الخميس، 16 مايو 2024

طبّاخة الأسر

تأليف : امل شانوحة 

ماما صوفيا


هجمت كتيبةٌ إلمانيّة على منطقةٍ ريفيّة روسيّة اثناء الحرب العالميّة الثانية ، مُستغلين خلوّ القرية من رجالها المنخرطين بالجيش الروسيّ ! حيث قاموا بأسر النساء داخل معسكرهم.. 

فطلبت صوفيا (السيدة الروسيّة التي تتقن الإلمانيّة) التحدّث مع قائدهم الذي سألها بضيق :

- ماذا تريدين ؟

صوفيا : كما ترى سيدي .. انا كبيرة في السن ، ولن تستفيدوا شيئاً من الإعتداء عليّ او تجويعي حتى الموت.. فما رأيك لوّ تستفيد من خبرتي بالطبخ ؟ فأنا مالكة المطعم الوحيد بالقرية.. ويمكنني الطبخ لك ولجنودك ، فعددكم لا يتجاوز العشرين شخصاً

القائد الإلماني بلؤم : طلبك مرفوض !! عودي الى خلف الأسلاك الشائكة مع بقيّة الأسيرات 


فسألته بجرأة : ماهو طعامك المفضّل ؟ 

بصدمة : ماذا !

صوفيا : أعني الطعام الذي تطبخه زوجتك ؟

وأشارت لخاتم زواجه..

فردّ بحزن : زوجتي توفيّت بالقصف الروسي قبل شهرين.. فالملاعين .. 

فقاطعته بجدّية : لا شأن لي بمجريّات الحرب .. سألتك سؤال محدّد : ماهو طعامك المفضّل ؟ فأنت بعمر ابني

فوصف لها طبخة مكوّنة من دجاج وخضراوات مشويّة بالفرن


صوفيا : أكلةٌ سهلة ، يمكنني طبخها اليوم على الغداء .. وفي حال لم تعجبك ، إقتلني على الفور

الضابط بتهكّم : أواثقة من قدراتك لهذه الدرجة ؟!

- أخبرتك انني طبّاخة القرية ، وافتتحت مطعمي بعمر الثلاثين بعد وفاة زوجي

- المشكلة هي بتوفير المكوّنات لك !

صوفيا : طالما احتتلت قريّتي بالكامل ، فيمكن لجنودك إحضار الدجاج من المزرعة القريبة من معسكركم.. كما يوجد حقلٌ كبير مليء بالخضراوات ، تكفي لإطعام الجميع

- لا !! ستطعمينني اولاً .. وفي حال أعجبني طبخك ، تصبحين طبّاخة الجنود دون الأسرى

صوفيا بضيق : لا يمكنني تجاهل نساء قريتي ! فأنا اعرف معظمهنّ.. 

مقاطعاً بلؤم : لا يهمّني أمرهنّ !! سنتسلّى بهن ، حتى يمتنّ جوعاً.. ألم تسمعي ما فعله رجالكم بنسائنا ؟ لهذا لا تطلبي الرحمة لهنّ !!


صوفيا : على الأقل إسمح بإعداد الحساء لهنّ ! 

الضابط : سيتكفّل طبّاخنا بذلك

- ذُقت طعامه صباحاً.. انه ردي للغاية ، وليس فيه ملح وبهارات !

- مستحيل إيجاد البهارات بظلّ المعارك الضارية  

صوفيا : إذاً إسمح بذهابي مع جنودك لمطعمي ، ففيه مؤونةً جيدة .. سأستخدمها بالطبخ ، بدل تعفّنها في مخزني 

- وإن حاولتي الهرب..

مقاطعة : انا امرأة ستينيّة ..ورجالك بالعشرينات ، ومدجّجين بالسلاح ! فكيف سأهرب منهم

^^^


وبالفعل عادت صوفيا للمعسكر بعد ساعتين ، بعربةٍ وضعت عليها كل مؤونة مطعمها.. وعندما مرّت بجانب الأسيرات (خلف الأسلاك الشائكة بفناء المعسكر) نعتوها بالخائنة بعد معرفتهم بمهمّة إطعامها الجنود ، بموافقة قائدهم !

فقالت لهن : رفقاً عليّ ، لم انجح بعد بالإمتحان ..وقد أُقتل بعد ساعتين ، إن فشلت بإعداد طبخة الضابط المفضّلة

فردّت عليها إحدى النساء ، باشمئزاز : 

- حتى لوّ فزتي ، ستطبخين للأعداء .. بينما تتركينا نموت جوعاً !

صوفيا : صدّقوني ، لا حلّ آخر لديّ

سيدة أخرى : انت انانية يا صوفيا ، لا يهمّك سوى إنقاذ نفسك !

وقالت صبيةٌ بلؤم : ماذا سيكون رأيّ ابنك إن علم بخيانتك ، بينما يجازف بحياته للدفاع عن الوطن ؟!!

فطأطأت صوفيا رأسها بحزن ، وهي تقول بنفسها :

((انا أذلّ نفسي للعدوّ ، لكيّ اراه مجدّداً))

***


وعلى الغداء .. وفور تذوّق الضابط الإلماني للقمة الأولى من طبقه المفضّل ، حتى ترقّرت عيناه بالدموع .. فهو نفس مذاق الطبخة التي تعدّها زوجته بمناسباتهما الرومنسيّة ، قبل اندلاع الحرب !


وما أن عادت صوفيا لمطبخ المعسكر لإحضار الحلوى له ، حتى مسح دموعه على عجل بعد تذكّر منزله المُنهار فوق جثمان زوجته ، بعد القصف الروسي لمدينته المتواجدة بأطراف إلمانيا.. ومن ثم دفنها بالمقبرة الجماعيّة ، وهي حامل بشهرها السادس لطفلهما الأول الذي لم يُبصر النور! 


