السبت، 31 أغسطس 2019

قارب الموت

كتابة : امل شانوحة


 
طفلة المحيط !

صرخ مراقب السفينة من فوق الصارية : أنظروا هناك !!!.. فتاةٌ في البحر!
وعلى الفور !! تجمّع البحّارة امام القبطان الذي وجّه منظاره نحو المحيط , ليراها وهي تلوّح لهم من فوق العوّامة .. فأمر رجاله برمي الحبل اتجاهها .. وبعد عدّة محاولات , إستطاعت الصغيرة إلتقاطه بصعوبة .. ليقوموا بسحبها الى سفينتهم التابعة للشحن اليوناني .. 

وفور وصولها الى هناك , سقطت مغشياً عليها من شدّة التعب , بعد ان تمكّنوا من تمرير قطراتٍ عذبة عبر شفاهها الجافة المتشقّقة

ودار حوارٌ بينهم , امام الفتاة النائمة : 
حيث تساءل أحد البحّارة : كم برأيكم بقيت لوحدها في البحر ؟!
- السؤال الأهم .. كيف وصلت الى المحيط الأطلسي ؟!
- ربما غرقت سفينتها , وكانت الناجية الوحيدة بينهم !
القبطان : سأقوم بالإتصال بخفر السواحل ليحقّقوا بالأمر , ويستفسروا عن مصير عائلتها .. والآن ليحملها أحدكم الى مقصورة الطبيب ليتأكّد من سلامتها 
***

حين استيقظت الصغيرة , رأت الطبيب بجانبها والذي قال بارتياح: 
- اخيراً استيقظت
الفتاة وهي تتلفّت حولها بقلق : اين انا ؟!
- قمنا بانتشالك من البحر قبل ساعتين , لكنك بخيرٌ الآن .. ما اسمك يا صغيرة ؟
- تيري دوبرولت
- وكم عمرك ؟
- 11 سنة
الطبيب : واين هي عائلتك ؟
فسكتت تيري بحزن , فأردف الطبيب قائلاً :
- هل غرقت سفينتكم ؟ 
- نعم 

الطبيب بدهشة : وكم شخص كان على متنها ؟
- عائلتي ..والقبطان وزوجته
الطبيب مستفسراً : فقط ؟!
- نعم , كنّا في رحلةٍ بحرية الى جزر البهاما
- وكم عدد افراد عائلتك ؟
تيري بحزن : امي وابي واخي الكبير براين , واختي الصغرى رينيه
- وماذا حصل لهم ؟ .. أقصد مالذي جعلك تركبين العوّامة ؟ 
تيري : بعد هروب القبطان بقارب النجاة , تذكّرت العوّامة المربوطة في المقصورة الرئيسية , فركبت فيها قبل غرق السفينة 
- ولما لم تركبين مع القبطان ؟!
- خفت ان يقتلني كما قتل عائلتي  

الطبيب بدهشة : أمتأكدة انه قام بقتلهم ؟!
- نعم .. فقد رأيت امي واخي مذبوحين .. وقد أخذ جثة اختي معه في القارب .. واظن ان ابي وزوجة القبطان ميتين ايضاً , لأني صرخت كثيراً ولم يجبني احد ! 
ثم أجهشت بالبكاء .. 
- اهدأي عزيزتي .. سنساعدك , لا تخافي
***

ثم اسرع الى كابينة القبطان ليخبره بما علمه ..
القبطان باستغراب : ولما قتلهم ذلك اللعين ؟! 
الطبيب : لا ادري ! 
القبطان : حسناً , سأسألها بنفسي

وحين نزل اليها , طلب منها إخباره بالقصة الكاملة .. لكنها ارادت تناول الطعام اولاً .. فأحضر لها طبّاخ السفينة حساءً ساخناً .. فشربته بنهمّ من شدّة جوعها , بعد إنهائها العصير وقطعة الحلوى .. ثم سألت القبطان :
- هل ستوصلني الى منزلي ؟
القبطان : وهل تعرفين العنوان ؟
- أعيش في مدينة غرين باي  

الطبيب : لكننا ابتعدنا كثيراً عن ولاية ويسكونسن الأمريكية  
تيري بخوف : لا رجاءً أعيدوني , فكل اقاربي يعيشون هناك  
القبطان : أعدك حينما نصل الى وجهتنا , سأوصلك بنفسي الى الشرطة  لتتكفّل بإعادتك الى منزلك , لا تقلقي .. المهم الآن , ان تخبرينا بما حصل لعائلتك ؟

فأخبرت القبطان والطبيب : بأنها استيقظت مساءً على صرخات اخيها .. وحين صعدت الى سطح السفينة , وجدت امها واخيها مذبوحين ! والقبطان منشغلاً بإغراق السفينة .. وحين رآها ارتبك وطلب منها إمساك قاربه , دون إجابتها عن ما حصل لعائلتها .. لكنها رمت الحبل للبحث عن والدها , فأسرع قافزاً الى البحر للحاق بقارب النجاة .. وحين بدأت السفينة بالغرق , قفزت بالعوّامة الى البحر .. حيث بقيت تائهة في المحيط لأربعة ايام دون طعامٍ او ماء , حتى أوشكت على الموت .. 

القبطان : وهل تذكرين الإسم الكامل لقبطان رحلتكم ؟
تيري : كان والدي يناديه جوليان , امّا زوجته فتناديه هارفي
القبطان بدهشة : جوليان هارفي , الثريّ المجنون !
الطبيب : هل تعرفه ؟
القبطان : نعم ..هناك إشاعات إنه قتل زوجته السابقة للحصول على مال التأمين , كما انه دّمر سفينتان له للحصول على تعويضات مادية !  

الطبيب : اذاً يبدو انه حاول قتل زوجته الجديدة لنفس السبب , لكن احد افراد عائلتها ..(وأشار الى تيري).. رآه , فقرّر قتلهم جميعاً 
القبطان : ان كان هذا ما حصل فعلاً , فشهادة تيري ستقضي عليه هذه المرة .. (ثم قال لها) .. الحمد الله على سلامتك , فما مرّرت به كان صعباً للغاية .. أعانك الله على نسيان ذكرياتك السيئة .. والآن حاولي ان ترتاحي قليلاً , فالرحلة مازالت طويلة .. (ثم قال للطبيب) .. سأصعد الى الكابينة , إهتم بالصغيرة ..
وخرج من المقصورة وهو يشعر بالأسى عليها ..
***

في المساء .. تحدّثا مع البحّارة عن قصتها
فقال أحدهم : المسكينة ! شاهدت مقتل عائلتها , وغرق السفينة .. عدا عن جوعها وعطشها في المحيط لأربعة ايام , ومعاناتها من حروق الشمس .. هذا والله كثير !
فاقترح عليهم الطبيب ان يحاولوا إسعادها قدر الإمكان 
***

ومرّت الأيام ..حاول فيها البحّارة إخراجها من كآبتها بشتّى الطرق ..حيث تكفّل أحدهم بإخبارها القصص الخيالية , ومغامراتهم الشيقة في البحر ..بينما قام الآخر بنحت دمية خشبية لها .. امّا الطباخ فقد صنع لها الكثير من الحلويات اللذيذة .. وعزف لها الطبيب أجمل الألحان على مزماره , بمشاركة البحّارة في الغناء والرقص .. حتى ان القبطان حاول تعليمها قيادة السفينة .. وقد أحبها الجميع , وبدورها بدأت تتأقلم معهم ..
***

لكن في نهاية الأسبوع , تغيرت أحوالهم بعد مواجهتهم لعاصفةٍ هوجاء ..حينها قاموا بتخبأتها في غرفة المؤن , ومنعوها من الخروج لحين انتهاء الأزمة  

ومع بزوغ الفجر لتلك الليلة العصيبة , إكتشف القبطان غرق بحّارين في البحر اثناء العاصفة ! .. وعمّ الحزن بينهم , ووقفوا دقيقة صمت تكريماً لأرواحهما 

بعد يومين .. تفشّى مرضٌ جلدي بينهم , اصابهم بحكّة مؤلمة أدّت لاحقاً الى تعفّن جلودهم .. بينما وقف الطبيب عاجزاً عن معرفة اسباب المرض الغامض وطريقة علاجه ! 

وتمّ عزل الفتاة عن المرضى خوفاً عليها من العدوى .. ومات أكبر البحّارة سناً بعد انتشار الوباء في كافة جسمه .. فقاموا بلفّه بملاءة سريره ورميه في البحر .. 

بعدها بأيام .. إنتحر ثلاثة مصابين بعد ان تملّكهم اليأس من منظرهم المقزّز , حيث كان المرض أشبه بالجرب والجذام 

لكنه فجأة ! إختفى المرض بعد ان حصد ارواح البحّارة الأربعة .. وبدأ المصابين الثلاثة بالتماثل للشفاء دون حصولهم على دواءٍ او ترياق ! 

وما ان تنفّس الجميع الصعداء لانتهاء الأزمة المرضيّة , حتى علموا بأن برميل الماء العذب الكبير إنكسرت قاعدته دون سببٍ واضح , وانسكب كل ما فيه من مخزون المياه الذي كان كافياً لحين وصولهم لأول ميناء !

فعمّ الفزع بين البحّارة الذين حاولوا إيجاد مصدرٍ آخر لماء الشرب.. لكن لم تنفع طرق تحلية مياه البحر او التبخير .. والأسوء كان توقف المطر , رغم هطوله بغزارة طوال الفترة الماضية !  

لكن هذه لم تكن المشكلة الأخيرة .. بل تعرّض مطبخ السفينة لحريقٍ مُفاجىء بعد سقوط طنجرة القلي على الأرض , ممّا أدّى لانتشار الحريق الذي قضى على جميع المؤن الغذائية , قبل تمكّن البحّارة الفزعين من إطفائه .. وبالكاد نجوا من غرقٍ مؤكّد .. لكنهم باتوا يواجهون مصيراً اسوأ بالموت جوعاً وعطشاً قبل وصولهم الى شطّ الأمان !  
***

في ذلك المساء .. إنفجر أحد البحّارة غضباً : 
- لم أعد أتحمّل المزيد , علينا التخلّص فوراً من تيري اللعينة!!
القبطان باستغراب : وما دخلها بالموضوع ؟!
فردّ البّحار بعصبية : هذه الفتاة شؤم !! الا ترى المصائب التي انهالت علينا بعد إنقاذنا لها ؟ .. عواصف وامراض وحرائق وانتحارات وقتلى , واليوم اصبحنا بلا طعامٍ ولا ماء ! وكل هذا بسببها !!

البحّار الآخر : معك حق !! اساساً كانت شؤماً على اهلها 
- صحيح , وأظن قاتل عائلتها مات غرقاً ايضاً !  
- برأيّ علينا التخلّص منها , قبل ان نموت الواحد تلوّ الآخر
الطبيب مُعترضاً : هل الجوع أصابكم بالجنون ؟! هذه الصغيرة لا ذنب لها بما يحصل لنا 
- كنّا بألف خير قبل صعودها الى سفينتنا 
- هذا صحيح !! فنحن قمنا بعشرات الرحلات , ولم تصبنا كل هذه المصائب دفعةً واحدة ! وانا أقترح إعادتها الى البحر .. فمن يتفق معي ؟!!
- انا !!
- وانا ايضاً !!

وأجمع البحّارة على هذا الرأيّ , فلم يستطع القبطان معارضتهم خوفاً من إضرابهم عن العمل !
***

في صباح اليوم التالي .. وضعوا تيري في قاربٍ صغير مع قارورة ماء وبعض الخبز اليابس ..
فنادتهم من الأسفل ..
- ألن تركبوا معي ؟!
فأجابها أحد البحّارة : لا !! ستذهبين وحدك
تيري بقلق : الى اين ؟!
فردّ البحّار بلؤم : الى الجحيم !!
القبطان : إنتظروا يا رجال !!.. تيري عزيزتي ..عليك ان تُكملي الرحلة وحدك

فمسحت دموعها بخوف : الن تأتي معي ؟! 
القبطان محاولاً إخفاء حزنه : لا حبيبتي .. واريدك ان تبقي شجاعة , فمنزلك ليس بعيداً من هنا
فقال البحّار بلؤم : أتمنى ان تلقي عائلتك قريباً
القبطان معاتباً : إسكت يا رجل !!

وهنا سألته تيري : وهل سأصل سريعاً الى الشاطىء ؟ 
القبطان : نعم 
تيري : أتعدني يا عمّي ؟
فأمسك القبطان دمعته بصعوبة : أعدك يا صغيرتي .. ورجاءً لا تغضبي منّي , فوجهتنا بعيدة جداً عن منزلك .. ألقاء قريباً  
تيري بصوتٍ عالي : الى اللقاء يا اصدقاء !!

