الثلاثاء، 29 سبتمبر 2020

مُتنبأة الجرائم

 تأليف : امل شانوحة

كشف خيوط الجريمة


في مكتب قصرٍ فخم .. سألت المراهقة والدها :

- ابي ، وصلني إيميل غريب قبل قليل 

- مِن مَن ؟

- من سيدة تملك مالاً وفيراً ، وتريد تحويله عبر رصيدنا البنكي.. 

الأب مقاطعاً : إحذفي الرسالة فوراً ، فهي إمّا فيروس او عملية إحتيال او عصابة لتبييض الأموال 

- وماذا يعني تبييض الأموال ؟

- ارباح أُكتسبت من تجارة المخدرات والسرقات وبيع السلاح .. ولخوف العصابات أن تكون الأرقام التسلّسلية لنقودهم معروفة لدى الشرطة ، يقومون بتحويلها لحسابات أشخاصٍ لديهم سجلّات نظيفة من بلادٍ مختلفة.. 

فأكملت ابنته : وفي حال إكتشفت مخابراتهم الأمر ، نتورّط نحن بالموضوع ؟

- بالتأكيد !!

- اذاً سأحظر إيميلها ، شكراً ابي على التوضيح

***


مع بداية فصل الصيف .. ضجّت الصحف ومواقع التواصل الإجتماعي بخبر إختطاف الإبنة المراهقة لتاجرٍ ثريّ الذي عرض جائزةً مالية ضخمة لمن يجدها ، بعد فشل الشرطة خلال إسبوعين من البحث المتواصل من القبض على مرتكبيّ الجريمة  


وبعد ايام من الإعلان ، وفي منتصف الليل .. رنّ جرس القصر !

لتخبرهما الخادمة أن عجوزاً تملك تفاصيل حادثة إختطاف ابنتهما.. 

فأسرع الوالدان الى الصالة لملاقاتها ، حيث عرّفت السيدة عن نفسها من خلال قصاصات جرائدٍ قديمة :

- اسمي ماري جونسون .. متنبأة مختصّة بحلّ الجرائم .. 

الأب مقاطعاً : متنبأة ! تقصدين مشعوذة ؟

- لا سيد مايكل ، انا امرأة ذات بصيرة ..

فعاتبها بعصبية : تأتين الينا في وقتٍ متأخر ، وفي ظلّ ظروفنا السيئة لتخبرينا بتعويذاتك وتُرّهاتك السخيفة !!


بهذه الأثناء ، أنهت زوجته قراءة عناوين قصاصات الجرائد .. وقالت لزوجها :

- هي كشفت بالفعل جرائم عجزت الشرطة عن حلّها !

الأب بتهكّم : انا لا أعترف بهذه السخافات

فأسرعت العجوز قائلة : 

- هل الصورة التي نُشرت لأبنتكما في الأخبار هي صورتها الأخيرة ؟ أقصد هل خُطفت بذات الملابس ؟

الأم : لا ، لكنا عرفنا من خلال كاميرات القصر ما كانت تلبسه قبل ذهابها لحفلة اصدقائها 

البصّارة : اذاً دعوني أصفّ ثيابها يوم الإختطاف ، لتصدّقا موهبتي


وأغمضت عيناها ، وكأنها تشاهد رؤى خفيّة .. ثم قالت :

- كانت تلبس فستاناً احمر ، بشريطةٍ سوداء على الخصر وحذاءٍ اسودٍ لامع 

الأم بدهشة : هذا صحيح !

الأب مُستنكراً : كلامك لا يدلّ على شيء ، فربما عرفتي المعلومة من موظفيّ القصر 

العجوز : سيد مايكل .. لا اعرف أحداً هنا ، فأنا اعيش في الأرياف .. وفور رؤيتي الخبر ، قُدت سيارتي لساعات الى أن وصلت اليكم بهذا الوقت المتأخر .. 

الأم : حبيبي دعها تخبرنا بما حصل ، ماذا سنخسر ؟

فوافق الزوج على مضضّ .. 


فعادت العجوز لإغماض عينيها بضعة دقائق ، قبل ان تقول :

- سأخبركم بما حصل منذ البداية .. ابنتكما وصلت الحفلة في الوقت المحدّد .. قضت وقتاً سعيداً مع اصدقائها .. وقبيل خروجها من البار ، إقترب منها شاب ..

الأم مقاطعة : صديقها اليس كذلك ؟

- لا ، ليس الفاعل .. والأفضل ان تسحبوا دعوتكم ضدّه ليخرج من التوقيف ، فهو ليس مذنباً

الأم : إكملي رجاءً ، من ذلك الشاب ؟

- شاب ترصّد حركاتها منذ أشهر .. وبعد تحدّثه معها قرابة ساعة ، عرض عليها نزهةً لطيفة بالحديقة العامة .. أعتقد عمره في أواخر الثلاثينات ، لديه لحية وشارب .. وكان يلبس قميصاً أحمر وبنطالاً أسود..

الأب مقاطعاً بعصبية : المهم !! ماذا فعل بإبنتي ؟

- بعد ركوبها سيارته الرياضية ، تحجّج بالكورونا لتغطية وجهه بكمامةٍ خاصة تحميه من تنشّق المخدّر الذي تسرّب من فتحات التكييف ، بعكس ابنتكما التي غفت في سباتٍ عميق

الأم بقلق : واين أخذها ؟

- الى قبو مستودعٍ مهجور بأطراف المدينة 


الأب بعصبية : هل أذاها اللعين ؟!!

- لا ابداً ، إكتفى بربطها بالسرير مع عَصب عينيها وتكميم فمها 

- وماذا ينتظر ؟

- يريد إرهاق اعصابكما قبل طلبه الفدية .. 

- وهل تعرفين عنوان المستودع ؟ 

البصّارة : نعم سأصفه كما رأيته في مخيّلتي ، لكيّ تبلّغوا الشرطة  

الأب بغضب : لا !! سأذهب بنفسي لقتل السافل

- أنصحك ان لا تفعل ، فهو عضو بعصابةٍ كبيرة متخصّصة بخطف ابناء الأثرياء .. لذا دعّ الشرطة تتوجه للمستودع .. وأعدك ان الجبان سيهرب فور سماعه صافراتها ، تاركاً ابنتك وحدها في القبو


الأم بقلق : ماذا لوّ جعلها رهينة ؟

البصّارة : المستودع بالعادة يحرسه سبعة رجال مسلحين .. لكنهم في هذه الليلة سيذهبون في مهمّةٍ سرّية للميناء ، تاركين الشاب المُختطف معها ، وهو جبان ولا يجيد استخدام السلاح .. (ثم قالت للأب) .. لهذا لا تفوت الفرصة ، إتصل بالشرطة حالاً .. ولا تخبرهم عن تنبؤاتي .. قلّ انك حصلت على العنوان من إتصالٍ مجهول ، ليأخذوا الموضوع بجدّية


وفي الوقت الذي كان فيه الأب يجري إتصالاً مع الشرطة ليخبرهم بالمعلومات الجديدة ، همست زوجته للعجوز :  

- سأضاعف جائزتك المالية ، إن صحّت توقعاتك  

فأعطتها العجوز رقم جوالها لإخبارها بالمستجدّات ، ثم خرجت من القصر

***


بعد شهر .. فُجع مجتمع الأثرياء بخطف ابن احدهم في حفلة عيد ميلاد صديقه .. وبعد فشل الشرطة بالوصول للخاطفين ، تلقّت العجوز ماري إتصالاً من امه التي أخبرتها باكية :

- أخذت رقمك من زوجة مايكل التي أعدّتِ لها ابنتها المُختطفة  

ماري : وانا توقعت إتصالك بعد رؤيتي ابنك في المنام 

- أحقاً ! ماذا رأيتي ؟

- عليّ مقابلتك في الحال


فأعطتها عنوان القصر ، الذي وصلت اليه المُتبصّرة بحلول المساء 

ودخلت الصالة ، لتجد الوالدين في انتظارها على أحرّ من الجمر ..

الأب بعصبية : رجاءً إخبرينا عن اللعين الذي تجرّأ على خطف ابني ؟!!

فتنهّدت ماري تنهيدة طويلة ، قبل ان تقول : 

- على حسب منامي : قام عامل المطعم الذي أُقيم فيه الحفل بوضع المنوّم في عصير الصغير الذي أغميّ عليه في الرواق .. ثم أخرجه من الباب الخلفيّ ، ووضعه في سيارته .. متوجهاً لكوخٍ صغير في الغابة

الأم وهي تمسح دموعها : هل ابني بخير ؟ 

- نعم ، فالشاب يعتني به جيداً 

الأب : وماذا يريد ؟

- فدية طبعاً

- لا أحد اتصل بنا منذ ايام !

- انها استراتيجية الخاطفين : ينتظرون بعض الوقت لحرق اعصاب الأهل ، لجعلهم يقبلون شروطهم دون اعتراض 


الأم : رجاءً أكتبي عنوان الكوخ ، وسنعطيك مكافئة مالية ضخمة

- من حسن حظكما انني شاهدت لافتات الطرق بوضوح في منامي ...(ثم قالت للأب) .. أرجو ان تتصرّف بهدوء ورويّة كما فعل السيد مايكل ، وأن تدع الشرطة تتكفّل بالموضوع 

الأب بغضب : أحلف انني سأقطّعه بأسناني !! 

- لن تفعل ، لأنه سيهرب فور رؤيته أنوار الشرطة تقترب من المكان

- اذاً سأطلب منهم التوقف خارج الغابة ، والذهاب اليه سيراً على الأقدام

البصّارة : لا أنصحك بذلك ، والا سيأخذ ابنك رهينة .. دعه يهرب ، فهو وحده بالكوخ ولا يملك سلاحاً 


فقبل الوالدان مشورتها ، وأعطتها الأم شيكاً مالياً :

- هذه نصف الجائزة ، والنصف الآخر بعد عودة ابني سالماً الينا 

البصّارة : وهذه بطاقتي ، فيها حسابي البنكي 

ثم ودّعتها وخرجت من القصر 

***  


بعد شهرين .. وفي منزلٍ ريفيّ ، تجمّع الشباب الأربعة (هما ابنا ماري الشابين ، وصديقاهما) لتناول العشاء .. 

وبعد شربهم الشاي ، سألها ابنها الكبير :

- امي .. مضى شهران على آخر عملية خطف لنا ، متى سنبدأ العملية الثانية ؟

العجوز ماري : ولما الطمع يا اولاد ؟ الجائزتان المالية التي قبضتهما من العائلتين تكفينا لسنةٍ كاملة .. والأفضّل ان يكون هناك بعدٌ زمانيّ بين العمليات ، كيّ لا نثير شكوك الشرطة .. 