ثم أتت صوفيا بعد قليل ومعها قطعة من كيك البرتقال ، وهي تقول: 

- كنت قبل الحرب أقدّمها مجاناً للزبائن ، بجانب طبقهم الرئيسيّ

فتناولها بنهم .. بعدها قال ، وهو يمسح فمه بالمنديل القماشيّ :

- كانت امي تعدّها لي ولأخوتي ونحن صغار

صوفيا بارتياح : أهذا يعني انني نجحت بالإمتحان ؟

الضابط : نعم !! ومنذ الغد ، تعدّين الطعام لي ولجنودي .. اما طبّاخنا العجوز ، فسأوكّله بإعداد حسائه الرديء للأسيرات

فقالت صوفيا في نفسها ، بضيق : ((كان الله في عونهنّ))

***


حاولت صوفيا في الأيام التالية إمضاء معظم وقتها بمطعم المعسكر ، لحماية نفسها من النقد الّلاذع للأسيرات كلما مرّت بجانبهن ، وهنّ ينعتوها بأبشع الشتائم .. لكنها لا تلومهنّ ، فهن مقهورات من الإعتداء المتواصل عليهنّ من الجنود .. كما شعورهنّ بالضيق من تأمين الضابط غرفةً خاصة لصوفيا ، بينما ترتعدّ أجسادهنّ النحيلة على أرضيّة الفناء الباردة .. عدا عن حصولها على بقايا طبخها ، بينما يُجبرنّ على تناول الحساء المثير للغثيان.. لهذا عدّوها من الإعداء ، وتوعّدوها بالإنتقام منها قريباً !

***


بمرور الأسابيع .. تعلّق الجنود الإلمان (من الشباب والمراهقين) بطعام ماما صوفيا الذين ينتظرونه بفارغ الصبر ، بفترة الغداء والعشاء كل يوم .. ليس هذا فحسب ، بل لجؤوا اليها لحلّ مشاكلهم النفسيّة والعاطفية .. خاصة بعد مساعدتها أحدهم للهرب من المعسكر مع عشيقته الروسيّة (إحدى الأسيرات) لتعلّقه بها ! 

فأمهلها الضابط فرصةً أخيرة لضبط تصرّفاتها ، وإلاّ ستلقى مصير الأسيرات

***


ومرّت الليالي ، وهي تستمع لذكريات الجنود التي تُقارب حياة ابنها الوحيد .. فالشعوب بتلك الحقبة الزمنية تشابهوا بالتربية والأخلاق ، لولا اندلاع الحرب بينهم! 


كما اعتادت خياطة ملابسهم والإعتناء بمرضاهم .. مما زاد كره الأسيرات لها ، والتي وعدنّ بشنقها بتهمة الخيانة !

***


وذات يوم ، ألقى الحارس القبض على ولدٍ يحوم حول معسكرهم .. فعرفته صوفيا على الفور ، فهو يتيم القرية الذي كانت تشفق عليه ، بإطعامه مجاناً قبل إغلاق مطعمها .. 


وفي ليلته الأولى مع الأسيرات ، طلب من صوفيا إطعامه ثانيةً ..

فهرّبت له شطيرة ، بعد رفضه تناول الحساء الرديء .. فاعتبر الضابط تصرّفها تجاوزاً لأوامره المشدّدة بعدم التواصل مع الأسرى! 


فعاتبها بعصبية ، في قاعة الطعام : 

- سيدة صوفيا !! هذا خطؤك الثاني بعد تهريبك العاشقيّن.. لهذا سيتم إعدامك غداً..


وقبل إكمال كلامه ، تفاجأ بالجنود يطرقون بأكوابهم الحديديّة على طاولاتهم ، مُعترضين على قتلها .. ومُطالبين بإكمال مهمّتها بإطعامهم ، فهي بمثابة امهم الروحيّة !


فقالت صوفيا وهي ترتجف : 

- إسمعني سيدي .. أخبرتنا قبل ساعات عن إقتراب الجيش الروسي من القرية لتحريرها .. وربما يقصفون معسكرك الليلة ، ويقتلونا جميعاً.. لذا دعني أطعمكم برفاهية ، باستخدام كل مؤونة مطعمي .. لربما كانت وجبتنا الأخيرة!


فسمح لها الضباط بالعودة للمطبخ ، بعد ضغطٍ من الجنود .. فهو لا يريد إزعاجهم بظلّ الظروف المُربكة التي يعيشونها ، بعد إقتراب الجيش الروسي منهم ! 

^^^


وبالفعل تناولوا أطيب عشاءٍ في حياتهم..

وما ان أنهوا الحلوى ، حتى سمعوا الدبّابات الروسيّة تقترب من ابواب المعسكر ! فتمرّكزوا في اماكنهم .. بينما اختبأت الطبّاخة في الخندق


ليعيشوا ليلةً عصيبة ، مليئة بالإنفجارات وطلقات الرشّاشات .. والتي قضت على معظم الكتيبة الإلمانيّة ، بما فيها قائدهم ! بينما وقع الآخرون (المصابين) بالأسر ..

وتمّ تحرير الأسيرات التي بانت عظامهم ، بعد تجويعهنّ على مدى خمسة شهور !

