي بإلحاح : جرّب يا صديقي , مالذي ستخسره ؟ 
فتنهّد الصبي بضيق : حسناً , لا بأس من المحاولة

ثم أغمض عيناه وقال (مُتناسياً العرق الذي كان يتصبّب من كافة انحاء جسمه بسبب تلوّث جرحه بشكلٍ خطير) :
- امي .. هل تسمعينني ؟ .. انا آسف لأنني لم أمت معك ومع إخوتي.. لكنني مصابٌ الآن .. ومن حسن حظي انه وجدني مُسعف .. صحيح انه الماني لكنه أنقذني , وهو وحيدٌ مثلي بعد موت فرقته .. لذلك لا تغضبي مني لأنه صديقي , فهو يتكلّم لغتنا 
وهنا همس له الإلماني : هيا أطلب منها ما تشاء 

فقال الصبي وهو مازال مُغمض العينين , بينما أنفاسه تتسارع وحرارته في ازدياد : 
- امي .. بما ان روحك الآن في الجنة , فأريد منك طلباً .. بالرغم من انني جائعٌ جداً وأتمنى ان آكل البطاطا المشوية من يديك , لكن ألمي أكبر من جوعي ..فأنا أنزف منذ البارحة وخسرت الكثير من دمي , وأشعر بألمٍ لا يطاق في قدمي المتورّمة .. لذا ارجوك , أطلبي من الرب ان يُريحني من عذابي 

فمسح الجندي دموعه وهو يعلم بأن حالة الصغير تزداد سوءاً , لكنه يحاول بصعوبة تمالك أعصابه لأجله ..
ثم سكت الصغير قليلاً .. فلاحظ الجندي ابتسامةً عريضة ترتسم على وجهه ..فسأله :
- هل تطعمك الآن ؟
الولد بسعادة : لا , بل تناديني لأنضمّ اليها ولأبي وأخوتي
الجندي بقلق : لا !! إيّاك ان تذهب معها وتتركني لوحدي !
فقال الصبي وهو مُغلق العينين والإبتسامة مازالت على وجهه : 
- انا أراها الآن .. هي فوقي تماماً
ثم رفع يده الى السماء , قبل ان تسقط امام جسمه الذي ارتخى فجأة !

فصار رودولف يهزّه بعنف !!! لكن لا مجيب , فقد سلّم الروح بعد ان إنتشرت العدوى البكتيرية للغرغرينا في كل جسمه ..
فبكى الجندي كثيراً عليه , وبدأ يلعن الحرب وحظّه السيء ..
*** 

بعد ساعة , هدأ رودولف قليلاً .. ثم أخرج دفتراً صغيراً من حقيبته وكتب عليه آخر لحظاته مع الصبي باللغة الروسية التي يُجيدها .. 
وبعد ان انتهى , وضع الدفتر في يد الولد الميت ..ورحل !
*** 

إقترب قائد الكتيبة الروسية من جثة الولد المتجمّد وقرأ المكتوب في دفتر الجندي الإلماني الذي قال بالسطور الأخيرة :

((كنت بالطبع أكذب عليه وأقول كل ما يخطر ببالي كيّ ألهيه عن جوعه وعن أوجاعه التي لا يتحمّلها أقوى الرجال ! لأني عرفت كمسعف بأنه يحتضر بعد ان أُصيب بالغرغرينا الغازيّة بسبب بكتيريا التربة الملوثة .. والأسوء انه نفذت من عندي المضادات الحيوية التي كان بإمكانها وقف انتشار العدوى بالدم , بحيث أصبح بتر القدم غير كافياً لإنقاذ حياته ! ولأن حالته ميؤوساً منها , أردّت ان يحمله خياله الى عالم الأحلام الجميل.. ورغم حزني على فراقه , الا انني سعيد بأنه مات والابتسامة تعلو وجهه .
والآن صار وقت الرحيل ولا أدري الى اين , فقد ابتعدت كثيراً عن معسكر الكتيبة الإلمانية .. وأظنني سأجتمع بالصبي قريباً))

وهنا ناداه الجندي قائلاً باللغة الروسية :
- سيدي .. سيدي !! 
القائد الروسي : ماذا هناك ؟
- وجدنا جثة جندي إلماني على بعد امتارٍ من هنا ؟
- هل تجمّد من البرد ؟
- لا , بل شنق نفسه بالشجرة 
- المسكين  
الجندي الروسي باستغراب : مسكين سيدي ؟!
القائد : على حسب التاريخ الذي دوّنه في دفتره , فقد شنق نفسه البارحة .. ولوّ كان انتظرنا قليلاً لكنت ..
الجندي مقاطعاً : قتلته
- لا , بل أحسنت معاملته كما فعل مع صغيرنا الشهيد .. فرحمة الله عليهما 

ثم أمر بدفن الجندي الإلماني والصبي الروسي بقبرين متجاورين .. كما أمر بدفن الجثث المتبقية من اهل القرية .. امّا بقيّة جثث الجنود الإلمان المتناثرة في كل مكان على بعد امتارٍ قليلة من التلّ المطلّ على القرية , فقد طلب القائد تجميعهم وحرق جنود الأعداء داخل مقبرةٍ جماعية منعاً لانتشار الأمراض , بعكس المسعف الإلماني الذي لم ينسى إنسانيته مع ابن عدوه , لذلك عُوملت جثته بشكلٍ لائق .. وبعد دفنه , ألقى القائد الروسي له التحيّة العسكريّة قبل رحيله مع سّريته الى وجهةٍ عسكرية جديدة 

الجمعة، 17 أغسطس 2018

شوقٌ لا يَنطفِئ

تأليف : امل شانوحة


من الذي فرّق بيننا ؟!

- انتهينا !! لا تحادثني مجدداً
- انتظري ! مالذي فعلته ضايقك لهذه الدرجة ؟!
- باختصار انت تريد صديقة وانا اريد زوجاً , واختلاف النوايا يُسبّب لنا المشاكل .. وانا تعبت من هذه العلاقة المؤذية لمشاعري .. إذهب واختر حبيبة تضيّع الوقت معها .. اما انا , فلست من هذا النوع ولن أكون ابداً .. سلام

ثم قامت بحظره من صفحتها على الفيسبوك , لتتركه مذهولاً من سرعة إنهائها لحبٍ دام سنتين ونصف ! لكنه لا يعلم بأنها كانت تعاني طوال هذه المدة من تردّده في اتخاذ القرار ورفضه الإلتقاء بها في منتصف الطريق .. فهو يصرّ على عدم تغير شخصيته المتحرّرة ليتناسب قليلاً مع بيئتها الملتزمة التي جعلتها تعترض منذ البداية على التعرّف عليه لولا ان أوهمها بنيّته للزواج ..