صديق ابنها بضيق : اذاً لن نفعل شيئاً في الفترة القادمة ؟ 

فأجابت : إستمتعوا بنصيبكم من الجائزة .. فكل شيء مسموح الا المخدرات ، فعملنا يحتاج الى تركيزٍ شديد 

- وماذا ستفعلين بنصيبك يا امي ؟ 

اخوه الكبير ممازحاً : أكيد ستجري عمليات تجميل لإعادة صباها

- لا طبعاً ، فشكلي الهرم يناسب عملي ويُبعد الشبهات عني 

- تفكيرك مخيف يا امي ! 


الأم : على فكرة ، أقوم حالياً بجمع معلومات عن عائلة رونالد دين 

صديق ابنها : هل هم من الأثرياء ؟ 

- طبعاً ، والوالدان أنجبا ابنهما بعد عشرين سنة من علاج العقم ، وأكيد سيدفعون نصف ثروتهم لاستعادته .. 

- ومن أخبرك عنهم ؟ 

ماري : إكتشفتهم بالصدفة ، فالأغبياء يعرضون حياة صغيرهم المترفة على وسائل التواصل الإجتماعي .. ولأنهما نادراً ما يخرجان ابنهما الوحيد من القصر ، علينا إنتظار رحلتهم الى ملاهي ديزني بمناسبة عيد ميلاده قبل نهاية السنة  

- وكيف عرفتي هذه المعلومة يا امي ؟!

- أخبرتني مربيته بذلك ، هي ابنة صديقتي .. والخبيثة طلبت مبلغاً كبيراً لتطلعني على التوقيت المحدّد للرحلة .. لكن لا بأس ، فأرباحنا ستكون ضخمة ايضاً 


ابنها الصغير بضيق : لما تركّزين دائماً على الأطفال يا امي ؟

- ماذا تقصد ؟!

اخوه الأكبر بابتسامة ماكرة : اخي المنحرف يُفضّل الصبايا ، فهو أخبرني انه بالكاد أمسك نفسه عن إستغلال جسد المراهقة المثيرة

الأم بحزم : إيّاكم التفكير بالإعتداء على المخطوفين ، فهذا سيوّرطنا أكثر مع الأغنياء الذين سيصرّون على معرفة هوية المجرم الذي استغلّ ابنائهم ... لذلك سنكتفي بربط اولادهم وتنويمهم لحين دفعهم الجائزة ، هل كلامي مفهوم ؟!! 

فأومأ الشباب الأربعة رؤوسهم موافقين ..


وهنا سألها صديق ابنها : كيف خطرت ببالك الفكرة يا خالة ؟

- رأيت قصة متنبأة محترفة في القناة المخصّصة للجرائم .. فبحثت بالإنترنت عن أشهر متبصّرة في التاريخ ، لأجد (ماري جونسون) التي اشتهرت في القرن الماضي بحلّ عشرات القضايا المعقدة .. فصوّرت مقالات الجرائد التي تحدثت عن تنبؤاتها وإنجازاتها ، وعرضتهم على الأهالي ..

- الم يلاحظ احد وفاتها منذ مدة طويلة ؟!

ماري : لا ، حتى انهم لم يروا بطاقتي الشخصية المزوّرة .. فمصابهم الكبير أفقدهم رشدهم .. وربما شعري الشائب أوهمهم بأني سيدة وقورة  


ابنها الصغير : ولما اعتمدنا هذه الطريقة الغريبة ؟ لما لا تدعينا نحصل على مال الفدية كجرائم الخطف المعتادة ؟ 

امه : لوّ كنت مثقفاً مثلي لفهمت السبب .. فالشرطة بالعادة تسلّم الخاطف نقوداً بأرقام تسلّسلية محفوظة بحواسيبها , وأحيانا يصبغون اوراقها بحبرٍ سرّي لا يُرى بالعين المجرّدة .. وعند محاولة الخاطف صرف أموال الفدية ، يقبضون عليه فوراً

صديق ابنها : ما يضايقني يا خالة انك تطلبين منا الهروب فور سماعنا صافرات الشرطة ، مع اننا اقوياء ونستطيع مقاومتهم ببسالة؟

ماري : لن اراهن على خسارة أيّ واحدٍ منكم ، فأنتما ولدايّ ايضاً .. ثم لا حاجة للمقاومة ، طالما دفعوا لي مبلغاً ضخماً يكفينا جميعاً  


ابنها الكبير : طريقتك بالإحتيال أدهى من فكرة والدي المرحوم ! 

ماري : النصب عبر الإنترنت وتبيض الأموال التي اخترعها والدك نجحت مع بداية ظهور الإيميلات ورسائل النصّية لجوالات .. لكنها فشلت مع الجيل الجديد المُدرك للإحتيالات الإلكترونية .. لهذا اعتمدت هذه الطريقة المميزة للحصول على المال مباشرةً من الأهالي الذين يدفعون لي بسخاء ، فور عودة ابنائهم سالمين الى قصورهم


وهنا رنّ جوال ماري ، فأسرعت بإعطائه لإبنها :

- أجب انت 

وبعد قليل ، سأل امه بصوتٍ منخفض :

- انها عائلة ادموند ، يقولون ان رضيعهم خُطف قبل ايام

فسألت ماري الشباب : هل أحدكم متورّط بالموضوع ؟

- لا ابداً ، نحن لا نتعامل مع الرضّع 

- ابني .. قلّ لهم ان الرقم خاطىء ، واقفل الخط فوراً


فأنهى المكالمة ، وأعاد الجوال لأمه التي قالت : 

ماري : يبدو موهبتي الكاذبة إنتشرت بين الأغنياء ! لكني بالحقيقة لست مُبصّرة او مشعوذة ، ولا ملاكاً لأحلّ كل الجرائم الغامضة 

- الأغبياء لا يدركون انهم وقعوا في فخّ مجرمين محترفين 

- بل قلّ شياطين ، فإبليس نفسه لم يخطر في باله الخطّط المريبة لأمي الوقور 

وضحكوا بخبث !


الجمعة، 25 سبتمبر 2020

سحر التفريق

 تأليف : امل شانوحة

 

خططٌ شيطانية


في عصر ذلك اليوم .. أقفل الدكتور عادل عيادته ، وخرج من المبنى باتجاه سيارته ..

وبالكاد تحرّك بضعة امتار ، قبل اصطدامه بإحدى المشاة !

فخرج فزعاً ! ليرى صبيّة (16 سنة ، بائعة مناديل في الشارع) تنزف بغزارة من جبينها الذي ارتطم بمقدمة سيارته ..

فأصرّ على أخذها للعيادة ، لتقطيب جرحها قبل ان يتجرثم ..


وبعد ركوبها سيارته ، لاحظت ملصق الأطباء على الواجهة .. فسألته :

- هل انت طبيب ؟!

- نعم طبيبٌ نفسيّ ، لذا سآخذك الى زميلي في قسم الطوارىء .. (ثم نظر اليها) .. ما اسمك ؟ 

- هند 

- أعتذر يا هند ، فأنا لم ارك حين قطعتِ الشارع 

- لا بأس دكتور

الطبيب باستغراب : مع اني كنت أسير ببطء ! فكيف تسبّبتُ بجرحك العميق ؟!

- لا أذكر شيئاً .. (ومسحت دماء رأسها بالمنديل) .. بدأت أشعر بالدوار

- سنصل قريباً ، لا تقلقي 


هند : ماذا يعني طبيب نفسيّ ؟

- يعني أعالج الناس من عقدهم الطفولية ومشاكلهم مع عائلاتهم 

- لا أظن كل المشاكل لها حلول ، مثل علاقتي بجدتي اللعينة

الطبيب معاتباً : لا تشتمي كبار السن يا هند ، هذا غير لائق

- لكنها مشعوذة ماكرة

- تقصدين انها تعقد الأسحار للناس ؟!


هند : نعم .. عرفت ذلك بعد انتقالي للعيش معها ، عقب وفاة والدايّ .. كنت في العاشرة حين طلبت مني سكب سائلاً كريهاً على عتبة احدى المحلات التجارية .. ويبدو ان صاحب المتجر رآني من كاميرا البوّابة ، فانهال ضرباً عليّ وهو يشتم جدتي الشريرة .. عندها فقط فهمت سبب غموضها ، وبقائها لساعاتٍ طويلة في قبوٍ معتم ، وخروجها كل ليلة للقبور ، وربطها الشرائط الملونة على الأشجار ، ورميها القاذورات في بئرٍ جافّ ، وإشعالها حلقات النار في البيوت المهجورة

- وهل جعلتك ترافقينها الى تلك الأماكن المخيفة ؟!


هند : ليس دائماً .. (ثم تنهدت بضيق) .. بعد ازدياد فضولي عن عملها المريب ، سألت الجيران عنها .. فأخبروني انهم يتجنبونها خوفاً من أذيتها ، فهي تسبّبت بالكثير من الطلاقات وإفلاس التجار والأمراض المزمنة .. ولأني أخاف الله بعكسها ، قرّرت إبطال اعمالها الشريرة مهما كلّفني الأمر .. وصرت أراقبها لأعرف اماكن دفنها للأسحار .. وبعد ذهابها ، أنبش القبور لأزيل أعمالها الشريرة وأضعها قرب منازل اصحابها ، مع ملاحظةٍ مكتوبة : بأن يسارعوا بفكّ اسحارهم .. كما قمت بمسح رسوماتها الشيطانية على جدران وأرضيات المباني المهجورة .. وخاطرت بحياتي بالنزول للبئر الجاف المليء بالزواحف السامة ، لإخراج قاروات السحر التي وضعتها امام منزل شيخ منطقتنا المعروف بقدرته على فكّ الأسحار .. وكُدّت أكسر يدي اثناء تسلّقي الشجرة العملاقة لفكّ الشرائط وكسر الأقفال المعلّقة على أغصانها .. ورغم عملي بسرّيةٍ تامة ، الا ان الجنية التي تتعامل معها جدتي أخبرتها بما فعلت ، فرمتني  بالشارع دون رحمة ! ومن حسن حظي ان البائع العجوز أشفق عليّ ، ووظّفني ببيع المناديل الصغيرة في الشوارع مقابل أجرٍ زهيد  


الطبيب : واين تنامين ؟

هند : في الحديقة العامة او قرب الشاطىء الذي يصبح مخيفاً مساءً بعد خروج السكارى والمدمنين 

- هذا خطرٌ عليك ! فأنت مازلتي صبية ، وتحتاجين لبيتٍ يؤويك 

فتنهّدت هند بضيق : ليتني أعمل خادمة في منزل عائلةٍ محترمة ، لأكسب قوتي بالحلال 

الطبيب : سنفكّر بالأمر لاحقاً ، لنعالج جرحك اولاً

***


وبعد قيام زميله بتقطيب الجرح ، أخذه جانباً :

- هل أنت متأكّد انك صدمت الفتاة ؟

عادل : نعم ، لماذا تسأل ؟

زميله الطبيب : لأنه يبدو جرحها مشقوق بشفرة او سكين !

