الأربعاء، 8 أغسطس 2018

زيارةٌ عابرة

تأليف : امل شانوحة


أردّت الإطمئنان على جدّي

في أمسيّةٍ باردة .. استيقظ الرجل العجوز على صوت طرقات بابه ! وحين فتحه , تفاجأ بحفيدته الصغيرة (سبع سنوات) ترتجف من البرد 
- لوسي ! أدخلي بسرعة 
وحين دخلت , أسرعت لتقف قرب موقد الحطب ..
الجد باستغراب : اين أهلك ؟!
- يتشاجران قرب النهر
- ماذا ! وكيف وصلتي الى هنا وحدك ؟!
- هم أوصلوني الى هنا , لأنني أردّت الإطمئنان عليك
- من هم ؟! تقصدين امك وزوجها ؟
- نعم نعم 
قالتها بلا مبالاة وهي مازالت تدفّأ قرب الموقد..

فقال الجد غاضباً :
- سأعاقب والدتك المجنونة على تركك وحدك امام عتبة بيتي في هذا البرد القارص !!
- لا تغضب يا جدي , فنحن نعرف انك بالداخل
الجد : وماذا لوّ لم أسمع طرقات الباب وبقيت نائماً , لكنت تجمّدت حتى الصباح .. وكل هذا لكيّ تتحدث وحدها مع عريسها الغبي !!
- انت ايضا لم تحب زوج امي , اليس كذلك ؟
- لا , ولم اكن أحب والدك ايضاً

فضحكت الفتاة..
- مالذي يضحكك ؟
- لطالما أخبرتني امي انك لا ترى أحداً يليق بها
الجد : لأنني ربّيتها لتكون فتاةً قوية وذكيّة , لكن لا ادري لما تصرّ على اختيار الحمقى !
- رجاءً لا تقلّ ذلك عن والدي , لأنه لا يجوز إهانة الموتى
- آسف عزيزتي , فهو في رحمة ربه .. يكفيني انه أنجب فتاةً رائعة مثلك
- شكراً جدي .. أتدري , بدأت أشعر بالنعاس .. هل باستطاعتي النوم في غرفة امي ؟

الجد : الا تريدين تناول العشاء ؟
- لا , أكلنا بالمطعم قبل ان يوصلوني الى هنا 
- حسناً إدخلي الحمام اولاً , ثم نامي
- لا تقلق , فالفتيات يبقين سريرهنّ نظيفاً  
- معك حق .. تصبحين على خير حبيبتي 

وبعد ان صعدت الى فوق , حاول الجد الإتصال بأمها لكنها لم تجيبه ! ..فصعد ليُكمل نومه وهو مازال غاضباً من تصرّف إبنته الأرعن 
***

في صباح اليوم التالي , أيقظته حفيدته باكراً.. 
- هيا يا جدي .. استيقظ !! فقد أشرقت الشمس .. علينا ان نُطعم الخراف والدجاج 
- حسناً حسناً لقد استيقظت , لكن لنفطر اولاً

وبعد ان تناولت البيض سريعاً , سبقته الى الحظيرة الملاصقة لبيته .. فلحقها ليجدها تقف قرب حصانه المريض
وحين رأت جدها خلفها , سألته بقلق :
- ما به جدي ؟!
- لا ادري .. له مدة مريضٌ هكذا , أظنه كبر في العمر 
- لحظة , دعني أعرف منه الحكاية
الجد مبتسماً : هل ستسألينه ؟
- نعم

قالتها بثقة .. ثم اقتربت منه , وبدأت تكلّمه بصوتٍ منخفض .. والحصان بدوره يُدني فمه من أذنها وكأنه يهمس لها , بينما الجد ينظر اليهما باستغراب !

