الأحد، 6 سبتمبر 2020

المدينة الفاضلة

 تأليف : امل شانوحة

السلام العالمي


ضجّت وسائل الإعلام العالمية بخبر الهجرة الجماعية من استراليا بعد حريقٍ شبّ في ارجاء البلاد .. وبعد شهرين ، أُخمدت النيران وحدها إثر التهامها الأخضر واليابس .. وأصبح مستحيلاً العودة اليها بعد أضرارٍ جسيمة في المطار والميناء ، لدرجة ان رئيسها السابق عرضها للبيع في مزادٍ عالمي ! لكن سعرها ظلّ منخفضاً لعدم رغبة الأثرياء بإعمارها من جديد .. 

فيماعدا الشاب الثريّ (مروان مرتضى) الذي شعر بحماسةٍ كبيرة لتحقيق حلم طفولته ببناء مدينته الفاضلة .. فاشتراها بسعر ناطحة سحاب ، وهو سعرٌ بخس بالنسبة لثروته الهائلة .. 


ثم أعلن في وسائل التواصل الإجتماعي عن رواتب مغرية لمن يسافر معه لأحياء القارّة المهجورة ، بعد قيامه بتغير علمها ونشيدها الوطني وعملاتها النقدية .. مُشترطاً شهادات متخصّصة وكفاءاتٍ عالية لموظفيه من ذويّ السلوك والأخلاق الحسنة  


وبالفعل !! خلال سنة واحدة عيّن آلاف العمّال والموظفين في جميع المجالات المهمّة .. ونقلهم على دفعات بواسطة سفن وطائراتٍ خاصة الى مدينته الفاضلة (المعروفة سابقاً بإستراليا) .. لتقوم الدفعة الأولى ببناء معسكرات ميدانية لحين نهضة البلاد ..

***


في البداية .. قام الحطّابون بإزالة الأشجار المحترقة وهدم الأبنية الخشبية المنهارة في المناطق والأحياء القديمة ، بينما قام عمّال النظافة بتنظيف الشواطىء والطرقات .. ليقوم عمّال الطرق بسفلتة الشوارع وترميمها من جديد .. ليبدأ بعدها عمل المهندسين في بناء مجمعاتٍ سكنية ، بعد إنهائهم بناء اول مستشفى متطوّرة في البلاد ، التي عيّن فيها (الحاكم مروان) اطباءً بارعين في جميع الإختصاصات .. 


واستمرّ العمل على بناء المدارس والمنازل والشركات والمصانع ، بتقسيم العمّال الى دوريتين : صباحية ومسائية (على انوار الموتيرات) .. الى ان تمّ إعمار مدينته الساحلية في غضون 5 سنوات ..  


وبعدها فُتح المجال لاستقدام المهاجرين العرب والأجانب ، بشرط ان يكونوا مثقفين وجامعيين وغير محكومين بقضايا جنائية واخلاقية .. حيث الأفضلية للعائلات والمتزوجين حديثاً ..


حتى عمّال النظافة والمزارعين اشترط عليهم معرفتهم للقراءة والكتابة ، مع حسن سلوكهم ونظافة سجلّهم العدلي..

***


وكانت فرحة مروان عظيمة في اول احتفالٍ وطني رسميّ لبلاده باجتماع الأهالي الذين وصل عددهم الى مليون شخص ، جميعهم حصلوا على منازل مستقلّة ووظائف ثابتة برواتب جيدة ..