- كنت مشغولاً بجوالي وقت الحادثة ، ولم ارى ما حصل بالضبط 

- وهل ستعيدها للشارع ؟

- لا أعرف بعد ! أفكّر بمساعدتها ، فحياتها بائسة للغاية 

صديقه محذّراً : إنتبه يا عادل ، فأولاد الشوارع يكونوا بالعادة على صلة بشبكة مجرميّ التسوّل 

- هي ليست شحاذة ، وتعمل بشرف للكسب الحلال .. (ثم سلّم عليه) .. أشكرك يا صديقي على خوفك عليّ ، القاك لاحقاً

***


وركبت هند سيارته ، وابتعدا عن المستشفى .. 

وبعد قليل سألته :

- الى اين نذهب ؟

- سأشتري الشاورما والعصير لنا 

هند بارتياح : أحقاً ! انا جائعة جداً .. شكراً لك

 

وبعد ان أكلا ، سألته :

- هل ستعيدني للمكان الذي وجدتني فيه ؟

عادل : أتريدين ذلك ؟

- بالحقيقة لا .. فأنا لم أبعّ شيئاً من مناديل الجيب ، وهذا سيغضب البائع الذي وعدّته .. 

الطبيب مقاطعاً : لا تقلقي ، سأشتريها كلها  

- انت شهم دكتور ، شكراً لك 

- بصراحة أحاول مساعدتك ، لأني واجهت حادثة تشبه قصتك

هند بدهشة : أكانت جدتك ساحرة ايضاً ؟! 


الطبيب : لا ، لكني طلقت زوجتي عقب اكتشافي لعملٍ سحريّ في بيتي .. وبعد مشاجرة عنيفة معها ، إعترفت انها سحرتني لأطيعها وأعصي اهلي .. (ثم تنهد بارتياح) .. الحمد لله اني لم أنجب اطفالاً من تلك الشيطانة .. 

-  وهل تعيش وحدك الآن ؟

الطبيب : لا ، تزوجت امرأة ثانية قبل شهور 

- وهل تُسعدك العروس ؟

- هي انسانة طيبة والحمد الله


ثم فكّر قليلاً ، قبل إخراج جواله :

- أتدرين يا هند ؟ زوجتي طلبت خادمة قبل اسابيع ، لأن تنظيف الفلة يُرهقها كثيراً .. لكني رفضت دخول الغرباء الى بيتي ، لخوفي من الأسحار وعيونهم الحاسدة .. 

- وهل غيّرت رأيك الآن ؟

- دعيني اسألها اولاً ، ثم أجيبك


واتصل على زوجته ليخبرها عن هند ، والتي رفضت في البداية توظيف بنت شوارع .. لكن بعد تأكيده حسن سلوكها ، وافقت على طلبه 


وبعد انهاء الإتصال ، قال لها بابتسامة :

- الله يحبك يا هند 

هند بابتسامة : هل وافقت زوجتك على العمل لديكم ؟

- نعم ، واريدك ان تُريها شطارتك منذ الغد

بحماس : منذ اليوم ان أردّت !!

- لا ، انت متعبة من الحادث .. نامي الليلة ، وغداً تبدأين العمل بعد ذهابي الى العيادة

- كما تشاء دكتور عادل .. يا سلام !! اخيراً سأحصل على رزقٍ  حلال وثابت ، الحمد لله

فابتسم لها بحنان

***


في منزل الدكتور .. نامت هند في غرفةٍ موجودة بحديقة الفلة ، وهي سعيدة ببيتها الجديد ..


في الصباح .. وبعد ذهاب الدكتور الى عمله ، بدأت عملها بتنظيف الغرف 

واثناء مسحها الغبار , سألت زوجته :

- آسفة على السؤال ، لكن ما هذه الأشياء المعلّقة في سقف الغرف ؟

- هذه كاميرات ، رجاءً لا تلمسيها .. 

هند : أتقصدين ان الطبيب يراقبنا من خلالها ؟

- نعم ، فهو معقّد من زوجته الأولى ويكره الغرباء بسبب حادثةٍ قديمة

- تقصدين خوفه من السحر ؟

السيدة باستغراب : ومن أخبرك بذلك ؟!

- الدكتور عادل

- ولماذا يطلعك على اسراره ؟!

- لا ادري ..


(ولم تردّ هند إخبارها بشأن جدتها كي لا تخيفها ، فحاولت تغير الموضوع)

- هل أنظّف غرفة نومك ؟

السيدة : لا ..فزوجي يمنع دخول أحد اليها ، حتى امي واختي ! ولا اريد إغضابه 

- سأمسح أرضيتها وأخرج حالاً 


ففكّرت السيدة قليلاً ، قبل ان تقول : 

- حسناً الأرض فقط يا هند ، ولا تلمسي شيئاً آخر

- حاضر سيدتي


وأخذت أغراض المسح ، وذهبت لغرفة العرسان ..

وبعد قليل ، خرجت ..

السيدة : هل أنهيت مسح غرفتي ؟

هند : نعم .. سأخرج النفايات ، ثم أعود لإكمال عملي

- حسناً , إنتبهي اثناء قطعك الشارع 

- لا تخافي عليّ ، فأنا عشت قرابة السنة في الشوارع 

- آه نسيت !

***


خارج الفلة .. وقفت هند قرب حاوية النفايات ، وأخرجت جوالها التي كانت تخفيه في ملابسها .. واتصلت على رقمٍ محدّد ، قائلةً بصوتٍ منخفض : 

((الو جدتي .. نفذت المهمّة .. إخبرني زبونتك انني وضعت السحر أسفل فراش الطبيب .. وخلال شهر واحد ، سيُطلّق عروسته ويعود اليها .. وقبل ان أنسى ، هذه المرة ستضاعفين أجري .. (بنبرةٍ غاضبة) .. أتسألين لماذا ؟!! لإني شوّهت جبيني بالشفرة ، بعد مراقبة عيادة الطبيب لساعتين في طقسٍ حار ورطب .. وقضيت اليوم في تنظيف فلته .. كل هذا التعب ليس مجاناً يا جدتي العزيزة .. نعم ، قادمة اليك بعد قليل .. سلام)

وأغلقت جوالها بعصبية :

- أعرف ان جدتي البخيلة لن تعطيني الكثير ، لذا أخذت احتياطاتي


وفتحت كيس الزبالة الذي حوى بالحقيقة : ذهب العروس وبعض ثيابها وأحذيتها الغالية التي سرقتهم من خزانة غرفتها ..

قائلةً في نفسها :

(سأبيعهم قبل عودتي الى وكر جدتي)


ثم نظرت نظرة أخيرة للفلة ، وبنبرةٍ حزينة :

- آسفة دكتور عادل لخيانة ثقتك بي .. ليتك أبقيت على حرصك ووضعت كاميرا أخرى في غرفة نومك ، لما تجرّأت على تنفيذ خطة جدتي .. أعتذر منك ، لكن الأشرار يفوزون دائماً في هذه الدنيا الظالمة ..


ومضت في طريقها دون رجعة !  


الاثنين، 21 سبتمبر 2020

هوس الشهرة

 تأليف : امل شانوحة

حلم النجومية


في وقت الظهيرة .. واثناء تناول ديانا الغداء مع ابنائها الثلاثة في المطبخ ، عاد والدهم من عمله وهو يقول بحزم :

- لن تدخلوا الملهى قبل رؤية بطاقتكم الشخصيّة !!

ديانا باهتمام : هل حصلت على الدور ؟

فأجاب زوجها بحماس : نعم !! سأكون حارساً لملهى ليليّ في فيلم أكشن بإنتاجٍ ضخم  

ابنه الأكبر : وكم ستظهر في الفيلم يا ابي ؟

فأجابه : دقيقتان فقط 

فضحك اولاده عليه .. 


ديانا : أكل هذا الحماس لدور كومبارس صغير ؟!

مايكل : كل الفنانين بدأوا مسيرتهم بأدوارٍ ثانوية .. وقريباً سأصبح فناناً مشهوراً بعد حصولي على جائزة ..

فأكمل اولاده العبارة باستهزاء : الأوسكار !!

والدهم بعصبية : بالتأكيد !! فلا احد متفاني بعمله مثلي .. وعقاباً على سخريتكم ، لن ترافقوني الى حفلات التكريم المستقبلية 

زوجته بضيق : الم تعدني صباحاً بالبحث عن عملٍ جدّي ؟ فراتبي كمعلمة لا يكفي مصاريفنا 

زوجها بغضب : وهل تريني أضيّع الوقت ؟!! انا أسعى دائماً لدورٍ يرفع مستوانا ويجعلنا من الأثرياء


ابنه الأكبر : ابي عمرك 45 ، وكبرت على ادوار البطولة

ابوه : وهذا ما يغضبني منكم !! فلوّ لم تكونوا كسالى ، وضغطّم على انفسكم لحفظ سيناريوهات افلام الأطفال والمراهقين ، لنال احدكم دور البطولة 

اولاده الثلاثة بضيق : نحن لا نحب التمثيل يا ابي !! 

الأب بغرور : اساساً لا أحد يملك موهبة التمثيل سوايّ 

زوجته : المهم الآن ، كم سيدفعوا لك ثمن تصوير دقيقيتن في الفيلم؟

زوجها : 70 دولار

فضحك اولاده بسخرية ..


الأب : لولا نفسيتي الجيدة ، لعاقبتكم جميعاً 

زوجته : مايكل عزيزي , لما ترفض الذهاب الى طبيبي النفسيّ لتحدّثه عن هوسك بالشهرة !

زوجها بلؤم : انت أعصابك متعبة من التلاميذ .. اما انا ، فبصحةٍ جيدة .. ولن أسمح لطبيبك بإقناعي التخلّي عن حلم حياتي

فتنهدت زوجته بضيق : مايكل ..الشهرة هو حلم امك ، هي من أجبرتك على الإشتراك بمعظم المسرحيات المدرسية وحفلات الأطفال .. ولست مرغماً بالمضيّ في هذا الطريق الشاقّ !  

الإبن الأوسط : جدتي تعامله كفنانٍ مشهور ! وبسبب دلالها ، نعاني نحن من قلّة المصروف 

الأب بغضب : أسكت يا ولد ، والاّ ضربتك !!


ديانا : حسناً ليهدأ الجميع ، ولنتناول طعامنا بسلام

مايكل : بدأت حميتي الغذائية ، فدوري يتطلّب ان أكون رشيقاُ

الإبن الأكبر : الحرّاس بالعادة يكونوا مفتوليّ العضلات

الأب : أعرف هذا .. (واقترب من زوجته) .. ديانا ، أحتاج 300 دولار للتسجيل في نادي رياضيّ

زوجته : لن تنمو عضلاتك بهذه السرعة

مايكل : سيبدأون تصوير الفيلم بعد شهرين ، ووعدّتُ المخرج ان أتمرّن بجهد الى ذلك الحين 

فأجابته بضيق : آسفة يا مايكل ، فالمصروف بالكاد يكفينا لآخر الشهر

فردّ بعصبية : لا اريد شيئاً منك !! سأستلفّ من امي , هي الوحيدة التي تقدّر موهبتي ايها الفاشلين

وخرج غاضباً من المنزل ، بعد صفقه الباب بعنف ..