وبعد ان منعته من محادثتها , شعر بأن مخطّطاته المستقبلية تبعثرت جميعها دون سابق انذار , فهي كانت إحدى الخيارات التي وضعها جانباً ضمن لائحة طويلة من أجمل وأروع الفتيات اللآتي تعرّف عليهنّ في حياته .. لكنه لم يدرك إنها كانت أفضل إختياراته الاّ بعد رحيلها !
***

ومرّت الأيام .. عاد فيها هاني الى حياته السابقة العبثية التي أمضاها بالسهرات والنوادي ومحادثات النت , لكن شيئاً ما تغيّر في داخله ! فهو لم يعدّ يستمتع بذلك , فكل امرأة يحادثها كان عقله يقارن أجوبتها مع ريم لترجح كفّة حبيبته السابقة التي برعت بإثارة اهتمامه بأجوبتها الغير عادية ممّا أتعبه نفسياً , خاصة عند سماعه للأغاني التي كانت أرسلتها سابقاً  
***

وذات مساء .. إقترب منه صديقه وهو يشرب العصير وحيداً بالشرفة بعيداً عن صخب الحفلة القائمة في قصره ..
- كنت متأكّد انني سأجدك هنا
فتنهّد هاني بتعب : أردّت الإنفراد لوحدي قليلاً
- أمازلت تفكّر بها ؟
- لا أنساها للحظةٍ واحدة ! أكاد أجنّ 
- إعتبرها تجربة في حياتك وانتهت 
- ريم لم تكن يوماً تجربة يا صاحبي , بل كانت الحب الذي أبحث عنه طوال حياتي ..وللأسف , أدركت ذلك متأخّراً ..متأخّراً جداً
صديقه : اليس لديها صفحة ثانية على الفيسبوك ؟
- لا , لكن رغم حظرها لي مازلت أتابع ما تنشره على صفحتها من بعيد , وغالباً ما تضع أغاني حزينة عن الفراق !
- طالما انها تتألّم مثلك , فلما لا تسمح لك بالكلام معها ؟!

هاني بحزن : هي كانت أعطتني عشرات الفرص لكنني خذلتها كثيراً , فهي بنهاية الأمر تريد الإرتباط وانا شخص يخاف من الزواج , وأظن بعد سماعها لكل أعذاري الواهية باتت لا تصدّقني بالمرّة !  
صديقه : برأيّ عليك ان تبحث عنها في وسائل التواصل الأخرى
- بحثت كثيراً ولم أجد .. فأنا لا أعرف سوى أسمها الأول وصورتها
- وما يدريك انها صورتها الحقيقية ؟
هاني : أعرف هذا لأنني رأيتها عشرات المرات في منامي حتى قبل ان أعرفها .. ولا تسألني كيف , لأنني حقاً لا أعلم !
- ان كان كلامك صحيحاً , فهذا يعني ان القدر جمعكما سويّاً
فسأله هاني باهتمام : أتقصد انها نصيبي ؟
- لم أقل ذلك .. فأحياناً نجتمع مع أشخاص ليعلّمونا دروساً قيّمة بالحياة , ثم يمضون في حال سبيلهم .. المهم دعنا الآن من الماضي , فالحفلة تزداد حماسةً بالداخل والكلّ يسأل عنك ..او بالأصحّ , يسألنّ عن الشاب الوسيم
هاني بقرف : ما عدّت أطيق تلك الأنواع من الفتيات ..فجميعهنّ رخيصات وماديات , ولوّ كنت فقيراً وقبيحاً لما تجمعنّ عليّ كالذباب

وهنا ! دخلت فتاة الى الشرفة بلباس سهرتها المثير , واقتربت من هاني لتقول له : 
- أأنت هنا يا هاني وانا أبحث عنك منذ ساعة 
- ماذا تريدين ؟
قالها دون ان يلتفت اليها ..فقالت الفتاة لصديق هاني :
- دعنا لوحدنا لوّ سمحت
لكن هاني فاجأها بقوله لصديقه :
- لا , لا تذهب يا صديقي ..فليس هناك شيءٌ مهم بيني وبينها
فقالت بثقة : بلى , سيكون بيننا حديثٌ خاص 
هاني بلؤم واشمئزاز : لا أظن ذلك عزيزتي

وعاد الى الداخل , تاركاً إيّاها في ذهول ! لتقول لصديقه بغضب :
- ماذا يظن نفسه ؟!! فجميعنا من الطبقة المخملية , ولا يحقّ له ان يعاملني كإمرأةٍ رخيصة ! 
صديق هاني : أتركيه في همّه , فهو عاشقٌ هيمان
الفتاة : لا تقلّ انه مازال يفكّر بفتاة النت ؟!
- يبدو ان موضوعها انتشر بينكنّ ؟! 
- بل وراهنّا على انه سينساها بعد شهر , لكنّه مرّ شهران ونصف على انتهاء علاقتهما .. والغريب ان رجلٌ ذكي كهاني يحب من عالم الإنترنت المزيف !
الصديق : وما يدريك ..ربما بالفعل وجد توأم روحه
فقالت بثقة : صدّقني عزيزي ..البقاء مع شخصٍ واحد طوال عمرك لشيءٌ مملّ للغاية 
- وهذا الفرق بينك وبين فتاة النت البريئة 
فسألته ليانا بعصبية : ماذا تقصد ؟!

لكنه عاد بدوره الى الحفل , تاركاً الفتاة الغنيّة مغتاظة مما حصل , حيث ظلّت طوال السهرة تفكّر بطريقة للقضاء على هذا الحب الواقف في طريق أحلامها
*** 

بعد الحفلة .. ذهبت ليانا الى صديقتها ساندي (خبيرة الكمبيوتر والملقبة بالهكر) وأخبرتها بقصة ريم مع هاني..
- وماذا تريديني ان أفعل يا ليانا ؟ 
ليانا : لقد استطعت بالخفاء أثناء إنشغال هاني بتوديع المدعوين من أخذ جواله الذي تركه فوق مكتبه , ودخلت الى استديو الصور فوجدت مقطعاً من مكالمتها معه , وعرفت من خلاله اسم صفحتها وصورة غلافها 
ساندي : الم تقولي انها حظرته ؟ 
- نعم .. لكنك كهكر يمكنك اختراق صفحتها , اليس كذلك ؟ 
فقالت ساندي بخبث : بل استطيع فعل أكثر من ذلك .. فهل تريدين ارسال رسائلٌ له من خلال صفحتها ؟
ليانا بابتسامة : الجميل انك تعرفينني جيداً يا صديقتي 
- حسناً , لكني سأحتاج الى بعض الوقت .. 
ليانا : في انتظارك عزيزتي 
*** 

وفي اليوم التالي .. عادت ليانا الى صديقتها الهكر التي قالت :
- وأخيراً إخترقت صفحتها ..وهي غير متواجدة الآن , لذا من الأفضل ان ترسلي لهاني الرسالة قبل ان تراها 
ليانا بحماس وخبث : سأفعل حالاً لأنني أعرف انه يتواجد على النت في هذه الأوقات
ساندي : جيد , اذاً سأذهب لآكل وأتركك على راحتك
***

وكاد هاني يطير من الفرح حين وجد رسالة من حبيبته ريم .. وأسرع بفتحها ليتفاجأ بكمٍ من الشتائم القذرة الموجهة اليه , وبأنها تزوجت من شاب أرجل منه بكثير , وبأنها تكره نفسها لأنها أحبت شخصاً فاسداً مثله ! 
فانفجر غاضباً ليردّ لها الصاع صاعين , لتعود وترسل له المزيد من الشتائم وبأنه كان غلطة حياتها .. 