ولأنه وفّر لهم سبل العيش الرغيد ، لم يكن هناك داعي لبناء السجون او إنشاء جيش في بلاده ، لسببين : لأن قارّته مستقلّة وبعيدة عن البلاد المجاورة .. ثانياً : لعدم وجود غرباء وعاطلين عن العمل ، بعد رفضه إستقبال المهاجرين الذين لم تنطبق عليهم الشروط السابقة 

***


وقد قام مروان بفرض قوانينٍ حازمة في جميع المجالات : 

1- ففي التعليم : بنى المدارس على أسسٍ متطوّرة ، مُعتمدة على التكنولوجيا والأبحاث دون الحاجة لإمتحاناتٍ شهرية .. مع جوائز مالية ومنحاً دراسية لكل طالبٍ متفوق استطاع إختراع جهازٍ مفيد او وضع نظرية علمية جديدة ، مما شجّع بقية الأولاد على تطوير مهاراتهم الفنية والإبداعية .. كما اهتم الحاكم مروان بالرياضة , وحضور المباريات المحلية والأولمبية .. وأعطى مكافئات للموظفين الذين يحافظون على لياقتهم البدنية

 

2- الفنون : شجّعها بكافة أنواعها ، بشرط عدم إخلالها بالقيم الأخلاقية والوطنية ، ودون المبالغة في أجور الفنانين .. كما أعطى جوائز سنوية قيّمة لأكثر الأفلام الهادفة والإنسانية .. وجوائز للكتّاب والمترجمين والمبدعين الفنيين .. مع منعه عرض الأفلام والفيديوهات الهابطة في السينما والتلفاز .. كما راقبت مخابراته الإتصالات لمنع المواطنين من دخول الإنترنت المظلم والقنوات الفاسدة

 

3- المطار : كان على رجال الجمارك وموظفيّ مطاره الدوليّ تفتيش البضائع وحقائب القادمين الى بلاده بدقةٍ وحذر .. وترحيل كل من وُجد معه ممنوعات ومخدرات وأشياء مخلّة بالآداب العامة ، مع حظر قدومهم مجدداً الى مدينته الفاضلة

  

4- الأسواق : حدّدت اسعار المواد الغذائية الأساسية من قبل الدولة .. وتم تعين آخر يومين من كل شهر لتخفيضات إجبارية على جميع البضائع الغذائية في السوبرماركات والمولات ليتمكّن جميع المواطنين من شراء ما يشتهونه من مأكولاتٍ فاخرة .. كما فرض تخفيضات على الملابس والأدوات المنزلية والألعاب قبل اسبوعين من بدء الأعياد السنوية ، وبذلك نشطت التجارة في بلاده التي خلت من الفقراء المعدمين ..


5- الطب : حدّد موعداً لفحص طلاّب المدارس والجامعات والموظفين كل ثلاثة اشهر لتأكّد من خلوّهم من الأمراض المعدية .. اما العجائز فيتم فحصهم مرة كل شهر من قبل ممرّضين يأتون الى بيوتهم بشكلٍ دوريّ ، مع توفير ادويتهم مجاناً .. وجلسة مساج علاجية كل ثلاثة اشهر ، بالإضافة الى راتبٍ شهريّ لما تبقى من حياتهم..

 

6- الزواج : منع زواج القصّر ، وفرض سن 18 كحدٍّ أقصى .. كما شجّع مروان الشباب على الزواج من خلال حفلات العزوبية لتعارف بينهم .. مع زيادة رواتبهم فور عقد خطوبتهم ، بالإضافة لتوفير شقق خاصة بالمتزوجين الجدّد بأقساطٍ شهرية مريحة .. واعطاء مكافئة مالية على كل مولودٍ جديد .. وأقامت دولته حفل زواجٍ جماعيّ بحلول صيف كل سنة ، وفي صالاتٍ فاخرة ..كما سنّ قانوناً جديداً يسمح للرجال الأثرياء الأصحّاء بالزواج من امرأة ثانية بشرط : ان تكون فوق سن 35 لمحاربة العنوسة ، مع إلزامه العدل بين زوجتيه .. وفي بادئ الأمر عارضت بعض النسوة تطبيق هذا القانون ، لكن بعد شهور من سريانه تقبلنّه لظهور فوائده على استقرار المجتمع .. اما الشواذ فأمر بعلاجهم إجبارياً بأبر مقوية لهرموناتهم الأصلية مع علاجٍ نفسي مكثّف .. وفي حال أصرّوا على ميولهم المنحرف يرحّلون فوراً من بلاده ، فهو يحتاج رجالاً أشدّاء لبناء وطنه الجديد .. كما وظّف نظّار اقوياء بالمدارس لمراقبة المتنمّرين والمتحرّشين .. وأوجب الخصوصية في دورات المياه والإستحمام في المدارس والملاعب ، منعاً من تفتشيّ هذه الظاهرة في مدينته الفاضلة  