ولوّحت لهم ببراءة .. لكن القبطان والطبيب كانا الوحيدان اللذان لوّحا لها بحزن , الى ان اختفى قاربها المطاطيّ الصغير خلف الأمواج !
***

بعد حلول الظلام .. أخذت تيري تدنّدن في قاربها الضائع في المحيط .. 
وهنا ظهرت دوامةٍ كبيرة بالقرب منها .. 
فنظرت اليها , لترى ناراً يخرج منها كزوبعةٍ ضخمة تصل للسماء!
فقالت بصوتٍ عالي : لا داعي لكل هذه التأثيرات السينمائية يا ابي , فأنا وحدي هنا

فاختفى كل شيءٍ فجأة ! وظهر صوتٍ ضخم من اسفل البحر : 
- الم أقل لك ان البشر ملاعيين ؟ فهم تخلّوا عن فتاةٍ صغيرة بعد تعرّضهم لبعض الظروف العابرة
تيري بغضب : أتسمّي كل تلك المصائب بظروفٍ عابرة ؟! الم تعدني بأن لا تتدخّل في مغامراتي ؟!
فردّ الصوت : أردّت ان أسرّع لك النتائج , وأظهر لك مدى جبنهم ونذالتهم في مواجهة المجهول .. وأظني أثبت لك عزيزتي انهم لا يستحقون الجنة التي أحاول حرمانهم منها بكافة الطرق والوسائل 

تيري : وهل تظنهم علموا بأنني ابنة ابليس ؟
ابليس : لا اظن تخيلاتهم وصلت لهذه الدرجة , لكنهم مخلوقات سريعة التشاؤم والفزع كما لاحظتي ..المهم الآن , هل اقتنعتي بأن والدك عادلٌ في عقابي لهم ؟ 
- نعم ابي .. فبعد تخلّيهم عني , يمكنك القضاء على اولئك السفلة 
- جيد !! سأعطي الأوامر للجن الغوّاص بإغراق سفينتهم في الحال .. لكن ماذا عنك ؟ هل ستعودين الى قصري في اعماق البحر ؟

الفتاة : ليس بعد .. اريد مغامرة أخيرة مع البشر , لكن بشرط !! ان لا تتدخّل هذه المرة .. وأعدك ان أعاقبهم بنفسي أشدّ العقاب في حال تأكّدت من نواياهم الخبيثة  
صوت ابليس : ستثبت لك الأيام ان منهم من هو أشر من اخوتك الشياطين .. لكني سأدعك تخوضين التجربة وحدك , فلطالما كنت طفلتي المدلّلة .. وانا متأكّد انك ستعودين يوماً الى مملكتي وانت تبغضينهم أكثر مني .. الى اللقاء قريباً عزيزتي
***

في الصباح الباكر .. صرخ بحّارٌ يجلس فوق الصارية لسفينةٍ شراعية تابعة للقراصنة , بعد ان رأى من منظاره القارب المطاطيّ ..حيث نادى بعلوّ صوته :
- هناك فتاةٌ ضائعة في البحر !!

فأسرع قائد القراصنة بالنظر من منظاره نحو المكان الذي أشار عليه مراقبه .. وحين رآى تيري التائهة , قال في نفسه بخبث : 
- حوريّةٌ مجانية ! .. سأجعلها دميتي المُنحرفة 

ثم قاموا بسحبها اليهم , وهم لا يعلمون بأنهم قريباً سيتمنّون الموت الف مرة لإنقاذهم إبنة الشيطان المرعبة ! 

*******
ملاحظة : 
القصة مستوحاة من احداثٍ حقيقية , وأردّت تحويلها الى قصة مخيفة ..
رابط المقال :
https://www.kabbos.com/index.php?darck=6844

الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

إفعوانية الحياة

تأليف : امل شانوحة
مراحل العمر !

إستيقظ (أمير حمدي) من النوم وهو يشعر بطاقة ونشاط على غير عادته ! فحمد ربه , وذهب لتغير ملابسه إستعداداً للعمل .. واثناء تمشيط شعره الخفيف وذقنه الكثيفة , تراجع الى الخلف بخوف بعد ان رأى شكله في المرآة وقد عاد شاباً صغيراً , رغم انه احتفل البارحة بعيد ميلاده الأربعين!

- كيف يُعقل هذا ! اين ذهبت العشرون سنة من عمري ؟!
وهنا سمع صوت امه تناديه من خارج الغرفة :
- أمير حمدي !! الفطور جاهز 

فخرج على عجل وهو متشوّقٌ جداً لرؤية والدته المتوفاة منذ سبع سنوات .. وحين رآها ضمّها بقوةّ والدموع تترقّرق في عينيه , وقبّل كلتا يداها .. فقالت باستغراب :
- أكل هذا لأن لديك اليوم امتحانٌ مهم , ايها الماكر ؟
أمير باستغراب : إمتحان !
- هل شاهدت كابوساً جعلك مرتبكاً هكذا !

فحاول تغير الموضوع : يا سلام ! رائحة البيض جميلة 
وأخذ يأكل بشهيّة ..
امه بدهشة : غريب ! الم تكن ترفض الطعام طوال الشهرين الماضيين بحجّة الحمية الغذائية ؟
- أعدك منذ اليوم ان لا أحرم نفسي ابداً من طعامك اللذيذ
- جيد ! اذاً كُل بسرعة , فقد تأخّرت على جامعتك 

بعد قليل .. سمع بوق سيارة تحت شرفة منزله .. فقالت امه :
- هآقد وصل صديقك ماجد , ستذهب معه الى الجامعة
أمير بدهشة : ماجد سليمان ؟!
- نعم , صديقك المقرّب
أمير : كنت نسيت ان مديري اللئيم هو نفسه صديقي القديم ! 
- عن ماذا تتكلّم ؟! 
- لا شيء , سأنزل اليه حالاً .. إدعي لي يا امي
- بالتوفيق بنيّ
***

حين رأى سيارة صديقه المتهالكة , ضحك دون ارادةٍ منه .. فقال له ماجد بامتعاض :
- على الأقل لديّ سيارة , ولا أتنقّل بالحافلات مثلك ايها ..
أمير مقاطعاً : آسف آسف .. هيا بنا
***

في الطريق , أخبره أمير :
- أتدري يا ماجد انك بالمستقبل ستقتني أغلى السيارات , بعد ان تصبح مديري بالشركة 
ماجد مُستفسراً : هل رأيت ذلك في المنام ؟!
- يمكنك قول ذلك .. مع اني لا اعرف كيف تفوقت عليّ بعلامات الجامعة التي جعلت الشركة تختارك للإدارة , بينما علقت انا في وظيفةٍ مكتبية مملّة!

ماجد : أتدري , ليتني حلمت انا بهذه الرؤيا المبشّرة .. (ثم سكت قليلاً) .. ولا افهم لما تستكثر عليّ ذلك المركز المرموق ؟ 
- كنت أقصد انني كنت دائماً متفوقاً عليك بالدراسة , فمالذي تغير في سنتنا الأخيرة هذه ؟!
فالتزم ماجد الصمت , وكأنه يُخفي نيّة خبيثة لصديقه !
***

حين قرأ أمير حمدي ورقة الإمتحان , قال في نفسه :
((مع اني لم ادرس شيئاً , الا ان هذه الأسئلة تبدو سهلة بعد ممارستي هندسة الحاسوب لعشرين سنة .. (ثم فكّر قليلاً) .. سأحلّها طُبقاً للبرامج الجديدة التي لم تُكتشف بعد في هذا الزمن , وبذلك أستفيد من عودتي الغريبة للماضي))
وحلّ الأسئلة بسهولة , وبتميّزٍ مُلفت .. 

وقبل تسليمه الورقة للمراقب , لاحظ إرتباك ماجد وضياعه وهو يقرأ الأسئلة مراراً دون ان يحلّ شيئاً !

فخرج أمير حمدي من القاعة وهو يقول باستغراب : 
- كيف اذاً تفوّق عليّ في الماضي , فشكله يوحي بأنه سيرسب في هذه المادة الرئيسية ؟! ..عليّ ان أفكّ هذا اللغز , لأنه كان السبب في تعاسة مستقبلي , وبقائي في وظيفةٍ أقل بكثير من طموحاتي !  
***

بعد ساعة .. خرج ماجد من القاعة ليجد أمير حمدي في انتظاره , فقال له بارتباك :
- الم نتفق هذا الصباح ان تعود الى بيتك بالحافلة , لأني ذاهبٌ مباشرةً الى بيت خطيبتي ؟
أمير : آه صحيح , نسيت .. كيف كان الإمتحان ؟
فأجابه على عجل : جيد جيد .. اراك لاحقاً 

وابتعد عنه .. فتساءل أمير حمدي بنفسه :
((حتى انه لم يسألني عن امتحاني ! هناك شيءٌ يخفيه .. سأراقبه من بعيد))
***

بعد ساعتين قضاهما ماجد وحده سارحاً بساحة الجامعة .. صعد مجدداً الى  فوق بعد ذهاب الطلاّب الى بيوتهم .. 
فلحقه أمير حمدي دون ان يلاحظه .. ليجده يدفع مالاً الى حارس غرفة الأساتذة الذي أدخله خلسةً الى الداخل !

فانتظر أمير قليلاً , قبل ذهابه للحارس وإخباره بأن المدير يطلب منه إعداد القهوة .. فأسرع الى المطبخ لتنفيذ الأوامر .. 
بينما تسلّل أمير الى غرفة الأساتذة , ليرى صديقه في الغرفة الداخلية .. فاختبأ في الزاوية وهو يراقبه اثناء تفتيشه بين اوراق امتحانات الطلبة .. ثم رآه يُخرج ورقتين .. رمى إحداها في سلّة النفايات , بينما اسرع بشطب شيءٍ من الورقة الثانية , وكتابة شيء مكانه ! ثم اعاد الأوراق الى الدرج  
فأسرع أمير حمدي بالإختباء خلف المكتب , اثناء خروج ماجد من الغرفة 

وبعد ذهابه .. قام أمير بإخراج ذات الأوراق من الدرج , ليتفاجأ بأن ماجد إستبدل اسمه مكانه (بعد ان قام بشطبه) 
اما الورقة التي رماها , فكانت ورقة امتحانه المليئة بالأخطاء ! 
وحينها فهم أمير حمدي سبب رسوبه بالسنة الأخيرة (قبل اعوام) , بينما حصل ماجد على علامة متفوقة جعلته مديراً في المستقبل ..
فتمّتمّ أمير حمدي بغيظ : يا حقير يا ماجد , سأعلّمك درساً لن تنساه ابداً .. 

وأخذ أمير السائل الأبيض من مكتب إحدى الأساتذة ليُخفي اسم ماجد , ويضع اسمه من جديد على ورقته .. ثم اعاد ورقة ماجد الأصلية الى اوراق الإمتحانات , بعد ان أخرجها من صندوق القمامة ..
قائلاً في نفسه : ((الآن سيحصل كل واحداً منّا على العلامة التي يستحقها))

ثم خرج خلسة من الغرفة قبل عودة الحارس .. ومن بعدها عاد الى بيته مرتاحاً بعد تصحيحه لخطأ الماضي ..
***

في المساء .. وقبل نوم أمير حمدي في سريره : 
((حينما استيقظ , سأعود حتماً الى سن الأربعين .. لكن هذه المرة سأكون مدير ماجد الشرير , وليس العكس .. الشيء الوحيد الذي يحزنني انني لن ارى امي ثانيةً .. ليتني استطيع السهر معها اكثر , لكني اشعر بنعاسٍ شديد))
ثم غفى أمير حمدي من شدة التعب ..
***

في الصباح , وفور استيقاظه .. اسرع ناحية المرآة , ليتفاجأ بأنه مازال في سن العشرين ! 
- غريب ! مع اني أفسّدت خطة ماجد الخبيثة , فلما بقيت شاباً؟!
وهنا سمع نداء امه من خارج الغرفة :
- أمير حمدي !! الفطور جاهز

فقال مبتسماً : على الأقل سأبقى مع امي الحبيبة فترة اطول الى ان اعرف حلّ اللغز وأعود ثانيةً الى عمري الحقيقي
وخرج ليحضن امه بسعادة , وهي متفاجئة من حنانه الزائد هاذين اليومين!
***

في يوم النتائج .. حصل أمير حمدي على أعلى علامة بين الطلاّب , بينما استشاط ماجد غضباً بعد رؤية رسوبه في لوحة الإعلانات .. واسرع الى الطابق العلويّ .. فلحقه أمير , ليراه يُعاتب حارس غرفة الأساتذة الذي ردّ عليه بصوتٍ منخفض :
- انا قمت بواجبي وأدخلتك الغرفة , فما ذنبي انك لم تحسن التصرّف 

ثم مضى في طريقه , تاركاً ماجد يتأجّج غضباً بصمت .. فناداه أمير حمدي من بعيد , قائلاً بتهكّم :
- يبدو انني فسّرت منامي بالمقلوب , وانا من سأكون مديرك في المستقبل ايها الكسول .. (ثم ضحك ساخراً) .. سأذهب للإحتفال مع امي بنجاحي الباهر .. حظاً موفقاً لك في السنة القادمة

وخرج أمير من الجامعة وهو يقول : لن احزن عليه , فهذا الغشّاش إستحق عقابه .. وصداقتنا إنتهت هذا اليوم !!
***

بعد ايام , وفي المساء .. وضع أمير حمدي رأسه على الوسادة , وهو متأكّد بأنه سيستيقظ في سن الأربعين بعد انتهاء حفل التخرّج 
***

الا انه اكتشف صباحاً انه مازال في عمر العشرين !
فقال باستغراب : هل هذا يعني انني عُدّت نهائياً الى زمن الماضي , ام هناك خطبٌ ما عليّ تصليحه قبل عودتي الى عمري الحقيقي؟!
وهنا سمع امه تناديه للفطور .. 

