الجمعة، 23 سبتمبر 2022

العالم الرماديّ

كتابة : امل شانوحة 

 

أهميّة الألوان


في قريةٍ جبليّة ، أُجبر رجالها وشبابها على تعدين الفحم ، بما أنه مورد رزقهم الوحيد 

بينما انشغلت نسائهم بخياطة الملابس من الأقمشة السوداء والرماديّة التي أحضرها رئيس البلديّة بنفسه (مُتحجّجاً بأن الثياب ستصطبغ بجميع الأحوال برماد الفحم) فهو الوحيد المسموح له بالذهاب للقرى المجاورة ! 


وطالما أن الجبل الذي يعيشون فيه أجرد ، فالألوان الوحيدة التي يرونها هي لون الشمس والسماء.. اما بقيّة الأشياء من حولهم ، فهي تدرّجات للون الرماديّ الكئيب !


وكان رئيس بلديّتهم يُجبرهم على العمل دون إجازات ، لأن منجمهم هو الوحيد في دولتهم ويعتبر كنزٌ وطنيّ .. وعليهم إستخراج كميات كبيرة من الفحم ، لتدفئة جميع المواطنين بفصل الشتاء القادم !


وبعد تعرّض كبار السن (العاملون القدامى) لضعفٍ شديد بالنظر بسبب عتمة المناجم ، وموت معظمهم بأمراض الرئة والربو ، عدا عن الذين قتلوا بتفجيرات الأنفاق .. لم يبقى سوى الرجال (متوسطي العمر) وعائلاتهم الذين لم يخرجوا يوماً من قريتهم ، بأوامر من رئيس بلديّتهم (الستيني) الذي حكم بقوانين والده (المرحوم) الصارمة .. لهذا عاش جيلان لا يعرفان بوجود الوانٍ أخرى في العالم ! 

***


وفي أحد الأيام .. تفاجأت صبيّة بوالدها يُحدّث امها ، سعيداً : بأن رئيس بلديّتهم يريد خطبتها لإبنه الوحيد .. 

فدخلت الصالة ، غاضبة :

- ابنه مُعاق عقليّاً ! 

الأب : لكنه الوريث الوحيد لثروة ابيه

ابنته بعصبية : وما يهمّني ماله ، إن كان مجنوناً !! 

الأم : هو يفهم قليلاً ، كل ما عليك فعله هو رعايته وإطعامه حتى..

الصبية مقاطعة بغضب : حتى ماذا يا امي ؟ حتى أموت بحسرتي ، لما تريدون بيعي بالرخيص ؟! 

الأب بحزم : إسمعي يا بنت !! انا اتفقت مع والده ، وانتهى الأمر


ابنته : ولما يريد تزويج ابنه من الأساس ؟ هو لا يفهم شيئاً 

الأم : انت علّميه الأمور المهمّة .. 

ابنتها بعصبية : امي !! انا بالعشرين من عمري .. لما أدفن نفسي بزواجي من أحمق يلوّث ملابسه بعمر الثلاثين ؟ .. لن أتزوجه ، ولوّ وقفتم جميعاً ضدّي !!

الأب وهو يرفع عصا الخيزران ، غاضباً : 

- كبر رأسك كثيراً يا فتاة ، وعليّ تربيّتك من جديد !!

وضربها بعنف ، دون أن تستطعّ امها تخليصها من بين يديه !

***


نامت الصبيّة تلك الليلة ، وقلبها يكاد يقف من شدّة الحزن .. وهي تتنصّت على أمها ووالدها وهما يخطّطان لعرسها الذي سيُقام بنهاية الإسبوع

***


لم تستطع الفتاة فعل شيء وهي ترى قريتها تُزيّن بالأنوار ، بانتظار يوم عرسها ..

فنظرت بحزن من نافذتها باتجاه الأفق ، وهي تتساءل :

- ترى ماذا يوجد خلف جبل الفحم ؟ لما لا احد من شبابنا فكّر باكتشاف القرى المجاورة ؟ ولما يمنعنا رئيس البلديّة من رؤية العالم ؟ لما علينا دفن أنفسنا في قريتنا الرماديّة الكئيبة ؟!