وبعد ان انتهت , إقتربت من جدها الذي سألها مُمازحاً :
- هآ , ماذا قال لك ؟
- قال انه حزينٌ جداً لأنك أبعدت زوجته عنه
فصعق الجد من إجابتها ! وسألها :
- هل امك أخبرتك انني بعت الفرس قبل شهرين ؟!
الفتاة : لا , بل الحصان الذي أخبرني بذلك 
ورغم ان الجد لم يصدّق كلامها , الا انه سألها ساخراً : 
- وماذا يريد حضرته ان أفعل بهذا الشأن ؟
- هو يريدك ان تعيدها اليه , فهما كبرا سويّاً 
- وهل أخبرتك امك انني إشتريتهما معاً وهم صغار ؟!
فأجابته بعصبية : لا يا جدي !! امي لم تخبرني شيئاً , بل هو الذي شكى لي همّه 
- حسناً فهمت , إهدئي قليلاً ودعيني أفكّر بحلّ

وبعد قليل .. إتصل بصديقه الذي اشترى منه الفرس , والذي أخبره بأنها ايضاً مريضة منذ فترة .. فأيقن العجوز انهما متحابان , لهذا مرضا من ألم الفراق ! فطلب من صديقه ان يعيدها له بمقابل إعادة المبلغ الذي دفعه مع أجرة النقل , فقبل صديقه العرض.. 
***

وفي عصر ذلك اليوم .. تفاجأ الجد باستعادة الحصانين لصحّتهما بعد ان التقيا مجدداً , وكأنهما ولدا من جديد !
الفتاة بفرح : ارأيت يا جدي كم هما سعيدان مع بعضهما
- نعم عزيزتي ..مع اني مازلت لا أصدّق كيف عرفتي مرضه , رغم عجز الطبيب البيطري عن ذلك !
- هذا لأنني أعرف لغة الحيوانات
- أحقاً ! ومنذ متى بدأت موهبتك هذه ؟
- منذ البارحة على ما أعتقد
الجد مبتسماً : هذا من حسن حظ الحصانين
ثم أمضيا النهار كلّه في الزريبة مع الحيوانات ..
***

في المساء .. حاول الجد الإتصال بإبنته مجدداً , لكنه ايضاً لم تجيبه !
فاقتربت منه حفيدته , قائلةً : 
- لا تحاول يا جدي فهي مشغولة هذه الفترة , وأظنها ستنفصل عن زوجها قريباً .. لهذا أخبرتني انني سأبقى معك لبعض الوقت , قبل ان تعود لتأخذني الى بيتنا
- لم استغرب هذا , رغم انها تزوجته منذ وقتٍ قصير ! لكن كان عليها محادثتي اولاً 
- ربما تخجل منك لأنك كنت رافضاً عريسها منذ البداية 
الجد بضيق : ليتها فقط تستمع الى نصائحي , وتخفّف قليلاً من عنادها
فضحكت الصغيرة ..
الجد : مالذي يضحكك ؟!
- هي أخبرتني بأنها ورثت العناد منك يا جدي 

فلم يعقّب الجد على كلامها , بل إكتفى بإكمال عشائه ..اما حفيدته وفور انهاء كوب حليبها الساخن , قبلت خدّه لكيّ تذهب الى غرفتها  
فأوقفها الجد قائلاً : كان الجوّ غائماً هذا الصباح , وأظنها ستمطر هذه الليلة 
- يبدو ذلك
- الا ترغبين النوم في غرفتي ؟ فأنت تخافين من صوت الرعد
فقالت الفتاة وهي تصعد الأدراج :
- ما عدّت أخاف من شيء , فقد تغيّرت كثيراً يا جدي
الجد : أتقصدين انك كبرت في الإجازة التي أمضيتها مع امك في المدينة ؟
- نعم , كبرت قبل الأوان !
قالتها بنبرةٍ حزينة , قبل ان تصعد الى غرفتها لتنام.. 

فقال الجد في نفسه :
((هناك شيئاً حصل لهذه الفتاة ! فمالذي سمعته من شجار امها مع ذلك الأحمق أحزنها بهذا الشكل ؟!))

ثم أكمل سهرته وهو ينظر الى البوم صور ابنته وهي صغيرة..
وحين رأى صورة زوجته المتوفية..قال في نفسه بقلق :
((كنت دائماً تقولين انها ورثت العناد مني , وأظنك محقّة .. لكن لا ادري لما قلبي خائفٌ على ابنتنا كثيراً هذه المرة !))
***

في اليوم التالي .. ذهب الجد مع حفيدته الى السوق ليحضر لها بعض الملابس , حيث انها قدمت اليه دون حقيبتها التي نستها في سيارة امها كما أخبرته ..
وبعد ان أصرّت على شراء البناطيل لها , خرج من المحل وهو يعاتبها :
- كان عليك شراء الفساتين , فأنت بالنهاية فتاة  
الحفيدة : الفساتين لا تناسب العمل في الزريبة يا جدي
- بهذا معك حق .. لكنك ستلبسينها حتماً حين تبدأين الدراسة 
فقالت بحزن : لا أظنني سأذهب يوماً الى المدرسة !
- بلى , في السنة القادمة .. وسأطلب من امك ان تسجّلك في مدرسة القرية , الا اذا قرّرت والدتك العيش في المدينة 

