الخميس، 2 مايو 2024

الوجبة المُفضّلة

تأليف : امل شانوحة 

المهمّة الصعبة


في ثمانينات القرن الماضي .. وبعد اندلاع حربٍ شعواء بين طائفتيّن من نفس البلدة التي انقسمت لطرفيّن ، توقفت فيهما خدمة الكهرباء والماء والغاز ، ومع ذلك لم يُغلق مطعم ام لؤيّ للوجبات السريعة ! فرغم الإنقطاع العام إلاّ ان هاتفها الأرضيّ مازال يعمل ! حيث تستقبل طلبات الزبائن باستمرار ، والتي ترسلهم مع ابنها (من متلازمة داون ، المنغولي) بدرّاجته الناريّة دون تأخير ، رغم القصف العنيف ونيران القنّاصة والحواجز الأمنيّة ! 


ليس هذا فحسب ، بل احياناً يُوصل الطعام لمن هو عالقٌ تحت الحصار او مُختبئين في الملاجئ السكنيّة ، في خُضمّ اشتباكات الجنود المتخاصميّن وحتى منتصف الليل!

***


وذات يوم ، نادت فتاةٌ امها بفرح :

- امي ، طلبت أخيراً !! إتصلت بمطعم ام لؤيّ ، وحجزت طعامنا المفضّل

امها بدهشة : أحقاً ! هل عادت خدمة الهواتف ؟!

وحاولت الأم الإتصال بقريبتها ، لكن هاتفها مازال مُعطّلاً !  

- كيف اتصلتي بالمطعم في ظلّ الإنقطاع العام ؟!

- أحلف انني اتصلت !! وتكلّمت مع صاحبة المطعم التي أرسلت سلاماً لكِ 

الأم : سنرى بعد قليل إن كنت صادقة ام لا ، فالمطعم معروف بتوصيله الطلبات خلال عشر دقائق.. اساساً لا اعرف كيف يوفّرون الخبز مع الطعام ، رغم إغلاق معظم الأفران بعد شحّ الطحين ! 

- وأسعارهم مازالت مقبولة ! 

- أتمنى فعلاً وصول الطعام ، فلا شيء أطبخه مع إستمراريّة الحصار اللعين !!

^^^


وبالفعل وصل الطعام بالوقت المناسب ، وبسعرٍ رخيص رغم جودته ! وقبل ذهاب لؤيّ ، طلب من الأم وابنتها : 

- رجاءً إكثرا الدعاء هذه الليلة

الأم بقلق : لماذا ! هل سمعت شيئاً بالأخبار عن قصف منطقتنا ؟!

- لا .. شعرت فقط بضرورة التنبيه على ذلك ، يا خالة

- سنفعل بإذن الله ، فأنت شابٌ روحاني .. حفظك الله من الأشرار

***


وفي يوم .. أوصل الدليفري الطعام لعجوز يعيش وحده ، والذي استقبله بدهشة :

- لكني لم اطلب الطعام !

لؤيّ : انت لم تتصل بنا منذ ايام ! فأرسلتني امي للإطمئنان عليك

- جزاها الله خيراً .. كم سعره ؟

- لا عليك ، هي تقدمة من المطعم.. السلام عليكم 


العجوز : لحظة !! لا تذهب .. فهناك اسئلة تُحيّرني عن مطعمكم ؟

- اسأل يا عم 

- كيف تعملون بهذه الظروف الصعبة ؟!

- لدينا بئر ماء في مبنانا ولله الحمد .. وأوصلنا كهرباء مطبخنا ، ببطاريّة شاحنة ..وجارنا بائع غاز ، يُوفّر لنا الأنابيب كل شهر.

- ومن يعمل معكم ؟

لؤيّ : ارامل ومطلّقات تساعدنّ امي بالطبخ.. وانا اكتب قائمة الطعام على لوحة اسفل عمارتنا ، ويتصل المارّة لحجزّ طلباتهم .. 

- وهل تكفي الجميع ؟ 

- وتزيد ولله الحمد 

العجوز : الا تخاف امك من إرسالك لأماكن بعيدة ؟

- انا اعرف كل مناطق البلد ..اما الحواجز ، فلا يوقفونني لأني منغولي.. كما أُخبئ الطعام في حقيبةٍ سميكة حتى لا يشتمّها الجنود ، فيسرقوها مني


وهنا فتح العجوز علبة الطعام :

- يا الهي ! هذه طبختي المفضّلة

لؤيّ : امي تعلم ذلك ، فقد طلبتها مراراً 

- مع انها طبخة صعبة ، وتحتاح لجهدٍ ووقت !

