تأليف : امل شانوحة
حُسن المعاملة
فرحت ريم كثيراً بحصولها على بعثة الى كندا ، لإكمال دراستها العليا بالعلوم التقنية .. وما أن استقرّت هناك ، حتى واجهت معاملةً جافة من جيرانها وطلاّب جامعتها ! ربما لأنها الفتاة المحجبة الوحيدة في مدينتهم الصغيرة المُثلجة طوال العام ..
ولسوء حظها ..قام إنتحاريّ بتفجير نفسه داخل سوقٍ شعبيّ ، أدّى لوقوع ضحايا كنديين ، وعلى حسب زعمهم كان من المسلمين المتشدّدين !
وبسببه أصبحت مُحاصرة في بيتها ، بعد رميهم النفايات وكتابة التهديدات بالقتل على باب شقتها ، وتحطيم زجاج سيارتها اكثر من مرة .. كما رفض أصحاب المحلاّت بيعها منتجاتهم ..حتى اساتذة جامعتها امتنعوا عن إجابة اسئلتها ..
فانعزلت قرابة شهر لحين هدوء الوضع المتّوتر في البلاد ، نتيجة الإعلام الحاقد ضدّ المسلمين ، والعرب تحديداً
ورغم كل ما حصل ، لم تخبر اهلها بمعاناتها كيّ لا يقلقوا عليها .. وفضّلت محاربة الأزمة على طريقتها ، باستغلالها نقاط الضعف عند جيرانها .. وساعدها بذلك حارس العمارة الإفريقيّ الطيب الذي أطلعها بأسرارهم
فهي تسكن في مبنى من ثلاثة طوابق ، شقتين في كل طابق : أيّ خمسة جيران
ففي الطابق الأرضيّ : تسكن ارملة عجوز ، بعد سفر اولادها الثلاثة للخارج.. وبجوارها أمٌ عزباء مع ابنتها المراهقة .. اما الطابق الثاني : فتسكن مطلّقة مع ولديها الصغيرين .. وبجوارها يعيش شاب مع زوج امه .. والمفاجأة إن من يسكن بجوار ريم ، هو شابٌ من أصولٍ عربية ! ورغم انه لم يؤذيها بالأزمة الراهنة إلاّ انه لم يدافع عنها ، لتشبّهه بالأجانب وفخره بحضارتهم
***
وكانت خطتها : معاملتهم بأخلاق المسلمين .. فالأجانب اعتادوا الإعتماد على أنفسهم منذ الصغر ، وعدم تدخلهم بشؤون غيرهم ..
واختارت اولاً الأرملة العجوز في الطابق الأرضيّ ، بعد سماع سعالها الحاد اثناء نزولها الدرج (فالحارس أخبرها عن مرضها المزمن) ..
وطرقت الباب ، لتخرج العجوز وهي تحاول إلتقاط انفاسها :
- أهذا انت ! ماذا تريدين ؟
ريم : بعد عودتي من الجامعة سأمرّ على الصيدلية ، هل تحتاجين لدواء ؟
- بجميع الأحوال عليّ الخروج لسحب المال من البنك
- الأفضل أن لا تخرجي وانت مريضة بهذا الجوّ البارد .. اما عن المال ، تدفعيه لي لاحقاً .. فقط إخبريني بإسم الدواء
العجوز باستغراب : لا اريد مضايقتك !
- انا ايضاً أحتاج لدواء ، والصيدلية بجانب جامعتي
- حسناً ، إنتظريني قليلاً
وكتبت اسم الدواء على قصاصة ورق ، وهي تشعر بالإحراج
- لا ادري ماذا اقول !
ريم : فقط اهتمّي بصحتك ، وسأعود بعد الظهر
- شكراً لك
وكانت هذه المرة الأولى التي تبتسم في وجهها..
***
في وقت الظهيرة .. عادت ريم بالدواء مع شطيرة دجاج ، أعطتها للعجوز وهي تقول :
- الصيدلي أخبرني إن عليك تناول الدواء بعد الغداء
العجوز : كنت أنوي تحضير الحساء بعد قليل
- لا تجهدي نفسك .. وأعدك في المرة القادمة أن أحضر لك وجبة طعام عربية ، فأنا بارعة بالطبخ ..
