الخميس، 31 ديسمبر 2020

الناجي الوحيد

 تأليف : امل شانوحة

حادثةٌ غامضة !


تحطّم طائرة وانهيار مبنى في الوقت ذاته ، يبدو الأمر غريباً ! لكن هذا ما حصل في الطريق العام بتلك الليلة ، اثناء عودة سهى الى بيتها بسيارة الأجرة بعد انتهاء دورة الرسم المسائية .. 

فمن دون سابق إنذار ، دوّى صوت اصطدامٍ مرعب لطائرةٍ خاصة سقطت فوق مبنى من ثلاثة طوابق ، بعد أن أطاح جناحها عامود الإنارة الذي قطع الكهرباء على طول الشارع الذي لم يُضيء عتمته سوى ألهبة النيران لوقودها المُشتعل بأرجاء المبنى المُنهار !


واجتمع المارّة امام الحادث ، بعد اتصالهم بالإسعاف لإنقاذ الضحايا .. بينما الأكثرية إكتفوا بتصوير المشهد بجوّالاتهم ...

وفي خُضمّ الفوضى ، علت صرخات ولدٍ صغير من تحت الركام :

- أنقذوني !! مازلت حيّاً .. أزيلوا الأحجار من فوقي !! أكاد أختنق.. ساعدوني أرجوكم !!


وتجمّد الجميع من هول الصدمة ، بما فيهم سهى ! وحاول السائقون إضاءة المبنى بأنوار سياراتهم ، لكن الدخان الكثيف حال دون رؤية مصدر الصوت .. 


ولم يكن امامهم سوى انتظار قدوم سيارات الإطفاء وهم يستمعون لنحيب الولد المتتابع الذي حطّم قلوبهم ، والذي اختفى فور وصول الشرطة التي أبعدت الناس عن المكان بعد إغلاقها الشارع لحين إنتهائهم من انتشال الجثث ، والذي دام يومين على التوالي دون إيجاد ناجين من الحادث المأساويّ : سواءً من الركّاب 12 للطائرة ، او سكّان المبنى المُنهار البالغ عددهم ثلاثين فردا !

***


في اليوم الثالث ، أُفتتح الطريق من جديد ..

وفي ذلك العصر .. فضّلت سهى الذهاب مشياً الى المعهد لرؤية مكان الحادث (بعد إزالة الشرطة الجثث وحطام الطائرة الصغيرة)

  

وحين وصلت هناك .. تسلّقت بحذر تلّة المبنى المُهدّم ، دون انتباه المارّة عليها .. 

وأخذت تتلفّت يميناً ويسارا ، الى ان لاحظت شيئاً لامعاً تحت التراب .. 


وحين اقتربت ، رأت عقارب فسفوريّة لساعةٍ مُحطّمة .. فحاولت سحبها ، لتفاجأ بأنها مازالت عالقة بذراعٍ بشريّة .. وقبل ان تستوعب ما وجدته ! أطبقت يدٌ مُتربة على ذراعها بقوة .. لتشعر سهى بسخونة قبضته المُحكمة .. وحين حاولت الإبتعاد لطلب النجدة ، سحبته معها .. ليظهر رأس الرجل المدفون وهو يتنفّس الصعداء ، مُركّزاً نظره نحوها بعينيه الحمراوتين ! قائلاً بتلعثمٍ وألم :

- ساعديني أرجوك ..

فصرخت سهى بعلوّ صوتها :

- وجدتُ ناجياً تحت الركام !! إطلبوا الإسعاف !! مازال حيّاً !!


وعلى الفور !! تجمّعت حولهما الناس مذهولين لبقائه حياً ثلاثة ايام ، ولعدم قدرة الشرطة على إيجاده رغم وجوده اسفل قمّة التلّ المُهدّم! 


وماهي الا دقائق .. حتى وصلت سيارة الإسعاف لنقل المُصاب الذي رفض الذهاب دون سهى ! محاولاً إخبارها شيئاً لم تفهمه ، بسبب قناع الأكسجين على فمه ..

فطلب المُسعف مرافقتهم للإسراع الى المشفى ..