الإبن الأوسط بحزن : ليتك لم تتزوجي هذا الفاشل 

امه معاتبة : تأدّب يا ولد !!

اخوه الأكبر : هو يقول الحقيقية ، فأنت من تصرفين على المنزل  

فتنهّدت بضيق : أُغرمتُ بوسامته حين كنت مراهقة ، وبسبب غبائي أعمل دوامين لتسديد الفواتير ..

ابنها الأكبر : فور تخرّجي من الثانوية ، سأبحث عن عمل لمساعدتك يا امي

- ليس قبل تخرّجك الجامعي ، مفهوم !!

- هذا إن أبقى ابي مالاً لجامعتي ، فهو يصرف اموالنا على الكريمات والعطور والأدوات الرياضية ليبقى وسيماً لتحقيق حلمه السخيف


اخوه الصغير : المهم ان لا يجبرني على حفظ النصوص ثانيةً ، فهي طويلة ومملّة للغاية

الأخ الأكبر : المسكين ، كان يوقظه فجراً في ايام العطل لأخذه الى ولايةٍ ثانية لإمتحانات التمثيل لشركة والت ديزني

الأخ الأوسط : لوّ لم تمنعه امي ، لكنا لليوم نحفظ السيناريوهات الطويلة ! وكأن وظائفنا المدرسية لا تكفي 

الأم : لا تتشاءموا هكذا .. فربما قريباً يحصل والدكم على دور البطولة ، وتتغير حياتنا للأفضل كما يحلم دائماً 

- وهل تظني يا امي انه سيُكافىء جهودك وصبرك في حال أصبح غنياً ومشهوراً ؟ 

اخوه : بالتأكيد سيهجرك ليُصاحب فنانة رشيقة وجميلة تُناسب مستواه الجديد

فسكتت الأم بضيق ، لأنها إحدى مخاوفها بالفعل !  

*** 


ومرّت الشهور .. ومايكل لم يحصل الا على ادوارٍ بسيطة بأجرٍ زهيد ، لكنه مصرّ على تحقيق حلمه مهما كلّفه الأمر !


وفي أحد الأيام .. عاد بيده نصّاً سينمائياً ، وقال لزوجته بحماس :

- يريدون سيدة في نفس مواصفاتك للقيام بالدور

- انا مشغولة يا مايكل ، ولا وقت لديّ للتمثيل 

- رجاءً اقرأي النص قبل رفضه 


وما ان قرأت سطوره الأولى ، حتى صفعته بغضب :

- أتريديني ان أمثّل فتاة ليل !! هل انت مجنون ؟

مايكل : ستكون بداية شهرتك

فصرخت بعصبية : أحلف يا مايكل ان لم تغرب عن وجهي الآن ، سأرفع دعوى طلاق وحضانة اولادك ، وأحرمك منهم للأبد !! اساساً انا من يصرف عليهم.. 

مقاطعاً بضيق : حسناً اهدأي , اصلاً لا تملكين موهبة التمثيل  

ودخل غرفته ، تاركاً زوجته تشتعل من الغضب ..

***


وبسبب هوسه ، إعتادت عائلته على تقمّصه شخصياتٍ متعدّدة لبعض الوقت ، قبل اداء دوره امام لجنة اختيار الممثلين .. 

فحين اشترك في فيلمٍ موسيقيّ : اشترى بيانو لتدرّب عليه ، أملاً بالحصول على دور البطولة لقصة عازفٍ مشهور .. ودرس طريقة العزف بالإنترنت التي ضايقت عائلته وجيرانه .. ولم يتوقف عزفه المزعج ، الا بعد اختيار المنتج لبطل فيلمه من المشاهير .. ليبدأ نوع آخر من الإزعاج وهو الرقص النقريّ ، رغبةً منه ليكون أحد راقصيّ الفيلم .. لكنهم اختاروا متسابقين يملكون خبرة في هذا المجال ، بعكسه 


وفي فيلمٍ آخر يحكي قصة طبيب بيطريّ : استأجر مايكل مجموعة من القطط والكلاب لتدريبها في المنزل من أجل الدور

لكنهم كالعادة , اختاروا غيره ..


وحين قُبل أخيراً في دور كومبارس بفيلم كارتيه : عاد لمنزله بيدٍ مُجبّرة بعد تحمّسه في مشهد ضربه للبطل الذي ابتعد في آخر لحظة ، لترطم يده بالجدار وتنكسر كسراً مضاعفاً ! 

لكن مايكل لم يهتم للألم ، متوهماً أن إتقانه للدور سيفتح مجالاً لأدوارٍ أفضل.. وهذا لم يحصل بعد !


وازداد جنونه مع الأيام ! حيث غيّر قصّة شعره وملابسه على حسب الفيلم المراد تمثيله .. ولبس ملابس قديمة تعود لزمن الخمسينات والسبعينات لإتقان ادواره المختلفة ، غير آبه بسخرية الجيران والأصدقاء .. فتركيزه مُنصبّ على هدفه أن يكون أحد المشاهير ، مهما طال الزمن .. لدرجة انه كتب خطاباً مؤثراً ألقاه امام عائلته : لما سيقوله للجماهير لحظة تتويجيه بجائزة الأوسكار ! 

 

ليس هذا فحسب ، بل استأجر مصوراً للحاق به وتصويره اثناء وجوده بالأماكن العامة.. ورشى بعض الصغار بالحلوى لتوقيع قمصانهم امام الناس ، لإيهامهم أنه شخصٌ مهم ومشهور .. 

عدا عن نشره قصة كفاحه ونجاحه المرهق في جميع وسائل التواصل الإجتماعي ، كأنه وصل للنجومية بالفعل !  

 

ولأنه يعيش وهم الشهرة ، أجبر عائلته على لبس أجمل ثيابهم عند خروجهم معه ، كعائلة الفنان البطل .. الى ان اتفقوا على الخروج دونه ، بعد تعبهم من تدقيقاته بأقل التفاصيل في لبسهم وطريقة تصرّفهم امام العامّة ! 

*** 


وفي تلك الأمسية الباردة ، وبعد قراءته لنصّ فيلم رعب .. عاد الى بيته ونار الغضب تشتعل في صدره .. 

فقال له ابنه الأصغر : لا تحزن يا ابي , سيختارونك بالفيلم القادم

وهنا فاجأهم بإخراج مسدسٍ من جيبه , ووجّه نحوهم !


فضحك ابنه الكبير : هل ستمثّل دور القاتل في الفيلم الجديد ؟

فأجابه بلؤم : بل سفّاح مُتسلّسل .. وهذه المرة سأكون البطل في فيلمٍ دمويّ لخمسة اجزاء متتالية 

فهلّلت زوجته بفرح : اخيراً قبلوك بدور البطولة ؟!! 

مايكل بجدّية : نعم .. والآن لنبدأ التمثيل .. 3-2- 1.. آكشن !!!


فابتسمت عائلته ، لظنها ان مسدسه لعبة .. لكنهم شهقوا بفزع بعد تلطّخهم بدماء الإبن الأوسط ، عقب تفجير الأب لرأسه ! 

وانطلقوا في ارجاء البيت محاولين الهروب من والدهم المجنون الذي لحقهم الى الطابق العلويّ ، وقتل ولديه بدمٍ بارد .. ثم أمسك بذراع زوجته وضربها بوحشيّة بالمسدس على رأسها ..


وحين سمع الجيران صراخها الهستيريّ ، إتصلوا بالشرطة التي اقتحمت بيتهم .. ليروه يُفرغ مسدسه في جثة زوجته ! 

فهجموا عليه وكبّلوا يديه .. وأخرجوه بالقوة ، ليشاهد جيرانه مجتمعين امام بيته .. فصرخ لهم قائلاً :

- لا تصفّقوا الآن !! الفيلم لم ينتهي بعد .. والمخرج لم يقلّ : CUT .. لما أوقفتموني في ذرّوة إندماجي بالتمثيل ؟ مازال عليّ قتل ثلاثين شخصاً ، لأصبح سفاحاً متسلّسلاً .. لا تفسدوا السيناريو الرائع !!

***


لاحقاً .. حكمت المحكمة الجنائية (بناءً على تقرير الطبيب النفسي) : أن هوسه للشهرة أوصله لحدّ الجنون ! 

وأُرسل لمستشفى المجانين بقسمٍ خاص لمرتكبيّ الجرائم بحراسةٍ مشدّدة ، والذين عانوا من طرقاته العنيفة على الباب , وصراخه الدائم من داخل سجنه الإنفراديّ :  

((قتلت عائلتي لأتقن دور السفّاح .. والشرطة أوقفتني قبل المشهد الختاميّ .. فيلمي لم ينتهي بعد ، عليّ إكماله للحصول على الأوسكار .. أنا أفضل ممثل بالعالم !! انا رجلٌ مشهور !! انا نجمٌ عالميّ !!!!!)) 


ويظلّ يردّد ذات العبارات كل ليلة ، الى أن يُعطى إبرة مخدّر تجعله ينام بسباتٍ عميق !  


الجمعة، 18 سبتمبر 2020

مدفون حيّاً

تأليف : امل شانوحة 

طعنة غدر !


ظلامٌ دامس .. مكانٌ ضيّق .. أنفاسٌ خانقة .. ومخاوف سيطرت على كل جوارحه ، بعد استفاقته مُحتجزاً في مكانٍ مجهول ! يبدو كصندوق خشبيّ ، بالكاد يستطيع التقلّب داخله .. 

أخرج جورج ولّاعته من جيبه وأضائها ، وليته لم يفعل ! فقد تحقّقت اسوء كوابيسه : مدفون حياً في تابوتٍ تحت الأرض !


فماذا حصل ؟ هل تعرّض لنوبةٍ قلبية مفاجئة او حادثٍ مروريّ ؟ ام انه تعارك مع أحدهم ، فانتقم منه بهذه الطريقة الوحشية ؟ لابد انه حدث عراك ما ، فذراعيه اللتان تؤلمانه كبقية جسده مليئة بالرضوض والخدوش ! فلما أراد أحدهم قتله ؟ فهو رجلٌ مسالم لم يؤذي احداً ، رغم عمله كحارسٍ شخصيّ !

حاول استرجاع الماضي ، لكن تفكيره ظلّ مشوّشاً .. وآخر ما تذكّره هو لحظة خروجه من الطائرة ..


ولأن الوقت يمرّ بسرعة ، وكل ثانية تُحسب من حياته .. كان عليه الإختيار بين قرارين صعبين : اما الإنتظار لحين نفاذ الهواء في التابوت والموت بسلام ، او محاولة الخروج من الجحيم مهما كلّفه الأمر .. 


وبدأ يفكّر بطريقة لفعل ذلك دون المخاطرة بحياته : ففي حال كسر الخشب العلويّ ، سيهبط الرمل عليه ويقتله إختناقاً .. اذاً الأفضل لوّ يتصرّف بطريقةٍ معكوسة ..