العجوز بقلق : لا شكراً
ريم : لا تخافي ، طعامنا لذيذٌ جداً .. نحن في الشرق الأوسط نجيد طبخ الخضار ، هل تحبين البامية ؟
العجوز : ذقته مرة عند جارتي الهندية ، ولم يعجبني كثيراً
ريم : عليك تذوّقه بالطريقة العربية ، اراهن انه سيعجبك
- شكراً لك .. وعندما تتحسّن صحتي ، أعيد لك النقود
ريم : لا داعي يا خالة ، إعتبري الدواء هديةً مني ..
وتركتها مذهولة من اهتمامها الراقي ، فلا أحد إكترث بها بعد سفر اولادها!
***
ومع الوقت .. تعوّدت العجوز على مذاق الأطباق العربية التي حضّرتها ريم التي حرصت على زيارتها من وقتٍ لآخر للإطمئنان على صحتها ، ولسماع ذكرياتها مع اولادها وهي تُريها صورهم واغراضهم القديمة
***
وفي أحد الأيام .. وبينما ريم تصعد الى شقتها ، وجدت ولديّ الأم المطلقة ينتظران امام شقتهم في الطابق الثاني .. فسألتهما :
- لما لم تدخلا الشقة ؟
فأجابها الولد الكبير : امي لم تأتي من العمل ، ولا نملك المفتاح
ريم : هل انتما جائعان ؟
الولد الكبير : جداً
الولد الصغير : وانا اريد دخول الحمام
ريم : اذاً إصعدا الى شقتي ، فلديّ طعام وحلوى لذيذة
الولد الصغير : أحقاً !
الولد الكبير : أمنا منعتنا الحديث مع الغرباء ، وستغضب إن صعدنا الى بيتك دون إذنها
ريم : لا تقلقا ، سأكلّم امكما حينما تصل .. وسأضع ورقة عند الباب ، أخبرها بأنكما عندي كي لا تقلق .. هيا بنا
***
بعد نصف ساعة ، طرقت الأم باب شقة ريم بعنف..
وحين فتحت ، دخلت وهي تسألها بعصبية :
- اين اولادي ؟!!
ريم : يأكلان الحلوى ، بعد تناولهما الغداء
فأبعدتها جانباً ، ودخلت مباشرةً للمطبخ لمعاتبتهما :
- الم اخبركما أن لا تأكلا عند الغرباء ؟!!
فقالت ريم : لا تعاقبيهما ، أنا أصرّيت على قدومهما الى منزلي .. على كلٍ سأعطيك علبة طعام ليأكلاها لاحقاً
الولد الصغير : وحلوى ايضاً ، لوّ سمحت
ريم بابتسامة : كما تشاء
الأم : لا شكراً ، سأصنع لهما المعكرونة
الإبن الكبير : لا امي ، نحن نأكلها كل يوم
امه : ليس لديّ الوقت للطبخ لكما
ريم : اذاً إسمحي لهما بتناول الطعام عندي ، بعد عودتهما من المدرسة
الولد الصغير : رجاءً امي ، طعام الآنسة ريم لذيذٌ جداً
الأم بلؤم : لا نريد مساعدتك ايتها العربية .. هيا بنا يا اولاد !!
الإبن الكبير : خذي العلبة يا امي ، سآكلها مع أخي في المساء
الأم وهي تتفقّد علبة الطعام : ماذا بداخلها ؟
ريم : طبخة خضار مشكلة
فسألت الأم ولديها باستغراب : لكنكما لا تحبان الخضار !
ابنها الصغير : هذه الخضار ناضجة تماماً
ابنها الكبير : وبهاراتها لذيذة
الأم : حسناً سآخذها ، لكن لا اريدك أن تقتربي من ولدايّ بعد اليوم
ريم : كما تشائين
وأخرجتهما من منزل ريم بعصبية !
***
في الصباح التالي .. أعادت الجارة العلبة الفارغة وهي تقول :
- لم أكن اعلم إن طعامكم لذيذٌ هكذا !