الحفيدة : أظن ان هذا هو سبب العراك بينها وبين زوجها , فقد سمعته بالسيارة يقول لها : بأنه يريد ترك القرية للأبد لأن لديه فرصة عمل في المدينة , وامي كانت ترفض تركك لوحدك 
الجد باستغراب : أحقاً ! يعني انا سبب المشكلة بينهما ؟!
- او انا السبب , لأنه كان يحاول ان يقنعها بأن أعيش معك 
الجد غاضباً : حين خطبها كان يدلّلك كثيراً , والآن بعد ان تزوجها يريدها ان تتخلّى عنك ! .. حسناً !! حين تعود امك , لديّ الكثير لأقوله لها 
فقال الفتاة بحزن : هذا ان عادت , يا جدي
- ستعود لا تقلقي
***

وقبل عودتهما الى كوخ الجد في الجبل , أوقفتهما امرأة عجوز ..
- سيد جيم .. أهذه حفيدتك ؟
الجد : نعم ..هذه لوسي
- كيف حالك يا لوسي ؟ 
- بخير يا خالة
السيدة : بل نادني جدّة , فأنا بعمر جدك 
- وهل تعرفين جدي منذ وقتٍ طويل ؟!
فأجابتها بنبرةٍ حزينة : منذ ان كان شاباً وسيماً , قبل ان يذهب الى الحرب ويتركني

فردّ الجد غاضباً : انا لم أتركك !! بل انت تزوجتي غيري
العجوزة بغضب : وانت لم ترسل لي رسالة واحدة , فظننت انك ..
مقاطعاً بعصبية : ظننتِ انني مت وارتحت مني , لذلك أسرعت بالزواج من ذلك العجوز الثريّ !!
السيدة بعصبية : قلت لك الف مرة ان والدي هو من أرغمني على ذلك .. فقد كنّا بزمن الحرب , وكان خائفاً ان يموت ويتركني وحدي !!
الجد بغضب : لما كل مرة نلتقي فيها نتشاجر على الشيء ذاته ؟! فالماضي انتهى منذ سنوات !!
فأجابته بعصبية : معك حق .. انتهى ولن يعود ابداً !!
ثم افترقا والغضب بادي على وجهيهما..

وفي الطريق ..
الفتاة : آه جدي ! لا تشدّني بقوةٍ هكذا , لقد آلمت يدي
- اريد فقط العودة الى بيتي , لذا إسرعي قليلاً
***

وبعد ان وصلا الى كوخ الجبل , سألته : 
- لما انت غاضبٌ من جدتي هكذا ؟!
- هي ليست جدتك , ولن تكون يوماً !!
- هل كنت تحبها ؟
الجد بدهشة : ماذا !
- لقد قالت انك كنت وسيماً , والفتاة لا ترى الولد جميلاً الا اذا كانت تحبه
الجد بدهشة : من اين سمعتي هذا الكلام ؟! 
- من التلفاز .. المهم أجبني 
الجد بقهر : ربما هي أحبّتني , اما انا فلا
- ولما لم ترسل لها الرسائل , كما قالت ؟
فقال بعصبية : بل كتبت لها العشرات !! حتى أنظري

وأخرج العجوز من خزانته , صندوقاً خشبياً فيه الكثير من الرسائل القديمة
الحفيدة باستغراب : أكل هذه الرسائل كتبتها لحبيبتك ؟!
- لم تكن حبيبتي !! .. أقصد لم تعدّ حبيبتي
- لكن كيف أرسلتها لها ان كانت لا تزال عندك بالصندوق ؟!
فتنهّد جدها بضيق : 
- لقد قمت بإرسالها جميعاً , لكن بعد انتهاء الحرب عرفت انها ظلّت عالقة في مؤسسة البريد , فجلبتها من هناك واحتفظت بها بعد ان علمت بزواجها .. وبعدها بإيام طلبت من والدتي ان تساعدني في اختيار زوجةٍ لي ..فزوّجتني بعد شهرين بإبنة الجيران التي هي جدتك 
- يعني انت تزوجت جدتي دون ان تحبها ؟!
الجد : أحببتها مع الأيام .. والآن أغلقي هذا الموضوع , فأنا لا اريد التحدّث فيه ثانيةً
- كما تشاء , جدي