وبعد ساعة .. إقتربت الهكر من صديقتها (بعد ان أنهت عشائها) وسألتها باهتمام : 
- هل نجحت خطتك ؟
فأجابتها ليانا بابتسامةٍ عريضة : إقرأي بنفسك آخر ما كتبه لها قبل ان يقوم هو بإغلاق صفحته هذه المرة 

وكان كتب لها : ((بأنه نادمٌ جداً على حبه لها لظنّه بأنها مختلفة عن الأخريات , لكنها بالحقيقة اسوأهنّ لوضعها قناع البراءة فوق وجهها الخبيث القذر))

فقالت صديقتها : المسكينة ! ستنصدم حين ترى هذه المحادثة 
ليانا بقلق : لا رجاءً !! عليك ان تحذفيها فوراً والاّ انقلبت الخطة عليّ
ساندي : معك حق ..اذاً إبتعدي قليلاً , فورائي الكثير من العمل
ليانا : حسناً سأتركك تعملين , لكن إحذفي كل المحادثة وبذلك لن تعلم ريم بما حصل اليوم وستظل تعتقد انه مازال يحبها ..وان فكّرت يوماً ان تراسله , ستتفاجىء بكرهه لها .. وأعدك يا ساندي في حال نجحت خطتي التالية وتزوجت به , فلك مكافأة مالية ضخمة
ساندي : برأيّ عليك التريث قليلاً قبل التقرّب منه , لكيّ تخفّ صدمته العاطفية التي واجهته هذه الليلة 
- طبعاً طبعاً لا تقلقي , فكل شيء مخطّطٌ له بدقة 
- لا استغرب ذلك من عروسة هاني المستقبليّة
وضحكتا بخبث
***

وكانت الصدمة بالفعل كبيرة على هاني الذي لطالما شعر بأنه محظوظ لمعرفته فتاةٍ بريئة مثل ريم , امّا الآن فقد اسودت الدنيا في وجهه ! وكانت ردّة فعله انه رجع الى عاداته القديمة التي كان ابتعد عنها منذ معرفته بها .. فعاد للبارات والسكر والإحتفالات المسرفة والعلاقات المتعدّدة التي كانت أغلبها مع ليانا التي حرصت على التواجد في كل الأماكن التي يرتاد اليها ..
***

وفي يوم العيد .. شعرت ريم برغبة لمعايدة هاني رغم انها لم تحادثه منذ شهور .. وأرسلت رسالة قصيرة قالت فيها :
((كل عام وانت بخير .. أردت فقط معايدتك)) 
لتتفاجىء بعد ساعة بكمٍّ هائل من الشتائم ! كما أرسل هاني صورة له وهو يحتفل مع النساء الرخيصات لتصاب ريم بأكبر خيبة أمل في حياتها ! فتقرّر حذف صفحتها والإبتعاد نهائياً عن وسائل التواصل الإجتماعي 
*** 

في منزل ساندي إحتفلت ليانا معها بنجاح خطتهما بعد اختراقها هذه المرة لصفحة هاني ورؤية المحادثة الأخيرة التي حصلت بين الحبيبين المغدور بهما ..
ساندي : المسكينة , لابد انها انصدمت من قساوته الغير مبرّرة
ليانا : لا يهمّني أمرها , المهم انني انتهيت منها وعاد هاني ليّ
- هو لم يعد اليك فقط , بل لعشرات الفتيات الأخريات
- لا بأس طالما انه سيعود بنهاية اليوم الى زوجته
ساندي : هل تقصدين انه خطبك ؟!

فرفعت ليانا أصبعها الذي به خاتم إلماسيّ فخم..
ساندي بدهشة : أحقاً ! متى ؟!
ليانا بابتسامة المنتصر : البارحة 
- هل كان سكراناً ؟
- جداً 
وضحكت ساخرة عليه ..
ساندي : المسكين .. يحاول نسيانها بكل الطرق
ليانا بغضب : هل انت بصفّي ام في صفّه ؟!!
- كنت أقول الحقيقة
- انا لا يهمّني قلبه المكسور , كل ما يهمّني هو حسابه البنكي وقصره الفخم 
- وهل تخططين ان يكتب كل شيء بإسمك ؟
ليانا : هذه هي الخطة الرئيسية , لكني سأحتاج الى الكثير من الوقت والجهد
- لا خوف عليك , فأنت ان وضعت شيئاً برأسك ستحصلين عليه حتماً
- طبعاً فنحن أذكى من الرجال
ساندي : تقصدين أخبث
وضحكتا بسعادة , ثم أكملا السهرة وهما تخطّطان سويّاً للسيطرة على الشاب الثريّ 
***

وقبل يوم من عرسه .. شعر هاني بضيق نفسٍ شديد أثناء أخذ الخيّاط لمقاس طقم عرسه ..
- رجاءً إذهب الآن
الخيّاط : لكن عليّ التأكّد من المقاسات لأجل الغد
هاني : المقاس جيد .. والمدعوّون لن يهمّهم سوى صالة العرس والأكل .. فاذهب رجاءً
***

وبعد قليل .. خرج هاني من قصره وهو يقود سيارته الفارهة دون وجهةٍ محدّدة .. وأثناء بحثه في الراديو , سمع جزءاً من أغنية كانت أرسلتها ريم له قديماً فأسرع بإطفائه وهو يشعر بوخزٍ في قلبه..قائلاً في نفسه :

((آه كم تخيلت يوم عرسنا يا ريم ! ليتك صبرتي عليّ قليلاً لأتخذ قراري بهدوء .. أوف !! كفاك تفكيراً بها يا هاني , فريم مثل غيرها .. (ثم سكت قليلاً).. لكن الغريب في الموضوع انني حين شتمتها بالعيد لم ترد عليّ كما فعلت في رسالتها الأولى , ترى لماذا ؟! ..(وبعد ان فكّر قليلاً) ..لا يهم ..من الأفضل ان أذهب للبحر لأفرّغ طاقتي السلبية , فغداً يومٌ طويل))
***

وما ان جلس على الشاطىء ونظر الى البحر امامه حتى انفجر بالدموع دون ارادةٍ منه ! وظلّ على هذه الحالة البائسة الى ان غربت الشمس وهدأت نفسه قليلاً .. ثم قال في نفسه : 

((حسناً يكفي هذا القدر من الدموع , لأعود الى بيتي الآن ..فغداً لديّ مصيبةٌ أكبر ..زواجي من تلك الساقطة .. والله لا ادري الى الآن كيف خطبتها ! فهي ليست من نوعي المفضّل ..لأني أحب الفتيات البريئات أمثال ريم .. يا الهي ! توقف يا غبي عن ذكر اسمها , لقد تزوجت وانتهى أمرها .. اللعنة عليها !! لقد أذتني أكثر من أيّةِ امرأة عرفتها في حياتي ! ..لكن لا بأس , المهم انني خرجت من ذلك الكابوس .. وفي الغد سيبدأ كابوسٌ جديد !)) 

