تأليف : امل شانوحة
ماما صوفيا
هجمت كتيبةٌ إلمانيّة على منطقةٍ ريفيّة روسيّة اثناء الحرب العالميّة الثانية ، مُستغلين خلوّ القرية من رجالها المنخرطين بالجيش الروسيّ ! حيث قاموا بأسر النساء داخل معسكرهم..
فطلبت صوفيا (السيدة الروسيّة التي تتقن الإلمانيّة) التحدّث مع قائدهم الذي سألها بضيق :
- ماذا تريدين ؟
صوفيا : كما ترى سيدي .. انا كبيرة في السن ، ولن تستفيدوا شيئاً من الإعتداء عليّ او تجويعي حتى الموت.. فما رأيك لوّ تستفيد من خبرتي بالطبخ ؟ فأنا مالكة المطعم الوحيد بالقرية.. ويمكنني الطبخ لك ولجنودك ، فعددكم لا يتجاوز العشرين شخصاً
القائد الإلماني بلؤم : طلبك مرفوض !! عودي الى خلف الأسلاك الشائكة مع بقيّة الأسيرات
فسألته بجرأة : ماهو طعامك المفضّل ؟
بصدمة : ماذا !
صوفيا : أعني الطعام الذي تطبخه زوجتك ؟
وأشارت لخاتم زواجه..
فردّ بحزن : زوجتي توفيّت بالقصف الروسي قبل شهرين.. فالملاعين ..
فقاطعته بجدّية : لا شأن لي بمجريّات الحرب .. سألتك سؤال محدّد : ماهو طعامك المفضّل ؟ فأنت بعمر ابني
فوصف لها طبخة مكوّنة من دجاج وخضراوات مشويّة بالفرن
صوفيا : أكلةٌ سهلة ، يمكنني طبخها اليوم على الغداء .. وفي حال لم تعجبك ، إقتلني على الفور
الضابط بتهكّم : أواثقة من قدراتك لهذه الدرجة ؟!
- أخبرتك انني طبّاخة القرية ، وافتتحت مطعمي بعمر الثلاثين بعد وفاة زوجي
- المشكلة هي بتوفير المكوّنات لك !
صوفيا : طالما احتتلت قريّتي بالكامل ، فيمكن لجنودك إحضار الدجاج من المزرعة القريبة من معسكركم.. كما يوجد حقلٌ كبير مليء بالخضراوات ، تكفي لإطعام الجميع
- لا !! ستطعمينني اولاً .. وفي حال أعجبني طبخك ، تصبحين طبّاخة الجنود دون الأسرى
صوفيا بضيق : لا يمكنني تجاهل نساء قريتي ! فأنا اعرف معظمهنّ..
مقاطعاً بلؤم : لا يهمّني أمرهنّ !! سنتسلّى بهن ، حتى يمتنّ جوعاً.. ألم تسمعي ما فعله رجالكم بنسائنا ؟ لهذا لا تطلبي الرحمة لهنّ !!
صوفيا : على الأقل إسمح بإعداد الحساء لهنّ !
الضابط : سيتكفّل طبّاخنا بذلك
- ذُقت طعامه صباحاً.. انه ردي للغاية ، وليس فيه ملح وبهارات !
- مستحيل إيجاد البهارات بظلّ المعارك الضارية
صوفيا : إذاً إسمح بذهابي مع جنودك لمطعمي ، ففيه مؤونةً جيدة .. سأستخدمها بالطبخ ، بدل تعفّنها في مخزني
- وإن حاولتي الهرب..
مقاطعة : انا امرأة ستينيّة ..ورجالك بالعشرينات ، ومدجّجين بالسلاح ! فكيف سأهرب منهم
^^^
وبالفعل عادت صوفيا للمعسكر بعد ساعتين ، بعربةٍ وضعت عليها كل مؤونة مطعمها.. وعندما مرّت بجانب الأسيرات (خلف الأسلاك الشائكة بفناء المعسكر) نعتوها بالخائنة بعد معرفتهم بمهمّة إطعامها الجنود ، بموافقة قائدهم !
فقالت لهن : رفقاً عليّ ، لم انجح بعد بالإمتحان ..وقد أُقتل بعد ساعتين ، إن فشلت بإعداد طبخة الضابط المفضّلة
فردّت عليها إحدى النساء ، باشمئزاز :
- حتى لوّ فزتي ، ستطبخين للأعداء .. بينما تتركينا نموت جوعاً !
صوفيا : صدّقوني ، لا حلّ آخر لديّ
سيدة أخرى : انت انانية يا صوفيا ، لا يهمّك سوى إنقاذ نفسك !