فصعدت مُجبرة الى السيارة ، لتشاهد المسعفيّن يحاولان إنقاذ الرجل الأربعيني الذي امتلأ جسمه بالرضوض والحروق ..

***


بحلول المساء .. أنهت سهى اوراق المريض ، بعد إعطائها محفظته التي فيها هويته (ظنّاً بأنها قريبته) .. 

ثم استأذنت الممرّضة للإطمئنان عليه ، قبل عودتها الى المنزل 


وحين دخلت غرفته .. وجدته موصولاً بجهاز القلب ، والمصل معلّقاً في ذراعه .. والذي سارع بإزالة قناع الأكسجين لشكرها على إنقاذه ، وقائلاً بصوتٍ متعب :

- لا تتركيني رجاءً ، أحتاجك للبقاء حيّاً 


وقد أربكها كلامه ! وقبل إستيضاحها ما يقصده ، طلب منها الطبيب الخروج لإكمال الفحوصات.. 

فودّعت المريض على عجل ، وعادت الى منزلها..

***


قبل نومها تلك الليلة .. شعرت بألمٍ في ذراعها بعد احمرار مكان قبضة الرجل العنيفة التي بدت كأنها حرق من الدرجة الأولى بسبب حرارة يده ، وهو شيءٌ غير مألوف !


بعد نومها .. شاهدت كابوساً مفزعاً للمُصاب وهو يخرج من تحت التراب بعينين تُشبهان عيون القطط ، وهو يضحك قائلاً : 

- أصبحتِ ملكي يا سهى !!

فاستيقظت مرتعبة ، وهي تفكّر بالحلم الغريب ! 

***


بعد اسبوع .. وصلها اتصال على جوالها ، بصوت رجلٍ يقول : 

- مرحبا .. انا انور الذي أنقذته من الموت

سهى بدهشة : كيف عرفت رقمي ؟!

- انت كتبته في استمارة المستشفى

- آه صحيح ! طلبوا رقماً لطوارىء ، فأعطيتهم رقمي .. كيف أصبحت الآن ؟

- عُدّت الى بيتي

- الحمد الله على سلامتك

أنور : بعد ايام سأعود الى شركتي

- أبهذه السرعة ! أتخاف ان يفصلوك ؟

- لست موظفاً ، بل صاحب شركة سياراتٍ ضخمة ..والطائرة التي سقطت ، هي طائرتي الخاصة .. وللأسف مات فيها أفضل الموظفين الذين سافروا معي لحضور معرضٍ مهم في الخارج

- رحمهم الله

أنور : اريدك أن تحضري شركتي الإثنين القادم .. سأرسل لك العنوان الآن

- هل الأمر ضروري ؟

- نعم ، رجاءً 

سهى : سأحاول 

وأنهت المكالمة ، بعد ان وعدته بزيارة شركته ..

***


وفي الموعد المحدّد ، قابلته في مكتبه الفخم .. حيث بدا شكله مختلفاً بطقمه الرسميّ الغالي ومركزه المرموق ! 

أنور : كما ترين يا سهى ..انا رجلٌ ناجح ، وأعدائي كُثر 

- هل تظنهم خطّطوا لإسقاط طائرتك ؟

- انت صبية ذكية .. فهناك من هدّدني قبل سفري ، لكني لم آخذ الأمر بجدية ، وهذا خطأي .. (ثم تنهّد بضيق) .. ليس موضوعنا الآن .. هل تعملين آنسة سهى ؟

سهى : انا أدرس في معهد الرسم

- آه ! فنانة 

- مازلت أتدرّب 

- ما رأيك لوّ تعملين بشركتي براتبٍ جيد ؟

- ليس لديّ خبرة ببيع السيارات !

أنور : ستكوني سكرتيرتي ، يعني تتلقي الإتصالات وتدونين المواعيد .. ولا تقلقي ، سكرتيري القديم سيعلّمك كل شيء قبل تقاعده

- لا ادري إن كنت قادرة على ذلك !