ثم صعد حزيناً الى غرفته دون ان يقفل باب الخزانة بالمفتاح كما يفعل دائماً , فاستغلّت حفيدته ذلك وأخذت الرسائل لتخبئها في غرفتها 
***

بنهاية الأسبوع .. كان هناك احتفالاً بالقرية وأصرّت لوسي على الذهاب اليه , فقبِلَ الجد مرغماً لأنه لا يهوى التجمّعات ..
وبعد جلوسه مع العجائز , أسرعت حفيدته الى صديقته القديمة التي كانت تجلس مع السيدات ..
- لوّ سمحتي يا جدة .. هل يمكنني التحدّث معك على انفراد ؟
- ماذا تريدين يا لوسي ؟
- ليس هنا , بل بين الأشجار ..فأنا لا اريد لجدي ان يراني

وبعد ان ابتعدتا عن صخب الحفلة , أعطتها الرسائل..
- هذه كتبها جدي لك حين كان في الحرب , لكن صاحب البريد الغبي لم يوصلهم اليك 
السيدة بدهشة : ماذا ! لم اكن أعرف ذلك
- لقد أخذتها من خزانته دون علمه
- لا يحقّ ان تأخذي شيئاً ليس لك , فهذا يسمّى..
الطفلة مقاطعة : انا لم أسرقها !! فقط أعدّتها الى صاحبتها , لكن لا تخبريه بذلك كيّ لا يغضب مني
- حسناً فهمت

وبعد ان عادت الطفلة الى الحفلة .. جلست السيدة تحت الشجرة وبدأت بقراءة الرسالة تلوّ الأخرى , لتتفاجىء بفيض المشاعر الذي كان يملكها حبيبها القديم لها ! 

في هذه الأثناء .. ضاق صدر الجد بأحاديث الرجال فقرّر التنزّه في الأنحاء , لينتبه على نظرات جسيكا الحزينة وهي تقرأ الأوراق.. وحين اقترب منها , لاحظ رسائله القديمة بجانبها ! 
فسألها بغضب : كيف وصلت اليك ؟!!
فقالت والدموع تترقّرق في عينيها : لم أكن أعرف يا جيم .. ولوّ عرفت مشاعرك اتجاهي , لنتظرتك العمر كلّه

وحين شاهد دموعها تسيل على خدّيها , رقّ قلبه اليها .. فجلس بقربها , قائلاً بحزن :
- الرصاص والقنابل لم تقتلني كما قتلني زواجك يا جسيكا 
- وانا كنت أتعس زوجة في الدنيا حيث كنت أتخيّلك دائماً زوجي ووالد ابنائي , فأنت حبي الأول والوحيد يا جيم
- وانتِ ايضاً 

وهنا أزال قلادته لأول مرة من رقبته , لتتفاجأ بوجود خاتم معلقاً فيه ..
فسألته : هل هذا خاتم المرحومة زوجتك ؟!
جيم : نعم لكنني بالحقيقة اشتريته لك فور عودتي من الحرب ومن اول محل مجوهرات صادفني بالبلد .. وأذكر انني أسرعت الى بيت والدك وانا مازلت ألبس بدلتي العسكرية , وألفّ عيني المصابة بالشاش الطبّي.. لكنه أخبرني بلؤم : انك تزوجتي منذ مدة ! وكاد يغشى عليّ من هول الصدمة .. لذلك أهديت خاتمك الى الفتاة التي خطبتها لي امي , لكن بعد وفاة زوجتي وضعته في هذه القلادة دون ان أعرف السبب 
- أتدري يا جيم .. لوّ كان يوماً في أصبعي لأخذته معي الى قبري

فنظر اليها بحنان وشوق قطعته صرخات الصغيرة :
- جدي !! ساعدني
الجد : ماذ هناك يا لوسي ؟
- هناك فرخٌ وقع من عشّه , وقد طلبت مني العصفورة ان أعيده لها
السيدة جسيكا مبتسمة : وهل تكلّمت امه معك ؟
لوسي : نعم نعم !!
فقال الجد لجسيكا : هي باتت تتحدّث مع الحيوانات هذه الأيام
الحفيدة بحماس : لا وقت لذلك يا جدي , هيا تعال لتحملني كيّ أضع الفرخ في عشّه

