تأليف : امل شانوحة
الحرب الغير متكافئة
رفض طبيب وزوجته الممرّضة مغادرة منزلهما بالجنوب بعد اشتداد الحرب على لبنان ، حتى اصبحا الوحيديّن في قريتهما الزراعيّة بعد نزوح معظم السكّان للعاصمة والدول المجاورة ..
ورغم الإتصالات المُكثّفة من اهاليهما لترك المكان ، لكنهما طمّأنوهم باحتمائهما من الصواريخ داخل ملجئهما الحصين في قبوّ فلّتهما التي تدمّرت جزءاً منها مع بداية الحرب ..
ومن بعدها انقطعت الإتصالات بينهم ، لإنعدام الإنترنت والكهرباء على كل المناطق الجنوبيّة .. ومع ذلك كانا محظوظيّن بوجود بئر ماءٍ قريب من فلّتهما المُحطّمة .. رغم قلقهما من إطالة الحرب أكثر من شهر ، بعد ان اوشكت مُعلّبات الطعام على النفاذ !
وبعد سماعهما بالمذياع : عن تهديد إسرائيل لتفجير القرية المجاورة بالكامل ! اسرعا الى هناك لأخذ ما يمكن الإستفادة منه ، قبل إفناء المنطقة التي خلت من سكّانها قبل ايام ..
وتوجّها مباشرةً للمزارع التي تُركت قبل حصادها ، لقطف ما يمكنهما اكله بالفترة القادمة..
وبعد وضع صندوقاً مليئاً بالخضار والفاكهة في سيارتهما ، سمعا اصواتاً قادمة من المنازل الخالية التي هرب سكّانها للمناطق الآمنة!
فتوجها نحوها .. ليجدا معظم نوافذ المنازل مفتوحة ، لحماية الزجاج من التحطّم بالإنفجارات .. رغم نيّة اسرائيل هدم القرية عن بِكرة ابيها ، مع حقولها الزراعيّة !
ليتفاجأ الزوجان بوجود خادمة آسيويّة في إحدى الفلّل ، بعد ان تُركت لحماية منزلهم من السرقات ، رغم خطر موتها الوشيك !
فقرّرا أخذها معهما لقبوّ منزلهما بالقرية المجاورة..
وقبل تحريك سيارتهما ، أوقفتهما بلغةٍ عربيّةٍ رقيقة :
- هناك اولاد بالمنازل المجاورة لفلّتي ، سمعتهم يبكون ليلة امس
الطبيب بصدمة : مستحيل ان يتركوا النازحين اولادهم !
الخادمة : احلف انني رأيت أحدهم يلوّح بالمنديل من نافذة بيته !
فقرّر الزوجان تفتيش جميع منازل القرية .. لينصدما بوجود اربعة اولاد ، بالإضافة لقطّتين وكلب صغير وقفص فيه عصفوريّن نادريّن!
فنقلوهم جميعاً لمنزلهما الشبه مُدمّر ، بعد ربط كرسي الولد المتحرّك فوق سطح السيارة !
^^^
وبعد نومهم بالقبو .. تكلّمت الزوجة بصوتٍ منخفض :
- لا اصدّق ان الأهالي تركوا اولادهم يواجهون الموت وحدهم ! يالا قساوة قلوبهم !!
زوجها الطبيب : عدا عن الحيوانات التي كان بإمكانهم إطلاق سراحها ، بدل حبسها في منازلهم التي ستُقصف بأيّةِ لحظة !
زوجته : إن كانوا تركوا ابنائهم ، فهل سيهتمون بالحيوانات ؟!
الطبيب : انت ترين سبب الهجر : فأحدهم منغولي ، والثاني لديه توحدٌ صعب.. والثالث مُعاق عقليّاً وهو مشلول بالكامل.. اما أصغرهم : فلديه فرط نشاطٍ مُستفزّ .. ولولا ابرة المخدّر لما غفى أخيراً ، بعد ان تعبنا جميعاً في تهدأته !
- مهما كانت امراضهم ، لا يستحقون تركهم يواجهون الحرب وحدهم .. فصغيرهم بالسابعة ، وكبيرهم لم يتجاوز 12 سنة ! انت رأيت كيف تناولوا الطعام بنهم من شدّة جوعهم !