***


نامت الطبّاخة ليلتها الأولى في منزلها .. لكن فرحتها لم تدم ، بعد رؤيتها صباحاً ورقة تهديد مُوقّعة من نساء القرية : بعقابها على اهتمامها بجنود العدوّ ، طوال فترة أسرهنّ .. وكان عليها الإختيار : بين الموت شنقاً بتهمة الخيانة ، او الطبخ المجانيّ لهنّ لبقية حياتها (مع توفيرهنّ إحتياجات مطعمها من مزارعهنّ) 


فوافقت مُرغمة على عقابهنّ .. وصارت تطبخ وهي مقيّدة بسلّسلةٍ حديديّةٍ طويلة ، لا تُفك إلاّ مساءً عند إغلاق مطعمها ، والعودة الى منزلها (وهي مُرهقة تماماً)

***


بعد شهرين من عقابها ، عاد ابنها من الحرب (لحصوله على الإعفاء ، عقب بتر قدمه) .. واحتضنته امه باكية لمصابه الكبير .. لكنه كان أشدّ حزناً بعد رؤية السلّسلة بقدم امه ، وكلام النّسوة عن خيانتها للوطن ! 


فسألها بصدمة : أمعقول يا امي تُطعمين الأعداء ، ونساء قريتنا يمتنّ جوعاً؟! 

فأخبرته انها أُجبرت على ذلك لحماية شرفها وللحفاظ على حياتها ، لرؤيته مُجدّداً 


فتوسّط لها عند النّسوة الغاضبات ، للإعفاء عنها .. فوافقنّ بشرطٍ واحد : خروجه مع امه من القرية !

^^^


وبعد ايام .. إلتحق هو ووالدته بقافلةٍ بريّة ، استطاعوا إيصالهما بصعوبة الى سويسرا .. حيث افتتحت هناك مطعمها الخاص بالأكل الروسي التقليديّ .. والذي حظيّ بشعبيةٍ واسعة ، أسمته (مطعم الأسر) !


ولم يعرف أحد قصة صوفيا إلاّ بعد وفاتها ، ونشر ابنها مذكّراتها بمعسكر العدوّ : حيث وصفت جنودهم اليافعين ، بزهورٍ قُطفت قبل اوانها ! فهم يُشابهون الشباب الروس بأحلامهم الورديّة ، ورغباتهم المستقبليّة .. لولا قيام السياسيون بإثارة العداء بين الشعوب المُسالمة! 


ولاحقاً عُدّت مذكّراتها كتاباً تاريخيّاً : وصفت فيه الحقبة الزمنيّة الصعبة ، للأجيال القادمة بعد ترجمته لعدّة لغاتٍ عالميّة .. حيث وصفها النقّاد : بالوالدة الحنونة التي ألّفت بين القلوب ، بطعامها اللذيذ وأمومتها النادرة ! 


الاثنين، 13 مايو 2024

سوء الحظ

تأليف : امل شانوحة 

 

المدينة الفاسدة


سافرت جاكلين الى تايلاند للحصول على علاجٍ فيزيائيّ لوالدتها .. ووصلتا الى الفندق مساءً ، بعد إنهاء المساجّ العلاجيّ الأول .. وقبل إنهاء طعامهما ، تلقّت جاكلين إتصالاً على هاتف غرفة الفندق ، لرجلٍ يتكلّم الإنجليزيّة بلغةٍ رقيقة .. هدّدها بالقتل ، واصفاً إيّاها بالخائنة الحقيرة ! 


ولم تأخذ الموضوع بجديّة ، إلاّ بعد إخبارها بوصوله للطابق الذي فيه غرفتها ! لِذا لم يكن لديها وقت للهرب او الإتصال بالشرطة .. فساعدت امها العاجزة على الإختباء معها داخل خزانة الحائط .. حيث سمعتا القاتل المأجور يدخل غرفتهما بالمفتاح ، مما يؤكّد تورّط صاحب الفندق معه ! 


وبدأ يتحدّث بجواله بصوتٍ غير مفهوم ، وكأنه مدمن مخدرات او مخمور! 

- سيدي ، لم اجدها بالغرفة ولا بدورة المياه ولا بالشرفة .. آه لحظة ! ربما تكون مُختبئة مع عشيقها في الخزانة 


وما ان اقترب من باب الخزانة ، حتى دفعته جاكلين بقوّة .. فسقط للخلف لكونه غير متزن ، مُرتطماً رأسه بطرف السرير .. فاستغلّت جاكلين غيابه عن الوعيّ ، للهرب مع امها من الفندق المشبوه .. 

حيث حاول حارس البوّابة ، إيقافهما ! لكن جاكلين سارعت بركوب اول سيارة أجرة مع امها ، دون معرفة وجهتهما التالية .. فهي لم تأخذ معها سوى حقيبتها الشخصيّة التي فيها جوازيّ سفرهما ، وبعض النقود التايلانديّة 

***


وفي الطريق.. 

أعطاها السائق رقم شرطة منطقتهم ، بعد فهمه عليها بصعوبة .. حيث أوصلها الشرطي بمدير مركزه الذي يتقن الإنجليزية .. وبعد إخباره بأنهما سائحتيّن ، قدمتا البلاد للعلاج .. طلب منهما الذهاب الى مطعمٍ معين ، لمقابلتهما فيه 

***


في المطعم .. طلبتا الماء وهما ينهجان بخوفٍ شديد ، في انتظار مدير الشرطة الذي ذهب اولاً للفندق ، ليجد القاتل مُستلقي على الأرض وهو ينزف من رأسه ! فركله بقدمه بعصبية :

- إستيقظ يا غبي !!

- آه سيدي ! لقد هربت زوجتك ، بعد دفعها باب الخزانة ..

فقاطعه رئيس الشرطة غاضباً : 

- زوجتي ايها المدمن في الغرفة المقابلة !! انت اقتحمت غرفة سائحتيّن أمريكيتيّن ..أتريد توريطنا مع سفارتهما ؟!

- لم انتبه لذلك ! سأذهب حالاً للقضاء على الخائنة وعشيقها

الشرطي : لا !! أفسدت الأمر .. سأعيّن غيرك للمهمّة

- رجاءً سيدي ، انا جيد في عملي .. لكني أخطأت بحقن نفسي بالمخدّر قبل قدومي الى هنا ، وسأصلح الوضع الآن .. 