فبدأ يطرق بكلتا قدميه بقوة ، الى ان خرق الجزء السفليّ للتابوت .. 


ثم تكوّر على نفسه ، ليتمكّن من الوصول الى الحفرة الصغيرة التي بدأ يكسرها بيديه ، الى ان صار بإمكانه المرور منها.. 

وحين لمس التراب اسفل التابوت وجده موحلاً ، فعلم انها أمطرت قبل قليل .. فتمتّم قائلاً :

- سأحفر نفقاً يوصلني للأعلى ..


وبدأ يُخرج الطين من الأسفل ، ويدخله من الفتحة .. ليكدّسه في مقدّمة التابوت.. 

هكذا الى ان تمكّن من إنزال قدميه ..

ولم يبقى امامه سوى المجازفة بعد امتلاء التابوت بالطين .. 


فنزل الحفرة بعد أخذه نفساً عميقاً .. ثم كتم انفاسه وهو يحفر بكلتا يديه  صعوداً للسطح الذي لم يبعد سوى نصف متر عن التابوت ، وكأنه دُفن على عجل ! 

  

وفور إخراج رأسه من الحفرة ، تنفّس الصعداء .. 

ثم جمع ما تبقى من قوته لدفع جسمه للأعلى ، الى ان تملّص تماماً من القبر 


فاستلقى على الأرض ، مُلتقطاً انفاسه المتسارعه .. وقد أوشك على الإغماء من شدة التعب ، لكن مخاوفه أن يكون القاتل قريبٌ منه ، جعله ينهض لاستكشاف المكان الذي لم يكن سوى ارضاً قاحلة موحلة ، ليس فيها مقابر أخرى ! 


ومع الظلام الحالك ، ظهرت اضواءٌ خافتة من بعيد 

فمشى باتجاهها ، ليتبين أنها انوار فوانيس عُلّقت على ابواب اكواخٍ قديمة!

***


واثناء تجوّله في القرية الريفية ، قابل بعض الأشخاص جميعهم من البشرة السمراء ، الذين هربوا فزعاً حين حاول محادثتهم !

فتذكّر فيديو قديم شاهده عن الزومبي الإفريقي : لأشخاص أُستعبدوا بعد خروجهم أحياء من القبور ، لاعتقاد ذويهم ان الجن تلبّست بجثثهم 

ربما هذا ما أخافهم ، بعد رؤيتهم لملابسه الموحلة ووجهه الشاحب !


فأكمل سيره تائهاً وهو يشعر بعطشٍ شديد ، ويتمنى لوّ السماء تمطر ثانيةً .. فهو بالكاد يستطيع الوقوف على قدميه من شدة التعب 

وأوشك على الإنهيار والإستسلام ، قبل رؤيته لكشكٍ صغير يبيع المنتجات الغذائية ..


فأسرع الى ثلاجتها القديمة وهو يشير على قارورة الماء .. لكن البائع كبقية افرد القرية لا يعرف الإنجليزية او الفرنسية ..

الا ان جورج فهم من إشارة يده : ان عليه دفع ثمنها اولاً 

فبحث في جيوبه مطولاً ، دون ان يجد شيئاً .. 


حينها فقط ! إنتبه أنه يلبس ملابس صديقه مايكل .. وتأكّدت شكوكه بعد رؤيته لأزرار الأكمام الذهبية التي كان يتباهى دائماً بتشكيلته الفريدة منها..

وبينما هو شارد بأفكاره ، لاحظ إبتسامة البائع وهو يشير الى الزرّ الذهبيّ 


فنزع جورج إحداها واعطاها له ، مقابل قارورة ماء التي شربها بثوانيٍ لشدّة عطشه 

وبعد ارتواء ظمئه ، اراد إستعارة جوّال البائع الذي أشار بابتسامةٍ عريضة الى الزرّ الثاني للقميص 

فنزعه جورج واعطاه له ، مقابل استخدام جواله لبعض الوقت.. 


ومن حسن حظه ان الإنترنت يعمل جيداً ، كأن هناك محطة اتصالات قريبة من القرية !

فقام ببحثٍ سريع على جوجل لمعرفة اسم البلد الأفريقي الذي هو فيه ، بعد رؤية علمها يُرفّرف فوق عامود الإنارة خارج القرية ..

فعلم انه في زيمبابويّ ..

- زيمبابويّ !

قالها بصوتٍ مسموع ، ليرى البائع يهزّ رأسه إيجاباً ..


فقرأ بعض المعلومات السريعة عن الدولة من (ويكيبيديا)..قائلاً في نفسه :

(غريب ! اللغة الرئيسية في المدن الكبرى هي الإنجليزية ، لأنها كانت مستعمرة بريطانية .. ولسوء حظي علقت في قرية لا يتكلمون سوى لغتهم (الشونا) .. لكن طالما هناك 2 في المئة من السكّان اجانب ، لابد ان يكون هناك سفارة تهتم بشؤونهم او على الأقل قنصلية)


بهذه اللحظة ! إستعاد جزءاً من ماضيه : حين فاجأه صديقه مايكل برحلةٍ سياحية الى افريقيا .. وكان على جورج مرافقته ، بما أنه حارسه الشخصيّ .. فوالد مايكل هو محامي مشهور وثريّ ، والمرشّح الأول لرئاسة مجلس العموم البريطاني .. اما ابنه الفاشل فاعتاد صرف الأموال على رحلاته السياحية ، لتحقيق حلمه بزيارة دول العالم .. ولأنه من اسرةٍ ثرية ، فرقمه الدوليّ مميز ومن السهل تذكّره .. فاتصل عليه ، آملاً ان يكون بخير .. لكن خطّه كان مغلقاً على غير عادته ! فهل سُرق جواله من نفس العصابة التي قامت بدفنه حياً ؟  


وهنا انتبه على البائع يُطالبه بإعادة جواله .. فترجّاه جورج لإجراء اتصالٍ أخير .. فوافق البائع متأفّفاً .. 

فأجرى جورج بحثاً سريعاً على جوجل ، لإيجاد رقم سفارةٍ اجنبية في زيمبابويّ .. ليقوم بتسجيل رقم القنصلية البريطانية على يده .. ثم اتصل بهم , رغم شكوكه أن تكون مغلقة بهذا الوقت المتأخر .. 


ومن حسن حظه ان موظفاً أجابه باللغة الإنجليزية .. فتنفّس جورج الصعداء , وهو يقول : 

- اسمي جورج دايموند , بريطاني الجنسية .. وصلت برفقة السيد (مايكل اندرسون) الى هنا قبل يومين .. وانا تائهٌ الآن في إحدى القرى التي لا اعرف لغتها ، واريد الوصول الى قنصليتكم .. فهناك من حاول دفني حياً .. ارجوك ساعدني !!

الموظف : لحظة ! دعني أفهم .. انت تعمل لدى مايكل اندرسون ، ابن المحامي البريطاني آدم اندرسون

- نعم , المرشّح لرئاسة مجلس العموم في الشهر القادم .. وابنه صديقي منذ ايام الجامعة ، وأعمل حارسه الشخصيّ .. وانا قلقٌ على مصيره 

- ما آخر شيء تتذكّره ؟ 


جورج : سكرنا سوياً في إحدى فنادق زيمبابويّ .. واستيقظت قبل ساعتين داخل تابوتٍ ، مدفون خارج قريةٍ ريفية .. وأخشى ان يكون صديقي مدفوناً حياً في مكانٍ ما !  

- لا أظن ذلك 

جورج بدهشة : لما انت واثقٌ هكذا ؟!

- سأخبرك لاحقاً .. من اين حصلت على الجوال ؟

- من بائع كشكٍ افريقي ، يريد استرجاعه الآن

الموظف : دعني أكلّمه لأعرف عنوانك بالضبط .. ثم أعيدك الى فندقك ، او اوصلك الى المطار

- نعم رجاءً


واعاد الجوال الى البائع الذي تكلّم مع موظف القنصلية بلغته الأفريقية .. ثم أعطى الجوال ثانيةً لجورج ، ليسمع الموظف يقول له:

-إسمع سيد جورج .. هناك فندقٌ قريب من المنطقة التي انت متواجد فيها الآن .. سأتصل بهم لأتأكّد أن اسمك واسم صديقك مقيّدان في سجلاّتهم.. 

جورج مقاطعاً بضيق : تلك التفاصيل غير مهمة الآن .. تعال وخذني رجاءً!!


الموظف : سآتي قريباً .. طلبت من البائع تخبأتك لحين قدومي ، فهناك عصابات مسلّحة تخطف الأجانب والسوّاح لطلب الفدية .. وهو في المقابل طلب مني مبلغاً كبيراً ، سيكون ديناً عليك 

جورج : انا بالعادة استودع مالي في صندوق الأمانات للفنادق التي أحجز فيها ، سأدفع لك ما تشاء حين تعيدني الى هناك 

- حسناً ، القاك قريباً .. سلام


وأعاد جورج الجوال للبائع الذي فتح له باب كشكه الصغير.. وخبّأه اسفل طاولته ، بعد ان أعطاه علبة فاصوليا وسردين ومشروباً غازياً .. أكلهم جورج على عجل من شدّة جوعه ..


وما ان انهاهم ، حتى سمع مركبةً حربية تقترب من الكشك .. فأشار البائع له بالتزام الصمت .. فظلّ جورج مختبأً ، لحين استيلاء المسلحين على بعض حاجيات البائع دون دفع ثمنها ، وذهبوا بعيداً 

***  


بعد ساعة أحسّها جورج كأنها دهر ، وصل الموظف الإنجليزي وهو ينادي بصوتٍ عالي : 

- جورج اين انت ؟!! 


وما ان سمع لكنته البريطانية ، حتى خرج من تحت الطاولة وهو يشكر الربّ على انتهاء الأزمة .. 

وبعد دفع الموظف المبلغ المتفق عليه للبائع ، إستقلّ جورج سيارته السوداء وانطلقا باتجاه المدينة .. 

*** 


في السيارة .. وبعد ان أخبره جورج بملخّص ما حصل له ، قال له الموظف :

- انها تجربة مؤلمة بالفعل ! الحمد الله على سلامتك

جورج : شكراً لك .. وآسف لتوسيخ سيارتك بثيابي الموحلة 

الموظف : لا بأس .. فصديقك دفع كامل المصاريف للإهتمام بك

- أتعني انك تواصلت مع مايكل ؟! هل هو بخير ؟ 

- ليس هذا ما قصدّته .. هو طلب مني البقاء في القنصلية حتى الصباح ، في انتظار مكالمتك او خبرٌ عنك .. فهو توقع نجاتك لقوتك البدنية ، وأنك ستتصل بنا لإنقاذك 

جورج باستغراب : لم أفهم شيئاً !