فقال بابتسامةٍ حنونة : يكفي بقائكِ بجانبي 


وقد أربكها جملته الأخيرة ! فودّعته على عجل وهي تعده أن تفكّر بالأمر

***


ورغم قلقها من الموضوع ، الا ان اهلها أقنعوها بقبول العمل لمساعدتهم بمصروف المنزل ، فهم عائلة متوسطة الدخل.. 

وبالفعل وظّفها براتبٍ جيد في مكتبٍ قريب من مكتبه  

***


في أحد الأيام .. سمعت مديرها يصرخ بجوّاله غاضباُ : 

((حاولتم قتلي المرة الماضية ، وسأنتقم منكم جميعاً !!!))


وقد أرعبها تهديده بعد أن ساورتها الشكوك بأنه يتاجر بأمورٍ أخرى غير قانونية  .. لهذا طلبت الإستقالة فور استلامها راتبها الأول ، بحجّة إكمال دراستها .. لكنه رفض طلبها ، وأُجبرها على العودة لعملها الروتيني بتلقي الإتصالات من العملاء والوكلاء ..

***


ومرّت الأيام بشكلٍ طبيعي ، الى ان وصلها اتصالٌ غريب من شخصٍ يقول بصوتٍ أجشّ :

- إخبري حبيبك أنور اننا بانتظاره بحفلة المساء ، ولا بأس إن حضرتِ معه

وقبل ان تجيبه ، أنهى المكالمة ..


وحين أخبرت مديرها برسالة الرجل المجهول ، فاجأها بسؤاله :

- هل تقبلين مرافقتي لحفلة المساء ؟

فردّت بعصبية : لا طبعاً !!

- لماذا ؟!

- لا يبدو اجتماع عمل ، فبأيّ صفة أرافقك الى هناك ؟ 

- بصفتك خطيبتي

سهى بدهشة : ماذا !

- اساساً أخبرت جميع الموظفين بموعد عرسنا القريب 

سهى بعصبية : انا اصلاً مخطوبة !!

- تقصدين سعيد ، صديقك في معهد الرسم ؟

- كيف عرفت بشأنه ؟!

- أليس غائباً منذ فترة ؟ 

سهى بغضب : هل تتجسّس علينا ؟!

فنظر الى ساعته وهو يقول : 

- أظنه وصل الآن الى فرنسا بعد دفعي تكاليف رحلته ، في مقابل ان يتركك .. وهذا خاتمه 

وأراها خاتم خطوبة سعيد ..


سهى بذهول : لا أصدّق كلامك !  

- توقعت ذلك .. لهذا طلبت منه تسجيل صوته ، فهو لا يقدر على مواجهتك

وأسمعها صوت خطيبها من جواله وهو يقول : 

((آسف سهى .. لست مستعداً للزواج ، فمازلت طالباً .. وانت تعرفين احوال عائلتي الصعبة .. والإستاذ انور دفع تكاليف دراستي في فرنسا ، مقابل فسخ خطوبتنا .. سامحيني ، لم أوفيّ بوعدي لك .. أتمنى ان تجدي شخصاً أفضل مني .. الوداع))


فنزلت دمعتها ، وهي تسأله بحنق : 

- لما فعلت ذلك ؟!

انور : لأني اريدك في حياتي 

- كان عليك سؤالي إن كنت سأوافق ام لا

- ماذا تقصدين ؟

سهى بعصبية : انا أستقيل !! ولا اريد رؤيتك ثانية


وأعطته مفاتيح مكتبها ، وخرجت من عنده غاضبة .. لتنهار باكية في  طريقها الى المنزل

***


في مساء اليوم التالي .. تفاجأت بعد عودتها من المعهد بوجود أنور في منزل عائلتها ! فسألته بقلق : 

- مالذي أتى بك الى هنا ؟! وكيف عرفت العنوان ؟

وقبل ان يُجيبها ، قالت امها بسعادة :

- مبروك سهى !! الأستاذ أتى لخطبتك ، وانا واخاك وافقنا عليه

سهى بصدمة : ماذا ! .. (وسحبت يد أنور بعنف) .. تعال معي !!