ريم : سعيدة إنها أعجبتك
- شكراً لك
- قبل أن تذهبي ، اريد أن أقول : في حال عدّت من الجامعة ووجدت ولديك ينتظران قرب الباب ، لن يطاوعني قلبي أن أتركهما جائعين .. هل تسمحين لي..
الأم : لا اريد إتعابك
ريم : انا أحب الطبخ ، وأعطي جارتنا العجوز صحناً كل يوم .. ولا أجد مانعاً من مشاركة اولادك طعامي
- وكم تريدين بالشهر ؟
ريم : لا سيدتي .. انا مبتعثة الى بلادكم ، ودولتي تدفع كافة المصاريف
- شكراً لذوقك
قالتها بابتسامةٍ عريضة ، أسعدت قلب ريم
***
في إحدى الليالي .. ذهبت ريم مع صديقتها الى دورةٍ تعليمية مسائية في الجامعة ، وبعد عودتهما مرّا بجانب بار ..فأوقفتها ريم
صديقتها الكندية بدهشة : لم أظنك تشربين !
ريم : بالطبع لا ، لكني اعرف تلك المراهقة
- أتقصدين صاحبة الوشوم ؟
ريم : هي ابنة جارتي ، سأنزل للحديث معها
- هل جننت ؟!! الا ترينها مع شباب يبدون كعصابةٍ مخيفة ؟
ريم : لهذا أنا قلقة عليها
- الأجدر أن تخافي على نفسك ، فليس جميعنا يحب المحجبات
فأخذت ريم تتلو المعوذات بصوتٍ منخفض..
صديقتها : ماذا تقولين ؟!
ريم : آيات قرآنية ، ليحميني الله من شرورهم
ونزلت من السيارة وهي تردّد الآية : (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)
ثم اقتربت من المراهقة وأمسكت ذراعها .. فانتفضت الفتاة بعصبية:
- ماذا تريدين يا امرأة ؟!! .. آه ! انت المحجبة في عمارتنا
ريم : هل تعرف امك انك تسهرين هنا ؟
- وما شانك انت ؟!!
- لم تبلغي بعد سن 18
الفتاة بقلق : إخفضي صوتك
ريم : يعني زوّرت هوّيتك لتحصلي على المشروب !
- كل أصحابي يفعلون ذلك
ريم : الشباب الذين ترافقيهم يبدون في سن الثلاثينات ، وانت مازلت مراهقة
- لا تتدخلي فيما لا يعنيك ، عودي الى بيتك ..وإيّاك إخبار امي بشيء
ريم بحزم : إن لم تأتي معي الآن ، سأبلغ الشرطة عنك
- ماذا !
ريم : أحلف انني سأفعل !! تعالي دون معارضة.. واتركي السمّ من يدك
وأبعدت المشروب عنها .. وسحبتها من ذراعها وهي تترنّح في سكر ، ووضعتها في السيارة .. وطلبت من صديقتها إيصالهما الى العمارة
***
ما أن طرقت ريم باب جارتها ، حتى خرجت مرتعبة بعد رؤية ابنتها مخمورة !
- اين كنت ؟!! أوشكت على الإتصال بالشرطة .. هل سكرتي ثانيةً؟!
ريم : دعيها تدخل ، وسأحدّثها لاحقاً
الأم : هل انت من أحضرتها من البار ؟
فأومأت ريم برأسها إيجاباً..
الأم : شكراً لك
وفور إغلاق الأم الباب ، إرتفع صراخهما من الداخل .. فعادت ريم الى شقتها وهي تنوي مساعدة الفتاة
***
في ظهر اليوم التالي .. وبعد تقديم ريم أطباق الطعام لجارتها العجوز وأم الولدين .. طرقت شقة جارتها ، لتفتح المراهقة وهي تدخن السيجارة :
- اهذا أنت ! بسببك تشاجرت مع امي طوال الليل
ريم : واين هي الآن ؟
- ذهبت الى عملها
- وهل ذهبتِ الى ثانويتك ؟
المراهقة : هذا ليس من شأنك
- ما رأيك أن تشربي معي العصير ، في مطعمٍ قريب من هنا ؟
- إن كان كحولاً ، سأوافق
ريم بحزم : لا طبعاً !! عصير او قهوة ، إختاري ؟
- مع طبق كيك ؟
ريم : كما تشائين ، اريد محادثتك بأمرٍ ضروري
فلبست الفتاة معطفها وهي تسألها : أمعك سيارة ؟
- طبعاً ، هيا بنا
***
في المطعم .. سألتها ريم عن سبب معاندتها لأمها ، وإصرارها على تدمير حياتها !