- ما يقلقني الآن هو توفير الملابس والحفاضات لهم ، عدا عن طعام الحيوانات
زوجته : الله سيعيننا عليهم .. لنعشّ كل يومٍ بيومه ، الى ان يفرجها الله
وهنا سمعا طرقاً على باب الطابق الأرضيّ ، فتجمّد الزوجان داخل القبوّ المضاء بالشموع !
الزوج بقلق : أيعقل ان اليهود اقتحموا قريتنا برّياً ؟!
زوجته : وهل سيستأذن الملاعين بدخول منزلنا الشبه مهدّم ؟!
ليسمعا صوتاً ينادي من فوق : هل يوجد احدٌ هنا ؟!!
الممرّضة : انه صوت امرأة ! سأصعد لأراها
الزوج : لا !! ابقي مع الأولاد والخادمة.. سأرى من تكون
- انتبه رجاءً ، فربما يكون كميناً من العدو !
^^^
ليتفاجأ الدكتور بعجوزٍ تناشده الطعام .. والتي أخبرته أن عائلتها تركوها نائمة اثناء نزوحهم للعاصمة ! فأسندها وهو يُنزلها الى القبو
ولم تصدّق زوجته قساوة الإبن الذي هرب مع زوجته واولاده ، تاركاً امه العجوز المريضة بالقلب تواجه الحرب وحدها !
الطبيب : لا خالتي ، لا املك دوائك
العجوز : الست طبيباً ؟!
الطبيب : نعم ، لكن ليس لديّ دواء القلب .. سأعطيك مُسكّناً الآن ، وغداً صباحاً ابحث بالصيدليّة المهجورة عن دوائك
العجوز : مررت بها قبل قليل ، وهي مُهدّمة بالكامل
الطبيب : بالعادة يوجد مخزن اسفل الأرض للأدوية المهمّة ، سأبحث هناك عمّا تحتاجينه انت والأولاد
زوجته : هل انت جائعة يا خالة ؟
العجوز : أتضوّر جوعاً
- سأفتح لك علبة تونة
- ان كان لديك برغل او عدس ، استطيع طبخهم لك .. فأنا كنت طبّاخة ماهرة في صبايّ
الممرّضة : نعم لدينا.. سنطبخها غداً ، عندما يستيقظ الجميع
فنظرت العجوز للأولاد النائمين : ما شاء الله ، لديكم اربعة ابناء وخادمة
الطبيب بقهر : لا ، ليسوا اولادنا
وأخبرها قصتهم..
العجوز بصدمة : يا الهي ! ماذا حصل للناس ؟! لما قست قلوبهم بهذا الشكل المقزّز؟!
الممرّضة : لا تقلقي يا خالة ، انا وزوجي سنعتني بكم جيداً
***
ومع مرور الأيام .. إستطاع الدكتور وزوجته إيجاد مؤونة كافية من المنازل المفتوحة ، مع بعض الألعاب والحلويات لتسليّة الأولاد بالقبوّ .. بينما تعلّق الصبيّ المتوحّد بالحيوانات ، حتى انه نطق بعض الكلمات ! اما المنغولي : فقد كانت شهيّته مفتوحة دائماً ، مما صعّب الأمر على الزوجيّن لتوفير الطعام له .. اما المعّاق عقليّاً : فاضّطرا لتحفيضه بملاءاتٍ ممزّقة ، يقومان بغسلها على التوالي بعد نفاذ غيّاراته.. وتساعدهما الخادمة بذلك ، بالإضافة لاهتمامها بالولد الذي لديه فرط حركة الذي أتعبهم كثيراً .. لرفضه البقاء بالقبوّ الضيّق ، رغم محاولة المرأة العجوز إشغاله بقصصها الشيّقة. .
بينما جازف الطبيب بحياته للذهاب للعيادة المُدمّرة في محاولة لإيجاد دواء العجوز بين الركام ، والتي تزداد حالتها سوءاً مع كل ضربة عنيفة للعدوّ فوق قريتهم المهجورة !
***
قبل انتهاء الحرب .. توفيّت العجوز بعد توقف قلبها ، عقب إصابة صاروخٍ منزل الطبيب ، وتدمير ما تبقى منه ! بينما كانوا يحتمون بقبوه العميق ، مما جعل الأولاد ينفجرون بكاءً من شدة الرعب ..