وأدخلته المطبخ ، لتسأله بعصبية :

- الم أخبرك انني لا اريد رؤيتك ثانية ؟!!

انور : الم تسمعي ما قالته امك قبل قليل ؟ لقد وافق اهلك عليّ

- لكني غير موافقة !!

- على فكرة ، لم تسألي عن أخيك الصغير أمجد 

- ماذا تقصد ؟!

- تعارك مع مجموعة شباب فاسدين ، فتم إيقافهم من قبل الشرطة .. وحين أخبرني المحامي بالأمر ، دفعت كفالته وسيخرجونه غداً .. 

- هل انت من ارسلت المشاغبين لأخي ؟ 

انور بابتسامةٍ لئيمة : ربما 

- ايها اللعين !! 

- بالإضافة انني دفعت أجرة منزلكم لسنتين متتالين ، كل هذا جزءاً من مهرك .. فعائلتك بحاجة لمعيل بعد وفاة والدك 

سهى بغضب : لسنا بحاجة لأحد !!

- أمتاكدة ؟ لأن رجالي المشاغبين يمكنهم إحراق متجركم الصغير الذي تعتاشون منه  

- ماذا تريد مني يا حقير ؟!!

- ان تبقي بجواري ، فأنا مُجبر على العيش مع منقذتي البطلة

- ليتني لم أخرجك من تحت الركام !!


وهنا دخل اخوها الكبير الى المطبخ وهو يقول :

- سهى !! وصل الشيخ .. تعالي ووقّعي عقد الزواج ، ثم تكلّمي مع زوجك كما تشائين .. هيا بنا !!

فأمسكت يد أخيها : رجاءً لا تجبرني على الزواج به 

أخوها بحزم : سهى !! لا وقت لدلال ، الأستاذ انور عريساً مثاليّ .. هيا بنا ، فالجميع بانتظارك


وسحبها من يدها بعنف ، وأجلسها بجانب الشيخ ..

وحين نظرت لأمها فهمت من عيونها بأن لا تحرمهم هذه الفرصة الثمينة! 

فلم يكن امامها سوى التوقيع ، خوفاً من تنفيذ تهديده بحرق متجرهم (باب رزقهم الوحيد) 


وفور توقيع الشهود الوثيقة ، أطلقت امها الزغاريد .. وهمس أنور في إذنها:

- مبروك يا عروستي الجميلة


وخلال ثواني .. تغيّرت عيناه لعينيّ قطة (كما في كابوسها) لكن لا احد لاحظ ذلك ، فظنت انها توهّمت لشدّة توترها ! 


وبعد ذهاب الشيخ والشهود .. أصرّ العريس على أخذها معه الى قصره دون تأخير .. فركبت سيارته الفارهة بملابسها العادية ، وابتعدت عن بيتها على صوت المفرقعات التي أشعلها اخوها اثناء خروج العرسان من المنطقة الشعبيّة

*** 


ومرّ شهر العسل كالخيال ! حيث عاملها أنور بلطفٍ ودلال ، على عكس توقعاتها .. 

ومع الأيام ، تعوّدت على زوجها الحنون  

***


قبل نهاية السنة ، أخبرته مازحة برغبتها في الإنجاب .. لكنه انتفض غاضباً :

- لا !! سيهدّدوني به طوال حياتي ، لا اريد ابناء !! 

سهى بقلق : من سيهدّدك ؟

وخرج من الغرفة دون إجابتها !

***


في السنة التالية لزواجهما ، صار يطيل السهر بالخارج ولا يعود الاّ فجراً .. فبدأت تشكّ بخيانته ، وأخذت تراقبه بشتّى الطرق ..


وفي تلك الليلة الباردة .. قادت سيارتها الخاصة (هدية أنور بعيد ميلادها) خلف سيارته ، الى أن توقف امام مقهى بضواحي المدينة! 

فتبعته دون ان يلاحظها ..

وكان مقهى عادياً ، لكنها لم تجده في الداخل !


فسألت النادل عن زوجها أنور ، وأرته صورته بجوالها.. 