واثناء تناوله الطعام , قالت له :
- بما انك تخرّجت يا بنيّ , فما رأيك ان أخطب لك ابنة الجيران ؟
- أيّةِ بنتٍ تقصدين ؟!
الأم : ابنة جارتنا في القرية .. التي كنت تلعب معها وانت صغير 
- سعاد ! لم ارها منذ عشر سنوات
- نعم , وقد انتقلت مع عائلتها الى هنا قبل شهر .. واريدك ان تذهب معي مساءً لزيارتهم .. وان أعجبتك , أخطبها لك 
أمير : لا يا امي , لا احب الزواج التقليدي .. اريد الزواج من فتاةٍ أعشقها بجنون 
- الحب يأتي بعد الزواج يا بنيّ , فلا تصدّق قصص الأفلام والمسلسلات ..
أمير مقاطعاً : رجاءً يا امي , أتركيني اختار من اشاء
ودخل غرفته .. 

لكنه حينما استلقى على فراشه , تذكّر مستقبله .. فقال بدهشة :
- يا الهي ! الآن فهمت لما لم أعد بعد الى سن الأربعين .. 

وبدأ يتذكّر ما حصل معه في الماضي : وكيف تزوج زميلته في الشركة بعد حبٍ جارف , والتي تغيرت كثيراً بعد إنجابها طفله .. وكيف أصرّت على الطلاق بعد اعتراضه على تعليم ابنه في الخارج .. كما تذكّر كيف اختلقت عليه الأكاذيب في المحكمة للحصول على الحضانة , التي خسرها بعد الجلسة الثالثة .. وكيف حرمته لخمس سنوات من رؤية ابنه (قبل إنتقاله المفاجىء للماضي)..

فقال أمير حمدي في نفسه : يبدو كلام امي صحيحاً , فالحب الحقيقي يأتي بعد الزواج !
*** 

في المساء .. وقبل خروج امه من البيت , تفاجأت بأمير يلبس طقماً رسمياً!
- أمير ! الى اين انت ذاهب ؟
أمير بابتسامة : ذاهبٌ معك لرؤية العروس
امه بدهشة : أحقاً ! والله أفرحت قلبي , فسعاد فتاةٌ مؤدبة ومن عائلة طيبة
- سأراها اولاً , وإن كانت ما تزال جميلة , سأغمزك , حينها تفاتيحهم بالموضوع 
فحضنته امه بسعادة : اذاً هيا بنا لرؤية العروس 
***

بعد يوم من خطبيته سعاد التي اعجبته كثيراً , نام على سريره وهو يقول :
- اكيد غداً سأعود الى سن الأربعين وانا ربّ اسرة سعيدة , بدل حياتي الماضي التي عشتها وحيداً في شقتي الكئيبة .. (ثم تنهّد بارتياح) ..أصبحت الآن أكثر تشوقاً للعودة الى حياتي السابقة بعد ان صحّحت مفاهيمي الخاطئة عن الحب والزواج 
***

لكنه استيقظ في اليوم التالي وهو مازال شاباً !
- يا الهي ! ماذا عسايّ ان أغيّر ايضاً لأعود الى حياتي اللعينة؟!!

وهنا وصله إتصال من قريبه يعزمه على العشاء برفقة بعض الأصدقاء الذين ارادوا الإحتفال بخطبته .. 
***

في المساء .. جلس أمير حمدي على طاولته وهو يراقب اصدقائه يرقصون امامه .. فهو رغم عودته شاباً , الا ان عقله الأربعيني يرفض هذه التفاهات  

وبينما هو شاردٌ على طاولته , تقدّم منه النادل قائلاً :
- اراك متعباً , هل رأسك يؤلمك ؟
أمير بتعب : أصابني الصداع بسبب صوت الأغاني العالي 
فأخرج النادل حبة من جيبه وهو يقول بخبث : 
- تفضّل , هذا دواء لعلاج الصداع ..

لكن قبل ان يأخذها أمير , تذكّر مستقبله وكيف أدمن المخدرات لعدة سنوات .. والتي كانت السبب في موت امه غاضبة عليه
فأمسك يد النادل التي بها الحبة بقوة , ونادى بصوتٍ عالي :
- اريد المدير حالاً !!

فارتبك النادل , وبدأ يترجّاه ان يترك يده .. الا ان أمير حمدي أصرّ على رؤية المدير الذي قدم بعد سماع صراخه , وسأله عن سبب إنزعاجه ..فقال أمير غاضباً : 
- كيف تسمح ببيع الممنوعات في مطعمك ؟!!
المدير بدهشة : نحن لا نبيع المخدرات هنا !
أمير حمدي : أنظر الى الحبة التي اراد موظفك إعطائي اياها , أليست هذه حبوب هلوسة ؟

فأخذ المدير الحبة من يد النادل الذي كان يرتجف بشدّة .. وبعد تأكّده منها , نادى على الحارس غاضباً : 
- خذّ النادل اللعين الى مركز الشرطة !!

ورغم توسّلات الموظف بتركه وشأنه , بعد تقديم إستقالته .. الا ان المدير أصرّ على عقابه , لتشويهه سمعة مطعمه الذي يرتاده المراهقون والشباب اليافعين .. وبعد اقتياده للشرطة .. إعتذر المدير من أمير حمدي امام الجميع , وقدّم له عرضاً بتناول الطعام المجاني في مطعمه لشهرين متتاليين .. فشكره أمير , ثم عاد الى بيته
***

قبل نومه .. قال أمير في نفسه :
- اكيد عندما استيقظ سأعود الى حياتي السابقة بعد تخلّصي من الإدمان الذي استغلّته زوجتي الحقيرة في المحكمة للحصول على حضانة ابني .. آه لحظة !.. اساساً هي لن تكون زوجتي بالمستقبل , بل سعاد , الصبية الطيبة الحنونة .. (ثم أخذ نفساً عميقاً , قائلاً بارتياح) .. بما انني أصلحت جميع اخطاء الماضي , فأنا على أتمّ الإستعداد لرؤية مستقبلي المشرق .. (ثم تثاءب بتعب) .. والآن لأنام قرير العين 
***  

الا انه استيقظ في اليوم التالي وهو مازال شاباً ! ..حينها فقط رضخ للأمر الواقع , قائلاً :
- لربما كانت حياة الأربعين مجرّد منامٌ غريب , وانا بالحقيقة مازلت في سن الشباب ! .. اساساً لما أستعجل حياةً مليئة بالأمراض والتعب .. سأستمتع بشبابي واقوم بنشاطات رياضية ورحلات عديدة بدل السنوات الماضية التي قضيتها مُنكبّاً على برامج الحاسوب .. يكفي انني سأبقى وقتاً اطول مع امي الغالية , وخطيبتي الجميلة سعاد 

ويوماً بعد يوم , إعتاد أمير حياة الشباب المليئة بالصحة والنشاط  
***

وفي إحدى الأيام .. ذهب الى الشركة للتقديم على عمل , كما وعد حماته 

وعلى عكس بقيّة المتقدمين للوظيفة , جلس بثقةٍ وحماس في غرفة الإنتظار .. فهي ذات الشركة التي عمل فيها لعشرين سنة والتي حُذفت فجأة من حياته ! لكنه مازال يتذكّر جميع تفاصيلها .. 
لذلك إنبهر به المدير اثناء تحدّثه عن مشاريعه المستقبلية التي يعلم مُسبقاً بأنها ستحقق ارباحاً كبيرة للشركة .. كما ان معرفته بطباع المدير واسلوب تعامله مع الموظفين سهّلت عليه المقابلة.. لذلك حصل بسهولة على وظيفةٍ راقية بالشركة , كما كان يحلم دائماً .. 

وعاد سعيداً الى بيته ليبشّر امه والعروس بحصوله على وظيفة الأحلام .. 
وبعد تلقيه الراتب الشهريّ الأول .. بدأت التحضيرات لعرسه القريب
***

في ذلك المساء ..نام على سريره وهو يقول بسعادة :
- هذه ليلتي الأخيرة في منزل امي , وغداً سأكون مع عروستي في شقتي الجديدة .. كم انا متحمسٌ ليوم الغد ..
***

حين استيقظ صباحاً , أحس بتعبٍ شديد في ظهره ومفاصله ..وبالكاد وصل الى مرآة غرفته .. وحين رأى شكله , تراجع الى الخلف بخوف :
- يا الهي ! ذقني بيضاء تماماً .. أبدو وكأنني في سن السبعين .. مالذي حصل ؟!

وهنا سمع صوت امرأة تناديه من خارج الغرفة .. 
وحين رآها , عرفها بصعوبة .. فهي سعاد في أواخر الستينيات !
وقبل ان يستوعب ما يحصل معه , رأى شاباً يقبّل يده وهو يقول :
- سأبيت هنا يومين مع عائلتي , إن كنت لا تمانع يا ابي 
فقالت امه : اهلاً وسهلاً بنيّ .. والدك سيسعد كثيراً بأحفاده .. اليس كذلك يا أمير حمدي ؟
أمير بدهشة : ماذا ! آه نعم .. اهلاً بكم 

وهنا اقتربت منه حفيدته وهي تقول :
- هل ستحكي لنا القصصّ , كما تفعل دائماً يا جدي ؟
والدها : حبيبتي ..أتركيه يرتاح قليلاً , فهو خرج قبل ايام من المستشفى
أمير باستغراب : المستشفى ! هل كنت مريضاً ؟!
زوجته : الربو أتعبك كثيراً يا عزيزي 
ابنه : مع اننا نصحناك كثيراً بترك السجائر..  
أمير مقاطعاً : لكني لا أدخن !

فقالت الأم لإبنها : أصبح والدك ينسى كثيراً هذه الأيام .. (ثم قالت لأمير) .. انت بدأت التدخين بعد إنتحار صديقك ماجد
أمير بدهشة : ماذا ! هل انتحر ماجد سليمان ؟!
ابنه : نعم يا ابي .. الم تخبرنا سابقاً : انه بعد فشله بإمتحان الجامعة لم يحصل على وظيفةٍ لائقة , فانتحر بعد فسخ حبيبته الخطوبة
أمير بحزن : يا الهي ! ماذا فعلت , لقد دمّرت حياته
زوجته سعاد : وما دخلك انت ؟ هو كان شاباً كسولاً وفشل في الجامعة ..فتوقف عن لوم نفسك يا رجل , هذا هو قدره
أمير بقهر : ليتكم لم تذكّروني بما حصل له 

حفيدته : لا تخفّ يا جدي , ستنساه قريباً .. فأنت احياناً تنسى اسمي 
والدها بعصبية : تأدّبي يا بنت , والاّ ضربتك !!
أمير : دعها يا بنيّ .. اساسا هناك اشياء غريبة تحصل معي هذه الأيام , وكأن مراحلاً من عمري تُحذف من ذاكرتي بشكلٍ فجائي , حتى انني لا أتذكّر الأحداث التي حصلت معي بعد سن الأربعين ! 
ابنه : لا تخفّ يا ابي , فالطبيب طمأننا انك مازلت بالمراحل الأولى للزهايمر
أمير بقلق : وهل أصبت بالزهايمر ايضاً ؟!
زوجته : لكنه مازال امامك سنوات طويلة قبل ان تفقد ذاكرتك تماماً
أمير بيأس : يا الهي ! مالذي يحصل معي ؟!
***

في المساء .. لم يستطع أمير حمدي النوم من صوت شخير زوجته العالي .. فوضع الوسادة فوق رأسه وهو يقول : 
- ليتني أعود شاباً من جديد
***

حين استيقظ من نومه , شعر بملابسه وفراشه مبلولين !
- ما هذا ! هل بدأت أتبوّل على نفسي ايضاً ؟!