فأطلق الشرطي النار على رأسه ، بمسدس كاتم الصوت.. وهو يتمّتم بضيق :

- ويبرّر خطئِه ايضاً ! ياله من الفاشل

ثم اغلق باب الغرفة ، مُتصلاً بمدير الفندق :

- لم تنجح خطتي هذه المرة ايضاً ! إرسل احدهم لإزالة جثة القاتل من الغرفة ، دون لفت انظار احد .. مفهوم !! 

^^^


ثم قاد سيارته باتجاه المطعم ، مُتصلاً بمالكه : 

- هل مازالت السائحتيّن لديك ؟ 

صاحب المطعم : نعم ، ويبدو عليهما القلق الشديد .. بماذا تأمرني ؟ 

- انت تعرف كرهي للشهود .. إنقلهما للغرفة الخاصة ، بعيداً عن الزبائن ..وقدّم لهم شراباً مجانيّ ، فالأجانب بخلاء بالعادة.. ولا تنسى وضع السمّ فيه 

***


وبعد قليل .. دخل الشرطي الى الغرفة الخاصة بالمطعم ، ليجدهما بلا حراك ! 

فقال وهو ينظر لجاكلين :

- يا خسارة ! لوّ كنت اعلم بجمالها ، لما تسرّعت بقتلها .. (ثم مسّد شعر رأسها التي تسنده على طاولة المطعم) .. ذنبكِ انك تواجدتِ مع امك في المكان والزمان الخاطئيّن .. يالا سوء حظكما! 

صاحب المطعم : سيدي ، الم تتخلّص بعد من زوجتك اللعوب ؟! 

- اللعينة ، تنجح دائماً بالهرب .. لكني سأجد طريقة للقضاء عليها ، دون إثارة الشبهات حولي .. المهم !! نادي النادليّن لدفن الجثتيّن .. اراك لاحقاً

- ماذا عن المكافأة ؟ 

الشرطي : سأحوّل المال على حسابك غداً .. (وبصوتٍ منخفض).. ايها الطمّاع القذر !

***


في منتصف الليل ، إستيقظت جاكلين في المقعد الخلفيّ لسيارة يقودها احد النادليّن

جاكلين بفزع : من انت ؟! واين امي ؟ والى اين تأخذني ؟!!

ولحسن حظها إن النادل يتقن الإنجليزيّة :

- اهدئي رجاءً .. انا اوصلك للمطار بسريّةٍ تامة ، وإلاّ سيقتلونني

- من هم ؟! واين امي ؟!


فأخبرها بوضعه المخدّر بشرابها .. بينما وضع السم مُجبراً لأمها ، خوفاً من استيقاظها بأيّة لحظة وإفساد الخطة 

فأطبقت يديها على رقبة النادل من الخلف ، حتى كادت السيارة تنحرف عن طريقها

- قتلت امي ايها اللعين !!

فأجابها بصوتٍ مخنوق : لوّ لم افعل ، لكنت معها في القبر .. فرئيس الشرطة الذي تواصلتي معه يُثير الفساد في منطقتنا منذ مدةٍ طويلة ، ولا احد يستطيع إيقافه لكونه صهر أهم سياسي فاسد بالبلد


جاكلين بصدمة : أتقصد انه هو من ارسل القاتل المأجور الى غرفتي بالفندق ؟!

- سمعته يتحدث مع صاحب المطعم : بأن قاتله اخطأ برقم الغرفة ، فهو اراد قتل زوجته الخائنة التي تتعمّد إهانته ..

جاكلين مقاطعة بعصبية : اذاً ليقتلها بمسدسه ، بدل قتل الأبرياء بغبائه !!

- هو ليس ذكياً لاستلام قيادة الشرطة ، بل حصل على الوظيفة بالواسطة .. ولأن زوجته ابنة سياسي نافذ ، يريد قتلها بطريقة لا تثير الشبهات حوله ..فهي  تخونه على الدوام ، ولا يستطيع ضبط تصرّفاتها .. وللآن قتل العديد من الأبرياء ، خاصة منافسيه الصالحين على إدارة الشرطة .. ولا تظني ان مديري سعيداً بتسميم اعدائه ، فنحن نعاني من القوارض التي تخرج من المخزن المهجور المليء بجثث ضحاياه .. 


جاكلين : ولماذا لم تقتلني كما امرك ؟!

النادل : لأنك املنا الأخير .. فأنت الأمريكيّة الوحيدة بين الضحايا ، واريدك ان تستعيني بسفارتك للقضاء على ذلك الفاسد الذي أتعبنا جميعاً .. 

- وماذا عن امي ؟

- عندما يتمّ القبض على الشرطي القذر وحماه الملعون ، تنقلين جثتها الى بلدتك .. أرجوك يا آنسة ، إنقذينا من هاذيّن الفاسديّن

***


في الطائرة .. قالت جاكلين في نفسها ، غاضبة : 

((أحلف انّي سأقلب موازين الدولة على رأسهم ، فهم لا يعرفون بأني ابنة سفير .. سأجعلهم يندمون على اليوم الذي تطاولوا فيه على حياتنا ..أعدك بذلك ، يا امي الغالية !!))

ومسحت دمعتها بقهرٍ وتحدّي !


الجمعة، 10 مايو 2024

وريث العصابة

تأليف : امل شانوحة 

 

الحظر الليليّ


في منطقةٍ ريفيّة ، إستولى عليها مجرمٌ شاب (جاك) بعد نشر رجاله (الخارجين عن القانون) الذين أشاعوا الفساد فيها ، بعد فرض الإتاوة على أصحاب الدكاكين الصغيرة .. ومن لا يدفع ، تُدمّر بضائعه او يُحرق محلّه التجاريّ ! 