النادل بقلق : هل يعلم بوجودك هنا ؟

فاضطّرت للكذب قائلة : 

- بالطبع !! هو طلب مني اللحاق به ، للإحتفال سوياً 

ووضعت المال في يده وهي تقول : خذني اليه 


ثم تبعته ، الى أن وصلا لدرجٍ طويل بنهايته باب معتم .. فتردّدت بالنزول .. فقال لها : 

- لا تخافي ، هناك حفلة صاخبة بالداخل .. لكن الأبواب السميكة تكتم الصوت


وحين دخلت .. وجدت أناساً يرقصون بخلاعة ، وهم يلبسون الملابس الجلديّة السوداء ، بوجوهٍ مصبوغة بالمكياج الأسود كهيئة القوطيين ! 


ورغم كثرتهم الا انها استطاعت إيجاد زوجها بسهولة ، فهو الوحيد الذي يلبس ملابس رسمية .. 

وحين اقتربت من البار ، قال لها مبتسماً وهو يشرب الخمر :

- كنت أعرف انك ستلاحقيني يا غيورة

سهى بخوف : ماهذا المكان القذر يا انور ؟!

وإذّ به يصرخ عالياً :  

- سيداتي سادتي !! أقدم لكم زوجتي الجميلة سهى .. الفتاة التي أنقذت حياتي


وفجأة ! انطفأت الموسيقى والأنوار ، وأضُيئت شعلات النار على جوانب المقهى ، متزامناً مع تصفيق الحضور الذين تجمّعوا حولهما بأشكالهم المرعبة ! 

فهمست لزوجها بخوف : أنور ماذا تفعل ؟! ومن هؤلاء ؟

فأجابها بصوتٍ عالي :

- سأخبرك الحكاية منذ البداية .. كنت تاجراً ناجحاً وثرياً ، لهذا قدموا اليّ رجال الماسون للإنضمام الى جمعيتهم

سهى بصدمة : الماسون !

أنور : لا تقاطعيني رجاءً .. المهم رفضت طلبهم ، فهدّدوا بقتلي .. لكني لم أهتم ... فقاموا بتلغيم طائرتي التي سقطت فوق المبنى ، وكنتِ شاهدة على الحادث .. وحين حُوصرت بالدخان والأحجار تضغط على صدري ، سمعت صرخات ولدٍ صغير 


سهى : تقصد الصبي الذي طلب المساعدة من تحت الأنقاض ؟

- نعم .. حينها ظهر لي الشيطان بهيئته المرعبة ، وطلب مني بيع روحي مقابل إنقاذ حياتي .. فرفضت بالبداية ، لكن بعد أن قاربت النيران على حرقي حيّاً .. وافقت على طلبه بفزعٍ شديد .. فأخبرني الشيطان انه سيستبدل روحي بروح الولد الصغير

سهى برعب : تقصد حين اختفت استغاثات الولد ، استوليت انت على روحه ؟!

- يبدو ذلك !

- اذاً لم أكن متوهمة حين رأيت عينيك كعيون القطط بعد خروجك من تحت التراب ! حتى ذراعي ظلّت تؤلمني لأيام من لمستك الحارّة .. لكني لم أعرف انني أنقذت شيطاناً من الموت .. فلما جررّتني معك لهذا المستنقع القذر ؟!!


انور : لم تدعيني أكمل القصة .. فالشيطان اشترط عليّ الزواج من الفتاة التي ستنقذني من تحت الركام للحفاظ على هيئتي البشريّة .. ولوّ لم نتزوج خلال سنة من الحادث .. لنمت قروني وذيلي , واحمرّ جلدي .. فتخيّلي ما ستفعله الناس إن رأوني أمشي بينهم بهيئة شيطان ، أكيد سيشوّوني على نارٍ هادئة 

وضحك الحضور ، وأكمل أنور قائلاً : 

- لهذا تركتك تلاحقيني الليلة ، لاكتشاف هويّتي السرّية .. لربما تحوّلتي مثلنا 

سهى برعب : مثلكم ؟! أتقصد ان جميعهم شياطين ؟!