الفتاة باشمئزاز : امي عزباء ، أتعرفين معنى ذلك ؟
ريم : هل تخلّى والدك عنها قبل ولادتك ؟
- هي لا تتذكّر من هو والدي الحقيقي ، لهذا لا يحقّ لها تقويم سلوكي
- وأنت تنوين الإنحراف لإفهامها نتيجة سلوكها المستهتر في الماضي؟
الفتاة : بالضبط !!
- وماذا لوّ قمت بالشيء ذاته ، بطريقةٍ مغايرة
- ماذا تقصدين ؟!
ريم : أن تتفوقي في تعليمك ، وتتزوجي من شاب محترم ، وتنجبي اولادك بطريقةٍ شرعية ، حينها تفهم ما أضاعته من حياتها
- إقتراحك يحتاج لجهدٍ وحظٍ كبير
ريم : وهل تريدين مواجهة ما عاشته امك ، ام تفضّلين التعلّم من اخطائها؟
- لا ادري !
ريم : هل تؤمنين بأن والدك الذي تخلّى عنكما ، سيُعاقب يوماً ما ؟
الفتاة : أتمنى ذلك
- وهل ترغبين أن ينال كل شخص اذاكِ عقابه ؟
- ياريت
ريم : الا تتمنّين لوّ إن الخير الذي فعلته بحياتك دون أن يراك احد ، أن تكافئي عنه بما تستحقينه ؟
- هذا يحصل إن كانت الحياة عادلة
- العدل لن نجده إلاّ يوم القيامة
الفتاة بضيق : لا رجاءً ، لا تكلّمني بأمور دينيّة .. فجدتي كانت مسيحية متشدّدة ، وكانت تجبرني انا وامي على الذهاب معها للكنيسة كل يوم أحد .. وبعد وفاتها إنتقلنا الى شقتنا الجديدة
فوضعت ريم جوالها امام الفتاة وهي تسألها :
- لوّ خيّرتك بين هاتفٍ أرضيّ وجوّال نوكيا قديم ، وجوّال حديث فيه كل التطبيقات والألعاب ووسائل التواصل الإجتماعي .. وجميع الهواتف بالسعر ذاته ، فأيّاً تختاري ؟
الفتاة : الجوّال الحديث طبعاً ..
- وهذا ما حصل عبر التاريخ.. فالدين المسيحي أتى كتحديث للدين اليهودي.. والدين الإسلامي تحديثاً للدين المسيحيّ..فديننا لا يختلف عن مبادىء الدينين السابقين .. الفرق الوحيد : إن الحاخامات والرهبان أفسدوا كتبهم السماوية بحذفهم وإضافة ما يشاؤون ، حتى أصبح لديهم العديد من النسخ المُحرّفة .. بينما القرآن لم يتغيّر حرفاً منه طوال 14 القرن الماضي ، أتظني إن اعداء الإسلام لم يحاولوا ذلك ؟
- وهل جرّبوا فعلاً ؟
ريم : آلاف المحاولات ، وكل مرة يكشفها الله .. أتدرين لماذا ؟ لأنه وعد عباده بحفظ القرآن بنفسه ، وهذه معجزة بحدّ ذاتها .. فالقرآن هو كتالوج الإنسان
- كتالوج !
- نعم ، الدستور البشري الذي يعلّمنا كل شيء من أبسط الأمور : كآداب الزواج والنظافة والنوم ، وكذلك التجارة والميراث ..وصولاً لأمور مهمة كالحروب والقصاص والملك ، مُتضمّناً قصص الأنبياء السابقين ..
