تأليف : امل شانوحة
قائمة الأمنيات
وصل الى مكتب رجل الأعمال الثريّ وليد (الستينيّ) ظرفاً ورقيّاً من امرأة عرفها قديماً : فيه كيسٍ بلاستيكيّ ، بداخله شعرة صغيرة!
مع رسالة تقول :
((أعرف انك طلبت من حرسك منعي القدوم الى منزلك وشركتك .. لكني أحتضر ! فإبنك الذي رفضّت الإعتراف به منذ ولادته ، أخذني الإسبوع الفائت بنزهةٍ في سيارته المستعملة.. وللأسف ، حصل لنا حادثٌ مروّع ..أُصبت فيه بنزيفٍ في الرأس ، وعليّ إجراء عمليّةً خطيرة غداً .. وهناك احتمال أن اموت بسبب سيولة الدم التي أعاني منها.. اما ابني لؤيّ ، فأصيب بشللٍ نصفيّ .. وقلبي يتفطّر عليه بعد تخرّجه من كليّة التجارة بدرجة امتياز ، لرغبته التوظّف في شركتك.. والآن تحطّمت احلامه ، ومع هذا يساندني كيّ لا اخاف من عمليّتي الجراحيّة ! ..لهذا ارسلت شعرة من رأسه ، أخذتها اثناء نومه في غرفته المجاورة لي بالمستشفى ، فهو مازال يتلقّى العلاج الفيزيائيّ.. أعرف انك تنكر أبوّتك له .. لكن من خلال شعرته ، يمكنك إجراء فحص (DNA) لتأكّد بأني لم أخنك يوماً ، رغم غضبي من تمزيقك ورقة زواجنا العرفيّ ، وتدميرك علاقتنا الرائعة ! .. لا اريد عتابك ، فربما اموت غداً .. الشيء الوحيد الذي يُحزنني هو ترك ابني المُقعد وحده.. رجاءً قمّ بالفحص سريعاً.. وفي حال تأكّدت أنه ابنك الوحيد ، لا تتخلّى عنه.. فهو شابٌ رائعٌ وطموح ، ويحتاج رعايتك وحنانك .. في امان الله ، يا عزيزي دودي))
وكان هذا لقبه الذي نادته به خلال زواجهما الذي استمرّ اربعة اشهرٍ ، قبل إصرار والده على تطليقها (لأنها من عائلةٍ بسيطة ، التحقت بجامعة ابنه الراقية بسبب منحتها الدراسيّة) وأمره الزواج من ابنة شريكه المدلّلة التي رغم صعوبة طباعها ، إلاّ انه قدّرها بعد تحمّلها عقمه لأكثر من عشرين سنة ، وتسجيلها املاكها بإسمه بعد وفاتها !
وكان على وشك رميّ الشعرة بسلّة النفايات .. إلاّ انه فكّر بإجراء فحصٍ ثاني لإرساله لزوجته الأولى ، مع صورة تقريره الطبيّ القديم الذي يُثبت عقمه لكيّ تكفّ عن ازعاجه بنسب ابنها له ، وذلك إشفاقاً على مصيبتهما!
وبعد انتهاء عمله .. توجّه للمستشفى لإجراء فحص (DNA) مقارنةً مع شعرة الشاب المُعاق .. فأخبروه أن النتيجة ستظهر غداً
***
في اليوم التالي .. ذهب بنفسه الى المستشفى لأخذ التقرير (فهو لا يحب توكيل مساعده بموضوعٍ شخصيّ) ليُصعق بجواب الطبيب :
- هناك تطابق بالجينات
وليد بقلق : ماذا تقصد ؟!
الطبيب : الشاب صاحب الشعرة ، هو ابنك بالفعل
ونزل كلامه كالصاعقة !
وليد بصدمة : دكتور ! هناك خطأ ما .. فأنا أريتك البارحة تقرير عقمي من الفحصيّن الّلذين أجريتهما انا وزوجتي الثانية ، بعد عام من زواجنا .. أيّ منذ 23 عاماً
- نعم .. واتصلت بطبيبك المتقاعد الذي فور سماعه اسمك ، أخبرني إنك غلطته الوحيدة طوال مسيرته الطبيّة .. فما لا تعرفه ، انه قريب زوجتك التي ترجّته بتبديل التقريريّن
وليد بارتباك : ماذا يعني ذلك !
- يعني هي العقيمة ، وليس انت
وكادت قواه تنهار من قوّة الصدمة ! وصرخ غاضباً :
- الملعونة !! حرمتني الخِلفة لسنوات ، مع إشعاري أنّي مدينٌ لها بحياتي !
الطبيب : رجاءً اهدأ ..