وهنا دخلت امه الغرفة , لكنها كانت شابةٌ يافعة ! وكانت تناديه : 
- أمير حمدي.. استيقظ !! ستتأخّر على المدرسة .. ما هذا ؟! الم أطلب منك دخول الحمام قبل النوم , هكذا ستتأخّر على المدرسة .. هيا اسبقني الى الحمام , وسأحضر ملابسك لتحميمك 

لكنه اسرع نحو مرآة الخزانة , ليرى نفسه في سن السابعة !
أمير بدهشة : ماذا ! لقد عدّت صغيراً جداً
امه بحزم : هيا أمير !! أدخل الحمام بسرعة , ولا تتعبني ككل مرة

واثناء وجوده في حوض الإستحمام , بانتظار والدته .. سقط فجأة مُغمى عليه !
***

حين استيقظ , كان في مكانٍ مظلم .. ثم تناهى الى سمعه : صوتٌ بعيد لإمرأة تصرخ من الألم .. ورجلٌ يشجّعها قائلاً : 
- هيا إدفعي اكثر !! فأنا ارى رأس الطفل .. هيا تنفّسي بانتظام , وادفعي الطفل الى الخارج

وحين خرج من تلك الغرفة المظلمة , شعر بجسمه ينقلب رأساً على عقب ! وشخصٌ يمسك برجليه .. ثم شعر بصفعةٍ قوية على قفاه , جعلته يصرخ متألماً .. 

وسمع صوت الطبيب يسأل والده :
- مبروك , طفلٌ مُعافى ..ماذا ستسمي ابنك ؟
الوالد : أسمٌ مُركّب .. أمير حمدي

الجمعة، 23 أغسطس 2019

هوس الأبراج

تأليف : امل شانوحة


 
برج حواء الجديد !

دخلت سهى الى الصالة لرؤية العريس .. وبعد دقائق , خرجت وهي تقول لوالدها : لست موافقة 
فسألها بقلق : لماذا ؟!
فاكتفت بالقول : لا يناسبني 
ودخلت غرفتها , وأقفلت الباب على نفسها .. 

بعد ذهاب العريس واهله , عاد والدها لسؤالها عن السبب .. فأجابته :
- برجه لا يناسب برجي 
فصرخ الأب غاضباً : الهذا السبب لم تجلسي معهم , هل جننت ؟!!
- لا تحاول يا ابي , لن اتزوج الا من شخصٍ يناسب برجي ..وهذا قراري النهائي

وعادت بلا مبالاة الى غرفتها .. تاركةً اباها يُعاتب امها على سوء التربية  
***

وبعد بلوغها سن الثلاثين .. يأس الوالدان من رفضها الدائم للعرسان , وتجاهلها لنصائحهما !

وفي يوم .. بادرت صديقتها بإقامة عزومة في بيتها , دون إعلامها بإحضار قريبها لرؤيتها بهدف الزواج .. وهي مطمئنة بقبولها به , لتوافقه التام مع برجها 
الا ان سهى إعتذرت عن القدوم الى السهرة , وأصرّت على الرفض !

وبعد ذهاب العريس , إتصلت بها لمعرفة الأسباب .. فأخبرتها سهى بتحذيرات عالمة فلكٍ مشهورة لأصحاب برجها هذا اليوم من مكيدة تُدبّر من إحدى الأصدقاء .. 
فاحتدّ الخلاف بينهما , أدّى الى فسخ صداقتهما التي دامت سنواتٍ طويلة ! وكان آخر ما قالته صديقتها : هو ضرورة خضوعها لعلاج نفسيّ من هوسها المرضي بالأفلاك 

وكعادة سهى تجاهلت كلامها , كما نصائح الجميع بشأن هذا الموضوع بالذات !
***

في خطبة ابنة اخت سهى , وبعد انتهاء الحفل .. إقتربت الخالة لتسألها عن برج خطيبها .. وبعد قيامها بالحسابات الفلكيّة (التي أصبحت خبيرة فيها) نصحتها سهى بتركه , لأنه لا يناسبها .. 
فجنّ جنون الأم ..وطلبت من سهى عدم الإقتراب من ابنتها ثانيةً , لأنها لا تريدها ان تُعنّس مثل خالتها .. 
فعادت سهى غاضبةً الى بيت اهلها
***

ووصل هوسها لدرجة انها لم تذهب الى عزاء والدها بسبب تحذير الأفلاك من عينٍ ستُصيبها في إحدى الإجتماعات .. ممّا أغضب أقاربها الذين قرّروا مقاطعتها .. لكن هذا لم يؤثّر على سهى التي تابعت دراستها الفلكيّة لتصبح خبيرة أفلاك مشهورة , كما تحلم دائماً
***

بعد موت والد سهى , أصبحت المسؤولة عن مصاريف امها التي لاحظت إنخفاض المرتّب كل شهر ! 
وحين استفسرت عن الأمر , أخبرتها سهى عن تغيّبها عن العمل في الأيام السيئة , بناءً على نصيحة معلّمتها الفلكية ! ممّا أغضب امها التي نبّهتها على تزايد مصاريف المنزل .. لكن هذا لم يوقف سهى عن سماع برجها اليومي كل صباح .. وبناءً عليه , تقرّر الذهاب الى العمل او لا ! 

الى ان وصلها إنذار من مديرها بالطرد , في حال تكرّر غيابها الغير مبرّر  
وكادت سهى تستقيل لولا الموظّف الجديد الذي أثار اعجابها , ممّا جعلها تلتزم أكثر بمواعيد العمل ..
لكنه كان شخصاً قليل الكلام .. 

الا انه مع الأيام تطوّرت علاقتهما , وأصبح مغرماً بها .. وقرّر مفاتحتها بموضوع الخطبة .. 
وكان اول سؤال وجّهته له :
- ماهو برجك ؟
زميلها باستغراب : عفواً ! 
وبعد إلحاحها بالسؤال , أخبرها ببرجه .. لتتغيّر معالم وجهها , وكأنها أصيبت بخيبة أملٍ كبيرة ! 
وابتعدت عن مكتبه وهي تقول :
- للأسف , لا نصيب بيننا 

ممّا أصابه بحيرة ! وحاول معرفة السبب من صديقتها التي أخبرته باستهزاء عن هوس سهى بالأبراج .. 
لكنه لم ييأس ...وحاول على مدى اسابيع إقناعها بتغير رأيها , وتذكيرها بالتوافق الفكري والروحي بينهما منذ بداية تعارفهما .. 
وبعد إصراره على زيارة عائلتها , فاجأته بالإستقالة من الشركة بعد حصولها على تعويض نهاية الخدمة .. 

وفي الوقت الذي كان يعاني فيه من كسرة القلب , كانت سهى تستخدم مال التعويض في تعلّم خفايا الأبراج من عالم فلكي مشهور , رغم إعتراض اهلها على سفرها الى الغربة !
***

بعد سنتين .. عادت الى الوطن امرأةً ثريّة , بعد تزايد أعداد متابعين قنواتها في وسائل التواصل الإجتماعي الخاصّة بعلم الفلك .. رغم ردودها العنيفة لكل من حاول تحذيرها في التعليقات : من ذنوبها وعقابها الأليم في الآخرة .. حيث كان تجيب مُنتقديها : بأنه علمٌ قديم مبني على حسابات فلكية دقيقة قام بها علماء الصينيون القدامى والفراعنة , مُستدلّة بالآية : ((فلا أقسم بمواقع النجوم , وانه لقسمٌ لوّ تعلمون عظيم)).. دون ان تُدرك المعنى الحقيقي للآية! 
***

وفي إحدى الأيام .. نُقلت امها للمستشفى , فأرادت سهى دفع تكاليف العملية .. الا ان امها رفضت مالها الحرام .. ممّا أحزن سهى كثيراً , وجعلها تعود الى بلاد الغربة ..
***

وقبل نهاية السنة .. فاجأت اهلها بخبر زواجها من رجلٍ عربي يعيش في نفس دولتها , بعد تناسب برجيهما الغربي والصيني .. فشعروا بارتياح كبير لزواجها .. وفرحوا أكثر بعد إنجابها للطفل 
***

الا انه بعد سنتين , تطلّقت منه ! وعادت الى الوطن دون ابنها التي تنازلت عنه لأهل زوجها ..
فعاتبتها اختها بدهشة : أمعقول انك تنازلتي بهذه السهولة عن طفلك؟!
فتنهّدت سهى بضيق : المشاكل بدأت مع زوجي حين ابتعدت عنه شهراً كاملاً
- لماذا ؟!
- لأني خفت ان أحمل في ذلك الشهر , فيأتي برج الولد غير موافق لبرجي

أختها بغضب : وهآقد خذلك الله , وولد ابنك في الشهر 7
- أعلم ذلك , لهذا قبلت بالتنازل عنه مقابل الطلاق , فهو سيتعبني بالمستقبل على حسب مواصفات برجه الصعبة
الأخت : انت حقاً مجنونة يا سهى ! أتخربين بيتك من اجل هذه التفاهات ؟!
سهى بعصبية : سواءً صدّقتي ام لا .. بإمكاننا تنبؤ المستقبل إن حسبنا تحرّكات الكواكب بدقةٍ واحترافية 
- هذا كلامٌ حرام !! إستغفري ربك فوراً
- لا اريد الجدال في هذا الموضوع , يكفيني التعليقات الساخرة والنصائح التافهة على اليوتيوب والإنستغرام

الأخت بتهكّم : اذاً أجيبيني !! الم يكن طليقك يناسبك من حيث البرج والطالع , فلما لم تتفقي معه ؟!
سهى : لا ادري .. ربما اهله لم يسجّلوه في يوم ميلاده , وتأخّروا شهراً او شهرين لحين تقيده في السجلّات ..
الأخت مقاطعة : توقفي يا سهى !! ستعيشين وحيدة ان تابعت هوسك العقيم هذا ! فعمرك تجاوز الأربعين , ولم تعودي صغيرة لتفكّري بهذه الطريقة المتخلّفة !!

الا ان سهى فضّلت الرحيل الى شقتها الجديدة , على سماع نصائح اختها الكبرى !
***

ومنذ وقتٍ قريب .. ضجّ العالم بخبر كوكب حامل الثعبان او برج حواء الجديد الذي غيّر خارطة الأبراج الفلكية .. ممّا أصاب مهوسيّ الأبراج وعلماء الفلك بارتباك ! وأولهم سهى التي انهال عليها متابعينها بالأسئلة والإستفسارات.. وبدورها إتصلت بعالمة الفلك (مثلها الأعلى) التي أكّدت صحّة الخبر ..فغضبت سهى منها , ولامتها على تدمير حياتها .. وألغت إشتراكها بصفحتها على الفيسبوك
***

في المساء .. جلست سهى تُعيد الحسابات الفلكية لأقاربها والأصدقاء.. 
وتأكّدت شكوكها : حين وجدت بأن طليقها على حسب التقويم الجديد لم يكن يناسبها بالفعل .. بل ان مواصفات برجه الجديد تطابقت عليه أكثر من برجه السابق ! بعكس ابنها الذي يتوافق برجه الجديد معها (بعد تخلّيها عنه) .. 

اما المفاجاة الكبرى : فكان زميلها بالعمل الذي انجذبت اليه من النظرة الأولى (قبل ان ترفضه) .. حيث تطابق برجه الجديد مع برجها بنسبة تفوق التسعين في المئة ! 
فتنهّدت بضيق , وهي تشعر بخيبة امل : 
- ماذا فعلت ؟ لقد خسرت حب حياتي .. (ثم فكّرت قليلاً) ..سأحاول إصلاح الأمر بشتّى الطرق
***

وشاءت الصدف ان تصلها دعوى لحفل إعتزال مديرها القديم , الذي عزم موظفينه القدامى .. 

وبالحفل , إلتقت بزميلها العزيز .. لكن ما ان اقتربت منه , حتى لاحظت الخاتم في يده !
- هل خطبت ؟
معاتباً : الناس تسلّم اولاً 
سلمى بارتباك : أعتذر .. كيف حالك ؟
- بخير , سمعت ان لديك قناة مهمة على اليوتيوب
فتنهّدت سلمى بضيق : أفكّر بإغلاقها قريباً , لأن برج حواء دمّر كل معتقداتي القديمة , وزعزع ثقتي بالجداول الفلكيّة 
- عن ماذا تتكلمين !