الفتاة : لا تحاولي إقناعي بدينكم ، لأني اؤمن بالثالوث .. يكفي إن المسيح وُلد دون أب لإثبات ألوهيّته
ريم : وآدم خُلق دون أبٍ وأم .. بل هناك أصعب منهما ، وهي حواء التي خُلقت من ضلع آدم ، وناقة النبي صالح التي خرجت من جبل .. صدّقيني لوّ كان هناك ثلاثة آلهة تحكمنا ، لاشتعلت الحروب بالسماء أضعاف معارك الأرض
- لكن دينكم صعب !
ريم : بالعكس تماماً .. يكفي بالإسلام أن تؤمني انه يوجد آله واحد يحكم البشر .. وأن عيسى مثل محمد وابراهيم وكل الأنبياء ، عبد الله ورسوله .. ولا حاجة للمجاهرة بذلك ، فالدين الإسلامي بدأ سرّاً لثلاث سنوات ..
الفتاة : وإن آمنت بذلك ، أصبح مسلمة ؟
- نعم ، ارأيت كم هو دينٌ سهل .. (ثم فكّرت قليلاً) .. ما رأيك أن تذهبي معي الى الجامع ، لتراقبينا ونحن نصلي .. وحين ننتهي ، تخبريني بما شعرت به
الفتاة : وهل سيدخلونني دون حجاب ؟
- سأطلب من الحارس إدخالك على مسؤوليتي .. وبعد الصلاة ، تسألين الإمام عن الأمور التي تشغل تفكيرك
الفتاة : لديّ الكثير من الأسئلة لما سيحصل لنا بعد الموت
- ممتاز !! لنذهب ، فقد أذّن العصر
***
بعد انتهاء الصلاة ، سألتها ريم :
- رأيتك تسجدين معنا في آخر ركعة ؟!
الفتاة وهي تمسح دموعها : لا ادري ! أحسست برغبةٍ ملحّة للسجود ، وبكيت كثيراً
ريم : هذا لأن روحك جائعة ، وغذائها هي طاعة الخالق .. دعينا نذهب للشيخ .. وسأطلب منه أن يعطيك رقم مكتبه ، لتسأليه لاحقاً عمّا تريدنه
***
بعد ساعة .. أوصلت ريم الفتاة الى منزل امها التي قالت :
- اخيراً عدت !! ظننتك هربتِ من المنزل ، وخفت عليك كثيراً
فإذ بإبنتها تحتضنها باكية ..
الأم بقلق : ماذا حصل ؟!
ابنتها وهي تقبّلها : آسفة امي ، اخطأت كثيراً معك .. اعدك ان اعود للمدرسة منذ الغد
الأم بدهشة وفرح : أحقاً !
ابنتها : نعم ، ولن أسكر او أدخن ثانيةً
الأم وهي تسأل ريم : ماذا فعلتي بها ؟!
ريم بابتسامة : تحدّثنا قليلاً عن مستقبلها
الأم بسعادة : شكراً لك
فعادت ريم الى شقتها ، بعد تركها الأم مذهولة بالتغير الإيجابي والمفاجىء لإبنتها !
***
بعد اسبوع ، نزلت ريم صباحاً الى موقف العمارة للذهاب الى جامعتها .. وما أن قادتها باتجاه الشارع العام ، حتى تفاجأت بشابٍ مقنّع يخرج من أرضيّة المقاعد الخلفية ، واضعاً السكين على رقبتها وهو يقول :
- يا غبية ، نسيتِ إقفال باب سيارتك .. الآن أعطني كل نقودك
وهنا انتبهت على وشم يده ، فعرفت إنه جارها الشاب الذي يعيش مع زوج امه في الطابق الثاني .. فقالت له :
- هل طردك زوج امك من الشقة ؟
فأبعد سكينه ، بعد أن صدمه كلامها !