 

ولم تنتهي تساؤلاتها ، حتى دخلت النّسوة الى غرفتها لتزيّنها .. 

الفتاة بصدمة : لحظة ! عرسي غداً 

- العريس مُستعجل ، ويريدك الليلة

الفتاة بخوف : لكني لا اريده ! 


امها بحزم : لا تعانديني يا فتاة ، أتريدين أن يطلّقني والدك ؟ 

امرأة أخرى : أصبح الوقت عصراً ، بالكاد نُنهي زيّنتك لحفلة المساء

فقالت الفتاة بارتباك : حسناً سأدخل الحمّام ، ثم أعود اليكنّ

الأم : لا تتأخّري !!

***


ونزلت الصبيّة الى الطابق الأرضيّ ، ودخلت الحمّام .. وفتحت نافذته الصغيرة ، وخرجت منها بصعوبة الى خلفيّة منزلهم .. 


واستغلّت إنشغال الأهالي بتحضير عرس الموسم ، لتصل الى جبل الفحم الخالي من العمّال بعد إجازتهم المُقدّمة من رئيس البلديّة بمناسبة عرس ابنه  


وكانت اول من تجرّأ من اهالي القرية لتسلّق قمّة الجبل ، التي وصلت اليه بصعوبة بسبب احجاره الصغيرة الزلقة ..


وما أن وقفت على القمّة وهي تنظر للأفق ، حتى لمحها ولدٌ صغير .. سارع الى ساحة القرية ، لإخبار الأهالي بوجود صبيّة اعلى الجبل !!


وفور سماع رئيس البلديّة الخبر ، أمر حرّاسه بإحضار الفتاة لعقابها على مخالفتها اوامره ، دون علمه بأنها عروس ابنه

***


وبسرعة البرق إنتشر الخبر بين اهالي القرية الذين سارعوا للتجمّع امام المنجم .. واستطاع الوالدان تميّز ابنتهما الواقفة بذهول في الأعلى ، وهي تراقب ما يوجد خلف الجبل ! 


وقبل صعود حرّاس الرئيس نحوها ، إلتفتت للأهالي (المتجمّعين اسفل الجبل) وهي تصرخ بحماس : 

- الوانٌ رائعة !! .. تعالوا وانظروا بأنفسكم للون البحر ، هو أغمق بقليل من لون السماء .. اما الأشجار فلونها مميزٌ جداً ، لا اعرف اسمه بالضبط ! لكنه يُشعرني بالراحة والتفاؤل .. وهناك أطفال يلعبون في المزارع بملابسهم الزاهية .. الدنيا رائعة خلف الجبل !!


وأشارت للأفق .. وقد أثار كلامها حماس الصغار الذين سارعوا للقمّة لمشاهدة ما تراه.. وسرعان ما قفزوا فرحاً وهم ينادون اهاليهم لرؤية الألوان الزاهية .. 

فتجرّأت النساء على الصعود ، ومن خلفهنّ الرجال .. جميعاً وقفوا مذهولين من جمال منظر السهل الأخضر القريب من البحر !


وكان الموقف مُبهجاً للأهالي .. فيما عدا رئيس البلديّة الذي أمر حرّاسه غاضباً ، بإنزالهم بالقوّة للأسفل !


وبعد نزولهم .. أجبر الأب ابنته (العروس) على ترك قمّة الجبل ، رغم رغبتها برؤية إنعكاس غروب الشمس على البحر 

***


بعد تجمّعهم امام رئيسهم ، نظروا اليه بعتاب .. وكانت العروس الوحيدة التي تجرّأت على سؤاله :  

- لما حرمتانا من رؤية الألوان الزاهية ؟!

الرئيس : اللون الأسود فيه هيبة وقوة ..

العروس مقاطعة : إصعد اولاً لرؤية ما شاهدناه ، ثم إقنع نفسك بأن لونك الكئيب هو الأجمل بين الألوان .. ماذا تنتظر ؟ إصعد للقمّة وشاهد الجمال بعينيك ، قبل حلول المساء 

فصرخ بعصبية : لا استطيع رؤية شيء !!

العروس بصدمة : لماذا ؟!