ولخوف الأهالي على نسائهم وأطفالهم ، خضعوا لأوامر جاك الظالمة الذي اتفق مع رئيس بلديّتهم : على منع خروج الأهالي بعد منتصف الليل ، المُخصّص لإرادة ورغبة رجاله المُطلقة.. ومن يخرج في الساعات المتأخرة ، فلا يلوم إلاّ نفسه !


واستمرّ الحظر الليليّ عدة شهور .. الى ان اضّطر رجلٌ لإخراج زوجته بعد الساعة الواحدة ليلاً ، عقب تعسّر ولادتها بعد فشل امه بمساعدتها على الإنجاب .. حيث توجّب عليه أخذها لعيادة الطبيب الوحيد بالقرية..

^^^


ووصل الخبر لرجال جاك الذين قبضوا على الزوج اثناء ولادة زوجته ، وأخذوه لمكتب الزعيم لإخباره بالعقاب المناسب له :

جاك غاضباً : بما انك خالفت اوامري..

الزوج مُقاطعاً بخوف : سيدي ، دعني أُفهمك ما حصل

جاك : عرفت بولادة زوجتك المتعسّرة ، الذي لا اعتبره عذراً لخروجك من منزلك  بالوقت المخصّص لعصابتي .. لهذا عقابك هو .. (وسكت قليلاً) .. حصولي على طفلك ، وإلاّ سأقتل ابنائك الثلاثة

الأب بصدمة : لا يعقل ان تحرمني من ابني الذي لم اره بعد ! ثم هو طفلٌ صغير ويحتاج للرضاعة

- سأعيّن مُرضعة له.. وسأسمح له بعد بلوغه ، بزيارتكم من وقتٍ لآخر.. لكن بشرط !! ان تخبروه بأنكم اقاربي ، دون إعلامه بأنكم اهله الحقيقيّن وإلاّ سأبيدكم جميعاً !! ومنذ الغد ، سأزوّر شهادة ميلاده ، ليصبح ابني رسميّاً

الأب بتهكّم : أستتبنّى طفلي ، فقط لكونك عقيم ؟!


فأطبق جاك يديه على حنجرة الأب ، حتى كاد يموت خنقاً .. وهو يسأله غاضباً :

- كيف عرفت بهذا الشأن ؟!!

الأب مُرتجفاً : الإشاعات منتشرة بالقرية ، عن طلاقك مرتيّن بسبب العقم .

- سأقطع ألسن من ينشروا الأكاذيب عني !!

- رجاءً سيدي ، دعني آخذ زوجتي وطفلي الى المنزل

جاك بحزم : هذا مُحال !! فقد قرّرت وانتهى الأمر .. وغداً ينتقل ابنك الى بيتي ، بعد تعيّني مربيّته الجديدة ..وهذا قراري النهائيّ !!

***


وافق الوالدان مُرغمان على عقوبة الزعيم الظالم ، خوفاً على اولادهم الثلاثة .. وتربّى الصغير (إريك) في منزل جاك ، مُحاطاً بأصدقائه اللصوص والقتلى والمدمنين .. الى ان بلغ سن المراهقة ، وصار عليه الإنخراط في العصابة !

فأرسله والده (الزعيم) مع اقوى رجاله للقرية المجاورة ، للقضاء على العصابة المُنافسة .. ليحتمي المراهق فزعاً خلف السيارات بعد اشداد المعركة بينهما ! 

^^^


وبعد عودتهم منتصرين ، أخبروا الزعيم بفشل ابنه بالمهمّة .. فصفعه لأول مرة ، صارخاً في وجه : 

- انت ابن اقوى زعيم عصابة بالبلد ، وتختبئ كالنساء من الرصاص ، بدل المحاربة لنصرة ابيك !! حتى انك لم تطلق رصاصة واحدة من المسدس القويّ الذي اشتريته لك 

إريك معترضاً : انا لست مجرماً !!

- انت ابني الوحيد ، وتحمل جينات الإجرام مثلي .. وعلى قلبك ان يقسو كالحجارة ، حتى أسلّمك زعامة العصابة

- انت لست والدي الحقيقيّ !! 

جاك بصدمة : هل أخبرك الملاعين الحقيقة ؟ .. اذاً سأقتلهم جميعاً!!

إريك بتحدّي : لن اسمح لك بلمس عائلتي الذين وعدتهم بأن اصبح شرطيّاً كجدي الحقيقيّ

- أتتحدّاني يا ولد ؟!!

- نعم أتحدّاك !! بل انا الذي سيقضي على عصابتك القذرة ، يا والدي العزيز


وخرج من منزله بعد حزم امتعته .. وكان مساعد الزعيم سمع شجارهما ، فسأله : 

- سيدي ، أتريدني ان أقضي على الولد العاقّ ؟

جاك وهو يحاول كتم غيظه : لا ، دعه وشأنه .. لنرى إن كان قويّاً لتنفيذ تهديده

***


وبعد سنوات ، تخرّج إريك من مركز الشرطة في المدينة .. وعاد لفرض النظام في قريته المغصوبة .. ونجح خلال أشهرٍ قليلة بأن يصبح العدوّ الأول لوالده بالتبنّي (جاك) الذي أخفى عن عصابته : فخره بقوّة وذكاء إريك الذي نجح في القبض على أهم مورّدي المخدرات لعصابة جاك  

***


وفي عرس إريك الريفيّ ، سأل المساعد الزعيم الذي كان يراقب ابنه من المنظار فوق التلّ :

- هل تريدني ان أقتله ، او نكتفي بالعروس ؟ 

جاك : لا !! دعه يفرح قليلاً ، فأنا أخطّط لشيءٍ أكبر

***


وبعد سنة.. أنجب إريك طفلاً ، في ذات الوقت الذي احتفل فيه مع افراد الشرطة بنجاحه في إحباط اكبر عملية نقل مخدرات تابعة لجاك ، والتي تهدّد بإفلاسه .. 