فأكملت قائلة :
- سمعته يتشاجر معك البارحة ، جيد انني تركت سيارتي مفتوحة والا لتوفيت بهذا الجوّ البارد .. يمكنك إزالة القناع ، لن أبلّغ الشرطة عنك .. بالحقيقة انا ذاهبة لتناول الفطور في كافتريا الجامعة وأظنك جائع ، ما رأيك أن تشاركني الطعام ؟
الشاب : ليس معي مال
- على حسابي يا رجل .. ثم اريدك أن ترى جامعتي ، لربما أقنعتك بإكمال تعليمك
فأزال قناعه وهو يقول بحزن :
- زوج امي رفض دفع قسط جامعتي ، بعد بيعه منزل امي القديم .. كنت حينها في سنتي الثانية بكلية الحقوق .. والبارحة طردني نهائياً من الشقة
ريم : جامعتي بحاجة لموظفٍ إدرايّ
- ألم تسمعيني ؟ لا املك شهادةً جامعية
- يريدون شاباً لتصوير المستندات وإحضار القهوة للمدراء ، ومراقبة الطلّاب اثناء الإمتحانات ، وسيعطونك غرفة خاصة في مبنى الطلّاب.. عدا عن إكمال تعليمك مجّاناً ، فهي منحة مقدّمة لجميع الموظفين .. هيا لا تفكّر كثيراً ، هي فرصة رائعة .. وسأتوسّط لك عند المدير ، فأنا من طلّابه المميزين وسيقبل ترشيحي لك
الشاب : وهل سيدفعون لي مقدّماً ؟
ففهمت ريم انه لا يملك شيئاً ، فقالت له :
- سأقرضك مبلغاً من المال ، الى أن تتحسّن امورك
الشاب : أعدك أن أردّه لك مع اول راتب
- لا !! ستردّه لي بعد تخرّجك .. لهذا إنجح اولاً بأول ، فأنا لن أبقى مطوّلاً في بلادكم
الشاب : لا تقلقي بهذا الشأن .. لطالما كنت متفوقاً بدراستي ، قبل أن يتحكّم زوج امي بمستقبلي
ريم : وأنت منذ اليوم أصبحت مسؤولاً عن حياتك
الشاب : وانا مدينٌ لك بذلك
***
وبالفعل توظّف الشاب بالجامعة ، وسجّلوه مباشرةً في السنة الثانية للحقوق ، مما أسعده كثيراً.. ووعد ريم بدعوتها الى حفل تخرّجه .. شاكراً تغيرها لفكرته السلبيّة عن المسلمين والعرب
***
اما جارها العربي المُسمّى آدم ، فكان يضايقها كل ليلة بصوت الموسيقى العالي ، وإحضاره الفتيات الرخيصات الى شقته المقابلة لها..
وفي يوم إلتقيا بموقف السيارت التابع للعمارة ، فعاتبته قائلة :
- أمثالك يشوّهون صورة المسلمين ، بارتكابهم للمحرّمات
آدم باشمئزاز : وانتم بأفكاركم الرجعية تعيدونا لقرونٍ ماضية
ريم : ليتنا نعيد أمجاد العرب ، وفتوحاتنا التي وصلت أطراف العالم
- كلامٌ فلسفيّ ، نحن اليوم من الدول المتخلّفة
ريم بغضب : وهذا بسبب المبتعثين الذين يحاولون التشّبه بصفات الأجانب السيئة ، لمحاولة التأقلم بينهم .. الا تدري إننا فتحنا الأندلس بأخلاق تجّارنا العادلة .. ثم الكفار لن يخسروا شيئاً ، بل نحن سنخسر الجنة إن لم نكبح رغباتنا التافهة
فقال لها الشاب بطريقةٍ مستفزّة :
- آسف ، لم أكن أعلم أنك تغارين من فتياتي الجميلات
ريم باشمئزاز : أتدري .. هداية الأجانب اسهل بكثير ، من هداية العرب المنحرفين
الشاب باستهزاء : لا تحاولي عزيزتي ، لستِ من نوعي المفضّل
وانطلق بسيارته وهو يقهّق ساخراً
ريم بغيظ : غبي !
***
ثم ذهبت الى سوبرماركت ..وبعد تسوّقها .. دخلت الى سيارتها ، لتفاجأ بصراخ الناس بعد هجوم دب خرج من غابةٍ قريبة ، مباشرةً باتجاه موقف سيارت السوق
فأسرع الجميع للإحتماء داخل سيارتهم ، ماعدا الشاب آدم الذي صعد فوق شجرة متواجدة هناك .. ليحاصره الدب في الأسفل وهو يهزّ الشجرة بعنف ، وسط ترقّب الجميع بخوف لما سيحصل !