7- القضاء : بعد مرور سنوات على بناء مدينته الفاضلة ، أُرتكبت بعض الجرائم ! مما أجبر مروان على بناء محاكم سريعة بقانونٍ يُلزم القاضي بإصدار حكمه النهائي في غضون ثلاثة اشهر ، منعاً من المماطلة في العقاب : فمن ثبت عليه ارتكاب جريمة القتل لأكثر من شخصين دون سببٍ شرعيّ (كالدفاع عن النفس ، او قتل الخطأ بسبب الحوادث المرورية) يتم إعدامه على الفور .. ومن سرق اكثر من مرة دون عوزٍ ماديّ ، يُقطع ابهامه الأيمن لإضعاف مهارته في السرقة ، ولكيّ تكون إشارة للمواطنين للحذر منه .. اما المغتصبين فيتم تعقيمهم بإبرٍ طبّية .. وتجّار المخدرات يرحّلون عن بلاده دون رجعة .. اما المساجين بديونٍ مالية : فيُجبروا على العمل في مصانع البلاد برواتب تقسّم بين عائلاتهم ودائنيهم ، حيث يُفرج عنهم بعد تسديد كامل ديونهم ..اما الأبناء العاقين فيساقون الى معسكرات تأديبية لتحسين سلوكهم .. ولأن مروان حرّم في مدينته الفاضلة بيع الخمور وبيوت الدعارة ، فنسبة الجرائم ظلّت محدودة .. وكانت من ضمن قوانينه : وضع صندوق للشكاوي لمناقشتها شهرياً مع مدراء نقابات العمّال والموظفين ، لتقليل غضب الشعب والحدّ من المظاهرات المستقبلية .. كما منع عنصرية العرق والدين بفرض عقوباتٍ صارمة ، حيث أوجب إحترام الأديان في بلاده


8- السياسة : لم يُعرض في وسائل الإعلام سوى الأخبار المحلية دون العالمية منعاً لإحباط الشعب ، مع الإهتمام بإذاعة اخبار الأبطال الحقيقين في بلاده وإنجازات المبدعين فيه .. كما لم يكن في دولته مجلس نواب ووزراء ، واكتفى بتعين مدراء لجميع الأقسام : فأفضل الجرّاحين هو رئيس القسم الطبي في مدينته ، وأمهر المهندسين هو المسؤول عن إعمار البلاد وهكذا .. وكان يجتمع معهم مرتين في السنة لمناقشة المشاريع المستقبلية .. كما اعتمد مروان قانون الحياد مع المشاكل السياسية والحروب الدولية (مثل سويسرا) فهو ليس عضواً بمجلس الأمن او بورصات الأسواق العالمية او منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة ، حيث أعلن نفسه دولة مستقلّة عن قوانين ومعاهدات العالم


9- الزراعة : المزارعون المحلّيون هم المسؤولون عن إمداد بلاده بالخضار والفواكه ، فهو لا يستورد شيئاً من الخارج .. ولديه مزارع مواشي ودواجن تكفي جميع مواطنيه ..


10- الترفيه : إفتتح ملاعب ودور سينما ومهرجانات سنوية بأسعار تناسب الجميع ..