وليد بعصبية : وكيف اهدأ ؟! بسببها وصفت زوجتي الأولى بالخائنة ، ورفضتّ نسب ابنها لي ! والذي أصبح مُقعداً بسبب سيارته القديمة ، لسوء احوالهما الماديّة ..وهاهي امه تحضرّ
ونظر لساعته ..
وليد : آسف دكتور ، عليّ الذهاب .. فعمليّتها بعد ساعة ..
***
وانطلق وليد للمستشفى الموجودة في المدينة المجاورة .. ليجد شاباً يبكي بمرارة على كرسيه المتحرّك ، امام غرفة العمليات ..
فسأل الممرّضة عنه ، لتخبره أنه تلقّى خبر وفاة امه قبل قليل ..
فعلم انه ابنه لؤيّ .. وتوجّه اليه وهو يشعر بالخزّي من نفسه ، خاصة لأن الشاب (الذي لم يوافق على رؤيته) يُشبه جده تماماً !
وما ان وقف امامه كرسيه المتحرّك .. حتى نظر لؤيّ اليه بعينين دامعتين ، ليعرفه على الفور .. فهو تابع اخباره بالصحف والإنترنت ، كونه رجل اعمالٍ مهمّ بالبلد ..
فقال بحزن :
- تأخّرت كثيراً ، فأمي توفيّت قبل قليل
وليد بحزن : نعم ، أخبروني بذلك.. كيف انت الآن ؟
ومسّد شعره بحنان .. ليزيح لؤيّ يد والده بعنف ، وهو يقول غاضباً:
- ماذا تريد مني ؟!! أصبحت مُعاقاً كما ترى ..ولن استطيع خدمتك او مساعدتك بعملك ، كما حلمت دوماً.. ولم تعدّ تهمّني انت ولا مالك ، ولا حتى نسب عائلتك المتغطرسة !!
وجرّ كرسيه مبتعداً.. بينما يراقبه والده بحزنٍ شديد ، اثناء دخوله المصعد!
***
في اليوم التالي ، توجّه الأب الى منزل زوجته الأولى .. ليجد لؤيّ يبيع مفروشات منزله للجيران ، للإنتقال لسكن الطلّاب وإكمال الماجستير بعد منحةٍ مُقدّمة من جامعته : بسبب تفوّقه ، وتقديراً لحالته المرضيّة ..
واثناء انشغاله بالبيع .. دخل والده من الباب الثاني للمنزل الأرضيّ القديم ، ليجد خادمة ترتّب اغراض لؤيّ في الصناديق .. فسألته عن هويّته ، فأخبرها انه من اقاربه..
وأخذ يراقب غرفة ابنه بأثاثها المُستعمل ! قبل لمحه دفتراً صغيراً ، مكتوباً على غلافه : (دفتر الأحلام) ..حيث دوّن لؤيّ أمنياته العشرة (وحسب التاريخ ، فقد كتبها قبل عام من الحادثة) :
((الحلم الأول : التوظّف في شركة ابي بعد تخرّجي ، والعمل جاهداً لجعله فخوراً بي
الحلم الثاني : شراء جيتار ، والتدرّب عليه في معهدٍ موسيقيّ
الحلم الثالث : مقابلة لاعبي المفضّل لكرة القدم ، بفريقي الوطنيّ
الحلم الرابع : شراء منزلاً كبيراً لأمي ، لتعبها بخياطة الملابس لسنواتٍ طويلة لدفع مصاريفي..
الحلم الخامس : السفر يوماً الى سويسرا ، لشراء الشوكولا الفاخرة
الحلم السادس : القفز من الطائرة بالمظلّة ، ولوّ مرّة بحياتي
الحلم السابع : تحقيق حلم طفولتي بزيارة ملاهي ديزني
الحلم الثامن : رحلةٌ بحريّة بزورقٍ سريع
الحلم التاسع : إقناع ابي بتثبيت نسبي ، بهويّةٍ رسميّة
الحلم العاشر : الزواج من سهى (زميلتي بالجامعة) وإنجاب الكثير من الأطفال.. وسأكون اباً رائعاً ، بعكس ابي عديم الرحمة !))
فأزال وليد الورقة من الدفتر (دون انتباه الخادمة) ووضعها في جيبه ، وهو يكتم حزنه من جملة ابنه الأخيرة .. حيث شعر بخذلانه له ، بسبب رفضه المتواصل لطلب امه بإجراء فحص الإبوّة !
وهنا سمع صوت ابنه يقول من الخلف :
- من سمح لك بدخول غرفتي ؟
الأب : كنت مارّاً من الحيّ ..
لؤيّ مقاطعاً وهو يكبت غضبه : رجاءً أخرج بهدوء ، لا اريد أن يسمع الجيران مشاكلنا الشخصيّة
فعاد الأب الى قصره مهموماً , وهو يفكّر بطريقة لتحقيق اماني ابنه العشرة
***
حاول الأب جاهداً خلال الشهرين التاليين ، التقرّب من لؤيّ الذي رفض التواصل معه ..