وقبل ان يقوم من على الشاطىء أتاه اتصال من المهندس التقني في شركته 
هاني : ماذا تريد ؟
الموظف : كانت شكوكك في مكانها سيدي , فقد تمّ اختراق حاسوبك
- أحقاً ! ومن هو ؟
- بل قلّ من هي 
*** 

في فجر يوم العرس .. بدأت العروس ليانا يومها بالردّ على رسائل التهنئة من اصدقائها على الفيسبوك في انتظار قدوم مصفّفة الشعر الى بيت أهلها .. لكنها وجدت رسالة أربكتها للغاية وقلبت مخطّطاتها رأساً على عقب ! 
***

في وقت الظهيرة .. تجمّع الأصدقاء والأقارب في الكنيسة لبدء مراسم الزواج , وحين سألها الكاهن من جديد :
- سأعيد السؤال عليكِ يا ابنتي .. هل تتزوجين من السيد هاني سعيد ؟ 
لكن ليانا التزمت الصمت والإرتباك واضحٌ عليها ! ممّا فاجأ الحاضرون  خاصة صديقتها ساندي التي تعرف كم خطّطت كثيراً لهذه اللحظة !
وإذّ بليانا تُجيب بصوتٍ مُتلعثم : لا .. لا اريد الزواج منه
فعلت شهقات الإستهجان ! لكن العريس إكتفى بنظرات الدهشة

وقبل ان يستوعب الجميع ما حصل , ركضت ليانا بفستانها الأبيض الى خارج الكنيسة ليُسرع أصدقائها باللحاق بها , لكنها قادت سيارة العريس المُزينة مُبتعدةً عنهم !
***

بعد ساعة , وصلت العروس الى بيت خطيبها السابق الذي استقبلها بنظرات الإستغراب !
- ليانا ! مالذي أتى بك الى هنا ؟ ولما تلبسين فستان الفرح ؟!
فقالت وهي تلهث بسعادة : أتيت لنعود سويّاً كما قلت لي برسالتك
بدهشة : أيّة رسالة ! انا لم أكلمك منذ سنوات
ليانا بصدمة : ماذا !
وهنا سمعت صوتاً من بعيد يقول : سمير !! من على الباب ؟ 

ثم اقتربت زوجته منهما وهي تحمل طفلها الثالث الذي وُلد حديثاً..
فقالت ليانا بدهشة : أهذا انتِ ؟! الم تنفصلا بعد ؟!
فأجابتها الزوجة بلؤم : ولماذا ننفصل حبيبتي , فنحن نعشق بعضنا ..اليس كذلك سمير ؟
زوجها : بالطبع عزيزتي .. 
فقامت الزوجة بإدخاله الى البيت , وقبل ان تغلق الباب في وجهها قالت لها بلؤم واشمئزاز :
- أرى ان حيلة فستان العرس لتأثير بها على زوجي رخيصةً جداً حتى على واحدة مثلك
ليانا والدموع في عينيها : لكنه هو من أخبرني انكما..

وقبل ان تُكمل كلامها , أغلقت الزوجة الباب في وجهها .. ثم سمعتها ليانا من خلف الباب وهي تسأل زوجها :
- هل تكلّمت معها حقاً ؟
صوت سمير : لا ابداً .. أظن ان العنوسة أثّرت كثيراً على عقلها !

وما أن سمعت ليانا جوابه القاسي حتى ركبت السيارة وهي على وشك الإنهيار ! واتصلت سريعاً بصديقتها ساندي التي كانت وصلت الى بيتها لتخبرها بكل ما حصل..
ساندي : طالما ان سمير أنكر إرساله لتلك الرسالة , فلابد ان أحدهم اخترق صفحتكما !
ليانا : ومن تعتقدين ؟
- هاني .. فقد رأيته وهو خارج من الكنيسة والفرح يشعّ من عينيه
- لا أصدّق هذا ! .. على كلٍ , سأتصل به لأتاكّد
***

وبالفعل !! ما ان أخبرته ليانا بالموضوع , حتى انفجر ضاحكاً :
هاني : وهل ظننتي بأنني لن أعاقبك على إبعادي عن حبيبتي ريم ؟!! والآن إنقلب السحر على الساحر .. فلست وحدك الذي لديه خبير بالكمبيوتر
فبكت ليانا بندم : أرجوك يا هاني سامحني , فأنا حقاً نادمة  
- يبدو من صوتك ان سمير رفضك من جديد

ثم ضحك ساخراً وأغلق هاتفه في وجهها , لتنهار ليانا بالبكاء المرير وتقطع الإشارة الحمراء دون وعيٍّ منها , وتصدم عجوزاً كان يقطع الشارع .. فباتت ليلتها في المخفر بانتظار محاكمتها بتهمة القتل بالإهمال  
***

بعد شهرين .. سألت ريم زوجها هاني : 
- انت وعدتني بعد عودتنا من شهر العسل ان تخبرني بما حصل 
هاني : كما تشائين عزيزتي .. (ثم تنهّد قليلاً) .. في ذلك المساء حين كنت أجلس على الشاطىء مهموماً كما أخبرتك , أتاني اتصال من موظفي كنت سألته قبل مدة ان كان هناك أحد من منافسيّ التجّار اخترق حاسوبي بعد ان لاحظت ان ماوس الكمبيوتر يتحرّك لوحده .. وهو بدوره استطاع معرفة اسم صديقة ليانا من خلال ايميلها ..كما عرف انها اخترقت صفحتي القديمة على الفيسبوك .. فجلست طوال الليل أقرأ ايميلاتها لليانا وخططهما للإيقاع بي ! فتذكّرت حينها كيف كان اسلوبك بالرسالة التي أغضبتني مختلفاً كثيراً عن طباعك التي عهدتها ..لذلك اتصلت بصديقتك على الفيسبوك وطلبت منها ان تُخبرك بأن تحدثيني من صفحة جديدة لأن صفحاتنا القديمة تم اختراقها .. ومن بعدها تصالحنا وخطبتك 

ريم : نعم أخبرتني بذلك سابقاً ..لكن سؤالي هو مالذي أرسلته لليانا على لسان خطيبها القديم ؟
هاني : خطيبها سمير كان صديقي ايام الجامعة وحين افترق عنها بسبب رفض أهله لها , قمت انا بمواساتها فتعلّقت بي ..لا لأنها أحبّتني بل لإثارة غيرته .. ولذلك أرسلت لها قبل عرسنا بعد إختراقي لصفحته : انه طلّق زوجته وبأنه نادم على تركها , وانه حزينٌ جداً بزواجها مني وبأنه مستعدّ للزواج منها فوراً في حال تركتني .. والغبية صدّقت الرسالة ! وهآقد انتهى أمرها بالسجن ستة أشهر , مع دفع تعويض كبير لعائلة العجوز الذي قتلته 

ريم : بصراحة لا ألومها , فمن يقع بالحب يفعل المستحيل للحصول على حبيبه
هاني بابتسامة : وهل كنت لتفعلي مثلها ؟
- لا , لكني كنت سأحارب من أجلك حتى النهاية
- وانا ايضاً حبيبتي  .. المشكلة انها هي وغيرها لا يفهمون أمراً : ان ما جمعه القدر لا يفرّقه البشر
فحضنته بحنان وهي تقول : ونصيبي كان أجمل الأقدار

وهاهما اليوم يعيشان أجمل سنوات عمرهما بحياةٍ يغمرها الحب والتفاهم بعيداً عن أعين الحسّاد 

الأربعاء، 8 أغسطس 2018

زيارةٌ عابرة

تأليف : امل شانوحة


أردّت الإطمئنان على جدّي

في أمسيّةٍ باردة .. استيقظ الرجل العجوز على صوت طرقات بابه ! وحين فتحه , تفاجأ بحفيدته الصغيرة (سبع سنوات) ترتجف من البرد 
- لوسي ! أدخلي بسرعة 
وحين دخلت , أسرعت لتقف قرب موقد الحطب ..
الجد باستغراب : اين أهلك ؟!
- يتشاجران قرب النهر
- ماذا ! وكيف وصلتي الى هنا وحدك ؟!
- هم أوصلوني الى هنا , لأنني أردّت الإطمئنان عليك
- من هم ؟! تقصدين امك وزوجها ؟
- نعم نعم 
قالتها بلا مبالاة وهي مازالت تدفّأ قرب الموقد..