فانشغل الزوجان والخادمة بتهدأتهم ، دون انتباههم لوفاة العجوز الا بعد محاولة الممرّضة إيقاظها.. وبقيّت جثتها معهم طوال الليلة العنيفة .. الى أن هدأ الوضع في الصباح ، ليقوم الطبيب بفتح باب القبو الآخر الموصل للحديقة .. وقام بدفنها هناك ، وهو يتأمّل منزله المُهدّم بحسرةٍ وقهر !
^^^
بعد الدفن .. إستمع مع زوجته للأخبار من المذياع الذي اعلن انتهاء الحرب بالساعة الرابعة صباحاً .. مما يعني ليلةً أخيرة عنيفة ، لمحاولة اسرائيل انهاء اهدافها سريعاً بلبنان !
لهذا طلب الطبيب من زوجته والخادمة والأولاد ان يكونوا اقوياء لآخر يومٍ لهم في الجحيم ، مع تكثيف الدعاء طوال الليل حتى انتهاء الأزمة الصعبة !
^^^
وبالفعل توالت الإنفجارات فوق القرى الجنوبيّة ، لهدم ما تبقّى من مبانيها ومزارعها .. الى ان انتهت الحرب اخيراً مع تباشير الصباح ، مع إختفاء صوت المُسيّرة التي ازعجت اللبنانيين على مدار شهريّن متواصليّن !
وخرج الطبيب مع اسرته الجديدة من القبّو بحذر ، خوفاً من شظايا الزجاج والحديد المتناثر حول منزله .. ليتفاجأوا بعودة مئات النازحين منذ الصباح ، لرؤية ما تبقى من منازلهم وحقولهم !
ولم يمضي وقتٌ طويل حتى التقوا بأهالي الأولاد الأربعة ومالك الخادمة وابن المرأة العجوز ..
وكان اول من التقوا به ، هو الإبن العاق الذي عاتبه الطبيب بنبرةٍ حادّة :
- أتبحث عن امك ؟! لوّ كان يهمّك امرها لما تركتها وحدها ، وهي بأمسّ الحاجة لدواء القلب !
الإبن : وهذا هو سبب تركي لها ، فأنا لم استطعّ تأمين الدواء لها ..
الممرّضة مقاطعة بعصبية : عذرك أقبح من ذنبك !!
الإبن : لا وقت الآن للوم .. اين هي ؟ هل رأيتموها بالجوار ؟
فأشار الطبيب لقبرٍ بجانب منزله..
- هي هناك !! توفيّت وهي تدعو عليك.. هل ارتحت الآن من همّها ؟
فطأطأ الشاب رأسه ، حزناً .. وعاد الى سيارته التي فيها زوجته وابنائه ، مُبتعداً عن المكان بهدوء !
^^^
واثناء مناقشة الدكتور وزوجته ما حصل ، سمع رجلاً يسأله :
- هل بقيّت بالجنوب طوال الحرب ؟
الطبيب : نعم
الرجل : هل رأيت خادمتي الآسيويّة ؟
فخرجت الخادمة من خلف المنزل المهدّم ، وهي تصرخ على الرجل بغضبٍ شديد :
- لما تركتموني وحدي !!
المالك : لم يكن هناك مكان بالسيارة
فأمسك الطبيب ذراع الرجل بعنف :
- كنت ضعها في حضن زوجتك ، بدل تركها وحدها تواجه الموت!!
الرجل : حسناً ، سنكافئها عندما نصلح احوالنا الماديّة
الخادمة باكية : لا اريد العودة معه يا دكتور ، رجاءً !!
الطبيب : أسمعت !! هي لا تريد الذهاب معك .. وانا بدوري سأوصلها لأقرب مكتب عمالة ، لإعادتها الى بلادها .. هيا اغرب عن وجهي !!
فابتعد الرجل بسيارته عن المكان !
^^^
وفي الوقت الذي كان الطبيب وزوجته يهدّآن الخادمة الغاضبة ، قدم اهالي الأولاد الأربعة بعد سماعهم من النازحين عن البطليّن اللذيّن بقيا في الجنوب طوال الحرب
الطبيب بعصبية : الآن تسألون عن اولادكم ؟!