^^^


وفي مكتب الزعيم ، سأله مساعده بضيق :

- سيدي ، الأمر لم يعد يُحتمل .. سيقضي إريك على عصابتنا قريباً ، علينا التخلّص منه

جاك : سنفعل ذلك ، لكن ليس بقتله .. بل بتدميره نفسيّاً

- ماذا تقصد ؟

- إخطفوا طفله ، واحضروه لي حيّاً

***


واستطاع لصّ (تابع لعصابة جاك) من اقتحام منزل إريك ليلاً ، وخطف الطفل من مهده .. وتسليمه للزعيم العجوز ، الذي قال للطفل النائم :

- ستحققّ حلمي الذي فشل والدك بإنجازه ، وستصبح زعيم العصابة كجدك .. وهذه المرة لن أُكرّر غلطتي السابقة ، بمعرفة من هم عائلتك الحقيقيّة .. وسأحرص على تربيّتك لتكون وريث مملكتي ، يا حفيديّ العزيز

واحتضن الطفل ، بابتسامةٍ ماكرة !


الثلاثاء، 7 مايو 2024

القفزة العقليّة

تأليف : امل شانوحة 

الأسرار الكونيّة


إستيقظت رِحاب على صوت منبّه اخوها العالي ، لتقول بنعاسٍ وضيق :

- يالا نومك الثقيل !

وذهبت الى غرفته ، لإيقاظه الى عمله ... فوجدت سريره فارغاً ! 

- ربما يُدخّن بشرفة غرفته ، كعادته.. لما لم يوقف المنبّه ، هل هو أصمّ ؟!

وفتحت باب الشرفة بعصبيّة ، دون عثورها عليه !

- اين ذهب بهذا الوقت المبكّر ، ودون أخذ جوّاله ؟!


ثم ذهبت الى اختها التي لم تكن موجودة ايضاً بغرفتها !

- محاضراتها الجامعيّة بعد الظهر ، فلما ذهبت صباحاً ؟!


ودخلت غرفة امها ، لتشكي افعال أخويّها.. إلاّ أن امها العاجزة ليست هناك ايضاً ! فاعتراها الخوف..

- أمعقول إن امي أُصيبت بالمرض ، وأخذاها الى الطوارئ اثناء نومي ؟!


وسارعت بالإتصال بأختها .. ليرنّ جوّالها بغرفتها !

- كيف لم تأخذه معها ؟! يبدو الوضع خطيراً لينسى أخوايّ جوّالاتهما!


واتصلت على جوّال امها ، لتجده في غرفتها !

- طبيعي أن امي لم تأخذه معها ، وهي متألّمة .. مالعمل الآن ؟!


وخرجت لشرفة الصالة ، لتجد سيارة اخيها بالأسفل !

- كيف نقلها للمستشفى دون سيارة ؟! 


ثم انتبهت بأن محل الخبّاز مُغلقاً ، رغم اعتياد فتحه مباشرةً بعد آذان الفجر طوال عشرين سنة !

وايضا لم ترى الجارة العجوز في المبنى المجاور التي تشرب قهوتها على شرفتها ، كعادتها منذ سنوات !

فتساءلت بقلقٍ شديد : مالذي يحصل ؟! 


ولبست ملابسها على عجل ، وهي تدعو أن يكون اهلها بخير !

واول ما فعلته بعد خروجها من الشقة : هو رنّ جرس جارتها ، لعلّها رأتهم وهم خارجين من المنزل .. لكن لم تفتح لها ! 

فتنصّتت على الباب ، دون سماعها صراخ اطفال الجارة المشاغبين الذين يستيقظون باكراً كل يوم !

- ماهذا الهدوء المريب ؟!


واختارت النزول على السلالم لطرق ابواب الجيران ، دون إستجابة أحدٍ لها ! حتى بوّاب العمارة غير موجود !

^^^


فمشت بالشارع .. لتلاحظ ان مدرسة الأطفال القريبة من عمارتهم ، مازالت مُغلقة ! مع إختفاء السيارات بالشارع ..وكل المحلاّت مُغلقة رغم تجاوز الساعة السابعة ، ولا أثر لإنسان في أيّ مكان !

- هل اختفوا جميعاً اثناء نومي ؟! هذا لا يعقل ! أكيد أشاهد كابوساً مزعجاً 

وحين قرصت ذراعها بقوّة ، تألمّت !

- لا ، ليس حلماً !.. اذاً اين الناس ؟!


وهنا وصلها اتصال من خطيبها ! فردّت على جوالها ، وهي تنهجّ خوفاً :

- هل انت بخير ؟

- نعم بخير ..وانتِ ؟

رحاب بقلقٍ شديد : لا اجد عائلتي ، يا علاء !

وقبل إخباره بما حصل ، فاجأها بالقول :

- أأنت ايضاً ؟! 

رحاب : وهل المحلاّت مغلقة في منطقتك ، كما حدث هنا ؟

- لي ساعتيّن أجوب الشوارع ، دون عثوري على شخصٍ واحد!

- ماذا حصل برأيك ؟! 

علاء : لا ادري ، لكني قادمٌ اليك .. اين انتِ ؟

- قُرب محطّة البنزين ، بجانب عمارتنا 

- انا قادم .. إنتظريني

^^^


وفور نزوله من السيارة ، إحتضنته مُرتجفة :

- علاء ! مالذي يحصل معنا ؟ اين اختفى البشر ؟!