فأجابها بترددٍ وارتباك :

- لأني ورثت عمى الألوان من ابي


العروس معاتبة : الهذا منعتمونا الخروج من القرية ؟! ..وطبعاً بعد موت كبارنا ، تحكّمت انت ووالدك بجيلين ممّن ولدوا هنا ، بحرماننا رؤية العالم الرائع خلف المنجم !

الرئيس : انت تبالغين ، لا أهميّة للألوان .. بل اللون الرماديّ يزيد من إنتاجيّة العمل .. 

العروس مقاطعة : وما يدريك بأن معلومتك صحيحة ؟ لربما للألوان طاقة تشفينا من الأمراض وتحسّن من نفسيّتنا ، كما حصل عندما رأينا الطبيعة الملوّنة خلف الجبل القاتم 


فصرخ والدها : أصمتي يا بنت !! نحن عمّال منجم ، وهنا رزقنا

ابنته : وما يدريك يا ابي انك لم تُخلق مزارعاً او حطّاباً او حتى استاذاً ؟ لما تجعل رئيسك يحدّد مصيرك ؟

الرئيس بغضب : إن كنت تريدين أن تصبحي كنّتي ، فعليك إطاعة اوامري !!

فردّت بجرأة : ومن قال انني اريد الزواج من ابنك الأحمق ، يا أعمى البصر والبصيرة !!  


ليشهق الجميع بصدمة ، بعد وقوعها على الأرض جثةً هامدة ! عقب إطلاق الرئيس رصاصة على رأسها .. 


وبعد لحظاتٍ من الصمت المتوتّر ، قال لهم :

- العرس إلتغى ، عودوا الى منازلكم .. وغداً تستيقظون باكراً للعمل في المنجم  


فإذّ بأخ العروس الأصغر يقذف حجراً على رأسه ، وهو يصرخ باكياً :

- قتلت اختي ايها اللعين !!


وسرعان ما سانده الصبيّة الصغار برميّ الأحجار عليه ، ولم يستطع الرجال إيقاف زوجاتهنّ من المشاركة .. 


مما أجبر رئيس البلديّة وحرّاسه الخمسة على الهرب والإختباء بمنازلهم ريثما يهدأ غضبهم .. 

في الوقت الذي حزم الأهالي أمتعتهم للرحيل صباحاً من قرية الجبل!

***


ولم تمضي ايام .. حتى تخلّى الحرّاس عن رئيس بلديّتهم ، للبحث عن عملٍ في القرى المجاورة .. 

فاتصل الرئيس بموظف الحكومة لإرسال مجموعة جديدة من العمّال مع عائلاتهم للسكن في المنازل الشاغرة ، برواتبٍ مغريّة!  

***


بعد شهر .. قدِمَت مجموعة جديدة من العرسان الجدّد للعمل في المنجم ، دون علمهم بأن رئيسهم الجديد سيحرمهم رؤية الألوان طوال حياتهم ، بسبب عقدته النفسيّة من مرضه الوراثيّ المُزمن !


هناك 12 تعليقًا:

  1. لافيكيا سنيورا

    اظن هذه القصه حدثت في تلك القريه في عصر الجاهليه. وليس عصر الوتساب والفيسبوك .

    لافيكيا سنيورا

    ردحذف
    الردود
    1. اولاً هي قصة خياليّة عن اهمية الألوان بحياتنا ..ثانياً : من قال ان جميع سكّان الأرض يتمتعون بالتكنولوجيا ..هناك دول افريقية وآسيوية مازالوا يعيشون بعصر الخمسينات ..وهناك قبائل بالأمازون يعيشون كرجل الكهف .. انا تخيّلت القصة بمجتمع الأكراد ، لكن لا اعلم ان كان بمناطقهم مناجم الفحم ، لهذا لم احدّد المكان والزمان بالقصة ..

