الخميس، 16 مايو 2024

طبّاخة الأسر

تأليف : امل شانوحة 

ماما صوفيا


هجمت كتيبةٌ إلمانيّة على منطقةٍ ريفيّة روسيّة اثناء الحرب العالميّة الثانية ، مُستغلين خلوّ القرية من رجالها المنخرطين بالجيش الروسيّ ! حيث قاموا بأسر النساء داخل معسكرهم.. 

فطلبت صوفيا (السيدة الروسيّة التي تتقن الإلمانيّة) التحدّث مع قائدهم الذي سألها بضيق :

- ماذا تريدين ؟

صوفيا : كما ترى سيدي .. انا كبيرة في السن ، ولن تستفيدوا شيئاً من الإعتداء عليّ او تجويعي حتى الموت.. فما رأيك لوّ تستفيد من خبرتي بالطبخ ؟ فأنا مالكة المطعم الوحيد بالقرية.. ويمكنني الطبخ لك ولجنودك ، فعددكم لا يتجاوز العشرين شخصاً

القائد الإلماني بلؤم : طلبك مرفوض !! عودي الى خلف الأسلاك الشائكة مع بقيّة الأسيرات 


فسألته بجرأة : ماهو طعامك المفضّل ؟ 

بصدمة : ماذا !

صوفيا : أعني الطعام الذي تطبخه زوجتك ؟

وأشارت لخاتم زواجه..

فردّ بحزن : زوجتي توفيّت بالقصف الروسي قبل شهرين.. فالملاعين .. 

فقاطعته بجدّية : لا شأن لي بمجريّات الحرب .. سألتك سؤال محدّد : ماهو طعامك المفضّل ؟ فأنت بعمر ابني

فوصف لها طبخة مكوّنة من دجاج وخضراوات مشويّة بالفرن


صوفيا : أكلةٌ سهلة ، يمكنني طبخها اليوم على الغداء .. وفي حال لم تعجبك ، إقتلني على الفور

الضابط بتهكّم : أواثقة من قدراتك لهذه الدرجة ؟!

- أخبرتك انني طبّاخة القرية ، وافتتحت مطعمي بعمر الثلاثين بعد وفاة زوجي

- المشكلة هي بتوفير المكوّنات لك !

صوفيا : طالما احتتلت قريّتي بالكامل ، فيمكن لجنودك إحضار الدجاج من المزرعة القريبة من معسكركم.. كما يوجد حقلٌ كبير مليء بالخضراوات ، تكفي لإطعام الجميع

- لا !! ستطعمينني اولاً .. وفي حال أعجبني طبخك ، تصبحين طبّاخة الجنود دون الأسرى

صوفيا بضيق : لا يمكنني تجاهل نساء قريتي ! فأنا اعرف معظمهنّ.. 

مقاطعاً بلؤم : لا يهمّني أمرهنّ !! سنتسلّى بهن ، حتى يمتنّ جوعاً.. ألم تسمعي ما فعله رجالكم بنسائنا ؟ لهذا لا تطلبي الرحمة لهنّ !!


صوفيا : على الأقل إسمح بإعداد الحساء لهنّ ! 

الضابط : سيتكفّل طبّاخنا بذلك

- ذُقت طعامه صباحاً.. انه ردي للغاية ، وليس فيه ملح وبهارات !

- مستحيل إيجاد البهارات بظلّ المعارك الضارية  

صوفيا : إذاً إسمح بذهابي مع جنودك لمطعمي ، ففيه مؤونةً جيدة .. سأستخدمها بالطبخ ، بدل تعفّنها في مخزني 

- وإن حاولتي الهرب..

مقاطعة : انا امرأة ستينيّة ..ورجالك بالعشرينات ، ومدجّجين بالسلاح ! فكيف سأهرب منهم

^^^


وبالفعل عادت صوفيا للمعسكر بعد ساعتين ، بعربةٍ وضعت عليها كل مؤونة مطعمها.. وعندما مرّت بجانب الأسيرات (خلف الأسلاك الشائكة بفناء المعسكر) نعتوها بالخائنة بعد معرفتهم بمهمّة إطعامها الجنود ، بموافقة قائدهم !