وفجأة ! تحوّل الحضور الى شياطين بهيئتهم المرعبة ، فكادت تفقد وعيها .. لكن المفاجآت لم تنتهي هنا .. فقد خرج عرش ابليس المهيب من تحت الأرض ، ليخرّوا له سُجّداً ! بما فيهم انور .. 


فحاولت سهى التسلّل للخارج اثناء انشغالهم برئيسهم ، لكن الحرس أوقفوها قبل خروجها من الباب .. 

فصرخ ابليس بصوته المخيف : 

- أنور !! انت تعرف ما عليك فعله 


فأخرج زوجها خنجراً من جيبه ، واقترب منها وهو يقول :

- إن لم توافقي على طلبي ، سأضحيّ بك 

سهى باكية : ارجوك لا تقتلني .. وأعدكم جميعاً !! أن لا أخبر احداً بما رأيته هنا

انور : لا نستطيع المجازفة بسمعتنا لأجلك عزيزتي ، فالحضور من كبار المسؤولين وأثرياء البلد .. لكني أعلم كيف أجبرك على البقاء معي 

وغرز سكينه بخاصرتها ، وهو يهمس في اذنها : 

- ستظلّين تتألمين وتنزفين ، الى ان توافقي على الإنضمام الينا 


وتركها تنزف ، ليُكمل مع الحضور مراسمهم الشيطانية وهم يرتلّون بألحانٍ مخيفة .. 


وحين ضاقت أنفاسها ، وتشوّشت رؤيتها .. صرخت بما تبقى من قوتها :

- موافقة !!

لترتفع معها الصيحات والتصفيق .. 

واقترب زوجها لتقبيل جبينها بحماس :

- أحسنت حبيبتي !!


وقبل غيابها عن الوعيّ ، سمعت بكاء طفلٍ من بعيد ..والذي ازدادت صرخاته المؤلمة ، قبل اختفائها تماماً ! 

من بعدها ..زالت اوجاعها شيئاً فشيئا ، الى ان استطاعت الوقوف على قدميها ، لتلاحظ إلتئام جرحها كأنها لم تتعرّض لطعن !

سهى بدهشة : ماذا حصل ؟!

زوجها بسعادة : لقد وُهبتي الحياة الأبدية 

- كيف هذا ؟!

- أنظري بنفسك


وأعطاها مرآة صغيرة ، رأت من خلالها : أنيابها الحادّة وعينيها اللتين تشبها عيون القطة 

سهى بصدمة : لا مستحيل !

أنور : بلى .. أصبحتِ شيطانة مثلنا ، بعد أن فديتك بطفلٍ دفعت ثمن اختطافه غالياً .. أنظري الى رماده ، أحرقته لأجلك


فحاولت الصراخ ، الا ان صرختها تحوّلت لضحكةٍ مجلّجلة (دون إرادتها) لتعلوّ معها ضحكات الحضور .. فعلمت انها تحوّلت بالفعل الى شيطانة بعد شعورها برغبةٍ شديدة بالإحتفال !

ووقفت فوق طاولة البار ، للرقص بحركاتٍ ماجنة (لم تتقنها من قبل !) وزوجها يُشجّعها مع بقية الحضور برميّ المال عليها ومباركتها في محفلها الأول ، الذي حتماً لن يكون الأخير ! 


الأحد، 27 ديسمبر 2020

الوصيّة

 تأليف : امل شانوحة

الثريّ البخيل


في مأتم الثريّ العجوز جاك ، لاحظ الحضور إرتياح ابنائه الأربعة بوفاته المُبكّر ، واستعجالهم لإنهاء العزاء لسماع الوصيّة ..


وبعد ذهاب المعزّيين من القصر ، إنتظر الأبناء حضور المحامي ..

وكان الأخ الأكبر جيم متحمّساً لمعرفة نصيبه من الميراث .. بعكس أخيه جون الذي عاتبهم على إستعجالهم بإنهاء العزاء .. اما الأخت الصغرى ديانا ، فبكت بصمت لاشتياقها لوالدها .. 