وقالت صبيةٌ بلؤم : ماذا سيكون رأيّ ابنك إن علم بخيانتك ، بينما يجازف بحياته للدفاع عن الوطن ؟!!
فطأطأت صوفيا رأسها بحزن ، وهي تقول بنفسها :
((انا أذلّ نفسي للعدوّ ، لكيّ اراه مجدّداً))
***
وعلى الغداء .. وفور تذوّق الضابط الإلماني للقمة الأولى من طبقه المفضّل ، حتى ترقّرت عيناه بالدموع .. فهو نفس مذاق الطبخة التي تعدّها زوجته بمناسباتهما الرومنسيّة ، قبل اندلاع الحرب !
وما أن عادت صوفيا لمطبخ المعسكر لإحضار الحلوى له ، حتى مسح دموعه على عجل بعد تذكّر منزله المُنهار فوق جثمان زوجته ، بعد القصف الروسي لمدينته المتواجدة بأطراف إلمانيا.. ومن ثم دفنها بالمقبرة الجماعيّة ، وهي حامل بشهرها السادس لطفلهما الأول الذي لم يُبصر النور!
ثم أتت صوفيا بعد قليل ومعها قطعة من كيك البرتقال ، وهي تقول:
- كنت قبل الحرب أقدّمها مجاناً للزبائن ، بجانب طبقهم الرئيسيّ
فتناولها بنهم .. بعدها قال ، وهو يمسح فمه بالمنديل القماشيّ :
- كانت امي تعدّها لي ولأخوتي ونحن صغار
صوفيا بارتياح : أهذا يعني انني نجحت بالإمتحان ؟
الضابط : نعم !! ومنذ الغد ، تعدّين الطعام لي ولجنودي .. اما طبّاخنا العجوز ، فسأوكّله بإعداد حسائه الرديء للأسيرات
فقالت صوفيا في نفسها ، بضيق : ((كان الله في عونهنّ))
***
حاولت صوفيا في الأيام التالية إمضاء معظم وقتها بمطعم المعسكر ، لحماية نفسها من النقد الّلاذع للأسيرات كلما مرّت بجانبهن ، وهنّ ينعتوها بأبشع الشتائم .. لكنها لا تلومهنّ ، فهن مقهورات من الإعتداء المتواصل عليهنّ من الجنود .. كما شعورهنّ بالضيق من تأمين الضابط غرفةً خاصة لصوفيا ، بينما ترتعدّ أجسادهنّ النحيلة على أرضيّة الفناء الباردة .. عدا عن حصولها على بقايا طبخها ، بينما يُجبرنّ على تناول الحساء المثير للغثيان.. لهذا عدّوها من الإعداء ، وتوعّدوها بالإنتقام منها قريباً !
***
بمرور الأسابيع .. تعلّق الجنود الإلمان (من الشباب والمراهقين) بطعام ماما صوفيا الذين ينتظرونه بفارغ الصبر ، بفترة الغداء والعشاء كل يوم .. ليس هذا فحسب ، بل لجؤوا اليها لحلّ مشاكلهم النفسيّة والعاطفية .. خاصة بعد مساعدتها أحدهم للهرب من المعسكر مع عشيقته الروسيّة (إحدى الأسيرات) لتعلّقه بها !
فأمهلها الضابط فرصةً أخيرة لضبط تصرّفاتها ، وإلاّ ستلقى مصير الأسيرات
***
ومرّت الليالي ، وهي تستمع لذكريات الجنود التي تُقارب حياة ابنها الوحيد .. فالشعوب بتلك الحقبة الزمنية تشابهوا بالتربية والأخلاق ، لولا اندلاع الحرب بينهم!
كما اعتادت خياطة ملابسهم والإعتناء بمرضاهم .. مما زاد كره الأسيرات لها ، والتي وعدنّ بشنقها بتهمة الخيانة !
***
وذات يوم ، ألقى الحارس القبض على ولدٍ يحوم حول معسكرهم .. فعرفته صوفيا على الفور ، فهو يتيم القرية الذي كانت تشفق عليه ، بإطعامه مجاناً قبل إغلاق مطعمها ..
وفي ليلته الأولى مع الأسيرات ، طلب من صوفيا إطعامه ثانيةً ..
فهرّبت له شطيرة ، بعد رفضه تناول الحساء الرديء .. فاعتبر الضابط تصرّفها تجاوزاً لأوامره المشدّدة بعدم التواصل مع الأسرى!