 

11- الرعاية : رفض مروان بناء دور للأيتام ودار عجزة بعد منحه كل عجوز ممرّضة للإعتناء به في بيته .. كما فرض على الجامعيين الإجتماع بالعجائز لتعلّم من خبراتهم ، وكتابة ما استفادوه في بحث تخرّجهم .. اما الأغنياء فألزم كل واحدٍ منهم بتكفّل عشرة ايتام مادياً وتعليمياً بشكلٍ اجباري .. ومن يتطوّع منهم لتربية يتيم في بيته ، سيُكافىء بخصمٍ كبير على ضرائبه (التي لا تفرض الا على الأغنياء لصالح إعمار البلاد).. كما أمر مروان بدمج الأيتام والمعاقين في المدارس العادية بقسم للحالات الخاصة .. وعلى دولته توفير الأطراف الصناعية والكراسي المتحرّكة لجميع المعاقين والعجائز .. كما ألزم الشركات بتوظيف نسبة منهم في الوظائف الإدارية ، بما يناسب حالتهم الصحيّة والعقلية.. اما المشرّدون والشحاذون فيساقون للعمل بإحدى مصانع البلاد برواتب تكفي متطلباتهم الأساسية ، مع توفير سكن جماعي لهم .. وكشفٌ طبي دوري لمنع تفشي الأمراض بينهم 

 

12- متفرقات : منح جوائز مالية لكل من يبلّغ الشرطة عن تجّار المخدرات والمشعوذين والجمعيات السرّية بعقائد منحرفة .. وبعد القبض على العديد منهم ، قلّ وجودهم كثيراً في بلاده.. كما عيّن موظفين لمراقبة المعاملات والعقود في البنوك للحدّ من الفوائد المرتفعة والرهانات والشروط الجزائية الجائرة  


13 – البيئة : قام بحملة رشّ مبيدات واسعة في البلاد لقتل الحشرات الضارة المتواجدة بكثرة في استراليا .. اما بقية الحيوانات المفترسة فتم حجزهم ضمن محميةٍ بيئة ، مُراقبة من قبل خبراء واطباء بياطرة .. ومنع صيدها الا بإذنٍ من الدولة ، وفي فصول معينة من السنة.. كما ألزم المهندسين بوضع الواح للطاقة الشمسية فوق اسطح المباني بالإضافة الى مظلّات معكوسة لتجميع مياه المطر في خزّاناتها ، لإستفادة سكّان العمارات من الماء والكهرباء بأرخص التكاليف الممكنة 

***


وبعد فرضه تلك القوانين الصارمة ، أصبحت مدينة مروان الفاضلة مثالاً للتطوّر والأخلاق والإعمار بين دول العالم .. لهذا تمّ دعوته الى حفل جوائز نوبل ، بعد تحقيقه الحلم البشري في السلام العالمي 


لكن قبل استلامه الجائزة ، دوّى انفجارٍ هائل !!! أيقظ مروان من حلمه الجميل !


فاستفاق مُتضايقاً .. ليقترب بخطى متثاقلة نحو نافذته المحطّمة ، ناظراً الى مدينته العربية الفقيرة التي عانت لسنواتٍ طويلة من حربٍ اهلية .. 

ثم تنهّد بحزن :

- المدينة الفاضلة ! حلمٌ مستحيل تحقيقه بوجود شياطن الإنس والجن 


وهنا فتح اخوه الباب ، صارخاً بفزع :

- مروان !! طائرةٌ حربية تحلّق فوقنا ، إنزل فوراً الى الملجأ 

- حسناً ، إسبقني الى هناك


فنزل اخوه مسرعاً للطوابق السفلية ، بينما ظلّ مروان يراقب حرائق وأدخنة مدينته المدمّرة ..وهو يتمّتم بحسرة :

- الموت أرحم من عيشنا بهذا الذلّ والهوان !


فجأة عمّ الظلام بعد انهيار مبناه بصاروخٍ حربيّ ، طمست احلامه الفاضلة تحت الركام ! 

هناك تعليقان (2):

  1. جميع قوانين القصة من تأليفي ، ولا ادري مدى صحتها .. مع علمي بصعوبة تطبيقها في ظلّ القوانين الجائرة التي تحكمنا في هذا العالم الظالم .. لكن يبقى السلام العالمي حلم البشرية الأزلي ، وإن كان مستحيلاً !

    ردحذف
  2. رائعة،أحسنت الكتابة.

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...