بعكس اختها الكبرى جاكلين التي ما تزال تشعر بالضغينة تجاه ابيها ، لهذا إغتاظت من حزن اخويها الصغيرين ، وحاولت تذكيرهما بطفولتهم السيئة:

- على ماذا تبكيان ؟ أنسيتما بخل ولؤم والدنا ؟ هو لم يعطينا المصروف الا بعد إنجاز مهامٍ صعبة في المنزل ! ولم يعترف بالأعياد كي لا يحضر لنا الهدايا .. الا تذكران كيف كنّا نخجل امام زملاء الجامعة ونحن نستقلّ سيارات الأجرة ، بعد رفضه شراء السيارات لنا ؟ ألم نتجنب الذهاب لحفلات العائلات الثريّة لأننا لا نملك ملابس جديدة ؟  


الأخ الصغير جون : يكفي انه علّمنا بأفضل المدارس والجامعات 

الأخ الأكبر جيم بسخرية : ألم يرسلك اللئيم الى مدرسةٍ داخلية عسكرية بدل مدرسة الباليه التي كنت تتوق لدخولها ؟ 

جون : رجاءً اخي ، لا تشتم والدي ..

وأكملت جاكلين كلامها مع اختها الصغرى : وانتِ !! الم يلقّبك دائماً بالطماطم الفاسدة ؟ 


فسكتت ديانا بامتعاض ، لتُكمل جاكلين :

- حتى انه لم يوافق على اشتراكك بمسابقات الجمال ، رغم انك الأجمل بين أقرانك ! وأصرّ على عملك كسكرتيرة في شركته كي لا تفزعي الآخرين بنبرة صوتك الحادّة ، كما قال لك دائماً ..

جيم مؤيداً : أختي معها حق !! هو لم يدعمنا مطلقاً .. ولولا وساطة العم آدم ، لما توظفت في شركةٍ محترمة

جاكلين : ولا تنسى إن والدي أبعدك عن جسيكا  

فتنهّد جيم بحزن : أحببتها بجنون ، وكنّا على وشك الزواج .. لكن بعد حديثه المطوّل معها في مكتبه ، فسخت خطوبتنا ! ولم يرضى ابي إخباري السبب !!... من حسن حظي انني التقيت بعد سنتين ب(روز) ، ووافقت على الزواج بي براتبي البسيط 

جاكلين بعصبية : لهذا لا ارى داعياً لتأخير ، ولنُسرع بتوزيع الميراث 


جيم : انا قلق أن يكون والدي نفّذ تهديده ببيع قصره ، والتبرّع بثمنه للجمعيات الخيريّة 

جاكلين : على الأقل انا وانت لدينا شققنا المستأجرة ، لكن أخوينا الصغار الى اين يذهبون !

الأخ الصغير جون : لا تقلقا بشأني

ديانا : وانا سأتصل بالعم آدم لحلّ المشكلة

جاكلين : العم آدم ليس مسؤولاً عنا ، يكفي الطلبات التي أتعبناه بها طوال حياتنا 

جيم : لا ادري كيف صاحب والدي رغم طباعهما المختلفة ! ..أتدرون ان العم آدم هو من دفع تكاليف دوراتي التعليمية ؟

جاكلين : ولا تنسى الألعاب التي أحضرها لنا في مناسباتنا العائلية  

جون : هل اتصلتم به لتخبروه عن وفاة والدنا ؟

ديانا : خطّه مشغول دائماً .. لذا أرسلت له رسالة خطية ، ولا ادري ان كان هنا ام مسافراً للخارج


بهذه اللحظات .. رنّ جرس القصر ، وأدخلت الخادمة رجلاً عجوزاً الى الصالة .. وما أن رأوه الشباب الأربعة ، حتى تجمّعوا حوله للسلاّم عليه  

ديانا بسعادة : الحمد الله على سلامتك عم آدم ، متى عدّت من السفر؟

آدم بنبرةٍ معاتبة : لم اسافر الفترة الماضية ، بل لازمت والدكم في المشفى اثناء انشغالكم بأعمالكم  