فأجابته بحماس : برج حواء الجديد Ophiuchus هو البرج 13 من الأبراج الفلكية ..وهو برج جديد تمّ إضافته الى قائمة الأبراج بحسب ما ذكرته صحيفة التايم الأمريكية , ووافق عليه وكالة الفضاء ناسا .. ويطلق عليه ايضاً برج حامل الثعبان .. 
مقاطعاً : سهى , انت تعلمين انني لا أهتم بالأبراج .. بل اؤمن فقط بالقدر .. وخطبت حبيبتي بعد إستخارتي لله وموافقة الأهل , وهذا يكفيني.. وهي صبية حنونة وجميلة جداً , ستأتي الى هنا بعد قليل
فأسرعت بسؤاله : ماهو برجها ؟
- سهى توقفي !! 
- ارجوك أجبني  

وبعد ان أخبرها , قالت بارتياح دون ان تُخفي حماسها :
- برجكما لا يتفقان , خاصة بالتقويم الجديد !!
فقال بعصبية : رجاءً يا سهى !! الا يكفي ما حصل لك بسب هوسك بهذه التفاهات .. لقد خسرتي عائلتك واحترام الناس لك , فهم الى اليوم يستهزئون من تفاهة عقلك .. عدا عن كسرة القلب التي تسبّبتها لي .. لهذا أنصحك كصديق بالتفكير جدّياً بالعلاج النفسي لتغير اسلوب حياتك 
فقالت غاضبة : انا لست مجنونة ! ولا اسمح لك بالتحدّث معي هكذا !!

بهذه الأثناء , وصلت خطيبته الى الحفل .. فسلّمت سهى عليها .. ثم ابتعدت عن الحشود , لمراقبتهما من بعيد .. لترى الإنسجام الواضح بينهما , وكأنهما على وفاقٍ تام ! 
فتمّتمت باستغراب : غريب ! كيف يُعقل هذا ؟! فأبراجهما تختلفان تماماً .. هل يُعقل ان هناك خطبٌ ما بعلم الأبراج ؟ .. وهل ضاعت حياتي سدى بدارسة معلوماتٍ غير صحيحة ؟ .. 

(ثم بدأت تتذكّر أخطائها الماضية , وهي تراقب بعينين دامعتين حبيبها القديم وخطيبته وهما يتراقصان بمحبة وحنان على نغمات الحفل الرومنسية).. 
- ماذا فعلت بنفسي ؟ .. هآقد كبرت في العمر .. وأغضبت والدايّ واخوتي واقاربي .. وخسرت صديقتي الوحيدة .. ودمّرت زواجي وتخلّيت عن طفلي .. عدا عن الذنوب والخطايا التي اكتسبتها منذ فتح قنواتي اللعينة ؟! .. (ثم تنهّدت بضيق) .. عليّ بالفعل تغير نمط حياتي ! 
وخرجت حزينة من الحفل ..

وما ان ركبت سيارتها , حتى اتصلت بها إحدى الزبائن تسألها عن نسبة التوافق بينها وبين خطيبها .. فأسرعت سهى بإخراج دفترٍ وقلم من حقيبتها , وهي تستفسر عن تواريخ الميلاد ..
الا انها تذكّرت ما حصل معها قبل قليل , فاعتذرت من الزبونة ..وأخبرتها أنها تخلّت عن هذه الوظيفة , بعد توبتها الى ربها توبةً نصوح ..وبأنها ستقوم بحذف جميع مواقعها بوسائل التواصل الاجتماعي فور وصولها الى المنزل .. 

وبعد إنهائها المكالمة , أخرجت كتب الفلك من سيارتها ورمتها في أقرب حاوية نفايات .. ومضت في طريقها وهي تلعن هوسها بالأبراج الذي دمّر حياتها , وحرمها من السعادة الأبديّة ! 

السبت، 17 أغسطس 2019

الوسيط الروحيّ

تأليف : امل شانوحة


الطفل المعجزة !

عادت ناديا الى قريتها بعد وفاة زوجها , برفقة ابنها لؤيّ (12 سنة) .. 
وفي أحد الأيام .. زارتها جارتها العجوز وهي تحمل صحناً كبيراً من الطعام ..
ناديا : لما أتعبت نفسك بهذه الكمية ؟ فأنا أسكن وحدي مع ابني الصغير 
العجوز : انت تتعبين بالخياطة ولا وقت لديك للطبخ , وأردّت الترحيب بعودتك للقرية
ناديا : اذاً سأحضر الصحون لنأكل سويّاً
العجوز بارتباك : لا !! أقصد .. تناولت طعامي قبل ان آتي اليكم 
- اذاً سأغلي ابريق الشاي

وبعد ذهاب ناديا الى المطبخ .. إقترب ابنها بوجهٍ غاضب , مُعاتباً العجوز:
- لما وضعت السحر في الطعام ؟!!
فشهقت الجارة بارتباك : ماذا قلت يا ولد ؟!
لؤيّ : قرينتك أخبرتني بنواياكِ الشريرة 
العجوز وهي تتلفّت حولها بقلق : قرينتي ! هل تراها ؟!
- نعم , أراهم دائماً .. هم يشبهوننا كالتوائم بنظراتهم الخبيثة , ويطفون خلفنا كالظلال .. (ثم نظر خلفها) .. قرينتك تنصحني بفعل هذا..

ورمى بصحنها الزجاجيّ على الأرض لينكسر الى أجزاءٍ صغيرة , ويتطاير الطعام في كل مكان .. 
فركضت ناديا الى الصالة , لترى الفوضى التي أحدثها ابنها .. فضربته بقوة , وأمرته بدخول غرفته .. 
وبعد ذهابه غاضباً .. إعتذرت مراراً من جارتها التي سلّمت عليها , وخرجت من المنزل وهي تفكّر ملياً بالطفل المعجزة !
***

في اليوم التالي .. إنتظرت العجوز عودة لؤيّ من المدرسة , على مفترق الشارع ..
وحين رآها , قال مبتسماً : كنت أعرف انني سألاقيك هنا , فقرينتك أخبرتني هذا الصباح بما تنوين فعله .. فإلى اين تأخذينني ؟

وقبل إستيعاب العجوز قدرته على قراءة افكارها ! وضعت المخدّر على انفه , ورمته في سيارتها القديمة .. وأسرعت به الى قريتها الثانية 
***

إستيقظ لؤيّ في قبو منزلٍ ريفيّ مظلم , لا ينيره سوى قنديلٌ قديم .. وهو مقيّد اليدين والقدمين في سريرٍ حديديّ .. فصار يصرخ , طالباً النجدة

وبعد قليل .. نزلت العجوز اليه , وهي تأمره بالسكوت.. 
فسألها غاضباً : ماذا ستفعلين بي ؟!!
- سأجعلك فتىً مشهوراً  
- لم افهم !
العجوز : قبل قليل أجتمعت بنساء القرية وأخبرتهنّ بموهبتك الفريدة.. وسيحضرون غداً لسؤالك عن مشاكلهنّ , وانت ستحلّها بناءً على نصائح قرائنهنّ .. وبذلك أجمع المال الوفير ..
لؤيّ : وماذا أستفيد انا من الموضوع ؟
فأجابته بلؤم : على الأقل لن اقتلك او أعذّبك .. ما رأيك بهذا ؟ 

فقال باكياً : ارجوك أعيدني الى امي !!!
- سأكون غبية ان تخلّيت عن هذا الكنز .. المهم الآن .. أحضرت لك شطيرة الجبن مع الحليب الساخن .. وسأفكّ قيودك لتأكل وتدخل الحمام , ثم أربطك من جديد
- ولماذا تربطينني ؟ فأنا لا أعرف طريق العودة .. وأعدك بأن لا اهرب من هنا
العجوز : انا لا أثق بك  

فنظر لؤيّ الى شيءٍ خلفها , ثم قال بخوف : حسناً كما تشائين , فقرينتك نصحتني بإطاعة اوامرك لأنك أخبث منها ! 
فقالت مبتسمة : يبدو ان قرينتي تعرفني جيداً
وضحكت ضحكةً شريرة , بينما كان لؤيّ يتناول شطيرته بيديه المرتجفتين
***

في الصباح الباكر .. بدأت نساء القرية بالتوافد الى منزل العجوز , التي قامت بإنزالهنّ الواحدة تلوّ الأخرى الى القبو على حسب دورها , بعد ان دفعنّ لها اجرة الإستشارة  
وهناك وجدنّ لؤيّ جالساً في سريره , بعد ان أخفت العجوز رجليه المقيدتين اسفل البطانية , وحرّرت يداه ..

وكانت اول الواصلات , عروسٌ جديدة سألته بقلق :
- عزيزي لؤيّ , اريدك ان تجيبني على سؤالي .. زوجي تزوجني على نسائه الثلاثة .. وبعد العرس , عانيت من صداعٍ مزمن .. فهل قامت إحداهنّ بسحري ؟
فنظر بتمعّن الى بؤبؤ عينيها , لتظهر فجأة قرينتها من خلفها ! فسألها لؤيّ ذات السؤال :
- ايتها القرين , هل قامت إحدى ضرائرها بسحرها ؟

وسكت لؤيّ قليلاً وهو يستمع للإجابة , بينما كانت العروس تتلفّت حولها بخوف , دون ان ترى شيئاً ! لكنها شعرت بروحٍ ثقيلة تحوم حولها ..
ثم أجابها لؤيّ : نعم هناك سحر .. من الزوجة الثانية 
العروس بدهشة : أحقاً ! كنت أشكّ بها , فهي غيورة جداً .. واين وضعت السحر ؟
لؤيّ : على غصن الشجرة التي بجانب بيتك .. وقد ربطتها لك في صباحيّة عرسك 

فقامت العروس وهي تقول : سأزيلها في الحال
فأوقفها لؤيّ قائلاً : إنتظري !! أحضري العمل الى هنا , وانا أفكّه لك بناءً على تعليمات قرينة ضرّتك .. والاّ سيتضاعف السحر
العروس : حاضر مولايّ الصغير , سأجلبه لك في الحال
وأسرعت الى بيتها وهي تلعن ضرّتها..
***

اما الزبونة الثانية : فكانت امرأة كبيرة في السن قدِمَت مع حفيدها , وهي تشكو آلاماً مبرحة في انحاء جسمها ..
وبصعوبة نزلت الى القبو , وهي تنهج وتأنّ من التعب .. 

وهناك تكلّم لؤيّ مع قرينتها لبعض الوقت .. ثم وضع يده على رأسها , وبدأ يتلو آية قرآنية .. ما ان أنهاها , حتى خرج من فمّ المرأة شعرة طويلة بها ثلاثة عقد 
فقال لها : جارتك القديمة قامت بقلب الآية التي تلوتها عليك قبل قليل , كيّ تعاني من امراضٍ عديدة ومشاكل مع زوجك  
السيدة باستغراب : ولما فعلت ذلك ؟! 
- لأنها تعلم كم يودّك زوجك , بعكس زوجها الذي ينهال عليها بالضرب والشتائم 
- لكن زوجي مات منذ سنة ! 
لؤيّ : نعم .. بعد ان عكّرت حياتكما في ايامه الأخيرة , وهذا الإنتقام يكفيها 
السيدة بغضب : اللعينة , الحقودة !! سأذهب اليها في الحال 
لؤيّ مُحذّراً : إيّاك !! فهي امرأة شريرة , والأفضل ان تبتعدي عنها كلّياً .. والآن دعيني أفكّ عقدك الثلاثة , كيّ تخفّ امراضك المزمنة 

وبدأ لؤيّ يتلو المعوذات وهو يفكّ العقد .. وبعد انتهائه , حرق الشعرة المسحورة في القنديل الذي امام سريره , وهو يسألها :
- كيف تشعرين الآن ؟
السيدة وهي تحرّك يداها ورجلاها بسهولة : 
- أحسن بكثير ! فمفاصلي لم تعد تألمني , شكراً لك .. (ثم قالت لحفيدها المراهق) .. هيا بنا نذهب
المراهق : لحظة جدتي , اريد ان اسأل لؤيّ سؤالاً .. 
لؤيّ : تفضّل
المراهق : كيف لا تخاف من القرائن الشيطانية ؟ وكيف التقيت بهم اول مرة ؟

فأخبرهما لؤيّ : انه شاهد قرينه اول مرة قبل سنتين , وهو من أخبره بسارق دراجته من اولاد الحارة .. لكن امه لم تصدّقه , ولم تشجعه يوماً على تنمية موهبته الفريدة ... كما انها عاتبته حين حذّرها من بعض اقاربها السيئين , بعكس المرأة العجوز
فسألته السيدة باستغراب : أتقصد ان صاحبة المنزل ليست جدتك؟!