فقال الجد غاضباً :
- سأعاقب والدتك المجنونة على تركك وحدك امام عتبة بيتي في هذا البرد القارص !!
- لا تغضب يا جدي , فنحن نعرف انك بالداخل
الجد : وماذا لوّ لم أسمع طرقات الباب وبقيت نائماً , لكنت تجمّدت حتى الصباح .. وكل هذا لكيّ تتحدث وحدها مع عريسها الغبي !!
- انت ايضا لم تحب زوج امي , اليس كذلك ؟
- لا , ولم اكن أحب والدك ايضاً

فضحكت الفتاة..
- مالذي يضحكك ؟
- لطالما أخبرتني امي انك لا ترى أحداً يليق بها
الجد : لأنني ربّيتها لتكون فتاةً قوية وذكيّة , لكن لا ادري لما تصرّ على اختيار الحمقى !
- رجاءً لا تقلّ ذلك عن والدي , لأنه لا يجوز إهانة الموتى
- آسف عزيزتي , فهو في رحمة ربه .. يكفيني انه أنجب فتاةً رائعة مثلك
- شكراً جدي .. أتدري , بدأت أشعر بالنعاس .. هل باستطاعتي النوم في غرفة امي ؟

الجد : الا تريدين تناول العشاء ؟
- لا , أكلنا بالمطعم قبل ان يوصلوني الى هنا 
- حسناً إدخلي الحمام اولاً , ثم نامي
- لا تقلق , فالفتيات يبقين سريرهنّ نظيفاً  
- معك حق .. تصبحين على خير حبيبتي 

وبعد ان صعدت الى فوق , حاول الجد الإتصال بأمها لكنها لم تجيبه ! ..فصعد ليُكمل نومه وهو مازال غاضباً من تصرّف إبنته الأرعن 
***

في صباح اليوم التالي , أيقظته حفيدته باكراً.. 
- هيا يا جدي .. استيقظ !! فقد أشرقت الشمس .. علينا ان نُطعم الخراف والدجاج 
- حسناً حسناً لقد استيقظت , لكن لنفطر اولاً

وبعد ان تناولت البيض سريعاً , سبقته الى الحظيرة الملاصقة لبيته .. فلحقها ليجدها تقف قرب حصانه المريض
وحين رأت جدها خلفها , سألته بقلق :
- ما به جدي ؟!
- لا ادري .. له مدة مريضٌ هكذا , أظنه كبر في العمر 
- لحظة , دعني أعرف منه الحكاية
الجد مبتسماً : هل ستسألينه ؟
- نعم

قالتها بثقة .. ثم اقتربت منه , وبدأت تكلّمه بصوتٍ منخفض .. والحصان بدوره يُدني فمه من أذنها وكأنه يهمس لها , بينما الجد ينظر اليهما باستغراب !

وبعد ان انتهت , إقتربت من جدها الذي سألها مُمازحاً :
- هآ , ماذا قال لك ؟
- قال انه حزينٌ جداً لأنك أبعدت زوجته عنه
فصعق الجد من إجابتها ! وسألها :
- هل امك أخبرتك انني بعت الفرس قبل شهرين ؟!
الفتاة : لا , بل الحصان الذي أخبرني بذلك 
ورغم ان الجد لم يصدّق كلامها , الا انه سألها ساخراً : 
- وماذا يريد حضرته ان أفعل بهذا الشأن ؟
- هو يريدك ان تعيدها اليه , فهما كبرا سويّاً 
- وهل أخبرتك امك انني إشتريتهما معاً وهم صغار ؟!
فأجابته بعصبية : لا يا جدي !! امي لم تخبرني شيئاً , بل هو الذي شكى لي همّه 
- حسناً فهمت , إهدئي قليلاً ودعيني أفكّر بحلّ

وبعد قليل .. إتصل بصديقه الذي اشترى منه الفرس , والذي أخبره بأنها ايضاً مريضة منذ فترة .. فأيقن العجوز انهما متحابان , لهذا مرضا من ألم الفراق ! فطلب من صديقه ان يعيدها له بمقابل إعادة المبلغ الذي دفعه مع أجرة النقل , فقبل صديقه العرض.. 
***

وفي عصر ذلك اليوم .. تفاجأ الجد باستعادة الحصانين لصحّتهما بعد ان التقيا مجدداً , وكأنهما ولدا من جديد !
الفتاة بفرح : ارأيت يا جدي كم هما سعيدان مع بعضهما
- نعم عزيزتي ..مع اني مازلت لا أصدّق كيف عرفتي مرضه , رغم عجز الطبيب البيطري عن ذلك !
- هذا لأنني أعرف لغة الحيوانات
- أحقاً ! ومنذ متى بدأت موهبتك هذه ؟
- منذ البارحة على ما أعتقد
الجد مبتسماً : هذا من حسن حظ الحصانين
ثم أمضيا النهار كلّه في الزريبة مع الحيوانات ..
***

في المساء .. حاول الجد الإتصال بإبنته مجدداً , لكنه ايضاً لم تجيبه !
فاقتربت منه حفيدته , قائلةً : 
- لا تحاول يا جدي فهي مشغولة هذه الفترة , وأظنها ستنفصل عن زوجها قريباً .. لهذا أخبرتني انني سأبقى معك لبعض الوقت , قبل ان تعود لتأخذني الى بيتنا
- لم استغرب هذا , رغم انها تزوجته منذ وقتٍ قصير ! لكن كان عليها محادثتي اولاً 
- ربما تخجل منك لأنك كنت رافضاً عريسها منذ البداية 
الجد بضيق : ليتها فقط تستمع الى نصائحي , وتخفّف قليلاً من عنادها
فضحكت الصغيرة ..
الجد : مالذي يضحكك ؟!
- هي أخبرتني بأنها ورثت العناد منك يا جدي 

فلم يعقّب الجد على كلامها , بل إكتفى بإكمال عشائه ..اما حفيدته وفور انهاء كوب حليبها الساخن , قبلت خدّه لكيّ تذهب الى غرفتها  
فأوقفها الجد قائلاً : كان الجوّ غائماً هذا الصباح , وأظنها ستمطر هذه الليلة 
- يبدو ذلك
- الا ترغبين النوم في غرفتي ؟ فأنت تخافين من صوت الرعد
فقالت الفتاة وهي تصعد الأدراج :
- ما عدّت أخاف من شيء , فقد تغيّرت كثيراً يا جدي
الجد : أتقصدين انك كبرت في الإجازة التي أمضيتها مع امك في المدينة ؟
- نعم , كبرت قبل الأوان !
قالتها بنبرةٍ حزينة , قبل ان تصعد الى غرفتها لتنام.. 

فقال الجد في نفسه :
((هناك شيئاً حصل لهذه الفتاة ! فمالذي سمعته من شجار امها مع ذلك الأحمق أحزنها بهذا الشكل ؟!))