فبحثت ريم بين اكياس تسوّقها (التي وضعتهم في مقعدها الخلفيّ) .. وأخرجت الدجاج المجمّد التي ازالت غلافه ، ورمته من نافذتها (القريبة من الشجرة) باتجاه الدب الجائع الذي أكلها بلقمتين !
فبحثت مجدداً بين الأكياس ، لتخرج السجق وترميها عليه .. فيأكلها سريعاً ، ويعود لهزّ الشجرة من جديد ! .. وآدم يترجّاها برعب ، لإنقاذه ..
ومن حسن حظه انها اشترت مرطباناً كبيراً من العسل.. وكان عليها المجازفة بالخروج من سيارتها ببطء ، بعد فتحها غطاء العسل ووضعه قرب الشجرة ..
وماهي إلاّ ثواني ، حتى اشتمّ الدب الرائحة ! وجلس بجانب المرطبان الذي ادخل يده فيه ، وبدأ يلعقها كأنه طفل يأكل الشوكولا بسعادةٍ غامرة
فاستغلت ريم إنشغاله ، لإنزال قدم آدم الذي تجمّد فوق الشجرة من شدّة رعبه ..وسارا بهدوء باتجاه سيارتها (لأن سيارته بعيدة عن المكان) ..
وبعد دخوله بأمان .. قادت ريم سيارتها مبتعدة عن السوق ، وسط تصفيق الناس لشجاعتها بإنقاذ الشاب من موتٍ محتّم !
***
في الطريق ، شكرها لإنقاذ حياته ..
ريم : صدقاً يا آدم ، مالذي فكّرت به وانت فوق الشجرة ؟
آدم : كنت أعدّ ربي بالتوبة فور انتهاء الموقف المرعب
- وهل ستفي بوعدك ؟
- بإذن الله
ريم : سنصل للجامع بعد قليل ، هل تدخل معي لصلاة الظهر ؟
- هل لديهم مغاسل للوضوء ؟
- بالطبع يوجد ، هيا بنا
***
ومن يومها التزم آدم بدينه .. وتحسّنت علاقة ريم بجيرانها وافراد منطقتها بعد حادثة الدب ..
وأكملت دراستها دون مشاكل ، الى أن تخرّجت بتفوّق ..وحان موعد عودتها الى بلادها ، لتفاجأ بجيرانها يزورها تباعاً لتوديعها
وقد أسعدها رؤية المراهقة محجبة ، وامها بجانبها تقول :
- تربّيت أن أكون مسيحية مشدّدة ، لكني سعيدة بالتغير الإيجابي الذي حصل لإبنتي بعد إعتناقها الإسلام .. فعلاقتها بي تحسّنت كثيراً ، وكذلك علاماتها في الجامعة .. وهاهي ستتخرّج قريباً ، بعد تركها الخمور والدخان والسهر طوال الليل .. فشكراً لك على كل شيء
ريم : شكراً لتفهّمك ، وأتمنى أن تكون هدايتك على يد ابنتك
الفتاة : أدعو ربي دائماً بذلك
الأم : إن كان مقدّراً لي هذا ، فسيحصل عاجلاً ام آجل .. على كلٍ ، قدمت انا وابنتي لتوديعك ، تصلين بالسلامة الى بلادك
***
بعد قليل ، قدمت الأرملة العجوز لتوديعها :
- سأشتاق لطعامك اللذيذ
ريم : علّمتك جميع الوصفات ، وأبدعتي فيها اكثر مني
العجوز : نعم وقرّرت طبخها في دار العجزة الذي سأنتقل اليها خلال يومين ، بعد إلتقائي بصديقة طفولتي هناك ، واتفقت معها على إكمال حياتنا سوياً .. فأنا أخاف البقاء وحدي في الشقة ، والموت دون شعور أحداً بي ، خاصة بعد رحيلك
ريم : أهذا قرارك النهائيّ ؟
- نعم .. لا تقلقي عليّ ، سأكون بخير هناك.. شكراً على كل شيء يا ابنتي ، تصلين بالسلامة
وحضنتها بحنان
***
ثم زارها الشاب ليخبرها بترقيته في وظيفته الإدراية ، بعد تخرّجه من الجامعة.. كما أراها صورة خطيبته التي شجّعته على إكمال دراسته العليا
ريم : لا تشكرني ، هذا كلّه بمجهودك وتعبك
الشاب : لوّ انني اختبأت في سيارةٍ أخرى ، لكنت مسجوناً حتى يومنا هذا .. فشكراً لإنقاذك مستقبلي
وأهداها ساعةً جميلة ..