فنظر الموظف الى ملابس جورج وهو يقول :

- الم تتساءل كيف لبست ثياب السيد مايكل ؟

- أظني لبستها بالخطأ وانا سكران

الموظف : لا ، هو ألبسك إيّاها بنفسه

- أشرح اكثر لوّ سمحت 

- باختصار .. سكرتما سوياً في غرفته ، الى ان أغميّ عليك .. فتركك ونزل الى الشارع .. وهناك رأى صبية بعمر الزهور ، لحقها بين الأزقّة الى ان اعتدى عليها .. 

جورج مقاطعاً بصدمة : ماذا !


الموظف : نعم ، وحارس الفندق شاهد ما حصل بالصدفة .. فأخبره بعد هرب الفتاة باكية ، انها ابنة زعيم قريةٍ معروف ببطشه وجبروته واتباعه المسلحين .. فأسرع مايكل فزعاً الى غرفته .. وبدّل ملابسه معك ، ووضع كمّامته الثمينة على وجهك .. 

جورج بصدمة : اللعين !

- لم يكتفي بهذا فقط ، بل حقنك بمخدرٍ قوي حتى لا تستيقظ لحين سفره .. وأعطى رشوة للحارس ليدلّ افراد قبيلتها عليك ، في حال هجموا على الفندق 

جورج والدموع في عينيه : لا أصدّق ما اسمعه ! 


الموظف : وحين وصل مايكل للمطار ، إتصل بمكتبي .. وحوّل مبلغاً كبيراً على حسابي ، لأسهر وحدي في القنصلية .. مع اني أخبرته ان لا أحد ينجو من غضب تلك القبيلة الهمجية ..الا انك فاجأتني باتصالك ! تماماً كما توقع صديقك ..  

جورج : وهل فعلاً قدموا الى الفندق ؟

- طبعاً .. فوالدها جنّ جنونه بعد ان أخبرته بما حصل .. فهجم على الفندق برفقة 20 رجلاً مسلحاً .. وعلى الفور دلّهم الحارس المرتشي على غرفتك .. فانهالوا ضرباً عليك ، بعد تأكيد الفتاة إنك الشخص المعتدي : فأنت تلبس ملابس مايكل ، وكذلك كمّامته التي أخفت نصف وجهه اثناء ارتكابه الجريمة.. 

- واعتقدوا انني ميت بسبب المخدّر ؟


الموظف : مايكل خطّط لكل شيء .. واتفق مع الحارس ان يقول لهم : أنك انتحرت فور إفاقتك من سكرك وتذكّرك جريمتك ، لأنك لم تتحمّل تأنيب الضمير .. وهم تأكّدوا من موتك ، لعدم تجاوبك مع لكماتهم وركلاتهم القاسية .. فأخذوك معهم ، لدفنك خارج قريتهم .. هذا كل شيء

جورج بنبرةٍ غاضبة : أتدري مالذي سأفعله باللعين بعد عودتي لبلادي ؟

الموظف ناصحاً : لا تتهوّر ، فوالده رجلٌ مهم ولديه معارف كثيرة .. وفضيحةٌ كهذه ، تُفقده منصب رئاسة مجلس العموم 


جورج صارخاً بحنق : لا يهمّني أمرهما !! فالحقير لم يهمّه سوى إنقاذ نفسه .. لذا أحلف انني سأجرّجره للمحاكم ، وأعاقبه على خيانة صداقتنا ل15 سنة .. ولن أهدأ الى أن أدمّر سمعته ومنصب والده وثروته ، ليعودوا فقراء كما كانوا !! 

- وهذا ما كان يخشاه الأستاذ مايكل ! لذلك دفع مبلغاً كبيراً لإتمام المهمّة  

جورج بقلق : ماذا تقصد ؟!

الموظف بلؤم : الم تفهم بعد ؟ هو لا يريد شهود على جريمته ، لذلك قتلتُ حارس الفندق قبل وصولي اليك 


وفجأة ! تبلّل وجه جورج برذاذ بخاخ المخدّر الذي رشّه الموظف المرتشي عليه..

فحاول إيقافه جاهداً ، لكنه اشتمّ جزءاً كبيراً من المخدّر القوي ، جعله ينهار نائماً على كرسي السيارة الأماميّ ..

***  


قطرات المطر المُتسرّبة من شقوق التابوت الخشبيّ على وجه جورج أيقظته ، مُتزامناً مع هدير الرعد في الخارج ..

ليجد نفسه مُحتجزاً في مكانٍ ضيق .. فصرخ بضيق :

- يا الهي ! ليس ثانيةً !!


وأخرج بيده المرتجفة الولاّعة من جيبه ، ليرى ورقةً مُلصقة على صدره مكتوباً فيها :

((تركت الولاّعة في جيبك لتقرأ الملاحظة : عزيزي جورج .. لا تحاول الخروج هذه المرة ، فأنت مدفون على بعد ثلاثة امتار من سطح الأرض بعد إقناعي رئيس البلدة انك مُتّ بالكورونا .. حاول تقبّل فكرة أن حياتك انتهت اليوم ، واستغلّ لحظاتك الأخيرة في الدعاء .. ولا تحقد عليّ ، فأنا عبدٌ مأمور .. اما صديقك الغادر ، فسيُعاقب يوماً ما في الجحيم))

 

فنزلت دموع جورج على وجنتيه ، وهو يشعر بقطرات الماء تغمر تابوته شيئاً فشيئا  .. 

ومع غزارة الأمطار في الخارج ، إزداد ثقل الوحل فوق التابوت .. أدّى بالنهاية لتحطّم خشبه الرديء .. ليُردم التراب فوق وجهه ، ويلقى حتفه بطعنة غدرٍ من صديق العمر !


الاثنين، 14 سبتمبر 2020

الإبن الأوسط (قصة أطفال)

 تأليف امل شانوحة

علّية القصر


كان جيمي (12 سنة) الأخ الأوسط لإحدى عشر ابناً للثريّ آدم أندرسون .. ترتيبه السادس بينهم ، وهو أضعفهم شخصية.. لذلك لم يولِ إخوته إهتماماً بآرائه وأفكاره ، كأن لا وجود له ! 


اما والده فاعتاد أخذ قراراتٍ مصيرية لعائلته دون مشاورتهم ، لهذا فاجأهم قبل ايام من بدء المدارس بخبر إنتقالهم الى قلعةٍ أثريّة قديمة أُعيد تجديدها ! مما أغضب زوجته لبعدها عن الأحياء السكنية ، وتواجدها بأطراف قريةٍ إنجليزية .. بعكس اولاده الذين فرحوا بالإنتقال لقصرٍ ملكي فيه العديد من غرف النوم .. وهذا يعني ان كل واحدٍ منهم سيحظى بغرفته الخاصة ، عكس فلتهم القديمة الذين تشاركوا غُرفها ، مما تسبّب بالعديد من الشجارات بينهم

***


بعد اسبوع أمضوه في حزم أمتعتهم .. وصلوا للقصر بحلول الظلام ، بعد رحلةٍ دامت ست ساعاتٍ متواصلة .. 

وكان الوالدان مرهقين تماماً ، بينما الأبناء الذين تتراوح اعمارهم بين (17 و5 سنوات) في قمّة نشاطهم وحماسهم وهم يتراكضون في ارجاء الحديقة الواسعة ..  


ثم تجمّعوا امام والدهم ، اثناء فتحه الباب الخشبي الضخم للقصر (الذي يُشبه قلاع القصص الخيالية) .. 

وفور إشعاله انوار القصر ، إنطلقوا بفرح بين طوابقه الثلاثة لاختيار غرفهم .. 


وبالطبع لم يحصل جيمي على أيٍّ من الغرف الكبيرة التي كانت من نصيب اخوته الكبار .. كما فضّل والداه إعطاء الغرف المجاورة لجناحهم لأبنائهما الصغار .. 


فلم يكن امامه سوى العلّية .. فصعد بحذر على أدراجها الضيقة الكئيبة المثيرة للرعب ، مُتوجهاً للغرفة العلويّة .. 

ولأنه انطوائيّ بطبعه ، لم يجد مشكلة بالعيش بعيداً عن صخب اخوته 

***


حين فتح باب العلّية .. وجد غرفتها لا تتعدّى الثلاثة امتار : فيها سريرٌ صغير ومدخنة وخزانة حائط .. 

فاستلقى على السرير وهو ينظر بشرودٍ وضيق نحو السقف الخشبي القريبة منه ، بجسمٍ مُرهق من رحلتهم الطويلة.. 

وانتبه على وجود حفرة بالحائط فيها فانوس قديم ، فالكهرباء وُصّلت حديثاً بالقلعة القديمة .. 


واثناء بحثه عن زرّ التحكّم بلمبة السقف ، وجد ذراعاً خشبية خلف سريره .. فشدّه نزولاً ، لتفتح الواحاً خشبية كانت تغطي النافذة الزجاجية في وسط الغرفة ، ليظهر منها نور القمر والنجوم وهي تسطع فوق الحديقة الخلفية للقصر ! فانبهر جيمي بجمال المنظر الذي أقنعه بغرفته المتواضعة 


وبعد دقائق .. فتح حقيبته الصغيرة لإخراج اغراضه التي لم تكن سوى ثياب أخوته قديمة ! فطبعه خجول يمنعه من سؤال والديه عمّا يريد ، بعكس اخوته الذين يلحّون باستمرار لحين حصولهم على جميع طلباتهم 


وحين فتح الخزانة ، وجد فيها ثلاثة عرائس خشبية ! وضعها جانباً ، لترتيب اغراضه .. 

وبعد قليل ، سقطت نظّارته على الأرض .. وحين انخفض لإلتقاطها ، رأى صندوقاً خشبياً اسفل سريره .. فسحبه بصعوبه ، لاحتوائه على اشياء ثقيلة! 

وما وجده بداخله أسعده كثيراً : ففيه منظارٌ قديم الصنع ، وقصص اطفال بطبعاتٍ قديمة تعود لأكثر من مئة سنة (لهذا خلت من الرسوم التوضيحية) 


في البداية .. ركّب قطع المنظار بجانب نافذته لمراقبة الفضاء .. وبرغم قدمه الا انه كبّر القمر أضعاف التلسكوب الحديث الذي يملكه اخوه الكبير ، الذي يمنع اخوته الإقتراب منه .. 


وأكثر ما لفت انتباهه في الصندوق هو دفترٌ قديم مكتوب بخطٍ طفوليّ كأنه مذكّرات .. وكان عنوانه :(سجينة في قصر جورج الثالث) وهو اسم هذه القلعة .. وملصقاً على غلافه : صورة للكاتبة الصغيرة في حديقة قصرها ، التي كتبت في المقدمة :  

(هذه مذكّرات الأميرة ماري جورج ، ذات الإحدى عشر ربيعاً  .. سأدوّن فيها معاناتي من غدر الأقارب والأصدقاء ، قبل إقدامي على الإنتحار في حال لم يخرجني عمي قريباً من هذه العلّية الكئيبة)


فتوقف جيمي عن القراءة بعد ان أربكه كلامها ! فهو يعيش في غرفتها ، وألعابها مازالت في خزانته .. 