- لا اعلم ! إركبي السيارة ، ودعينا نبحث في مناطق أخرى


وظلاّ ينتقلان من شارعٍ لآخر ، حتى حلول العصر .. دون عثورهما على احد !  حتى انهما ذهبا للشاطىء ، وصعدا لمنطقةٍ جبليّة .. وكأن مظاهر الحياة اختفت من البلد كلها !

رحاب بقلق : أتظن أن العدوّ قتل الجميع بقنبلةٍ نوويّة ؟

- وهل نحن مخلوقيّن من فولاذ ، كيّ لا نموت معهم ؟!

- ربما هي قنبلة غريبة لا تؤثّر على النائمين ، كما حصل معنا؟! 

علاء : او ربما لأننا سهرنا البارحة حتى وقتٍ متأخر !

- هذا لأنك طلبت مني دراسة الأبعاد الكونيّة..

علاء مقاطعاً : لحظة ! ربما هذا هو السبب

- ماذا تقصد ؟!

علاء : قد يكون تركيزنا على هذا الموضوع رفع مستوى تفكيرنا ، فنُقلنا لبعدٍ آخر

- أتظن اهالينا مازالوا في البعد السابق ؟!

- أظن ذلك !

رحاب : لكن هناك سبعة ابعاد ، حسب الكتاب الذي أهديّتني اياه .. فأين أصبحنا الآن ؟!

- الكتاب مازال في حقيبتي بالمقعد الخلفيّ ، دعينا نتصفّحه لمعرفة لأيّ الأبعاد انتقلنا 


وأخذا يقرآ معلوماتٍ عن الموضوع : ((حيث اعتقد العلماء انه يمكننا الإنتقال الى بعدٍ ثاني عن طريق تحسين الإدراك الذاتيّ بثلاث طرق : التأمّل المنتظم ، واكتشاف النفس ، والوعيّ الذاتيّ : من خلال التكيّف مع صدمات الماضي .. حيث يمكن بنائه بواسطة : التجوّل بالطبيعة ، والإستماع الجيّد لمن حولنا ، والتعبير بثقة عن افكارنا الخاصة ، وتقبّل وجهات النظر المُضادة ، وتقدير الذات بموضوعيّة ، وكتابة اليوميّات ، وقبول تقييم الآخرين ، ومعرفة نقاط القوّة والضعف فينا))


رحاب بندم : ليتنا لم نُثقّف انفسنا .. فهآ نحن وحدنا بعالمٍ مُشابه لحياتنا القديمة ، دون أقاربنا وأصدقائنا !  

- برأيّ لا مجال للعودة للخلف ، بعد زيادة وعيّنا وإدراكنا  

- وما العمل الآن ؟

علاء : المُضيّ قدماً ، لربما نجد بشراً انتقلوا لأبعادٍ متطوّرة .. وقد نلتقي في البعد السابع والأخير بالعلماء والمثقفين والمُرشدين الروحانيين

- اذاً دعنا نذهب للمكتبة العامة ، لقراءة المزيد عن الموضوع ..لكن عدّني بأن لا تنتقل لبعدٍ ثاني من دوني 


فنظر اليها دون وعدِها بشيء ، لعدم علمه بما ينتظرهما في الأبعاد القادمة!


الخميس، 2 مايو 2024

الوجبة المُفضّلة

تأليف : امل شانوحة 

المهمّة الصعبة


في ثمانينات القرن الماضي .. وبعد اندلاع حربٍ شعواء بين طائفتيّن من نفس البلدة التي انقسمت لطرفيّن ، توقفت فيهما خدمة الكهرباء والماء والغاز ، ومع ذلك لم يُغلق مطعم ام لؤيّ للوجبات السريعة ! فرغم الإنقطاع العام إلاّ ان هاتفها الأرضيّ مازال يعمل ! حيث تستقبل طلبات الزبائن باستمرار ، والتي ترسلهم مع ابنها (من متلازمة داون ، المنغولي) بدرّاجته الناريّة دون تأخير ، رغم القصف العنيف ونيران القنّاصة والحواجز الأمنيّة ! 


ليس هذا فحسب ، بل احياناً يُوصل الطعام لمن هو عالقٌ تحت الحصار او مُختبئين في الملاجئ السكنيّة ، في خُضمّ اشتباكات الجنود المتخاصميّن وحتى منتصف الليل!

***


وذات يوم ، نادت فتاةٌ امها بفرح :

- امي ، طلبت أخيراً !! إتصلت بمطعم ام لؤيّ ، وحجزت طعامنا المفضّل

امها بدهشة : أحقاً ! هل عادت خدمة الهواتف ؟!

وحاولت الأم الإتصال بقريبتها ، لكن هاتفها مازال مُعطّلاً !  

- كيف اتصلتي بالمطعم في ظلّ الإنقطاع العام ؟!

- أحلف انني اتصلت !! وتكلّمت مع صاحبة المطعم التي أرسلت سلاماً لكِ 

الأم : سنرى بعد قليل إن كنت صادقة ام لا ، فالمطعم معروف بتوصيله الطلبات خلال عشر دقائق.. اساساً لا اعرف كيف يوفّرون الخبز مع الطعام ، رغم إغلاق معظم الأفران بعد شحّ الطحين ! 

- وأسعارهم مازالت مقبولة ! 

- أتمنى فعلاً وصول الطعام ، فلا شيء أطبخه مع إستمراريّة الحصار اللعين !!

^^^


وبالفعل وصل الطعام بالوقت المناسب ، وبسعرٍ رخيص رغم جودته ! وقبل ذهاب لؤيّ ، طلب من الأم وابنتها : 

- رجاءً إكثرا الدعاء هذه الليلة

الأم بقلق : لماذا ! هل سمعت شيئاً بالأخبار عن قصف منطقتنا ؟!