ثم أكمل سهرته وهو ينظر الى البوم صور ابنته وهي صغيرة..
وحين رأى صورة زوجته المتوفية..قال في نفسه بقلق :
((كنت دائماً تقولين انها ورثت العناد مني , وأظنك محقّة .. لكن لا ادري لما قلبي خائفٌ على ابنتنا كثيراً هذه المرة !))
***

في اليوم التالي .. ذهب الجد مع حفيدته الى السوق ليحضر لها بعض الملابس , حيث انها قدمت اليه دون حقيبتها التي نستها في سيارة امها كما أخبرته ..
وبعد ان أصرّت على شراء البناطيل لها , خرج من المحل وهو يعاتبها :
- كان عليك شراء الفساتين , فأنت بالنهاية فتاة  
الحفيدة : الفساتين لا تناسب العمل في الزريبة يا جدي
- بهذا معك حق .. لكنك ستلبسينها حتماً حين تبدأين الدراسة 
فقالت بحزن : لا أظنني سأذهب يوماً الى المدرسة !
- بلى , في السنة القادمة .. وسأطلب من امك ان تسجّلك في مدرسة القرية , الا اذا قرّرت والدتك العيش في المدينة 

الحفيدة : أظن ان هذا هو سبب العراك بينها وبين زوجها , فقد سمعته بالسيارة يقول لها : بأنه يريد ترك القرية للأبد لأن لديه فرصة عمل في المدينة , وامي كانت ترفض تركك لوحدك 
الجد باستغراب : أحقاً ! يعني انا سبب المشكلة بينهما ؟!
- او انا السبب , لأنه كان يحاول ان يقنعها بأن أعيش معك 
الجد غاضباً : حين خطبها كان يدلّلك كثيراً , والآن بعد ان تزوجها يريدها ان تتخلّى عنك ! .. حسناً !! حين تعود امك , لديّ الكثير لأقوله لها 
فقال الفتاة بحزن : هذا ان عادت , يا جدي
- ستعود لا تقلقي
***

وقبل عودتهما الى كوخ الجد في الجبل , أوقفتهما امرأة عجوز ..
- سيد جيم .. أهذه حفيدتك ؟
الجد : نعم ..هذه لوسي
- كيف حالك يا لوسي ؟ 
- بخير يا خالة
السيدة : بل نادني جدّة , فأنا بعمر جدك 
- وهل تعرفين جدي منذ وقتٍ طويل ؟!
فأجابتها بنبرةٍ حزينة : منذ ان كان شاباً وسيماً , قبل ان يذهب الى الحرب ويتركني

فردّ الجد غاضباً : انا لم أتركك !! بل انت تزوجتي غيري
العجوزة بغضب : وانت لم ترسل لي رسالة واحدة , فظننت انك ..
مقاطعاً بعصبية : ظننتِ انني مت وارتحت مني , لذلك أسرعت بالزواج من ذلك العجوز الثريّ !!
السيدة بعصبية : قلت لك الف مرة ان والدي هو من أرغمني على ذلك .. فقد كنّا بزمن الحرب , وكان خائفاً ان يموت ويتركني وحدي !!
الجد بغضب : لما كل مرة نلتقي فيها نتشاجر على الشيء ذاته ؟! فالماضي انتهى منذ سنوات !!
فأجابته بعصبية : معك حق .. انتهى ولن يعود ابداً !!
ثم افترقا والغضب بادي على وجهيهما..

وفي الطريق ..
الفتاة : آه جدي ! لا تشدّني بقوةٍ هكذا , لقد آلمت يدي
- اريد فقط العودة الى بيتي , لذا إسرعي قليلاً
***

وبعد ان وصلا الى كوخ الجبل , سألته : 
- لما انت غاضبٌ من جدتي هكذا ؟!
- هي ليست جدتك , ولن تكون يوماً !!
- هل كنت تحبها ؟
الجد بدهشة : ماذا !
- لقد قالت انك كنت وسيماً , والفتاة لا ترى الولد جميلاً الا اذا كانت تحبه
الجد بدهشة : من اين سمعتي هذا الكلام ؟! 
- من التلفاز .. المهم أجبني 
الجد بقهر : ربما هي أحبّتني , اما انا فلا
- ولما لم ترسل لها الرسائل , كما قالت ؟
فقال بعصبية : بل كتبت لها العشرات !! حتى أنظري

وأخرج العجوز من خزانته , صندوقاً خشبياً فيه الكثير من الرسائل القديمة
الحفيدة باستغراب : أكل هذه الرسائل كتبتها لحبيبتك ؟!
- لم تكن حبيبتي !! .. أقصد لم تعدّ حبيبتي
- لكن كيف أرسلتها لها ان كانت لا تزال عندك بالصندوق ؟!
فتنهّد جدها بضيق : 
- لقد قمت بإرسالها جميعاً , لكن بعد انتهاء الحرب عرفت انها ظلّت عالقة في مؤسسة البريد , فجلبتها من هناك واحتفظت بها بعد ان علمت بزواجها .. وبعدها بإيام طلبت من والدتي ان تساعدني في اختيار زوجةٍ لي ..فزوّجتني بعد شهرين بإبنة الجيران التي هي جدتك 
- يعني انت تزوجت جدتي دون ان تحبها ؟!
الجد : أحببتها مع الأيام .. والآن أغلقي هذا الموضوع , فأنا لا اريد التحدّث فيه ثانيةً
- كما تشاء , جدي

ثم صعد حزيناً الى غرفته دون ان يقفل باب الخزانة بالمفتاح كما يفعل دائماً , فاستغلّت حفيدته ذلك وأخذت الرسائل لتخبئها في غرفتها 
***

بنهاية الأسبوع .. كان هناك احتفالاً بالقرية وأصرّت لوسي على الذهاب اليه , فقبِلَ الجد مرغماً لأنه لا يهوى التجمّعات ..
وبعد جلوسه مع العجائز , أسرعت حفيدته الى صديقته القديمة التي كانت تجلس مع السيدات ..
- لوّ سمحتي يا جدة .. هل يمكنني التحدّث معك على انفراد ؟
- ماذا تريدين يا لوسي ؟
- ليس هنا , بل بين الأشجار ..فأنا لا اريد لجدي ان يراني

وبعد ان ابتعدتا عن صخب الحفلة , أعطتها الرسائل..
- هذه كتبها جدي لك حين كان في الحرب , لكن صاحب البريد الغبي لم يوصلهم اليك 
السيدة بدهشة : ماذا ! لم اكن أعرف ذلك
- لقد أخذتها من خزانته دون علمه
- لا يحقّ ان تأخذي شيئاً ليس لك , فهذا يسمّى..
الطفلة مقاطعة : انا لم أسرقها !! فقط أعدّتها الى صاحبتها , لكن لا تخبريه بذلك كيّ لا يغضب مني
- حسناً فهمت

وبعد ان عادت الطفلة الى الحفلة .. جلست السيدة تحت الشجرة وبدأت بقراءة الرسالة تلوّ الأخرى , لتتفاجىء بفيض المشاعر الذي كان يملكها حبيبها القديم لها ! 