فقالت لهن : رفقاً عليّ ، لم انجح بعد بالإمتحان ..وقد أُقتل بعد ساعتين ، إن فشلت بإعداد طبخة الضابط المفضّلة

فردّت عليها إحدى النساء ، باشمئزاز : 

- حتى لوّ فزتي ، ستطبخين للأعداء .. بينما تتركينا نموت جوعاً !

صوفيا : صدّقوني ، لا حلّ آخر لديّ

سيدة أخرى : انت انانية يا صوفيا ، لا يهمّك سوى إنقاذ نفسك !

وقالت صبيةٌ بلؤم : ماذا سيكون رأيّ ابنك إن علم بخيانتك ، بينما يجازف بحياته للدفاع عن الوطن ؟!!

فطأطأت صوفيا رأسها بحزن ، وهي تقول بنفسها :

((انا أذلّ نفسي للعدوّ ، لكيّ اراه مجدّداً))

***


وعلى الغداء .. وفور تذوّق الضابط الإلماني للقمة الأولى من طبقه المفضّل ، حتى ترقّرت عيناه بالدموع .. فهو نفس مذاق الطبخة التي تعدّها زوجته بمناسباتهما الرومنسيّة ، قبل اندلاع الحرب !


وما أن عادت صوفيا لمطبخ المعسكر لإحضار الحلوى له ، حتى مسح دموعه على عجل بعد تذكّر منزله المُنهار فوق جثمان زوجته ، بعد القصف الروسي لمدينته المتواجدة بأطراف إلمانيا.. ومن ثم دفنها بالمقبرة الجماعيّة ، وهي حامل بشهرها السادس لطفلهما الأول الذي لم يُبصر النور! 


ثم أتت صوفيا بعد قليل ومعها قطعة من كيك البرتقال ، وهي تقول: 

- كنت قبل الحرب أقدّمها مجاناً للزبائن ، بجانب طبقهم الرئيسيّ

فتناولها بنهم .. بعدها قال ، وهو يمسح فمه بالمنديل القماشيّ :

- كانت امي تعدّها لي ولأخوتي ونحن صغار

صوفيا بارتياح : أهذا يعني انني نجحت بالإمتحان ؟

الضابط : نعم !! ومنذ الغد ، تعدّين الطعام لي ولجنودي .. اما طبّاخنا العجوز ، فسأوكّله بإعداد حسائه الرديء للأسيرات

فقالت صوفيا في نفسها ، بضيق : ((كان الله في عونهنّ))

***


حاولت صوفيا في الأيام التالية إمضاء معظم وقتها بمطعم المعسكر ، لحماية نفسها من النقد الّلاذع للأسيرات كلما مرّت بجانبهن ، وهنّ ينعتوها بأبشع الشتائم .. لكنها لا تلومهنّ ، فهن مقهورات من الإعتداء المتواصل عليهنّ من الجنود .. كما شعورهنّ بالضيق من تأمين الضابط غرفةً خاصة لصوفيا ، بينما ترتعدّ أجسادهنّ النحيلة على أرضيّة الفناء الباردة .. عدا عن حصولها على بقايا طبخها ، بينما يُجبرنّ على تناول الحساء المثير للغثيان.. لهذا عدّوها من الإعداء ، وتوعّدوها بالإنتقام منها قريباً !

***


بمرور الأسابيع .. تعلّق الجنود الإلمان (من الشباب والمراهقين) بطعام ماما صوفيا الذين ينتظرونه بفارغ الصبر ، بفترة الغداء والعشاء كل يوم .. ليس هذا فحسب ، بل لجؤوا اليها لحلّ مشاكلهم النفسيّة والعاطفية .. خاصة بعد مساعدتها أحدهم للهرب من المعسكر مع عشيقته الروسيّة (إحدى الأسيرات) لتعلّقه بها ! 