- أخبرتك بأن النّسوة تساعدن امي ، منذ الصباح وحتى العصر

العجوز : حماكم الله يا بنيّ .. فأنا جائعٌ منذ البارحة بعد أن علقت في منزلي ، بسبب القنّاص اللعين الذي تمركّز اول الشارع ..لهذا انتبه على نفسك اثناء خروجك من هنا 

- لا تقلق عليّ ، فالأشرار لا يرونني 

- تقصد أن الملائكة تساعدك .. وكيف لا ، وانت ملاكٌ على الأرض .. أوصل سلامي لوالدتك على طبخها المُحترف 

لؤيّ : قبل ذهابي يا عم ، اريدك أن تُكثر من الدعاء 

- انا أدّعي كل يوم ، يا بنيّ !

- حاول مُضاعفتها الليلة .. ومهما حصل ، عليك الرضا بقضاء الله وقدره


فابتسم العجوز ، لعلمه بأن متلازمة داون مخلوقاتٍ شفّافة ..وربما شعر بشيءٍ جعله يقول هذا الكلام !

فهزّ رأسه موافقاً ، وشكره مجدّداً على الطعام اللذيذ

***


وتكررّت الوجبات المجانيّة مع عدّة اشخاصٍ عاجزين او مُحتجزين في ظلّ الحرب المُستعرة.. حتى ان المنغولي فاجأ اهالي الملجأ بوجباتٍ كثيرة ، أعجبت ذوقهم جميعاً ! فشكروه على تنوّعها وجودتها العالية..

بينما اكتفى بالقول ، قبل خروجه من الملجأ :

- إذكروا الله بصوتٍ عالي قبل نومكم ، لا تنسوا رجاءً !!

- سنفعل باذن الله

***


مالا يعرفه الناس عن هذا المطعم : إن الأشرار لا يرونه ، فقط الأشخاص الذين قارب موعد موتهم ! لذلك ينجحون بالإتصال بالمطعم ، رغم الإنقطاع العام للهواتف الأرضيّة .. فلؤيّ المنغولي وامه : هما ملكان مُتجسّدان على هيئة بشريّن ، مهمّتهما على الأرض : إطعام الأشخاص المُحتضرة ، وجبتهم الأخيرة ! 


فجميع من كان بالملجأ قُتل تلك الليلة (عقب تناولهم طعامهم المفضّل) بعد إنهدام المبنى فوق رؤوسهم بقصفٍ عشوائيّ !

اما الأم وابنتها : فكانتا ضمن ضحايا مذبحة المنطقة المجاورة بعد زيارتهما لقريبهما هناك ، في تلك الليلة المشؤومة !

اما العجوز : فقُتل برصاصة القنّاص بعد الإطلال برأسه لنفخ دخان سيجارته ، عقب تناول وجبته الأخيرة

***


خلال شهورٍ عصيبة ، قام لؤيّ وامه بإطعام العديد من ضحايا الحرب .. 

وفي يوم ودون سابق إنذار ! أقفلا مطعمهما ، فور إعلان وقف الحرب بالبلاد .. ولم يبقى من جهدهما وتفانيهما بالعمل ، سوى ذكرى حسنة عند اهالي الضحايا الذين مدحوهما قبل وفاتهم المفاجئ 

ومن بعدها انتقل الملكان لدولةٍ أخرى مع إندلاع حربٍ عنيفةٍ فيها ، للقيام بمهمّتهما السماويّة وبسرّيةٍ تامة!


هناك 7 تعليقات:

  1. سأتأخر بنشر القصة التالية ، بسبب انشغالي بعرس اخي نهاية هذا الأسبوع .. عقبال العزّاب من قرّاء مدونتي .. اراكم قريباً

    ردحذف
  2. فكره غريبه وجديده ...تخيلت انهم شبحين لام وطفلها قد قتلا ...ليت كان هناك مثل هذا التذكير والتنبيه او التحذير قبل العاجله ...
    عامة نراكم على خير باذن الله ..

    ردحذف
    الردود
    1. سعيدة ان القصة اعجبتك .. سأحاول العودة قريباً بإذن الله

      حذف
  3. القصه كانها لبنان ب80 تبا لحروب الطائفيه
    الله يفرجها على الكل
    لربما يزور المطعم اهل غزه لربما الله يفرجها استاذه امل

    ردحذف
    الردود
    1. آمين ، الله يفرجها على اهل غزة وعلى كل الدول العربية المنكوبة

      حذف
  4. تجدين صياغة مشاعرك وأفكارك
    وتأملاتك وخيالك بكل ما تكتبين ..
    أعجبتني القصة ..

    ردحذف
  5. شكراً لك .. سأحاول نشر قصة جديدة غداً بإذن الله .. دمت بخير

    ردحذف

طبّاخة الأسر

تأليف : امل شانوحة  ماما صوفيا هجمت كتيبةٌ إلمانيّة على منطقةٍ ريفيّة روسيّة اثناء الحرب العالميّة الثانية ، مُستغلين خلوّ القرية من رجالها ...