- لا .. شعرت فقط بضرورة التنبيه على ذلك ، يا خالة

- سنفعل بإذن الله ، فأنت شابٌ روحاني .. حفظك الله من الأشرار

***


وفي يوم .. أوصل الدليفري الطعام لعجوز يعيش وحده ، والذي استقبله بدهشة :

- لكني لم اطلب الطعام !

لؤيّ : انت لم تتصل بنا منذ ايام ! فأرسلتني امي للإطمئنان عليك

- جزاها الله خيراً .. كم سعره ؟

- لا عليك ، هي تقدمة من المطعم.. السلام عليكم 


العجوز : لحظة !! لا تذهب .. فهناك اسئلة تُحيّرني عن مطعمكم ؟

- اسأل يا عم 

- كيف تعملون بهذه الظروف الصعبة ؟!

- لدينا بئر ماء في مبنانا ولله الحمد .. وأوصلنا كهرباء مطبخنا ، ببطاريّة شاحنة ..وجارنا بائع غاز ، يُوفّر لنا الأنابيب كل شهر.

- ومن يعمل معكم ؟

لؤيّ : ارامل ومطلّقات تساعدنّ امي بالطبخ.. وانا اكتب قائمة الطعام على لوحة اسفل عمارتنا ، ويتصل المارّة لحجزّ طلباتهم .. 

- وهل تكفي الجميع ؟ 

- وتزيد ولله الحمد 

العجوز : الا تخاف امك من إرسالك لأماكن بعيدة ؟

- انا اعرف كل مناطق البلد ..اما الحواجز ، فلا يوقفونني لأني منغولي.. كما أُخبئ الطعام في حقيبةٍ سميكة حتى لا يشتمّها الجنود ، فيسرقوها مني


وهنا فتح العجوز علبة الطعام :

- يا الهي ! هذه طبختي المفضّلة

لؤيّ : امي تعلم ذلك ، فقد طلبتها مراراً 

- مع انها طبخة صعبة ، وتحتاح لجهدٍ ووقت !

- أخبرتك بأن النّسوة تساعدن امي ، منذ الصباح وحتى العصر

العجوز : حماكم الله يا بنيّ .. فأنا جائعٌ منذ البارحة بعد أن علقت في منزلي ، بسبب القنّاص اللعين الذي تمركّز اول الشارع ..لهذا انتبه على نفسك اثناء خروجك من هنا 

- لا تقلق عليّ ، فالأشرار لا يرونني 

- تقصد أن الملائكة تساعدك .. وكيف لا ، وانت ملاكٌ على الأرض .. أوصل سلامي لوالدتك على طبخها المُحترف 

لؤيّ : قبل ذهابي يا عم ، اريدك أن تُكثر من الدعاء 

- انا أدّعي كل يوم ، يا بنيّ !

- حاول مُضاعفتها الليلة .. ومهما حصل ، عليك الرضا بقضاء الله وقدره


فابتسم العجوز ، لعلمه بأن متلازمة داون مخلوقاتٍ شفّافة ..وربما شعر بشيءٍ جعله يقول هذا الكلام !

فهزّ رأسه موافقاً ، وشكره مجدّداً على الطعام اللذيذ

***


وتكررّت الوجبات المجانيّة مع عدّة اشخاصٍ عاجزين او مُحتجزين في ظلّ الحرب المُستعرة.. حتى ان المنغولي فاجأ اهالي الملجأ بوجباتٍ كثيرة ، أعجبت ذوقهم جميعاً ! فشكروه على تنوّعها وجودتها العالية..

بينما اكتفى بالقول ، قبل خروجه من الملجأ :

- إذكروا الله بصوتٍ عالي قبل نومكم ، لا تنسوا رجاءً !!

- سنفعل باذن الله

***


مالا يعرفه الناس عن هذا المطعم : إن الأشرار لا يرونه ، فقط الأشخاص الذين قارب موعد موتهم ! لذلك ينجحون بالإتصال بالمطعم ، رغم الإنقطاع العام للهواتف الأرضيّة .. فلؤيّ المنغولي وامه : هما ملكان مُتجسّدان على هيئة بشريّن ، مهمّتهما على الأرض : إطعام الأشخاص المُحتضرة ، وجبتهم الأخيرة ! 


فجميع من كان بالملجأ قُتل تلك الليلة (عقب تناولهم طعامهم المفضّل) بعد إنهدام المبنى فوق رؤوسهم بقصفٍ عشوائيّ !

اما الأم وابنتها : فكانتا ضمن ضحايا مذبحة المنطقة المجاورة بعد زيارتهما لقريبهما هناك ، في تلك الليلة المشؤومة !

اما العجوز : فقُتل برصاصة القنّاص بعد الإطلال برأسه لنفخ دخان سيجارته ، عقب تناول وجبته الأخيرة

***


خلال شهورٍ عصيبة ، قام لؤيّ وامه بإطعام العديد من ضحايا الحرب .. 

وفي يوم ودون سابق إنذار ! أقفلا مطعمهما ، فور إعلان وقف الحرب بالبلاد .. ولم يبقى من جهدهما وتفانيهما بالعمل ، سوى ذكرى حسنة عند اهالي الضحايا الذين مدحوهما قبل وفاتهم المفاجئ 

ومن بعدها انتقل الملكان لدولةٍ أخرى مع إندلاع حربٍ عنيفةٍ فيها ، للقيام بمهمّتهما السماويّة وبسرّيةٍ تامة!


طبّاخة الأسر

تأليف : امل شانوحة  ماما صوفيا هجمت كتيبةٌ إلمانيّة على منطقةٍ ريفيّة روسيّة اثناء الحرب العالميّة الثانية ، مُستغلين خلوّ القرية من رجالها ...