فأمهلها الضابط فرصةً أخيرة لضبط تصرّفاتها ، وإلاّ ستلقى مصير الأسيرات

***


ومرّت الليالي ، وهي تستمع لذكريات الجنود التي تُقارب حياة ابنها الوحيد .. فالشعوب بتلك الحقبة الزمنية تشابهوا بالتربية والأخلاق ، لولا اندلاع الحرب بينهم! 


كما اعتادت خياطة ملابسهم والإعتناء بمرضاهم .. مما زاد كره الأسيرات لها ، والتي وعدنّ بشنقها بتهمة الخيانة !

***


وذات يوم ، ألقى الحارس القبض على ولدٍ يحوم حول معسكرهم .. فعرفته صوفيا على الفور ، فهو يتيم القرية الذي كانت تشفق عليه ، بإطعامه مجاناً قبل إغلاق مطعمها .. 


وفي ليلته الأولى مع الأسيرات ، طلب من صوفيا إطعامه ثانيةً ..

فهرّبت له شطيرة ، بعد رفضه تناول الحساء الرديء .. فاعتبر الضابط تصرّفها تجاوزاً لأوامره المشدّدة بعدم التواصل مع الأسرى! 


فعاتبها بعصبية ، في قاعة الطعام : 

- سيدة صوفيا !! هذا خطؤك الثاني بعد تهريبك العاشقيّن.. لهذا سيتم إعدامك غداً..


وقبل إكمال كلامه ، تفاجأ بالجنود يطرقون بأكوابهم الحديديّة على طاولاتهم ، مُعترضين على قتلها .. ومُطالبين بإكمال مهمّتها بإطعامهم ، فهي بمثابة امهم الروحيّة !


فقالت صوفيا وهي ترتجف : 

- إسمعني سيدي .. أخبرتنا قبل ساعات عن إقتراب الجيش الروسي من القرية لتحريرها .. وربما يقصفون معسكرك الليلة ، ويقتلونا جميعاً.. لذا دعني أطعمكم برفاهية ، باستخدام كل مؤونة مطعمي .. لربما كانت وجبتنا الأخيرة!


فسمح لها الضباط بالعودة للمطبخ ، بعد ضغطٍ من الجنود .. فهو لا يريد إزعاجهم بظلّ الظروف المُربكة التي يعيشونها ، بعد إقتراب الجيش الروسي منهم ! 

^^^


وبالفعل تناولوا أطيب عشاءٍ في حياتهم..

وما ان أنهوا الحلوى ، حتى سمعوا الدبّابات الروسيّة تقترب من ابواب المعسكر ! فتمرّكزوا في اماكنهم .. بينما اختبأت الطبّاخة في الخندق


ليعيشوا ليلةً عصيبة ، مليئة بالإنفجارات وطلقات الرشّاشات .. والتي قضت على معظم الكتيبة الإلمانيّة ، بما فيها قائدهم ! بينما وقع الآخرون (المصابين) بالأسر ..

وتمّ تحرير الأسيرات التي بانت عظامهم ، بعد تجويعهنّ على مدى خمسة شهور !

***


نامت الطبّاخة ليلتها الأولى في منزلها .. لكن فرحتها لم تدم ، بعد رؤيتها صباحاً ورقة تهديد مُوقّعة من نساء القرية : بعقابها على اهتمامها بجنود العدوّ ، طوال فترة أسرهنّ .. وكان عليها الإختيار : بين الموت شنقاً بتهمة الخيانة ، او الطبخ المجانيّ لهنّ لبقية حياتها (مع توفيرهنّ إحتياجات مطعمها من مزارعهنّ) 


فوافقت مُرغمة على عقابهنّ .. وصارت تطبخ وهي مقيّدة بسلّسلةٍ حديديّةٍ طويلة ، لا تُفك إلاّ مساءً عند إغلاق مطعمها ، والعودة الى منزلها (وهي مُرهقة تماماً)

***


بعد شهرين من عقابها ، عاد ابنها من الحرب (لحصوله على الإعفاء ، عقب بتر قدمه) .. واحتضنته امه باكية لمصابه الكبير .. لكنه كان أشدّ حزناً بعد رؤية السلّسلة بقدم امه ، وكلام النّسوة عن خيانتها للوطن ! 