وبالفعل !! حينما اقترب الجد من الشجرة التي أشارت اليها حفيدته , وجد الفرخ واقعاً هناك ! .. وكم كانت العصفورة سعيدة بالفرخ بعد ان أعادته لوسي الى أخويه في العشّ..
فهمست جسيكا للجد : كيف عرفت بشأن الطائر ؟!
فردّ عليها بصوتٍ منخفض : أكيد رأته وهو يسقط من فوق , لكنني أدّعي تصديقها بشأن محادثتها للحيوانات كيّ لا تحزن
- وماذا عن والدتها , متى ستأتي لأخذها ؟
- لا ادري يا جسيكا , فهي لا تجيب على هاتفها وبدأت أقلق عليها بالفعل !
***

وانتهت الحفلة بعد ان عادت الأمور بين الحبيبن القديمين الى سابق عهدها , حيث أوصلها جيم بنفسه الى بيتها.. وبعد عودته مع حفيدته الى الكوخ , سألته لوسي بحماس :
- أرى انك تصالحت أخيراً مع الجدة جسيكا !! 
فقال الجد بحزم : جيد انك ذكّرتني كيّ أعاقبك على سرقة رسائلي  
- الم تكن للسيدة جسيكا من الأساس ؟!
- لا تتذاكي عليّ يا صغيرة , لهذا قرّرت ان يكون عقابك ... 
الحفيدة بقلق : ماذا ؟ 
- ان تبدأي الدراسة منذ الغد
- كيف ! ونحن في منتصف السنة 
- لقد كانت جدتك جسيكا معلمة سابقة , لهذا سأطلب منها ان تعلّمك لحين عودة والدتك 
فابتسمت قائلة : قلّ انك تريد حجّة لترى صديقتك كل يوم
- يا بنت !

وأكملت ضحكتها وهي تصعد الى غرفتها , قائلة :
- يبدو انك ستتزوج ثانيةً كما فعلت امي
فقال معاتباً : أصبح لسانك طويل يا صغيرة !
ودخلت غرفتها , وهو مازال يسمع ضحكاتها البريئة ..
فتمّتمّ الجد قائلاً : كم أتمنى ان يحصل ذلك , فقد اشتقت لجسيكا كثيراً 
***

ومرّت الأيام .. تحسّنت فيها العلاقة بين الجد وحبيبته القديمة , لكنه مازال متوتّراً من عرض الزواج عليها خوفاً من كلام الناس ..

وفي إحدى الليالي وأثناء العشاء , سألته حفيدته : 
- هآ جدي ..لم تخبرني بعد , متى ستتزوج الجدة جسيكا ؟
- هذا حديث الكبار يا لوسي , فلا تتدخلي فيه
- ولما لا تتزوجان قريباً ؟ فالجميع لاحظ حبكما لبعض 
الجد بقلق : من قال لك ذلك ؟!
- حين كنت ألعب مع اطفال القرية هذا الصباح , سألوني متى سيكون عرسكما 
- يا الهي , ماهذا الجيل !
- هيا يا جدي ..عليك الزواج منها سريعاً , فقريباً سينتهي الشتاء وليس لديّ الكثير من الوقت
- لا وقت لديك على ماذا ؟!

فقالت بحزن : امي أخبرتني انها ستأخذني من هنا , بعد ان يذوب الجليد عن النهر 
- ولما لم تخبريني بذلك حين كنت اسألك عن امك ؟!
الحفيدة : لأنني الآن تذكّرت كلامها , لهذا تزوّج قبل ان تعود امي 
- أتظنين انها لن تقبل بزواجي وانا بهذا العمر ؟
- هي لن تقول شيئاً , لكنني لا اريد الرحيل قبل الإطمئنان عليك ..فأنا لا اريدك ان تبقى وحيداً بعد ذهابنا من هنا 
الجد : يبدو انك تخافين ان يأخذك زوج امك الى المدينة , اليس كذلك ؟
فأجابت بحزن وغموض : بل هم سيأخذونني الى مكانٍ بعيد يصعب ان أعود منه 
- أحياناً لا أفهم ما تعنيه يا صغيرة !
- لا تهتم لذلك , فقط إخبرني بموعد زواجك 