الأب : لا تلمنا يا دكتور .. فأنا وزوجتي كبيران في السن ، لذا لم نستطع تحمّل ابننا الذي لديه نشاطٌ مفرط
الممرّضة : طالما كبيران بالسن ، يعني ابنكما الوحيد ولن تنجبا غيره .. فكيف تركتماه يواجه الحرب وحده ؟!
الأب : حاولنا إدخاله السيارة ، لكنه هرب منا .. ولم نستطع اللحاق به ، بعد دويّ انفجارٌ هائل .. فأسرعنا بالهرب ، بنيّة العودة للبحث عنه او جثمانه .. لكننا لم نجده في أيّ مكان ، فاعتقدنا بموته
الممرّضة : هو عاد لمنزلكما ، كان عليكما البحث هناك اولاً
- وجدناه خالياً .. اظنه اختبأ بمكانٍ ما .. وبعد رحيلنا ، عاد للمنزل الذي وجدتموه فيه
الأم باكية : حقاً ظننا بوفاته !
الطبيب : وكيف سأثقّ بتسليمه لكما ، بعد ان تركتماه بهذه السهولة ؟!
الأب : نحن سنسافر لأوروبا قريباً ، وسنضعه في مدرسةٍ داخليّة تهتم بمرضه الصعب
الممرّضة : مدرسةٌ داخليّة ! هذا بدل إدخاله لنادي رياضيّ ، للإستفادة من نشاطه الزائد ؟
الأب : النوادي تحتاج لمتابعة واهتمام ، ونحن لا قدرة لنا على ذلك .. حاولنا معه كثيراً دون فائدة ، سندعّ المختصّون يهتمون به .. هيا إعطنا ايّاه ، فعلينا التوجّه غداً لمطار العاصمة
ولم يستطع الطبيب منعهم من اخذ ابنهم ، رغم حزنه هو وزوجته على مصير الصغير الذي سيتعقّد نفسيّاً بمدرسته الداخليّة الصارمة !
^^^
اما اهل الولد المتوحّد : فتفاجأوا من رؤيته يلعب بسعادة مع الحيوانات الناجية ، وهو ينطق بعض الكلمات لأوّل مرة في حياته ! مما جعلهم يقرّرون إدخاله لمدرسةٍ خاصّة بالمتوحّدين ، على امل تحسّنه في المستقبل القريب ..
لكنه لم يقبل الذهاب معهم ، دون كلبه والقطتيّن والعصفوريّن.. فاستأذنوا الطبيب أخذها معهم للشقة التي استأجروها بالشمال ، والتي سيبقون فيها لحين بناء منزلهم بالجنوب من جديد
^^^
اما والدا المنغولي ، فرفضا اخذه ! لأنه عبء عليهما لشهيّته المُفرطة ، خاصة بعد تردّي احوالهما الماديّة بعد الحرب ..
لكن قبل ذهابهما ، فاجأهما الجدّ (الذي ظلّ كوخه وحقله سليميّن طوال الحرب على الجنوب) بقدومه من القرية المجاورة للإهتمام بحفيده المنغولي الذي سيعلّمه الإعتناء بالحقل كمساعدٍ له !
^^^
اما الولد المُعاق عقليّاً ، فأغلق ابوه الإتصال مع الطبيب بعد رفضه استلامه!
فقرّر الدكتور وزوجته العقيمة الإهتمام به ، فور إيجادهما منزلاً سليماً في الجنوب لاستئجاره .. وتعاهدا الإعتناء به ، كونه هو وبقيّة الأولاد بركة إلهيّة منعت الصواريخ من إصابتهم طوال الحرب المرعبة .. وذلك بعد إعادة الخادمة سالمة الى بلدها ، عقب تجربتها المريرة في لبنان الجريح !
***
ولم تمضي ايام على انتهاء الحرب حتى انشهرت قصة الطبيب والممرّضة اللذيّن أنقذا الأولاد الأربعة والخادمة ، كما اهتمامهما بالعجوز قبل وفاتها
بينما لام المواطنون الأهالي المهملون الذين هربوا من الإعلام حتى هدوء الوضع المتوتّر بالبلاد ..
ليصبح الزوجان بطليّن بنظر اللبنانيين الذين لقبّوهم ب: الصامدون الأحرار!