فعاتبها بعصبية ، في قاعة الطعام :
- سيدة صوفيا !! هذا خطؤك الثاني بعد تهريبك العاشقيّن.. لهذا سيتم إعدامك غداً..
وقبل إكمال كلامه ، تفاجأ بالجنود يطرقون بأكوابهم الحديديّة على طاولاتهم ، مُعترضين على قتلها .. ومُطالبين بإكمال مهمّتها بإطعامهم ، فهي بمثابة امهم الروحيّة !
فقالت صوفيا وهي ترتجف :
- إسمعني سيدي .. أخبرتنا قبل ساعات عن إقتراب الجيش الروسي من القرية لتحريرها .. وربما يقصفون معسكرك الليلة ، ويقتلونا جميعاً.. لذا دعني أطعمكم برفاهية ، باستخدام كل مؤونة مطعمي .. لربما كانت وجبتنا الأخيرة!
فسمح لها الضباط بالعودة للمطبخ ، بعد ضغطٍ من الجنود .. فهو لا يريد إزعاجهم بظلّ الظروف المُربكة التي يعيشونها ، بعد إقتراب الجيش الروسي منهم !
^^^
وبالفعل تناولوا أطيب عشاءٍ في حياتهم..
وما ان أنهوا الحلوى ، حتى سمعوا الدبّابات الروسيّة تقترب من ابواب المعسكر ! فتمرّكزوا في اماكنهم .. بينما اختبأت الطبّاخة في الخندق
ليعيشوا ليلةً عصيبة ، مليئة بالإنفجارات وطلقات الرشّاشات .. والتي قضت على معظم الكتيبة الإلمانيّة ، بما فيها قائدهم ! بينما وقع الآخرون (المصابين) بالأسر ..
وتمّ تحرير الأسيرات التي بانت عظامهم ، بعد تجويعهنّ على مدى خمسة شهور !
***
نامت الطبّاخة ليلتها الأولى في منزلها .. لكن فرحتها لم تدم ، بعد رؤيتها صباحاً ورقة تهديد مُوقّعة من نساء القرية : بعقابها على اهتمامها بجنود العدوّ ، طوال فترة أسرهنّ .. وكان عليها الإختيار : بين الموت شنقاً بتهمة الخيانة ، او الطبخ المجانيّ لهنّ لبقية حياتها (مع توفيرهنّ إحتياجات مطعمها من مزارعهنّ)
فوافقت مُرغمة على عقابهنّ .. وصارت تطبخ وهي مقيّدة بسلّسلةٍ حديديّةٍ طويلة ، لا تُفك إلاّ مساءً عند إغلاق مطعمها ، والعودة الى منزلها (وهي مُرهقة تماماً)
***
بعد شهرين من عقابها ، عاد ابنها من الحرب (لحصوله على الإعفاء ، عقب بتر قدمه) .. واحتضنته امه باكية لمصابه الكبير .. لكنه كان أشدّ حزناً بعد رؤية السلّسلة بقدم امه ، وكلام النّسوة عن خيانتها للوطن !
فسألها بصدمة : أمعقول يا امي تُطعمين الأعداء ، ونساء قريتنا يمتنّ جوعاً؟!
فأخبرته انها أُجبرت على ذلك لحماية شرفها وللحفاظ على حياتها ، لرؤيته مُجدّداً
فتوسّط لها عند النّسوة الغاضبات ، للإعفاء عنها .. فوافقنّ بشرطٍ واحد : خروجه مع امه من القرية !
^^^
وبعد ايام .. إلتحق هو ووالدته بقافلةٍ بريّة ، استطاعوا إيصالهما بصعوبة الى سويسرا .. حيث افتتحت هناك مطعمها الخاص بالأكل الروسي التقليديّ .. والذي حظيّ بشعبيةٍ واسعة ، أسمته (مطعم الأسر) !
ولم يعرف أحد قصة صوفيا إلاّ بعد وفاتها ، ونشر ابنها مذكّراتها بمعسكر العدوّ : حيث وصفت جنودهم اليافعين ، بزهورٍ قُطفت قبل اوانها ! فهم يُشابهون الشباب الروس بأحلامهم الورديّة ، ورغباتهم المستقبليّة .. لولا قيام السياسيون بإثارة العداء بين الشعوب المُسالمة!
ولاحقاً عُدّت مذكّراتها كتاباً تاريخيّاً : وصفت فيه الحقبة الزمنيّة الصعبة ، للأجيال القادمة بعد ترجمته لعدّة لغاتٍ عالميّة .. حيث وصفها النقّاد : بالوالدة الحنونة التي ألّفت بين القلوب ، بطعامها اللذيذ وأمومتها النادرة !