      ثم على القرّاء مراعاة بأنني اكتب بأسوء ظروف حياتية فلا كهرباء ولا ماء ولا نفسيّة جيدة بلبنان منذ اكثر من سنيتن ..وكل اعمال المنزل على عاتقي ، وبالكاد اجد ساعة او ساعتين للكتابة في اليوم ..لهذا لا تزيد عليّ اخي ، فنفسيّتي محطّمة بما فيه الكفاية ، وانا احاول استرجاع قصصي الطويلة التي لا تفتح بالمدونة لعطلٍ ما ، واحاول اصلاحه..كان الله في العون..لافيكيا سينيورا ، اخي ابن اليمن

      حذف
    2. شكراً لتخاطرك المخيف ، ايها المشعوذ ههه ..لافيكيا سنيورا ، اخي ابن اليمن

      حذف
    3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      هنيئا لك أخت أمل مولودك الفكرى الجديد ..أتمنى أن أرى قريبا قصة عن معاناتك الشخصية فى الكتابة بظروف لبنان الحبيب من شح الماء والكهرباء والغاز مع زيادة الأعباء الحياتية الملقاة على عاتقك ...أظنها ستكون إحدى أجمل قصصك حتى لو أضفتى إليها مسحة من خيالك الواسع وياحبذا لو تمكتنى من جعلها قصة طويلة وأظن ذلك سيساعد فى تحسين نفسيتك عافاكى الله من كل سوء

      حذف
    4. فكرة جيدة ، مع انه احياناً صعب ان نكتب عن معاناتنا ..
      وقد أمضيت اوقاتاً صعبة بعد ورشة سباكة في اليومين الماضيين ، أرهقتني تماماً .. عسى الله ان يعوّض صبري خيراً .. تحياتي لك

      حذف
  2. من روائعك رغم سيداوية القصه ولكن واقعيه
    ابدعتي
    كلما اتى خبر عن لبنان اذكرك
    ارجعي لنا جاكلين
    بقصه رومانسيه ممم

    ردحذف
    الردود
    1. سعيدة انها اعجبتك .. الآن اكتب قصة سوداوية اخرى ..ربما لاحقاً استعين بأختي لإعادة جاكلين الحنونة من جديد ..تحياتي لك

      حذف
  3. يا الله ما أشد الحنين الى الحرية وما أقسى آهات الشوق الى كل من تحب أشتقت لقصصك يا أخت أمل وتاقت نفسي للكلام معك .
    غيبتنا السجون عن الدنيا ولكنك لم تغيبي عن قلبي ابدا
    فلنا معك أجمل الاوقات وأحلى الذكريات بقصصك الرائعة وأفكارك الجميلة واسلوبك المميز فأنت منبر الكتاب وقبلة الرواة سلمت أناملك يا ابنة الكرام

    ردحذف
    الردود
    1. خير اخي ، ما قصة السجون ؟! اتمنى ان يكون تعبيراً مجازياً فحسب

      حذف
  4. اعتقد القصة تصلح أن تكون في الهند لأنه مرة شاهدت فيلم هندي لاميتاب بتشان عن قرية يحتجز رجال عصابات سكانها رهائن يجبروهم للعمل في مناجم فضة المهم شكرا لك على القصة ويعطيك الف عافية على صبرك بهيك بلد

    ردحذف
    الردود
    1. نعم تصلح بالهند ايضاً ، سعيدة ان القصة اعجبتك

      حذف
  5. المعضلة التي لا حل لها هي استحالة اثبات
    ان ما نراه جميعا هو شيءا واحدا
    لو قلت لكي ما هو الاخضر
    صفيه لي كيف هو
    ان وصف الالوان مستحيل منطقيا ونظريا وعمليا
    وهذا ما يخلق المعضله
    اذ كيف نعلم او نثبت او نتاكد بان ما ترونه
    احمرا هو اخضرا في الواقع
    او ان مايراه زيدا بلون معين
    يراه عمرا بلون اخر ولكنهم تواطءوا على
    على ماذا
    ثم ما هو الواقع
    او المعيار او القاعده
    لربما جميع الاشياء بلا لونا

    لربما لو قرات الاخت احلام مستغانمي قصتك
    لخطت اين الواني ههههههه
    ثم عفوا يعني ما ورشة السباكه هذه
    هل ستغيرين نشاط المدونه هههههه
    😛😛😛😛😛😛😛😛😛😛😛😛😛😛😛😛😛

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...