في هذه الأثناء .. ضاق صدر الجد بأحاديث الرجال فقرّر التنزّه في الأنحاء , لينتبه على نظرات جسيكا الحزينة وهي تقرأ الأوراق.. وحين اقترب منها , لاحظ رسائله القديمة بجانبها ! 
فسألها بغضب : كيف وصلت اليك ؟!!
فقالت والدموع تترقّرق في عينيها : لم أكن أعرف يا جيم .. ولوّ عرفت مشاعرك اتجاهي , لنتظرتك العمر كلّه

وحين شاهد دموعها تسيل على خدّيها , رقّ قلبه اليها .. فجلس بقربها , قائلاً بحزن :
- الرصاص والقنابل لم تقتلني كما قتلني زواجك يا جسيكا 
- وانا كنت أتعس زوجة في الدنيا حيث كنت أتخيّلك دائماً زوجي ووالد ابنائي , فأنت حبي الأول والوحيد يا جيم
- وانتِ ايضاً 

وهنا أزال قلادته لأول مرة من رقبته , لتتفاجأ بوجود خاتم معلقاً فيه ..
فسألته : هل هذا خاتم المرحومة زوجتك ؟!
جيم : نعم لكنني بالحقيقة اشتريته لك فور عودتي من الحرب ومن اول محل مجوهرات صادفني بالبلد .. وأذكر انني أسرعت الى بيت والدك وانا مازلت ألبس بدلتي العسكرية , وألفّ عيني المصابة بالشاش الطبّي.. لكنه أخبرني بلؤم : انك تزوجتي منذ مدة ! وكاد يغشى عليّ من هول الصدمة .. لذلك أهديت خاتمك الى الفتاة التي خطبتها لي امي , لكن بعد وفاة زوجتي وضعته في هذه القلادة دون ان أعرف السبب 
- أتدري يا جيم .. لوّ كان يوماً في أصبعي لأخذته معي الى قبري

فنظر اليها بحنان وشوق قطعته صرخات الصغيرة :
- جدي !! ساعدني
الجد : ماذ هناك يا لوسي ؟
- هناك فرخٌ وقع من عشّه , وقد طلبت مني العصفورة ان أعيده لها
السيدة جسيكا مبتسمة : وهل تكلّمت امه معك ؟
لوسي : نعم نعم !!
فقال الجد لجسيكا : هي باتت تتحدّث مع الحيوانات هذه الأيام
الحفيدة بحماس : لا وقت لذلك يا جدي , هيا تعال لتحملني كيّ أضع الفرخ في عشّه

وبالفعل !! حينما اقترب الجد من الشجرة التي أشارت اليها حفيدته , وجد الفرخ واقعاً هناك ! .. وكم كانت العصفورة سعيدة بالفرخ بعد ان أعادته لوسي الى أخويه في العشّ..
فهمست جسيكا للجد : كيف عرفت بشأن الطائر ؟!
فردّ عليها بصوتٍ منخفض : أكيد رأته وهو يسقط من فوق , لكنني أدّعي تصديقها بشأن محادثتها للحيوانات كيّ لا تحزن
- وماذا عن والدتها , متى ستأتي لأخذها ؟
- لا ادري يا جسيكا , فهي لا تجيب على هاتفها وبدأت أقلق عليها بالفعل !
***

وانتهت الحفلة بعد ان عادت الأمور بين الحبيبن القديمين الى سابق عهدها , حيث أوصلها جيم بنفسه الى بيتها.. وبعد عودته مع حفيدته الى الكوخ , سألته لوسي بحماس :
- أرى انك تصالحت أخيراً مع الجدة جسيكا !! 
فقال الجد بحزم : جيد انك ذكّرتني كيّ أعاقبك على سرقة رسائلي  
- الم تكن للسيدة جسيكا من الأساس ؟!
- لا تتذاكي عليّ يا صغيرة , لهذا قرّرت ان يكون عقابك ... 
الحفيدة بقلق : ماذا ؟ 
- ان تبدأي الدراسة منذ الغد
- كيف ! ونحن في منتصف السنة 
- لقد كانت جدتك جسيكا معلمة سابقة , لهذا سأطلب منها ان تعلّمك لحين عودة والدتك 
فابتسمت قائلة : قلّ انك تريد حجّة لترى صديقتك كل يوم
- يا بنت !

وأكملت ضحكتها وهي تصعد الى غرفتها , قائلة :
- يبدو انك ستتزوج ثانيةً كما فعلت امي
فقال معاتباً : أصبح لسانك طويل يا صغيرة !
ودخلت غرفتها , وهو مازال يسمع ضحكاتها البريئة ..
فتمّتمّ الجد قائلاً : كم أتمنى ان يحصل ذلك , فقد اشتقت لجسيكا كثيراً 
***

ومرّت الأيام .. تحسّنت فيها العلاقة بين الجد وحبيبته القديمة , لكنه مازال متوتّراً من عرض الزواج عليها خوفاً من كلام الناس ..

وفي إحدى الليالي وأثناء العشاء , سألته حفيدته : 
- هآ جدي ..لم تخبرني بعد , متى ستتزوج الجدة جسيكا ؟
- هذا حديث الكبار يا لوسي , فلا تتدخلي فيه
- ولما لا تتزوجان قريباً ؟ فالجميع لاحظ حبكما لبعض 
الجد بقلق : من قال لك ذلك ؟!
- حين كنت ألعب مع اطفال القرية هذا الصباح , سألوني متى سيكون عرسكما 
- يا الهي , ماهذا الجيل !
- هيا يا جدي ..عليك الزواج منها سريعاً , فقريباً سينتهي الشتاء وليس لديّ الكثير من الوقت
- لا وقت لديك على ماذا ؟!

فقالت بحزن : امي أخبرتني انها ستأخذني من هنا , بعد ان يذوب الجليد عن النهر 
- ولما لم تخبريني بذلك حين كنت اسألك عن امك ؟!
الحفيدة : لأنني الآن تذكّرت كلامها , لهذا تزوّج قبل ان تعود امي 
- أتظنين انها لن تقبل بزواجي وانا بهذا العمر ؟
- هي لن تقول شيئاً , لكنني لا اريد الرحيل قبل الإطمئنان عليك ..فأنا لا اريدك ان تبقى وحيداً بعد ذهابنا من هنا 
الجد : يبدو انك تخافين ان يأخذك زوج امك الى المدينة , اليس كذلك ؟
فأجابت بحزن وغموض : بل هم سيأخذونني الى مكانٍ بعيد يصعب ان أعود منه 
- أحياناً لا أفهم ما تعنيه يا صغيرة !
- لا تهتم لذلك , فقط إخبرني بموعد زواجك 

ففكّر الجد قليلاً , قبل ان يقول : أظنني سأسألها غداً
فصرخت لوسي بحماس : هاى جدي !! وأخيراً
ثم حضنته وهي تضحك بسعادة , وبدوره ابتسم لها وهو يخفي قلقه من هذه الخطوة الجريئة التي تأخّر عن القيام بها لسنواتٍ كثيرة ..
***

وفي اليوم التالي , عاد الى كوخه سعيداً.. 
فركضت الحفيدة اليه وهي تسأله بحماس : 
- هآ جدي !! هل وافقت ؟
فأزال القلادة من رقبته , لكنها كانت خالية من الخاتم ..
الحفيدة : هل ألبستها الخاتم ؟!
فأجابها بفرح : نعم , فهو خاتمها منذ البداية
فحضنته بسعادة : هاى جدي !! وأخيراً سيصبح لديّ جدّة جديدة .. ومتى سيكون العرس ؟
- في نهاية الأسبوع كيّ يوافق بداية فصل الربيع
لوسي : ممتاز , يعني قبل ان أرحل من هنا
- وهل اتصلت امك في غيابي ؟
- لا , كنت أتكلّم عن شيءٍ آخر .. لا تهتم .. والآن علينا الذهاب الى الأسواق لنشتري بدلة عرسك , اليس كذلك ؟ 
الجد مبتسماً : وسأشتري لك فستاناً جميلاً 
- كما تشاء جدي
***