فسألها بصدمة : أمعقول يا امي تُطعمين الأعداء ، ونساء قريتنا يمتنّ جوعاً؟! 

فأخبرته انها أُجبرت على ذلك لحماية شرفها وللحفاظ على حياتها ، لرؤيته مُجدّداً 


فتوسّط لها عند النّسوة الغاضبات ، للإعفاء عنها .. فوافقنّ بشرطٍ واحد : خروجه مع امه من القرية !

^^^


وبعد ايام .. إلتحق هو ووالدته بقافلةٍ بريّة ، استطاعوا إيصالهما بصعوبة الى سويسرا .. حيث افتتحت هناك مطعمها الخاص بالأكل الروسي التقليديّ .. والذي حظيّ بشعبيةٍ واسعة ، أسمته (مطعم الأسر) !


ولم يعرف أحد قصة صوفيا إلاّ بعد وفاتها ، ونشر ابنها مذكّراتها بمعسكر العدوّ : حيث وصفت جنودهم اليافعين ، بزهورٍ قُطفت قبل اوانها ! فهم يُشابهون الشباب الروس بأحلامهم الورديّة ، ورغباتهم المستقبليّة .. لولا قيام السياسيون بإثارة العداء بين الشعوب المُسالمة! 


ولاحقاً عُدّت مذكّراتها كتاباً تاريخيّاً : وصفت فيه الحقبة الزمنيّة الصعبة ، للأجيال القادمة بعد ترجمته لعدّة لغاتٍ عالميّة .. حيث وصفها النقّاد : بالوالدة الحنونة التي ألّفت بين القلوب ، بطعامها اللذيذ وأمومتها النادرة ! 


هناك 8 تعليقات:

  1. بالعادة عندما أكتب قصص الحروب العالمية ، أنحاز للإلمان .. لكن الذكاء الإصطناعي الذي رسم صورة القصة : مُصرّ على رسم الجنود الإلمان ، لهذا جعلت الطبّاخة روسيّة !

    ردحذف
    الردود
    1. ليش تنحازين للالمان؟
      شلون تستخدمين الذكاء الاصطناعي؟ اذا تطبيق ممكن تقوليلي اسمه؟

      حذف
    2. يكفي موقف هتلر من اليهود
      تطبيق بالجوال اسمه copilot ..وهو بالعربي .. تكتبين : اريد رسمة صورة ، وتوصفين ما تريدين بالصورة .. وخلال دقيقة واحدة ، يعطيك اربعة خيارات .. تختارين احدها لتكون صورة قصتك

      حذف
  2. جميل جدا .. قصه مليءه بالماسي .. تغير قليلا من واقعنا اللطيف ..وليس من عاين كمن سمع ..للعلم خلال الحرب العالميه اكل المحاصرون الكلاب والقطط والفءران بل اكلوا جثث البشر ايضا ..اوااااع ..




    ردحذف
    الردود
    1. لا ادري لما كتابة الدراما اسهل عليّ من القصص المتفائلة ، ربما لأنه الواقع الذي نعيشه في عالمنا العربي ، مع الأسف !

      حذف
    2. ليش انا ما حسيت بإي مأسي؟ ولا ذرة حزن؟🤔

      حذف
  3. قصة رائعة ولكن اعتقد كان يجب أن تكون العكس اي الطباخة ألمانية والمحتلين روس

    ردحذف
    الردود
    1. صورة القصة قلبت الجنسيّات .. على كلٍ ، سعيدة ان القصة اعجبتك

      حذف

كيك المستقبل

كتابة : امل شانوحة توأم الروح إعتاد شاب (في الثلاثين من عمره ، والمُتخرّج من معهد الكمبيوتر) على الإستيقاظ ظهراً بعد انتقاله لشقته الصغيرة ،...