لكن لماذا تفكّر طفلة بالإنتحار ؟ ولما حبسها عمها هنا ؟ وهل كانت فعلاً إحدى اميرات القرن الماضي ؟ 


اسئلةٌ كثيرة دارت في رأس جيمي ، قبل ان يقطع تفكيره صوت جرس المطبخ .. حيث اتفقت الأم معهم على الإجتماع على مائدة الطعام كلما سمعوا رنينه .. 

فأسرع في إعادة كل شيء مكانه قبل اكتشاف اخوته جمال غرفته فيحتلّوها ، كما يفعلون دائماً مع العابه وأغراضه الأخرى


وما ان اعاد الصندوق تحت سريره ، حتى فتح اخوته الكبار باب الغرفة (دون استئذان) وهم يتأمّلونها باشمئزاز :

- غرفتك سيئة جداً يا جيمي !

فأجابهم : لا بأس انها تعجبني

- تبدو كعلبة كبريت ، لوّ رأيت غرفنا لما قبلت العيش هنا

جيمي : لا يهم ، لننزل للأسفل قبل ان يغضب ابي


واثناء نزولهم الأدراج ، قال أحدهم : 

- الدرجات مهترئة وصغيرة ، ومن السهل الإنزلاق عليها

اخته : عليك الحذر يا جيمي اثناء ذهابك للدورة المياه

- لوّ كنت مكانك لطلبت من ابي استبدالها بغرفةٍ اخرى 

جيمي بحزم : الغرفة تعجبني !! فكفّوا عن مضايقتي

***


على مائدة الطعام .. أخذ كل ولدٍ يصفّ جمال غرفته.. 

وبينما كان جيمي يتناول طعامه بصمت ، سأله والده :

- وانت يا مايكل ؟

- جيمي يا ابي

- آسف ! دائماً أنسى اسمك

فتنهّد بضيق : لا يهم

- ما رأيك بغرفتك ؟

- جيدة


امه : وأيّ غرفة اخترت ؟

جيمي : غرفة العلّية

- لكنها بعيدة جداً عن بقية الغرف

- لا بأس امي ، أنا احب الهدوء 

وهنا قالت أخته : غرفته سيئة يا ابي .. وتفوح منها رائحة الرطوبة ، ولا نوافذ بها وإضائتها خافته

الأب : ان كانت سيئة هكذا ، فهناك غرفة بالقبو .. يمكننا وضع سريراً فيها..

جيمي مقاطعاً بضيق : لا اريد ، غرفتي تعجبني

الأم بقلق : ومن سيوقظك الى المدرسة ؟

- لديّ منبه يا امي 

الأم : الأفضل ان تشارك اخوك الأصغر غرفة نومه

الأخ الأصغر بعصبية : لا اريد احداً معي !!


فصرخ جيمي بغضب : قلت غرفتي جيدة ، الا تسمعونني !!!

الأب معاتباً : جيمي ! إخفض صوتك يا ولد

جيمي بقهر : لما لا تصغون إليّ ؟! الغرفة تعجبني .. أتدرون لماذا ؟ لأنها بعيدة عنكم !!

ثم أسرع راكضاً الى فوق..


الأب باستغراب : ما مشكلة هذا الولد ؟!

الأخت بقلق : إن بقيّ في تلك الغرفة الكئيبة ، سيُجنّ حتماً

الأخ الأكبر بسخرية : هو اساساً متخلّف عقلياً

وضحك اخوته عليه ، بينما والداه قلقين عليه

***


لم يستطع جيمي إنهاء مذكّرات ماري تلك الليلة ، فغداً اول يوم مدرسة 

فقال في نفسه : 

- أملك بعض المال في حصّالتي ، سأشتري قفلين غداً .. واحدة أضعها في الغرفة ، والثانية خارجها .. سأقفلها كلما خرجت منها ، هكذا لن يسرق اخوتي القصص قبل إنتهائي من قراءتها جميعاً 


ثم وضع المذكّرات في الدرج ، وهو يقول بنعاس :

- لا أصدّق ان طفلة بمثل عمري كتبت مئة صفحة ! يبدو انها عانت الكثير من عمها ! سأعرف قصتها في عطلة الأسبوع

***


ومرّت الأيام .. دون إقتراب اخوته من غرفته التي لم تثرّ اهتمامهم ، حتى إن والديه لم يرهقا انفسهما بالصعود اليه ! ومع ذلك أبقى على الأقفال زيادةً في الحرص 

***


في عطلة الأسبوع .. أنهى جيمي قراءة مذكّرات ماري التي اتضح انها بالفعل اميرةٌ يتيمة ، بعد مقتل والدها الملك بعمر 8 سنوات .. وكان مرجحاً ان تصبح ملكة البلاد برعاية عمها الذي فضّل سجنها بعلّية القصر وإخبار الناس بموتها بالسلّ كوالدتها .. ولم يشكّ احد بخبثه بعد قيامه بجنازةٍ ضخمة ومسيرةٍ علنية لجثمانها بعد استبدالها بجثة طفلةٍ قروية نبشها رجاله من القبر بعد دفنها مباشرةً .. ووضعها في عربةٍ مكشوفة ، مُخفياً وجهها بوشاحٍ حريريّ .. 


وتلك الخطة وغيرها من الأفعال الشريرة والقرارات الظالمة وصلت لماري من خلال خادمتها العجوز التي وكّلها العم بالإهتمام بها ، وهي التي جلبت لها القصص والتلسكوب لتسليتها في سجنها الإنفرادي.. 


وختمت ماري مذكّراتها بسطورٍ مُبهمة ، حيث قالت : 

(الليلة أتت خادمتي باكية ، ومعها قارورة دواء .. قالت إن فيها تعويذة سحريّة تمنحني جناحين للوصول الى الجنة لملاقاة والدايّ .. كلامها أخافني ، خاصة بعد ان حضنتي بقوة وهي تخفي دموعها .. من بعدها أقفلت الباب عليّ كما تفعل دائماً .. أنا متردّدة بشربه .. وبنفس الوقت أشعر باشتياقٍ شديد لأهلي ، والمللّ يكاد يقتلني .. وليس لديّ شيئاً اخسره ، بعد ان نشر عمي الظلم في انحاء البلاد التي كانت مزدهرة في عصر والدي العادل .. سأشرب الدواء بعد قليل .. وأخبركم إن كانت التعويذة السحرية نجحت ام لا .. إنتظروني))


فقال جيمي بغيظ : 

- طالما لم تكتب شيئاً بعدها ، هذا يعني انها شربت السمّ .. فلما خانتها الخادمة ؟ ولما قرّر العم قتلها بعد ثلاث سنوات من حبسها ؟ هل ثورة وزرائه ضدّه هي السبب ؟ .. سأقوم ببحثٍ شامل عن سكّان القصر في مكتبة المدرسة 


ثم أعاد المذكّرات الى الصندوق.. واستلقى على سريره وهو يشعر بالأسى على ماري .. 


وقبل ان يغفى ، تّمتم قائلاً : 

- لا تحزني يا ماري .. على الأقل والديك يحبانك ، اما انا فلست مهماً لعائلتي .. فقبل قليل ذهبوا جميعاً ، دون ان يصعد احدهم لإخباري عن النزهة ! أشعر وكأني مسجون مثلك يا سموّ الأميرة..


وفجأة ! انطفأت لمبة غرفته .. 

فتلمّس طريقه الى ان فتح باب غرفته ، ليرى الأدراج مظلمة تماماً .. فخاف ان يتعثّر إن نزل عليها !

وبجميع الأحوال ، القصر فارغ بعد ذهاب عائلته .. 


فعاد الى سريره ، محاولاً تجاهل مخاوفه بوجوده وحده في قصرٍ قديمٍ ومظلم .. وقرّر النوم لحين عودة اهله واصلاحهم الكهرباء .. 


فجأة ! أضيئت المدفأة من الداخل ..

ثم خرجت منها فراشة زهرية مضيئة حلّقت فوق سريره ، الى ان وقفت على أرضيّة الغرفة .. ثم بدأ شعاعها يزداد شيئاً فشيئاً ، لدرجة انه أغمض عينيه من قوة وميضها .. 


ثم خفّ النور تدريجياً .. ففتح عيناه ، ليجدها وقد تحوّلت لطفلةٍ شقراء ! 

فصرخ فزعاً :

- ارجوك لا تؤذيني ايتها الجنّية !! 

- انا ماري يا جيمي ، الا تذكر صورتي على غلاف مذكّراتي ؟

بدهشة : ماري !

- نعم 

- كيف هذا ! انت ..

- مقتولة منذ مئة سنة ..

جيمي : يعني ما توقعته صحيحاً ! الخادمة أعطتك سمّاً 

- نعم ، لهذا رفضت مقابلتها في عالم الأرواح بعد خيانتها لي 

- وهل أجبرها عمك على ذلك ؟


ماري : صحيح ، لكنه لا يعلم انها أطلعتني على جميع خططه وقراراته من خلال تنصّتها عليه .. فهو اختارها خرساء ، دون معرفته انها تجيد الكتابة .. فكتبت لي كل يوم عمّا يحصل داخل القصر ، وعن أوضاع سكّان القرية .. ثم تحرق الأوراق في المدفأة .. (واقتربت الطفلة اكثر من سريره) .. لما اراك مرتبكاً هكذا ؟! الا تصدّق ما اقوله ؟  

- لا ! انا فقط متفاجئ من ظهورك امامي  

- أردّت مواستك بعد شعوري بحزنك 

- انا غاضبٌ من اهلي 

- سنتكلّم عن ذلك في يومٍ آخر ، أتيت الآن لآخذك الى الفضاء الذي تعشقه

- وكيف ستفعلين ذلك ؟

ماري مبتسمة : لا مستحيل في عالم الأحلام .. إغمض عينيك ، وسأجعلك تنام على الفور لتشاهد أجمل حلمٍ رأيته في حياتك ..


وبالفعل .. ما ان وضع رأسه على الوسادة ، حتى غرق في نومٍ عميق 

***  


في اليوم التالي .. استيقظ جيمي سعيداً بعد زيارته لعدة كواكب برفقة ماري .. كما انتقل معها لزمن الماضي لمشاهدة الحروب القديمة التي خاضتها بريطانيا .. 


وفي المدرسة .. تفاجأت معلمة العلوم بإجاباته الذكية حول الفضاء ، وأعطته علامةً جيدة .. وكذلك فعل استاذ التاريخ الذي أُعجب بسرد جيمي لتفاصيل دقيقة لأحداث معركةٍ قديمة

***


ومرّت الأيام وهو يتسامر مع روح ماري ..الى ان سألها في إحدى الليالي: 

- أجريت بحثاً مطولاً هذا الصباح .. وعلمت ان عمك أشاع بين الناس ان روحك الشريرة أحرقت القلعة ! وقتلتِ وزرائه وخدمه ، وتمكّن هو بصعوبة الهرب من انتقامك الغاضب .. فهل كلامه صحيح ؟ 

ماري بقهر : أكاذيب عمي لا تنتهي .. فهو من خطّط للقضاء على منافسيه وحرق القصر الريفيّ للإنتقال للعاصمة .. وطلب من خادمتي قتلي في نفس اليوم الذي عزم فيه وزرائه على مأدبةٍ كبيرة في قبو القلعة ، بنيّة إحراقهم جميعاً ..