فاتصل بإدارة الجامعة ، وأخبرهم أنه المسؤول عن مصاريف ابنه .. فطلبوا منه مال الرحلة القادمة ، التي لا يملك لؤيّ ثمنها ..
فأرسلها لهم عبر الإنترنت .. مما أغضب ابنه الذي قدم الى الشركة في اليوم التالي لإعادة المال اليه ، بعد استلافهم من صديقه ..
وقبل خروجه من المكتب ، أوقفه والده قائلاً :
- لا تحكم عليّ قبل معرفتك الحقيقة
لؤيّ بعصبيّة : لا شيء يمنعك من القيام بفحصٍ بسيط ، لأكثر من عشرين سنة !!
فأخرج والده فحص عقمه (القديم) من الدرج ، وأعطاه ايّاه وهو يقول :
- كلّه بسبب التقرير الذي زوّرته زوجتي السابقة ، دون علمي!
لؤيّ بغيظ : وهل يهمّ هذا بعد موت امي قهراً بسببك ؟ فأنت حبها الأول والوحيد
- وانا ايضاً أحببتها ، ونادمٌ جداً على خسارتها .. فرجاءً لا تحرمني التقرّب منك ، فصعبٌ عليّ إنجاب غيرك بعد تجاوزي الستين
فسكت لؤيّ مطوّلاً ، قبل أن يقول :
- بشرط !! أن لا تدفع مصاريفي الجامعيّة .. فأنا اجتهد دوماً ، للحصول على منحٍ دراسيّة
الأب : وهل تنوي إكمال الدكتوراه ام العمل بشركتي ؟
لؤيّ باهتمام : وكيف سأعمل بعد إعاقتي ؟!
- هل انت خبير بالحاسوب والحسابات ؟
- بل ماهرٌ فيهما
الأب : اذاً تعال معي ، سأريك مكتبك الذي جهّزته لك
***
ودخلا الى المكتب المجاور ، المُجهّز بأثاثٍ فخم .. ولؤيّ مذهولاً من تحقّق إحدى احلامه بعد طول انتظار !
الأب : ستعمل هنا في الفترة الصباحيّة بعد تحويل دراستك للمساء ، فمدير جامعتك لا يعارض ذلك .. ويمكنك دفع تكاليف الماجستير من راتبك.. كل ما عليك فعله الآن هو إدراج المستندات في ملفّ الشركة الإلكترونيّ ، فهل يمكنك فعل ذلك ؟
لؤيّ بحماس : طبعاً !!
الأب : اذاً ابدأ العمل فوراً .. وبعد قليل تسلّمك السكرتيرة اوراق تعيّنك ..أعذرني ، عليّ الذهاب لحضور اجتماعٍ هامّ خارج الشركة .. القاك لاحقاً بنيّ
***
بعد ساعة .. صُدم لؤيّ من الراتب الضخم المدوّن في عقد وظيفته ، وهو اضعاف ما تمنّاه ! .. فوقع العقد سريعاً ، ليعود لعمله قبل انتهاء دوامه الأول
***
بمرور الأيام .. قويّت العلاقة بين الأب وابنه بعد عملهما سويّاً على مشاريع تجاريّة .. حيث أُعجب وليد باقتراحات ابنه الذكيّة لتطوير العمل ، وبالمقابل فرح لؤيّ لتأييد والده آرائه المهنيّة ..
كما لاحظا التشابه في الصفات والطباع بعد تناولهما الغداء كل يوم ، في مطعمٍ قريب من الشركة .. حيث استمع الوالد لذكريات ابنه ، وهو يُخفي قهره بنضوجه دون رعايته وحنانه !
***
وفي عيد ميلاد لؤيّ ، أرسل الأب هديّة الى سكنه الجامعيّ : عبارة عن جيتارٍ غالي ، مع كرت إنتساب لمعهدٍ موسيقيّ للتعلّم العزف عليه ..
وكانت فرحة لؤيّ كبيرة بعد تحقّق حلمه الثاني ، دون علمه بأن والده يحاول جاهداً تحقيق جميع أمانيه بأسرع وقتٍ ممكن !
***
وفي عطلة الإسبوع .. أخذه الى الملعب ، لمشاهدة مباراة كرة قدم لفريقهما الوطنيّ.. ليفاجأ لؤيّ باقتراب لاعبه المفضّل للتصوير معه ! دون معرفته بأن والده دفع مبلغاً كبيرا للاّعب ، كيّ يعطي قميصه الموقّع لإبنه المُقعد
***
كما أصرّ وليد بنهاية العام ، على سفرهما معاً لأوروبا .. حيث تضمّنت رحلتهما السياحيّة :
1- نزهةٌ بحريّة بزورقٍ فاخر
2- القفز من المظلّة
3- شراء ألذّ انواع الشوكولا من سويسرا
4- وزيارة ملاهي ديزني
***
برحلة العودة بطائرة وليد الخاصّة ، شكره لؤيّ على تحقيقه أحلامٍ ظنّها مستحيلة !