ففكّر الجد قليلاً , قبل ان يقول : أظنني سأسألها غداً
فصرخت لوسي بحماس : هاى جدي !! وأخيراً
ثم حضنته وهي تضحك بسعادة , وبدوره ابتسم لها وهو يخفي قلقه من هذه الخطوة الجريئة التي تأخّر عن القيام بها لسنواتٍ كثيرة ..
***

وفي اليوم التالي , عاد الى كوخه سعيداً.. 
فركضت الحفيدة اليه وهي تسأله بحماس : 
- هآ جدي !! هل وافقت ؟
فأزال القلادة من رقبته , لكنها كانت خالية من الخاتم ..
الحفيدة : هل ألبستها الخاتم ؟!
فأجابها بفرح : نعم , فهو خاتمها منذ البداية
فحضنته بسعادة : هاى جدي !! وأخيراً سيصبح لديّ جدّة جديدة .. ومتى سيكون العرس ؟
- في نهاية الأسبوع كيّ يوافق بداية فصل الربيع
لوسي : ممتاز , يعني قبل ان أرحل من هنا
- وهل اتصلت امك في غيابي ؟
- لا , كنت أتكلّم عن شيءٍ آخر .. لا تهتم .. والآن علينا الذهاب الى الأسواق لنشتري بدلة عرسك , اليس كذلك ؟ 
الجد مبتسماً : وسأشتري لك فستاناً جميلاً 
- كما تشاء جدي
***

وحضر عرسهما المقربين من الأصدقاء والأقارب ..
وقد أتفق الجد مع حفيدته على بقائها يومين في بيت الجيران قبل ان تنضمّ اليهما ..
***

وفي اليوم التالي لعرسه , تفاجأ الجد بطرقات على بابه ..ليجد شرطياً يطلب منه القدوم حالاً الى المخفر .. فذهبت عروسته معه الى هناك.. 
الجد بقلق : ماذا هناك سيدي ؟
رئيس الشرطة : حين ذاب الجليد عن النهر , وجد أحدهم .. (وسكت) ..
الجد بقلق : ماذا وجد ؟!
- سيارة زوج ابنتك غارقة بالنهر , وأظنها وقعت هناك منذ شهور .. وللأسف لم يغرق لوحده , بل كان برفقة ابنتك وحفيدتك 

لكن ردّة فعل الجد فاجأت الشرطي وعروسته , حيث تنفّس الصعداء قائلاً بارتياح :
- آه الحمد الله , لقد أخفتني كثيراً
الشرطي بدهشة : ماذا تقصد ؟!
فقال الجد بثقة : هذه ليست سيارة ابنتي وزوجها , لأن حفيدتي الآن في بيت الجيران ..وانت قلت بأن السيارة غارقة منذ فصل الشتاء وفيها ثلاثة جثث
- نعم , فأرقام السيارة تؤكّد ذلك ..وقد أرسلنا الجثث المتحلّلة لتشريح
الجد : هي ليست جثة ابنتي , فكما قلت لك ..حفيدتي تعيش معي منذ شهور , اليس كذلك جسيكا ؟

فتفاجأت عروسته بسؤاله , حيث أجابته بارتباك : 
- لكنني لم أرى حفيدتك بعد ! 
زوجها بعصبية : جسيكا ! هذا ليس وقت المزاح
عروسته : انا أتكلّم الحقيقة ..فأنا لم أرى حفيدتك الا مرة واحدة مع امها , حين كانت طفلةً رضيعة 
زوجها : لا تفقديني أعصابي يا جسيكا !! الم تعطك حفيدتي رسائلي القديمة والتي بسببها تزوّجنا ؟!
- لا , بل وجدّتهم على عتبة بابي ..وظننت انك وضعتهم هناك! 
الجد : يبدو انكما متفقان على مقلبٍ سخيف في صباحيّة عرسي , اليس كذلك حضرة الشرطي ؟ 
فأومأ الشرطي وزوجته رأسيهما نفيّاً , وهما لا يفهمان كلامه !
فقال الجد غاضباً : اذاً تعالا معي الى بيت الجيران , لتريا حفيديتي بنفسيكما !!
***

وحين وصلوا الى هناك .. أنكر الجار رؤيته للحفيدة منذ شهورٍ طويلة !
الجد بغضب : أتريدونني أن أجنّ !! فهي عاشت معي لثلاثة اشهر , كيف لم يرها أحداً منكم ! .. حسناً !! تعالوا معي الى غرفتها لتروا ملابسها والعابها 

وحين ذهبوا الى هناك لم يجدوا شيئاً , وكانت الغرفة يعلوها الغبار وكأنه لم يمسّها أحد منذ وقتٍ طويل !
الجد بدهشة : أكاد أفقد عقلي ! اين اختفت حفيدتي ؟!