- وماذا حصل بعد موتك ؟ 

- إنتقلت للسماء لرؤية والدايّ اللذان كانا متشوقان لملاقاتي 


جيمي بحزن : على الأقل يحبانك .. اما انا ، فلوّ هربت من هنا لن يلاحظ أحد اختفائي ! 

- بصراحة يا جيمي هذا خطؤك ، فأنت لا تخبرهم بما تريد ..ولا تبين قهرك حين يعطوك اغراض اخوتك القديمة .. ولا تطلب هدايا لنفسك في الأعياد ، لهذا يتجاهلوك .. عليك ان تحب نفسك اولاً ، ولا تعامل نفسك بازدراء او تقلّل من قيمتك .. فطالما تضع نفسك في المركز الأخير ، لن يقدّمك أحد الى المركز الأول .. فالناس تعاملك كما تعامل نفسك 

- لكني احب الإيثار !

ماري : وهو شيءٌ جيد ، لكن ليس على حساب نفسك ..فمن حقك ان يعدلوا بينك وبين اخوتك 

فتنهد بقهر : أتدرين .. أحلم ان ارحل الى مكانٍ بعيد 


فسكتت قليلاً .. قبل ان يتغير صوتها الطفولي الى صوتٍ اكثر نضجاً ، لتقول بجدّية :

- اذاً ارحل معي  

- الى اين ؟

- الى كل مكانٍ وزمانٍ تحلم به

جيمي باهتمام : وكيف افعل ذلك ؟

- أفتح درج الخزانة  


ففتحه ، ليجد قارورةً سوداء ..

ماري : هيا أشرب الدواء

جيمي بقلق : أليس هذا هو السمّ الذي أعطتك إيّاه الخادمة ؟!

- بل تعويذة سحرية تنقلك الى عالم الخيال لتحقيق جميع امانيك .. وطعمه لذيذٌ ايضاً .. فقط ستشعر ببعض النعاس 

- لكن ..

ماري مقاطعة بحزم : إشربه !! لنصبح صديقين للأبد


فمسك جيمي القارورة بترددٍ وارتباك .. 

بهذه اللحظة .. فتح اخوه الأكبر الباب ، ليرى خيالاً مخيفاً في الغرفة! 

فنزل الأدراج وهو يصرخ فزعاً :

- ابي ، امي !! شيطان في غرفة جيمي 


وهنا عاتبت ماري جيمي بغضب :

- كنت وعدّتني أن لا يراني احد ؟!

جيمي بخوف : آسف ! نسيت إقفال الباب 

- لقد خنتني مثل عمي وخادمتي ، سأرحل للأبد !!

- لا يا ماري ، ارجوك لا تتركيني

- اذاً أشرب الدواء بسرعة ، لنرحل سوياً من هنا 


وحين سمع خطواتٍ راكضة باتجاه غرفته ، أسرع بشرب الدواء .. ليشعر على الفور بآلامٍ حادة ، جعلته يتلوّى بسريره وهو يقول :

- انه مؤلم يا ماري ، كيف خدعتني هكذا ؟!

- ومن ماري ايها الصغير ؟


فنظر لمصدر الصوت ، ليرى شيطاناً ضخماً يقول له :

- لوّ كنت كبيراً لأخذت روحك المُنتحرة الى الجحيم ، لكنك صغير وسيسامحك الرب

جيمي بفزع : اين ماري ؟ .. اريد ماري !!

ثم بدأ جسمه ينتفض ، الى ان فارق الحياة .. 


وحين وصل والداه واخوته ، وجدوه جثةً هامدة فوق سريره ..

فانهاروا بالبكاء فوق جثمانه..

بينما كانت روح جيمي تطفو فوقهم ، وهو متفاجىء من حزنهم عليه!

***


في يوم التأبين .. طفت روح جيمي فوقهم ، ليستمع باستغراب الى خطب اخوته الحزينة التي يصفون بها كرمه وطيبته وحنانه واهتمامه بإخوته الصغار وغيرها من صفاته الحميدة !


فصرخ جيمي معاتباً (دون ان يسمعوه) : 

- لما لم تمدحوني في حياتي ؟ لما أشعرتموني بقلّة أهميتي ، واستخفّيتم بآرائي وافكاري ؟!!!! 

صوت انثويّ : نعم هذا ذنبهم


فالتفت خلفه ، ليرى روح ماري هائمة قربه :

- ماري !

- آسفة .. هربت بعد ظهور الشيطان ، وهو من شجّعك على الإنتحار كما فعل معي سابقاً 

جيمي بحزن : وماذا أفعل الآن ؟

- إمسك يدي ، سآخذك الى السماء لتعريفك بوالدايّ .. ثم نذهب لرؤية الكواكب ، وهذه المرة لن يكون حلماً

- هل سأتمكّن من السير فوقها وملامسة تربتها ؟

- نعم .. وسأنقلك للماضي لتشارك بالحروب ، او حتى لرؤية المستقبل 


فنظر نظرة أخيرة الى اهله ، وهم منهارون بالبكاء اثناء تنزيل جثته في قبرٍ حفروه في حديقة القصر..

ماري : لا تقلق عليهم ، الحياة ستمضي وينسوك كما حصل معي .. هيا لننطلق الى الفضاء 

فأمسك يدها واختفيا بالسماء

***


وهنا استيقظ جيمي في السيارة على صوت والده يقول لهم : 

- هآقد وصلنا يا اولاد الى قصرنا الجديد !! 

فقال جيمي بنفسه ، وهو يلتفت حوله بارتبك : (ماذا ! أكان مناماً ؟)


ثم توجه متردّداً الى داخل القصر ، بعكس اخوته الذين انطلقوا بحماس لاختيار غرفهم .. 

وحين ارادوا رؤية العلّية ، أوقفهم جيمي بحزم :

- لا احد سيصعد الى فوق !!

- لماذا ؟

- لأن معلمتي أخبرتني بوجود جنّية تسكن العلّية إسمها ماري ، أحرقت القصر للإنتقام من عمها الذي استولى على ملكها .. وستنتقم من أيّ شخص يقترب من غرفتها الموجودة في الطابق العلويّ 


وأخذ يخبرهم بقصصٍ مرعبة عنها ، جعلت اخوته الصغار يبكون فزعاً ..فحاولت امه إقناعه إنها إشاعات ، لكنه أصرّ وبقوة على عدم فتح غرفتها وتحرير روحها الشريرة .. 


بالنهاية رضخ الوالدان لمخاوفه ، وقرّرا إقفال باب الأدراج الموصلة للعلّية .. بعد موافقة جيمي على مشاركة أخيه الأصغر غرفة نومه 

***


بعد ايام .. وقبل ذهاب جيمي الى المدرسة ، توجه الى الحلاّق (ومعه ماله الذي جمعه من مصروفه) لقصّ شعره بشكلٍ عصريّ وجذّاب ، على عكس عادته .. والتي أعجبت كثيراً اصدقائه !


ليس هذا فحسب .. بل شارك بالصف بثقةٍ وحماس ، فاجأت معلّميه ! فهو بالعادة يبقى صامتاً ، رغم تفوقه بالإمتحانات الكتابية ..

كل هذا لتذكّره نصائح ماري (في منامه) أن يحب نفسه اولاً ، ليحبه من حوله 

***


بعد عودته الى المنزل ، إستغربت عائلته من مظهره المختلف ! بل ايضاً طالب والديه بشراء ملابس تناسب شخصيته الجديدة 

الأم : لكن لديك ملابس كثيرة

جيمي : جميعها ملابس اخوتي القديمة ، وانا اريد ملابس جديدة تناسب ذوقي .. سأذهب معك لاختيارها بنفسي 

الأم باستغراب : حسناً ، كما تشاء ! 

***


وظلّ جيمي يتغير بشكلٍ مستمر للأفضل ، وبدأت نفسيته تتحسّن مع ازدياد اصدقائه بعد اشتراكه بنشاطات اخرى غير العلمية : كالرياضة والمسرح ، مما جعله محبوباً في مدرسته


وفي أحد الأيام ، تشاجر مع اخيه الأكبر .. وبدل ان يتصادم معه ، قال له بهدوء :

جيمي : لن أغضب منك ، لأنك بكيت كثيراً بعد موتي .. وقلت في خطبتك يوم تأبيني : عن اليوم الذي أنقذتك من المتنمّر ، بعد قذفي الكرة على وجهه اثناء عراكه معك .. لهذا أسامحك ، ولن أغضب منك مهما فعلت .. فأنت اخي الأكبر الذي أحبه ويحبني

وبعد دخوله غرفته ..

أخوه بدهشة : فقد جيمي عقله أخيراً ! 

***


قبل نهاية السنة .. تقدّم جيمي من والديه الجالسين في الصالة ، وهو يحمل ورقة عليها اسماء ثلاثة العاب ذكية ، قائلاً :

- اعلم انه لا وجود لبابا نويل .. لهذا سأطلب منكما ان تحضرا لي هذه الألعاب على العيد ، فهي ستنمّي مهاراتي العقلية .. تصبحا على خير


وبعد ذهابه ، قال الأب :

- لقد تغيّر كثيراً منذ انتقالنا الى هنا !

الأم : نعم لكن للأفضل .. فمديرته أخبرتني انه أوقف المتنمّرين عن ايذاء الضعفاء في مدرسته ، ليصبح محبوباً بين التلاميذ

- يبدو أن للقصر تأثيراً جيداً عليه 

***


في صفّ جيمي .. جلست طالبة جديدة جميلة بجانبه ، بعد ان اختارته من بين الطلاّب .. 

فابتسم لها ، وهو يقول بنفسه : 

(كلامك صحيح يا ماري : فحين نحب أنفسنا تُحبنا الناس ، فهم يعاملونا بذات القيمة التي نعطيها لأنفسنا.. جيد انك أمتّني في المنام لأرى محبة اهلي وقيمتي عندهم ، لذلك لم أعد غاضباً منهم او من أيّ شخصٍ آخر)


وهنا وقفت فراشة زهرية على نافذة صفه (التي بجانبه).. 

فتساءل في نفسه :

(ترى هل كانت ماري حقيقة ، ام مجرّد منام ؟! .. بجميع الأحوال : شكراً لك يا صديقتي ، يا أميرتي الصغيرة)


وظلّ مبتسماً وهو يراقب الفراشة الزهرية اثناء طيرانها ، الى ان اختفت في السماء !  


التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...