وحضر عرسهما المقربين من الأصدقاء والأقارب ..
وقد أتفق الجد مع حفيدته على بقائها يومين في بيت الجيران قبل ان تنضمّ اليهما ..
***

وفي اليوم التالي لعرسه , تفاجأ الجد بطرقات على بابه ..ليجد شرطياً يطلب منه القدوم حالاً الى المخفر .. فذهبت عروسته معه الى هناك.. 
الجد بقلق : ماذا هناك سيدي ؟
رئيس الشرطة : حين ذاب الجليد عن النهر , وجد أحدهم .. (وسكت) ..
الجد بقلق : ماذا وجد ؟!
- سيارة زوج ابنتك غارقة بالنهر , وأظنها وقعت هناك منذ شهور .. وللأسف لم يغرق لوحده , بل كان برفقة ابنتك وحفيدتك 

لكن ردّة فعل الجد فاجأت الشرطي وعروسته , حيث تنفّس الصعداء قائلاً بارتياح :
- آه الحمد الله , لقد أخفتني كثيراً
الشرطي بدهشة : ماذا تقصد ؟!
فقال الجد بثقة : هذه ليست سيارة ابنتي وزوجها , لأن حفيدتي الآن في بيت الجيران ..وانت قلت بأن السيارة غارقة منذ فصل الشتاء وفيها ثلاثة جثث
- نعم , فأرقام السيارة تؤكّد ذلك ..وقد أرسلنا الجثث المتحلّلة لتشريح
الجد : هي ليست جثة ابنتي , فكما قلت لك ..حفيدتي تعيش معي منذ شهور , اليس كذلك جسيكا ؟

فتفاجأت عروسته بسؤاله , حيث أجابته بارتباك : 
- لكنني لم أرى حفيدتك بعد ! 
زوجها بعصبية : جسيكا ! هذا ليس وقت المزاح
عروسته : انا أتكلّم الحقيقة ..فأنا لم أرى حفيدتك الا مرة واحدة مع امها , حين كانت طفلةً رضيعة 
زوجها : لا تفقديني أعصابي يا جسيكا !! الم تعطك حفيدتي رسائلي القديمة والتي بسببها تزوّجنا ؟!
- لا , بل وجدّتهم على عتبة بابي ..وظننت انك وضعتهم هناك! 
الجد : يبدو انكما متفقان على مقلبٍ سخيف في صباحيّة عرسي , اليس كذلك حضرة الشرطي ؟ 
فأومأ الشرطي وزوجته رأسيهما نفيّاً , وهما لا يفهمان كلامه !
فقال الجد غاضباً : اذاً تعالا معي الى بيت الجيران , لتريا حفيديتي بنفسيكما !!
***

وحين وصلوا الى هناك .. أنكر الجار رؤيته للحفيدة منذ شهورٍ طويلة !
الجد بغضب : أتريدونني أن أجنّ !! فهي عاشت معي لثلاثة اشهر , كيف لم يرها أحداً منكم ! .. حسناً !! تعالوا معي الى غرفتها لتروا ملابسها والعابها 

وحين ذهبوا الى هناك لم يجدوا شيئاً , وكانت الغرفة يعلوها الغبار وكأنه لم يمسّها أحد منذ وقتٍ طويل !
الجد بدهشة : أكاد أفقد عقلي ! اين اختفت حفيدتي ؟!

وهنا وصلت رسالة على جوّال الشرطي الذي قال له :
- لقد وصلتني الآن نتيجة التشريح بعد ان طابقوا اسنانهم بملفّاتهم الصحيّة , والجثث تعود بالفعل لأبنتك وزوجها وحفيدتك
الجد صارخاً بغضب : حفيدتي لم تمت , أسمعتم !! حفيديتي بخير ..فهي من أنقذت حصاني , وأعادت الفرخ الى أمه بحفلة القرية .. الا تذكرين يا جسيكا ؟!
زوجته وهي تشعر بالقلق عليه : صدّقني يا جيم انا لم أرها منذ سنوات , فلما أكذب عليك !
الجد بتعب : ارجوكم ان كان مقلباً فأوقفوه حالاً , لأنني أشعر بأنني سأصاب بنوبةٍ قلبية !
زوجته بخوف : اهدأ قليلاً يا جيم  ..رجاءً ايها الشرطي , اذهب الآن ليرتاح قليلاً
الشرطي : لكن عليكما الحضور لاستلام الجثث للبدأ بعمليه الدفن
جسيكا : حسناً حسناً .. أتركنا الآن , رجاءً

وبعد ذهاب الشرطي .. أخذت زوجها المتعب الى غرفته وهو يرتعش من شدّة الخوف والقلق .. 
وبعد ان أعطته الدواء..
زوجها بتعبٍ شديد : لما تفعلين ذلك يا جسيكا ؟ لما تكذّبين روايتي امام الجميع ؟!
- والله لا أكذب يا جيم , فأنا لم أرى ابنتك منذ فترةٍ طويلة حيث اعتادت التنقّل بين قريتنا والمدينة , ونادراً ما كنت التقي بها وبحفيدتك التي كانت ما تزال طفلةً صغيرة , لما لا تصدّقني ؟! 
فقال بعصبية : رجاءً أخرجي ودعيني لوحدي
- حسناً , سأذهب الى الصيدلية لأحضر لك دواءً مهدّئاً , ولن اتأخّر ..حاول ان تنام قليلاً , فالصدمة كانت كبيرة عليك

وحين خرجت من المنزل , دخل الى غرفة حفيدته من جديد ..وبحث كثيراً , لكنه لم يجد أثراً لها وكأنها اختفت فجأة من الوجود!  

وقبل ان يخرج من غرفتها , سمع صوت الكرسي المتحرّك الصغير يتحرّك لوحده ! وحين التفت , وجد عليه ورقة لم يرها قبل قليل ..وكانت مكتوبة بخط يد الصغيرة ومليئة بالأخطاء الإملائية , قالت فيها :
((كنت رفضت الصعود معهما الى السماء قبل ان اراك ..والآن انتهت مهمّتي وستقوم جدتي جسيكا برعايتك , لهذا صار بإمكاني اللحاق بهما .. حفيدتك التي تحبك دائماً : لوسي))

فسقظ مغشيّاً عليه , ليستيقظ بعد ساعة بين ذراعيّ زوجته وهو يتلعثم قائلاً: 
- الرسالة .. رسالة لوسي .. انها هناك
لكنها لم تجد شيئاً فوق الكرسي , فعرف انها اختفت كما اختفت روح حفيدته التي رفضت الإنتقال الى السماء قبل الإطمئنان عليه! 
فبكى في حضن زوجته وهو يقول : 
- لوسي .. حفيدتي الحنونة .. سأشتاق اليها كثيراً

فعرفت زوجته انه تقبّل أخيراً نبأ رحيل عائلته .. فحضنته بحنان , ليذرف بحسرة دموع فراق أحبّائه المُفجع ! 

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...