وهنا سمعتهم العجوز , فاستعجلت بنزول القبو وهي تقول بارتباك:
- بلى !! انا ام والد لؤيّ .. وكنّتي ناديا تزوجت بآخر بعد وفاة ابني , وانا ربّيت لؤيّ منذ ان كان طفلاً .. وبما ان حفيدي عالجك من سحرك , فقد انتهى دورك .. هيا بنا الى فوق

وبعد خروج السيدة وحفيدها .. حذّرت العجوز لؤيّ من الكلام مع الزبائن بمواضيع جانبية .. وطلبت منه ان يناديها بجدته امامهم منعاً للشبهات , فأجابها لؤيّ :
- كما تشائين جدتي.. آه صحيح لم اسألك .. لما أردّت سحر امي , رغم انك لا تعرفينها جيداً ؟
- كنت أرغب بخدمة من الجن , وهم بالعادة لا ينفّذون طلباتي الا بعد إيذاء إحدهم ..وامك ضعيفة الشخصية ومن السهل سحرها
لؤيّ باهتمام : وهل الجن تنفّذ لك جميع طلباتك ؟ فأنا اتعامل فقط مع القرائن الشيطانية التي لا تفيدني الا بمعلومات عن ماضي الزبائن !

فأجابته بابتسامةٍ شريرة : انا أنوي تعليمك كل شيء عن عالم الجن حين تنتقل للمرحلة الثانية , فأنت لست مستعداً بعد لهذه التجربة .. وأؤمن انك يوماً ما ستفوقني خبرة بأسرار العالم الآخر 
لؤيّ : أتعديني بذلك يا جدتي ؟ 
فأجابته بابتسامةٍ حنونة : أعدك يا صغيريّ الغالي
***

ومرّت الأيام .. وقفت فيها النسوة طوابيراً امام بيت العجوز لاستشارة لؤيّ الذي أعجبه مديحهنّ وانصياعهنّ لأوامره , عدا عن الهدايا والحلويات التي أغرقوه بها .. 

وبعد ان استشعرت العجوز حماسته للعمل في فكّ اسحارهنّ القديمة , لم تعدّ تقيده بالفراش .. وجهزّت له الصالة لاستقبال الزبائن الذين وقفوا لساعات بانتظار دورهم ! 
***

وفي إحدى الأيام .. واثناء امتلاء الصالة بالزبائن , إقتحمت سيدة مجنونة المكان وهي تطلب من لؤيّ إيجاد ابنتها المخطوفة منذ عشرين سنة ..فحاولت العجوز تذكيرها بأنها غرقت في النهر , بعد ان وجدت الشرطة فستانها الصغير هناك .. ولم تستطع النسوة تهدأتها , وأصرّت على التحدّث مع لؤيّ اولاً .. وحين سمح لها , سألته بلهفة : 
- ابنتي لم تمت , فقد رأيتها البارحة في المنام وهي تطلب مني مساعدتها 
العجوز : مرام رجاءً .. حفيدي لؤيّ لا يعيد الأموات الى الحياة , هو فقط يفكّ الأسحار

لكن لؤيّ فاجأها قائلاً : لحظة جدتي .. إبنتها فعلاً بخير
فشهقت النسوة (المتواجدات بالصالة) بدهشة : ماذا !
لؤيّ : هي مخطوفة , وليست ميتة
المجنونة بسعادة غامرة : كنت أعرف هذا !! اين هي الآن ؟
لؤيّ : سأستدعي قرين خاطفها لأسأله عن العنوان .. انتظري قليلاً

وأغمض عيناه , وبدأ يتمّتم بكلماتٍ غير مفهومة .. بينما الجميع يراقبه بدهشة وحماس !
لؤيّ : هآقد وصل قرين خاطفها 
المجنونة بغضب : ومن هو ذلك اللعين ؟!!
لؤيّ : استاذ قريتكم القديم
الجميع بدهشة : ماذا !
المجنونة : نعم .. هو كان يعلّمها الأحرف الأبجدية , فإبنتي أصغر تلاميذه 

لؤيّ : صحيح .. وفي ذلك اليوم إنشغلتي عن احضارها من المدرسة , فاستغلّ غيابك وخطفها الى بيته.. وبعد ان وجدت الشرطة ملابسها التي رماها في النهر , أغلقت القضية بموت الصغيرة غرقاً .. وبعدها عاد الى مدينته مع ابنتك , بعد ان أخرج لها اوراقاً قانونية مزوّرة بأنها ابنته ..لأنه رجلٌ عقيم
المجنونة بقلق : وهل اعتدى على ابنتي ؟
لؤيّ : لا , هو عاملها كأبنته تماماً.. وهي ايضاً تحبه .. لذلك لا أنصحك باستعادتها , فهي متعلّقة به جداً

المجنونة بغضب : مُحال ان أتركها له !! أعطني عنوان بيته في المدينة وسأبلّغ الشرطة عنه .. وان لم يقبلوا شهادتي , سأقتحم بيته بنفسي !!
العجوز : مرام ..دعي رئيس بلدتنا يتكفّل بالأمر .. فهو أحد زبائن لؤيّ , وسيصدّق كلامه
المجنونة للعجوز : اذاً اتصلي به الآن , ودعيه يأتي الى هنا ليأخذ عنوان الأستاذ اللعين من لؤيّ .. والا سأتصرّف بنفسي !!

وبالفعل !! قام رئيس البلدة بإخبار شرطة المدينة عن الأستاذ الخاطف , الذي تبيّن لاحقاً من التحاليل إنه ليس والد الصبية التي رفضت تصديق ما حصل ! 

واثناء محاولة امها اقناعها بالعودة معها الى القرية , رمت بنفسها من شرفة الشقة العالية .. لتُجنّ امها تماماً بعد ان شاهدتها تقفز امام عينيها , وأُودعت في مستشفى المجانين .. 

وهذا ما أحزن لؤيّ الذي لام نفسه كثيراً على حلّه للغز إختفاء الطفلة .. الا ان ما حصل , جعل اهالي المخطوفين يتوافدون بكثرة الى منزل العجوز لسؤال لؤيّ عن عناوين خاطفيّ اطفالهم ! 
فأخبرهم لؤيّ ان بعضهم يعملون في الدعارة او الشحاذة في الطرقات , بينما البعض الآخر قتلوا بعد ان أُخذت منهم اعضائهم ..ودلّهم على قبورهم في اماكنٍ مهجورة ..ورغم قساوة الخبر على الأهالي الا انهم ارتاحوا بعد نقل رفات ابنائهم الى مقابر العائلة , وأقاموا العزاء لراحة أرواحهم .. 

وبذلك استطاع لؤيّ حلّ عشرات القضايا التي عجزت الشرطة عن حلّها لسنواتٍ طويلة ! 
***

وفي إحدى الليالي .. نزلت العجوز الى القبو , لتجد لؤيّ يبكي بقهر بعد ان أخبرته قرينة امه بمرضها من شدة شوقها له .. وطلب منها إعادته الى بيته في الحال .. 

فحاولت العجوز إقناعه بأن الله اعطاه هذه الموهبة لمساعدة الناس , وبأن امه ستعيده الى مدرسته المملّة , وستمنعه عن عمله الخيريّ ..ووعدّته بأنها ستعيده اليها , بعد ان يجمعا ثروة يتقاسماها بالتساوي بينهما .. حيث قالت له :  
- بذلك المال يا لؤيّ , يمكنك شراء أرضٌ زراعية لتريح امك من عناء الخياطة , الم تخبرني بأنه حلمك ؟ 
فقبل لؤيّ بعد تفكيرٍ مطوّل بالبقاء مع العجوز لحين تجميع ثروته 
*** 

وبعد قبض الشرطة على الكثير من الشبكات المختصّة بخطف الأطفال بسبب المعلومات التي أحضرها لهم رئيس البلدية (الذي أخفى عنهم موضوع لؤيّ) وصل الخبر الى إحدى رؤساء العصابة الذي تمكّن من معرفة المصدر الأساسي للمعلومات , فطلب من رجاله خطف الولد لؤيّ الذي أضرّ بأعماله .. 

وفي إحدى الليالي .. تسلّل رجالٌ ملثمين الى بيت العجوز , وخطفوا لؤيّ النائم من القبو 
***

إستيقظ لؤيّ في اليوم التالي وهو مازال يشعر بالدوار من ذلك المخدّر , ليجد نفسه في سجنٍ كبير , مُحاطاً بأطفالٍ بملابسهم البالية ورائحتهم النتنة 
فأغلق انفه باشمئزاز وسألهم : من انتم ؟!
- نحن اطفال الشوارع 
لؤيّ : يعني شحاذين ؟
فأجابه كبيرهم (10 سنوات) : كنت عائداً من المدرسة , حين قام رجلٌ ملثّم بخطفي .. ثم أجبرني الرئيس على الشحاذة .. ومعظم الأطفال هنا من المخطوفين 
لؤيّ : ولما لم تحاولوا الهرب وانتم طلقاء في الشارع ؟

الولد بحزن : حاولت مرة , دون ان اعلم انهم يراقبوننا من بعيد .. فلحقني احدهم واحضرني الى الرئيس الذي عاقبني بكسر رجلي , واصابني بالعرج الدائم كما ترى .. وبعد الذي حصل معي , لم يجرأ احد منهم على الهرب ! 
فقال ولدٌ آخر (8 سنوات) : ربما انتم مختطفون , لكني يتيم ولا مكان لي غير هنا ..
فأجابه لؤيّ : لا لست يتيماً , فقرينك أخبرني بأنهم خطفوك من مستشفى التوليد .. ووالداك مازالا يبحثان عنك حتى اليوم
الولد الكبير : ماذا يعني قرين ؟!
لؤيّ : سأخبركم لاحقاً .. عليّ الآن إيجاد خطةً مناسبة للهروب 

وهنا انفتح باب الزنزانة , ليقول الحارس للؤيّ : واخيراً استيقظت , الرئيس في انتظارك 
***

وفي مكتب رئيس العصابة أخبره بأنه لن يجبره على الشحاذة مع بقية الأطفال , بل سيدعه يُكمل عمله في فكّ الأسحار , معللاً ذلك بالقول :
- انت كالدجاجة التي تبيض ذهباً , وسأحاول الإستفادة منك بفتح كشكٍ لك لاستقبال الزبائن 
لؤيّ : وماذا لوّ سألوني عن اولادهم المختطفين عندك ؟ 
الرئيس بنبرة تهديد : تخبرهم انهم ماتوا , والا قطعت لسانك .. مفهوم !!
- حاضر سيدي
- يالك من ولدٍ مطيع .. هيا اعيدوه الى الزنزانة
***

في تلك الليلة , وبعد ان نام جميع اولاد .. جلس لؤيّ في الزاوية , وبدأ يهمس لقرينه :
- كما اخبرتك ..اريدك ان تقنع قرين الحارس بالقدوم اليّ في الحال 
فأوما قرينه برأسه إيجاباً..

وبعد قليل .. استطاع لؤيّ الإتفاق مع قرين الحارس للسيطرة على تحرّكاته 
وماهي الا لحظات , حتى قام الحارس (دون وعيّ منه) بفتح الباب  

فقام لؤيّ بإيقاظ الأطفال النائمين بالزنزانة , وأمرهم بمرافقته الى الخارج
الولد الكبير : وماذا عن اصدقائنا الذين يتسوّلون في المساء ؟
لؤيّ : معك حق ! المشكلة ان قرين رئيس العصابة شيطانٌ كبير , ولم يستطع قريني الإتفاق معه
الولد : لم افهم شيئاً !
لؤيّ : لا بأس, أسبقوني الى الخارج
الا ان الأولاد تجمّدوا في أماكنهم !

لؤيّ : لا تخافوا من الحارس , فهو ليس واعياً الآن .. هيا اخرجوا بسرعة قبل ان يأتي بقية الرجال .. لكن لا تبتعدوا كثيراً , كيّ استطيع اللحاق بكم بعد قليل 

وبعد خروجهم .. جلس لؤيّ في زاوية الزنزانة , وبدأ يتمّتم ببعض الكلمات التي جمعت له قرائن رجال العصابة .. فأخبرهم بخطته التي وافقوا عليها .. ثم اسرع للحاق برفاقه بالشارع .. وطلب منهم انتظار بقية رفاقهم الذين اتوا بعد ساعة , بعد قيام رجال العصابة (الذين طبقوا اوامر قرائنهم دون وعيّ منهم) بتجميعهم من الشارع وتسليمهم للؤيّ , ثم العودة الى وكرهم لإكمال نومهم !
الولد الكبير بدهشة : لا اصدّق انهم سلّموك جميع الأطفال ! هل سحرتهم يا لؤيّ ؟
لؤيّ : هذه قصة طويلة , هيا بنا الى الشرطة
لكن الأولاد رفضوا الذهاب الى هناك ..

لؤيّ : أعلم ان المجرمين أخافوكم من الشرطة , لكنهم الوحيدون القادرون على اعادتكم الى اهاليكم
الولد : لكننا لا نتذكّر شيئاً عنهم , فهم خطفونا ونحن صغار
لؤيّ : قرائنكم أخبروني بكل المعلومات عنكم .. ولا تسألوني عمّا أقصد , فقط الحقوا بي ..
***

في مركز الشرطة , اطلعهم لؤيّ على جميع المعلومات ..
الشرطي للؤيّ : لوّ لم تكن صغيراً مثلهم , لظننتك خاطفهم .. فكيف تعرف كل هذه المعلومات عنهم , ان كانوا انفسهم لا يتذكّرون شيئاً؟!