***
ثم قدمت الأم المطلّقة مع ولديها اللذين ودّعاها بالدموع ، فهما تعودا على اللعب معها بنهاية كل اسبوع .. وشكرتها الأم لاهتمامها بولديها طوال السنوات الأربع الماضية
***
وكان آدم آخر من زارها ..
ريم : لم أرك منذ مدة !
- كنت مشغولاً بتسليم ملفات وظيفتي بعد استقالتي ، لأني عائد للوطن فأقارب ابي وعدوني بعروسٍ جميلة
ريم وهي تحاول كتم غيظها : أحقاً ! ومتى السفر ؟
- قريباً .. وانتِ ؟
- اليوم مساءً
آدم : اذاً دعيني أوصلك للمطار ، فالحارس أخبرني ببيعك السيارة
- لا داعي لذلك ، سأذهب بسيارة أجرة
- انا مصرّ على ذلك
ريم : كما تشاء
***
بعد أن وصلا للمطار ليلاً ، أخرج حقائبها من صندوق سيارته
ريم : لحظة ! هذه الحقيبتين ليست لي
آدم : هي لي
- أستسافر الليلة ايضاً ؟!
آدم : نعم ، في رحلةٍ مغايرة.. هيا بنا
***
في الطائرة .. جلست ريم قرب النافذة وهي تنظر الى المطار ، وتتذكّر ذكرياتها في كندا .. لتتفاجأ بآدم يجلس بجانبها
ريم بدهشة : الم تخبرني قبل قليل إنك مسافر الى افريقيا ؟!
- غيّرت رأي ، سأسافر الى الشرق الأوسط
- ولماذا ؟
آدم : لأن عروستي هناك
ثم أراها خاتماً إلماسيّ وهو يسألها :
- هل تقبلين أن تقوّمي سلوكي المنحرف طوال حياتك ؟
ريم مبتسمة : كلامك غير مشجّع يا رجل
- آسف ، سأعيد صياغة السؤال .. هل توافقين على إكمال حياتنا في طاعة الله ؟
ريم : هكذا أفضل .. (ثم سكتت بخجل) .. نعم أقبل
آدم بغرور : اساساً كنت اعرف انك ستوافقين
ريم : يا سلام ! وما ادراك انني لن أرفضك ؟
- لوّ رأيت وجهك حين أخبرتك إنني سأخطب غيرك ، لعرفتي السبب
ريم : ليس من طبيعتي أن أغار على أحد
آدم : أحقاً ، كنت ستأكليني بأسنانك قبل قليل
ريم بعصبية : قلت لك !! انا لا اغار
- بل انت ملكة الغيرة .. لطالما تشاجرتِ معي كلما أحضرت فتاة الى شقتي ، وكأنك تراقبيني عند الباب
- كان يضايقني صوت الموسيقى العالي
آدم باستهزاء : آه صحيح
ريم : على فكرة ، تلك المواضيع القذرة ممنوعة بعد الزواج
آدم : عليك أن تشكري الدب ، فهو السبب الحقيقي لهدايتي
- آه الدب ، وليس نصائحي
- بالحقيقة نعم
ريم : يبدو زواجنا سيكون متعباً
آدم : بالتأكيد !! فأنت ستنجبين 11 ولداً
- 11!
- نعم لأكوّن فريق كرة القدم ، كما أحلم دائماً
ريم : أظنني سأزوّجك بنفسي ثلاث نسوة بعد شهر العسل ، ايها الغليظ
آدم : إذاً نجحت خطتي
وضحكا بسعادة ، بينما الطائرة تحلّق عائدة الى الوطن