وهنا وصلت رسالة على جوّال الشرطي الذي قال له :
- لقد وصلتني الآن نتيجة التشريح بعد ان طابقوا اسنانهم بملفّاتهم الصحيّة , والجثث تعود بالفعل لأبنتك وزوجها وحفيدتك
الجد صارخاً بغضب : حفيدتي لم تمت , أسمعتم !! حفيديتي بخير ..فهي من أنقذت حصاني , وأعادت الفرخ الى أمه بحفلة القرية .. الا تذكرين يا جسيكا ؟!
زوجته وهي تشعر بالقلق عليه : صدّقني يا جيم انا لم أرها منذ سنوات , فلما أكذب عليك !
الجد بتعب : ارجوكم ان كان مقلباً فأوقفوه حالاً , لأنني أشعر بأنني سأصاب بنوبةٍ قلبية !
زوجته بخوف : اهدأ قليلاً يا جيم  ..رجاءً ايها الشرطي , اذهب الآن ليرتاح قليلاً
الشرطي : لكن عليكما الحضور لاستلام الجثث للبدأ بعمليه الدفن
جسيكا : حسناً حسناً .. أتركنا الآن , رجاءً

وبعد ذهاب الشرطي .. أخذت زوجها المتعب الى غرفته وهو يرتعش من شدّة الخوف والقلق .. 
وبعد ان أعطته الدواء..
زوجها بتعبٍ شديد : لما تفعلين ذلك يا جسيكا ؟ لما تكذّبين روايتي امام الجميع ؟!
- والله لا أكذب يا جيم , فأنا لم أرى ابنتك منذ فترةٍ طويلة حيث اعتادت التنقّل بين قريتنا والمدينة , ونادراً ما كنت التقي بها وبحفيدتك التي كانت ما تزال طفلةً صغيرة , لما لا تصدّقني ؟! 
فقال بعصبية : رجاءً أخرجي ودعيني لوحدي
- حسناً , سأذهب الى الصيدلية لأحضر لك دواءً مهدّئاً , ولن اتأخّر ..حاول ان تنام قليلاً , فالصدمة كانت كبيرة عليك

وحين خرجت من المنزل , دخل الى غرفة حفيدته من جديد ..وبحث كثيراً , لكنه لم يجد أثراً لها وكأنها اختفت فجأة من الوجود!  

وقبل ان يخرج من غرفتها , سمع صوت الكرسي المتحرّك الصغير يتحرّك لوحده ! وحين التفت , وجد عليه ورقة لم يرها قبل قليل ..وكانت مكتوبة بخط يد الصغيرة ومليئة بالأخطاء الإملائية , قالت فيها :
((كنت رفضت الصعود معهما الى السماء قبل ان اراك ..والآن انتهت مهمّتي وستقوم جدتي جسيكا برعايتك , لهذا صار بإمكاني اللحاق بهما .. حفيدتك التي تحبك دائماً : لوسي))

فسقظ مغشيّاً عليه , ليستيقظ بعد ساعة بين ذراعيّ زوجته وهو يتلعثم قائلاً: 
- الرسالة .. رسالة لوسي .. انها هناك
لكنها لم تجد شيئاً فوق الكرسي , فعرف انها اختفت كما اختفت روح حفيدته التي رفضت الإنتقال الى السماء قبل الإطمئنان عليه! 
فبكى في حضن زوجته وهو يقول : 
- لوسي .. حفيدتي الحنونة .. سأشتاق اليها كثيراً

فعرفت زوجته انه تقبّل أخيراً نبأ رحيل عائلته .. فحضنته بحنان , ليذرف بحسرة دموع فراق أحبّائه المُفجع ! 

هناك تعليق واحد:

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...