فاضطّر لؤيّ للكذب قائلاً : 
- سرقت ملف رئيس العصابة وقرأته بالكامل , وأملك ذاكرة حديديّة ..فرجاءً اتصل بالأرقام التي دوّنتها لك .. وانا متأكّد ان الأهالي سيتمكّنون من تميّز اولادهم , حتى من خُطف وهو رضيع .. وأنصحك بالإسراع , لأني أعتقد بأن رئيس العصابة ورجاله يبحثون عنا في كل مكان
الشرطي : ان صدق كلامك , فسيبيت المجرمون ليلتهم في السجن
***

بعد ساعة.. تجمّع الأهالي في مركز الشرطة , لينهاروا بالبكاء فور رؤيتهم لأبنائهم المختطفين منذ سنواتٍ طويلة .. لكن القليل منهم رفض استلام ابنه قبل القيام بالفحوصات اللازمة للتأكّد من النسب .. لهذا اضطّرت الشرطة لإبقاء بعض الأطفال عندها , لحين ظهور النتائج بعد ايام .. 

اما لؤيّ ..فقد عاد الى الى بيت امه التي استقبلته بالأحضان والدموع , بعد ان أخفى عنها وعن الشرطة موضوع المرأة العجوز الذي مازال ممّتناً لها لاكتشافها موهبته الفريدة
***

وبعد شهور .. عاد لؤيّ الى حياته الروتينة , والى مدرسته المملّة.. كما ظلّت تراوده احلاماً بشأن اسحار الناس التي باستطاعته فكّها , كما انه اشتاق الى كلمات المديح والهدايا التي زادت من غروره وثقته بالنفس  
***

في ظهر احد الأيام .. إتصل لؤيّ بالعجوز من هاتف الشارع , وطلب منها إعادته للعمل .. 
فصُعقت العجوز ممّا سمعته ! وطلبت منه الإنتظار قرب مدرسته  

حين وصلت اليه .. قفز الى داخل السيارة , قائلاً بحماس : 
- هيا جدتي , لنذهب ونساعد العالم !! 
العجوز بابتسامة : كنت أعرف ان حياة الشعوذة ستعجبك 
لؤيّ باستغراب : الشعوذة !
العجوز : نعم , فقد حان الوقت لأعلّمك كل شيء عن العالم الآخر .. ولن يكون صعباً عليك .. فكما استطعت فكّ الأسحار , يمكنك بسهولة ربطها 
- لكني لا اريد إيذاء .. 
العجوز مقاطعة : إسمع يا لؤيّ .. سنقوم بأعمال الشعوذة بالخفاء , وبذلك نزيد من كسبنا الماليّ .. فبالعادة الأغنياء يطلبون الأعمال السحريّة , بعكس المسحورين الفقراء

ففكّر لؤيّ قليلاً , قبل ان يقول : حسناً قبلت .. فأنا اريد شراء ارضٌ زراعية , كما اخبرتك سابقاً 
العجوز : اذاً إتفقنا ايها الشرير الصغير .. لكن ماذا عن امك ؟
لؤيّ : سأغيب عنها بضعة شهور لأعود غنياً , وأعيش معها حياةً سعيدة
العجوز : الهذا السبب , ام لأنك تكره المدرسة ؟
لؤيّ مبتسماً : الأثنين معاً

وضحكت العجوز وهي تبتعد بسيارتها عن قرية لؤيّ التي لم يعدّ اليها يوماً!

السبت، 10 أغسطس 2019

إعلان

امل شانوحة




سأتوقف هذه الأيام عن الكتابة للإهتمام بالزيارات العائلية .. كل عام وانتم بخير جميعاً , أعاده الله عليكم بالصحة والعافية .. سأحاول العودة قريباً بإذن الله .. تحياتي للجميع 

الأربعاء، 7 أغسطس 2019

أزمة إنتماء

تأليف : امل شانوحة

 
القلب المُهاجر !

قاد مراد سيارته الفارهة باتجاه الحارة الشعبية لزيارة أخيه الأصغر , والمباركة بولادة طفلته السادسة 
وكان مراد يشعر بالضيق كلما زار أخاه , ليس لفقر حاله .. بل بسبب الغيرة , فهو طلّق مرتين بسبب عقمه !
***

فور دخول بيت أخيه , تراكض الأولاد لتقبيل عمهم الوحيد ..فاستقبلهم ببرود , وأعطاهم النقود كعادته لهم  ..
لحظات .. وأتت الطفلة المولودة حديثاً ووضعت بين يديه , فأحسّ بقشعريرة تسري بجسده ! لشبهها بوالدته التي فارقتهم قريباً , والذي كان متعلّقاً بها ..

فسأل أخاه :
- ما أسمها ؟
- فوزية 
مراد بحماس : لا !! سمّها مروى على اسم أمنا , الا ترى الشبه بينهما ؟! 
سعيد بابتسامة : حسناً , كما تشاء أخي  
***

بعد انتهاء الزيارة وعودة مراد الى قصره .. لم يستطع النوم طوال الليل وهو يفكّر بالصغيرة التي حرّكت فيه مشاعر الأبوّة لأول مرة ! قائلاً بقهر:
- ربي ! لما لم تهبني هذه الصغيرة ؟ لكانت عاشت ملكة في قصري .. امّا اخي الجاهل فلن يهتم بتعليمها او تأمين حياتها 
وبعد تفكيرٍ مطوّل , قال بخبث :
- لابد ان أجد طريقة للإستيلاء على الطفلة !! 
***

وشاءت الأقدار ان تهبّ مراد ما اراد .. فبعد بلوغ مروى عامها الأول , تعرّض الإبن الأكبر لسعيد (وهو الصبي الوحيد بين خمسة بنات) الى حادث سيارة اثناء لعبه الكرة مع اصدقائه بالشارع ..
فاتصل الأب بمراد وهو يبكي , طالباً المساعدة 
***

بعد ساعة .. حضر مراد برفقة محاميه الى المستشفى , ليركض سعيد اليه وهو يقول :
- لقد تأخّرت يا اخي .. إبني في حالة خطرة ويحتاج الى ..
فقال مراد لمحاميه (مقاطعاً) : أخرج الأوراق الرسمية
فقام المحامي بوضع اوراق امام سعيد , وطلب منه التوقيع عليها.. 
سعيد مُستفسراً : على ماذا تريدني ان أوقع يا اخي ؟!
مراد : على اوراق التبنّي 
- لم أفهم !
مراد بلؤم : لن أدفع فلساً واحداً لإبنك , ان لم تتنازل لي عن مروى 
سعيد بصدمة : ماذا ! لكنها طفلتي
- وستكون ابنتي بعد قليل .. 

فسمعته زوجة سعيد , واقتربت منه غاضبة وهي تحمل مروى (حيث تركت البنات في المنزل).. 
- من قال اننا نقبل بيع ابنتنا !!
مراد بحزم : هذا شرطي .. لن أنقذ ابنكم الا بعد تسليمي الصغيرة , والقرار لكما
وهنا اقترب الطبيب منهم وهو يقول :
- الفحوصات أكّدت وجود نزيف داخلي للصبي .. وان لم أجري له العملية بعد قليل , قد تخسرونه .. عليكم تدبير المبلغ في الحال

وهنا فاجأ سعيد زوجته بتوقيع الأوراق على عجل , وهو يقول لأخيه باكياً: 
- خذّ مروى , وانقذ ابني ارجوك
فابتسم مراد بخبث , وأشار لمحاميه بالذهاب لدفع تكاليف العملية الى صندوق المستشفى .. 
الأم معاتبة : سعيد ! ماذا فعلت ؟!
فأجابها زوجها : لن أخسر ابني الوحيد !! ..كما ان ابنتنا ستعيش مُنعّمة في قصر اخي ..أليس كذلك مراد ؟
مراد : طبعاً !! وسأعلّمها في أفضل المدارس الأجنبية لتحصل على أعلى الشهادات , وتكون فخراً لعائلتنا 

فقالت الأم باكية : اذاً لتعيش عندك , لكن دعها تزورنا من وقتٍ لآخر .. ولا داعي لأن تنسبها اليك , فالتبنّي حرام !
مراد بلؤم : إسمعي يا زوجة اخي .. لن أخاطر بنفسيّة الطفلة وهي ترى حياتكم البائسة .. لهذا لا اريدكم ان تقتربوا منها بعد اليوم ..
سعيد : على الأقل إخبرها إنني عمها !
مراد بحزم : لا !! لن يكون لها أقارب سوايّ .. وانت وقّعت على الأوراق وانتهى دورك .. والمحامي يدفع التكاليف الآن .. هيا هات الطفلة 

الأم وهي تحاول إبعاد مروى عن يدين العم : لا !! هذه ابنتي .. أتركها !!
لكن زوجها سحبها منها بالقوة , وأعطاها لمراد الذي حضنها بحنان وهو يقول له :
- أتمنى لإبنك الشفاء العاجل

وبعد خروجه من المستشفى .. إنهارت الأم باكية وهي تلوم زوجها على التخلّي عن ابنته , فحاول الدفاع عن قراره الى ان احتدّ النقاش بينهما .. لكن سرعان ما انشغلا بعملية ابنهما الوحيد
***

ومرّت السنوات .. كبرت فيها مروى , وهي تظنّ بأن عمها هو والدها الذي ربّاها بعد وفاة امها .. وبدوره عاملها كأميرته المدلّلة 

أمّا في بيت سعيد .. وبعد شفاء ابنه حسام (الذي قرّر ترك المدرسة , والعمل مع والده في المحل) كان دائم الشعور بالذنب , لأن حادثته تسبّبت بخسارة اخته الصغرى .. لذلك كان يتسلّل من وقتٍ لآخر الى منزل عمه لتصوير اخته (بكاميرا قديمة) اثناء ذهابها الى المدرسة او لعبها في ساحة القصر .. ثم مشاركة الصور مع عائلته التي يبدو انها تقبّلت خسارتها , بعد ان خصّص لهم العم راتباً شهريّاً !
***

وفي أحد الأيام .. مرض الأب سعيد كثيراً , وأحسّ بقرب أجله ... فأسرع حسام (بناءً على طلبه) الى القصر , لأخذ مروى لتوديع والدها .. لكن عمه طرده من القصر , وهدّده من الإقتراب منها !
وحين أخبر اباه بما حصل , إنهار سعيد باكياً .. مُعتذراً من عائلته لبيعه ابنته .. وظلّ يلوم نفسه , الى ان مات بحسرته ! 

ولم يتجرّأ مراد على حضور العزاء خوفاً من معاتبة الناس والأقارب له , واكتفى بإرسال مالٍ إضافي لتكاليف الدفن !

وبعد العزاء .. أخبر حسام امه برغبته في البحث عن عملٍ اضافيّ لكيّ يستغنوا عن مساعدات عمه , الذي لقبها : بالمال الحرام.. 
فأخبرته امه بأن لديها خطة أفضل , لكنها لم تبوح له بالفكرة !  
***  

بعد اسبوعين , وفي ساحة المدرسة .. إقتربت الحارسة من مروى , لتسألها بعينين دامعتين :
- ما اسمك يا حلوة ؟
- مروى ..هل انت الحارسة الجديدة ؟
- نعم , لما تجلسين وحدك ؟
مروى بنبرةٍ حزينة : لأني غاضبة من أصدقائي , فهم يعايروني بأني يتيمة الأم 
الحارسة : أهذا ما أخبرك به والدك ؟
- نعم .. فأمي كانت عقيمة لسنوات , قبل ان يعالجها والدي في الخارج .. لكنها توفيت اثناء ولادتي 

فكتمت الحارسة غيظها , وقالت في نفسها بغضب : ((مراد !! ايها العقيم النذل)) 
ثم قالت لمروى : لا تلومي نفسك يا ابنتي , هذا هو قدرها 
مروى بقهر : ما يحزنني ان غداً عيد الأم , وطلبت منّا المعلمة إحضار صور أمهاتنا كيّ نعلّقها على لوحةٍ كبيرة اثناء الحفل .. وحين سألت والدي , أخبرني إنه مزّق جميع صورها بعد وفاتها , فقلبه لا يتحمّل آلام الماضي . وبرأيّ ما فعله أنانية منه !! لأن من حقي معرفة شكلها ..اليس كذلك يا خالة ؟