الأب : مازال هناك المزيد من المفاجآت ، يا لؤيّ ..
وأعطاه مفتاحاً ..
لؤيّ : ماهذا ؟!
الأب : منزلٌ صغير قُرب جامعتك ، بدل عيشك بغرفةٍ مشتركة
- لا ! هذا كثير
- لابد ان يكون لديك منزلاً ، للزواج من حبيبتك سهى
لؤيّ بدهشة : كيف عرفت ؟!
فأخرج ورقة الأماني من جيبه ..
- آسف بنيّ ، أخذتها دون إذنك .. فبسبب تقصيري معك في طفولتك ومراهقتك ، أردّت تعويضك بأشياء بسيطة
- أتعتبر كل تلك التكاليف الباهظة ، اشياء بسيطة ؟!
الأب : نعم ، ولن يهدأ بالي قبل رؤيتك عريساً
فتنهّد لؤيّ بحزن : لا تتأمّل كثيراً ، فلا اظن سهى تقبلني بعد الإعاقة .. لهذا قطعت التواصل بها بعد الحادثة
- وهي حزينة على فراقك
لؤي باستغراب : وما ادراك بذلك ؟!
الأب : أحد أصدقائك دلّني على محل والدها ، وتحدّثت مطوّلاً معه
- وأكيد رفضني
- ليس بعد رؤيته نتيجة فحوصاتك الأخيرة
- وهل ظهرت النتائج الطبّية ؟
الأب : نعم ، ولله الحمد أخبرني الطبيب أن حبلك الشوكيّ لم يُقطع بالحادثة .. بل تكوّنت جلطات دمويّة اسفل ظهرك ، منعتك من تحريك قدميك.. لهذا لسنا عائديّن للوطن كما تظن ، بل مسافريّن لأميركا لإجراء عمليّة مهمّة لك .. وسنبقى هناك ، لحين إنتهاء علاجك الفيزيائيّ .. لتقف على قدميك اثناء خطبتك حبيبتك التي تنتظرك على أحرّ من الجمرّ .. وإن كنت لا تصدّقني ، أنظر لهذا الفيديو المصوّر..
وشاهد الفيديو من جوّال والده ، لسهى وهي تقول بعينين دامعتين :
((رجاءً لؤيّ .. قمّ بالعمليّة التي ستنجح بإذن الله ، لتعود كما كنت .. أنتظرك بشوقّ ، يا عزيزيّ الغالي))
فمسح لؤيّ دمعته ، وهو يكتم فرحته .. فربت والده على كتفه وهو يقول :
- تشجّع بنيّ ، فأنا اريد رؤية احفادي
لؤيّ بتهكّم : أتريد أن تصبح جدّاً ، قبل أن تكون اباً !
فقال معاتباً : لما تحرق هداياك ، بنيّ ؟!
وأخرج جواز سفرٍ جديد ، بعد نسبه لعائلته العريقة .. مما جعله ينهار بأحضان والده ، وهو يقول باكياً :
- كان حلمي الإنتساب اليك ، سيد وليد
- نادني ابي من اليوم فصاعداً
لؤيّ : تمنّيت قول (بابا) طوال حياتي
- وانا حلمت دوماً بإنجاب ولدٍ رائعٍ مثلك
وحضنه بحنان
***
بعد اسبوع ، نجحت عمليّة لؤيّ في اميركا .. وبعد ثلاثة اشهر من العلاج الفيزيائيّ المُكثّف ، إستطاع المشيّ ثانيةً ..
وكم كانت فرحته عظيمة باستقبال سهى له بالمطار ، وهي سعيدة بشفائه
***
بعد سنة من زواجهما ، أنجبا وليد الصغير .. فسلّم جده إدارة الشركة للؤيّ بعد إصراره على عيشهم معه في القصر ، لتعلّقه الشديد بحفيده الأول
***
وفي أحد الأيام ..وقبل ذهاب لؤيّ للشركة ، وجد والده يلعب بعفويّة من طفله الصغير .. فقال ممازحاً :
- ستفسده بدلالك يا ابي
- هذا حفيدي الغالي .. وحينما يكبر ، سأشتري له كل الألعاب التي يريدها
لؤيّ : هكذا سأغار منه
الأب : إذاً تعال اليّ !!
وسحب ذراع لؤيّ ، ليحتضنه بقوةٍ وحنان .. قائلاً :
- انت ابني الوحيد ، وسندي ما حييت
لؤيّ : احبك ابي
وأغرقا بدموع الفرح ، لإلتئام جروح الماضي بعد طول عناء !