فأسرعت الحارسة بالقول : انا معي صورتها
مروى بدهشة : وكيف تعرفين امي ؟!
فحاولت الحارسة تدارك الأمر , وأجابتها بارتباك : 
- كنت خادمتها , قبل ان يطردني والدك بعد وفاتها .. واثناء تنظيفي الأخير للقصر , وجدت صورة سليمة بين الصور الممزّقة .. فاحتفظت بها , لعلمي بأنك سترغبين في رؤيتها حينما تكبرين
مروى بسعادة وحماس : أحقاً يا خالة ! واين الصورة الآن ؟
- في منزلي , سأحضرها غداً 
- سأكون ممتنّة جداً .. شكراً جزيلاً لك
***

في المساء , وفي منزل سعيد..
حسام بقلق : امي ! سيُجنّ عمي ان علم بعملك الجديد
الأم بقهر : لي سنوات أحاول العمل في مدرستها الإبتدائية , لكني لم أوفّق الا بعد إنتقالها للمدرسة المتوسطة .. وأنوي التقرّب منها , الى ان ترتاح لي ..وتفضفض لي عن متاعبها 
- وماذا عن الصورة ؟
- سأعطيها صورة عرسي 
حسام : وماذا لوّ لاحظت إنها انت ؟
- ملامحي هرِمَت كثيراً بعد خسارة مروى , ولا أظنها ستعرفني .. كما اني سأنبّهها ان لا تريها لوالدها , كيّ لا يمزّقها ايضاً.. المهم يا حسام ان لا تخبر أخوتك بالأمر , وليبقى هذا سرّاً بيننا
فأومأ برأسه إيجاباً , وهو مازال يشعر بالقلق !
*** 

نزلت دمعةٌ حارة على وجنة مروى , وهي تُمعن النظر في الصورة القديمة... وبعد شكرها للحارسة , أسرعت الى معلمتها كيّ تعلّقها على اللوحة , بعد ان أرتها لجميع صديقاتها .. بينما كانت امها الحقيقية تراقبها من بعيد , والألم يعتصر قلبها !
*** 

ومع مرور الأيام .. لاحظ مراد تغيراً كبيراً في سلوك مروى , حيث ازدادت مرحاً ! (دون إخباره بشأن الصورة) 
وفي يوم العطلة الأسبوعية .. دخل غرفتها , ليتفاجأ بلوحةٍ كبيرة لإمرأةٍ مجهولة ..
فسألها بابتسامةٍ وفخر : موهبتك تزداد براعةً مع الأيام .. لكن من هذه السيدة ؟.. هل رسمتي معلمتك ؟
مروى معاتبة : أمعقول انك نسيت شكل امي !

وحين أمعّن النظر في اللوحة , عرف إنها صورة زوجة اخيه يوم عرسها.. فغضب غضباً شديداً , وسأل ابنته : 
- من أعطاك الصورة ؟.. هيا تكلّمي !!
- ابي ! انك تؤلم ذارعي .. ثم لا أفهم سبب رفضك رؤية أمي , فهذا من حقّي !!  

لكنه أصرّ على معرفة ما حصل بالتفصيل المملّ .. فأخبرته مُرغمة عن حارسة المدرسة الحنونة .. فتركها , ليذهب مُسرعاً الى بيت اخيه
*** 

وهناك , قامت مشاجرة عنيفة بينهم.. 
مراد صارخاً في وجه الأم : 
- انت خالفتِ بنود العقد , لذا سأمنع عنكم المعونات الشهريّة!!
حسام بغضب : اساساً نحن لا نريد منك شيئاً !! فقط أعدّ لنا أختنا
مراد بلؤم : ابنتي لا تمتّ لكم بصلة .. وبسبب غلطة امكم , لن تروها في حياتكم !! 
الأم باكية : ارجوك يا مراد , انا لم أخبرها بالحقيقة 
مراد : انا أعرف مروى جيداً , وهي لن تهدأ قبل ان تعرف القصة كاملة .. لكني لن أسمح لكم بتعكير صفو حياتنا !! 

وأغلق الباب خلفه بغضب .. ليخيّم الحزن على وجوه الأخوة , وهم يستمعون لبكاء امهم المرير بعد ان حبست نفسها في الغرفة !
***

في اليوم التالي .. علمت الأم ان ملفّ ابنتها سُحب من المدرسة ! فبحثت كالمجنونة في جميع مدارس المتوسطة للبنات في المنطقة , لكن دون جدوى .. الى ان علمت لاحقاً بأن القصر معروض للبيع , بعد هجرة العم مع مروى الى الخارج .. وبذلك تلاشت احلامها باجتماع شمل ابنائها من جديد !
***

ومرّت السنوات ..أنهت فيها مروى دراستها الجامعية .. لكنها بعد التخرّج أصيبت بعارضٍ صحّي .. 

وفي المستشفى .. أخبرهم الطبيب بأنها بحاجةٍ ماسّة الى كلية .. وبعد إجراء الفحوصات , لم تتناسب كلية العم معها  .. كما انه لم يجد متطوّعاً مناسباً لفصيلة دمها النادرة ..
لكنه تذكّر بأن حسام وامه يحملان الزمرة نفسها , لهذا إضّطر لإرسال تذكرتين لهما , لإنقاذ حياة ابنته الغالية ..

وبعد وصولهما الى المستشفى , لم توافق الأم على إخضاع ابنها للعملية .. وتطوّعت هي لتبرّع بكليتها لمروى , بشرط ان يخبرها الحقيقية فور شفائها 
***

بعد شهر , عادوا جميعاً الى بيته الفخم بجانب الشاطىء .. وهناك أخبر العم مروى بالحقيقة ..فانفجرت في وجهه غاضبة , وهي تشير الى امها :
- أبعد كل هذه السنوات تخبرني بأن حارسة المدرسة هي امي الحقيقية .. وبأن هذا أخي .. ولديّ ايضاً اربعة أخوات !! وبأن ابي مات حسرةً عليّ .. فكيف تريدني ان اسامحك , بعد ان عشت عمري ألوم نفسي على موت امي ؟!

العم بقلق : اهدأي يا مروى , فأنت مازلتي متعبة 
ابنته بغيظ : ليتك تركتني اموت قبل ان أعرف الحقيقة
الأم : اهدأي يا ابنتي ..
مروى مقاطعة بقهر : وانت يا امي العزيزة ! كيف قبلتِ ان تُباع طفلتك ؟!
حسام : لا تلومي أمنا يا مروى , فموتي الوشيك هو ما أجبر والدي على فعل ذلك .. ولوّ رأيتي دموعه وقت وفاته , لعلمتِ كم عانى لفقدانك

فسكتت مروى , والغضب يشتعل في صدرها .. فحاول العم تهدأتها :
- مروى حبيبتي , فعلت ذلك لتحصلي على حياةٍ هانئة
مروى بلؤم : أتدري يا عمي

فشهق مراد متفاجئاً ! فهي المرة الأولى التي لم تناديه أبي .. بينما أكملت مروى كلامها بنبرة تحدّي :
- قرّرت ان أعود معهما الى بيتي الحقيقي 
العم بعصبية : ماذا ! لا طبعاً !! لا اوافق على هذا .. انا من ربّيتك وتعبت عليك , وانت ابنتي بالقانون .. ومعي ما يثبت ذلك ؟
مروى بلؤم : لا تهمّني اوراقك الرسمية , سأعود معهما ..وهذا قراري النهائي !!
الأم وهي تمسح دموعها بارتياح : حبيبتي الغالية , اخوتك سيفرحون كثيراً بلقياك 
***

وعادت مروى مع اخيها وامها الى بلدتها , رغماً عن العم الذي انهار باكياً في المطار اثناء توديعها .. لكن مروى لم تكترث لدموعه !

وما ان وصلت الى حارتها الشعبية , حتى انقبض قلبها من منظر الناس البائس .. كما أغلقت انفها طوال الطريق تجنّباً لرائحة المجاري والنفايات!

وكان وضع البيت اسوء ممّا تصورت .. ففيه 3 غرف صغيرة .. 
غرفة لأخوها وغرفة لأمها .. وغرفة للبنات الأربعة , التي نقصت منهنّ واحدة بعد زواجها .. لتستلقي مروى على فراشها فوق الأرض , بعد ان تناولت الخبز والحليب فقط على العشاء !

وطوال الليل .. حاولت مروى التحدّث مع اخواتها , لكنها لم تجد قاسماً  يجمعها بهنّ .. فهنّ لم يكملنّ دراستهنّ , وكان همّهن الوحيد هو إيجاد عريس بأسرع وقتٍ ممكن ! 
كما تضايقت كثيراً من اسئلة اختها الوسطى التي كانت تحسدها على إختيار عمهنّ لها , رغم انها أجمل منها !

فتحجّجت مروى بالتعب من السفر كيّ تنام , وترتاح من اسئلتهنّ حول حياتها المرفّهة ..وأدارت رأسها نحو الحائط المُتشقّق الذي تنبعث منه رائحة الرطوبة العفنة .. ولم يمرّ وقتٌ طويل حتى غفت من شدة التعب ..

لكنها عادت واستيقظت في منتصف الليل , لتجد صعوبة في استخدام الحمام الأرضيّ الذي لم ترى مثله في حياتها ! 

ثم وقفت في الشرفة الصغيرة التابعة للصالة , مُستغلّة نوم الجميع .. لتنهار باكية , شوقاً لحياتها السابقة .. حيث شعرت بمشاعرٍ مختلطة : كغضبها من عمها لنزعها من عائلتها الحقيقة .. وبذات الوقت , مُمتنّة له لإخراجها من حياتهم البائسة .. كما شعرت بالشفقة على إخوانها الذين لم يكونوا محظوظين مثلها .. الا ان مشاعرها الغالبة : كانت التقزّز من حياتهم البسيطة التي ليس بمقدورها تحمّلها !
***

ومرّ شهران كأنهما الدهر على مروى .. حاولت فيها مساعدة اخوتها بشؤون المنزل .. لكن الأمر كان صعباً عليها , فهي تعوّدت على وجود من يخدمها .. وهاهي يداها الناعمتان تتجرّحان اثناء محاولاتها الفاشلة لتعلّم الطبخ .. كما ان أكلهم الدسم لا يناسب نظامها الغذائي , وخافت ان تتدهوّر صحتها من جديد ..والأسوء ان العطلة الصيفية على وشك الإنتهاء وهي ترغب في إكمال دراستها العليا في الحقوق ..ومُحال ان يحدث هذا في عائلتها التي لم يُكمل فيها احد تعليمه ! كما ان إلحاح اختها الغيورة عليها بالعمل للمساعدة بمصروف المنزل , زاد من الضغط على أعصاب مروى التي تكاد تنفجر !
***

وفي صباح أحد الأيام.. طلبت مروى من امها السماح لها بالبحث عن عملٍ في المدارس القريبة من الحارة ..  
وفور خروجها من المنزل , توجّهت لأقرب محل كمبيوتر .. حيث لا يوجد انترنت في أزقّة الحارة .. 

وهناك أجرت بحثاً سريعاً لموقع الطيران .. فعلمت بوجود رحلة بعد ساعة متوجهة لبلدة العم في الخارج .. فاتصلت من جوّالها الثمين على عمها بعد تردّدٍ كبير .. وأخبرته بموجز ما حصل معها في الشهرين الماضيين .. وطلبت منه الغفران , وترجّته كثيراً لإخراجها من هذا الجحيم .. فقبل العم إعتذارها , لشوقه الكبير لها .. وطلب منها إنتظار محاميه خارج الحارة ليأخذها مباشرةً الى المطار , ويدفع لها ثمن التذكرة .. 
***

بعد ساعتين .. تنفّست مروى الصعداء بعد إقلاع طائرتها في الجوّ!
***

وبحلول العصر .. طلبت الأم من حسام البحث عن أخته , بعد تأخّرها بالعودة .. 
لكن قبل خروجه من المنزل , نادته اخته الوسطى : 
- أخي !! مروى تركت رسالة تحت وسادتها ! 

فاجتمعوا حوله وهو يقرأها بصوتٍ عالي :
((آسفة امي وأخوتي الأعزّاء .. لقد حاولت التأقلم معكم , لكني حقاً لم استطيع .. فحياتكم صعبة جداً بالنسبة لي .. لهذا سأعود للعيش مع عمي .. وسأطلب منه إرسال المعونات الشهرية لكم , الى ان أجد عملاً لائقاً يجعلني أتكفّل بكم مادياً .. لكني لا استطيع فعل أكثر من ذلك .. وهذا ليس خطأي .. فأنتم من قبلتم بيعي منذ البداية .. لكني سامحتكم جميعاً , لأن القدر أرسلني لحياةٍ أفضل .. وسأحاول تحسين حياتكم قدر المستطاع .. إنتبهوا على أنفسكم .. واعتبرونني منذ اليوم : ابنة العمّ مراد))

وما ان أنهى قراءة الرسالة , حتى انهارت الأم باكية بين احضان ابنها الذي وقف عاجزاً بعد تأكّده من خسارة مروى للأبد !

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...