جون : لم نكن نعلم ! اهلاً وسهلاً بك

جاكلين : إجلس معنا لسماع الوصيّة 

جيم : نحن في انتظار المحامي


فأخرج آدم اوراقاً من حقيبته ، ووضعها امامهم وهو يقول :

- انا محامي والدكم

الجميع بدهشة : ماذا ! ابي لم يخبرنا بذلك

آدم : بالحقيقة هناك امور كثيرة لا تعلموها عن والدكم الحنون

جاكلين باستنكار : الحنون ! انت تقول ذلك ؟

آدم : نعم ، واريدكم ان تسمعوا وصيّته التي صوّرتها لكم


وأوصل جوّاله بالتلفاز الضخم : لسماع الفيديو المصوّر لوالدهم في المستشفى ، قبل يومين من وفاته ..


وكان الإخوة الصغار يشاهدان والدهما والدموع في عينيهما ، بينما الأخّين الكبيرين يشاهدانه بامتعاض

حيث قال الأب بالفيديو بصوتٍ متعب ، والمصل معلّقاً في ذراعه :

((اهلاً أبنائي الأربعة .. أعلم انكم متحمّسون لسماع وصيتي .. بالحقيقة لم أكذب عليكم حين أخبرتكم أن قصري سيُباع فور وفاتي ، وسيوزّع ثمنه على الجمعيات الخيريّة.....))


فصرخ الأخ الكبير غاضباً :

- الم أقل لكم ان والدنا سيحرمنا من كل شيء !!

جاكلين بغيظ : الا يكفي قساوته وبخله في طفولتنا ؟!

المحامي : رجاء إهدءا ، ودعوني أكمل الفيديو 

فجلسا غاضبين لسماع بقية الوصية ، وتابع الوالد قائلاً :

((بالحقيقة لستم بحاجة لقصري القديم ، فأنتم تستحقون الأفضل .. لهذا كتبت الفللّ الأربعة المتلاصقة في مجمّعي السكني بأسمائكم بعد إطمئناني عليكم ....)) 


وهنا نظر الأولاد الأربعة لبعضهم بدهشة ! وأكملوا سماع والدهم الذي قال: 

((سأخبركم الحكاية منذ البداية .. انتم تعرفون إنني نشأت في عائلةٍ فقيرة .. وعملت بجهد لسنواتٍ طويلة ، الى ان كوّنت ثروة لا بأس بها .. لكني لاحظت معاناة اصدقائي الأثرياء بتربية ابنائهم المدلّلين الذين أفسدهم المال الزائد ، ولم اردّ حدوث ذلك معكم .. لهذا ربّيتكم على تحمّل المسؤولية منذ الصغر .. وأجبرتكم على العمل الصيفيّ للإعتماد على أنفسكم ، ومعرفة قيمة النقود .. كما تعمّدت تقليل مصروفكم كي لا يستغلّوكم اصدقائكم .. تماماً كما فعلت مع جسيكا ، حين أخبرتها انني سأحرمك يا جيم من الميراث لأنك ولدٌ عاق .. وكما توقعت ، تخلّت عنك .. وقمت بهذه الحيلة كيّ لا ترتبط بزوجةٍ ماديّة .. اما زوجتك الرائعة روز ..فأخبرتني انها لن تتخلّى عنك ، حتى لوّ اضّطرت للعمل لمساندتك .. لهذا باركت زواجكما ، وهي تستحق العيش بالفلّة التي كتبتها بإسمك .. كما اريد إخبارك بأن مدير شركتك الذي وظّفك براتبٍ جيد ، هو صديق طفولتي الذي أطلعك بأنك الفائز على جميع المتقدمين بالوظيفة ، لتعزيز ثقتك بنفسك .. 

اما انت يا جاكلين .. ابنتي المتمرّدة .. أعرف حقدك عليّ لرفضي مساعدتك في متجر العطور ، لكن ما لا تعلمينه إن بضاعتك الأولى هي هدية مني ، وليس من العم آدم ....))


فتساءلت جاكلين بدهشة : أحقاً عمي آدم ؟!

فأومأ المحامي برأسه إيجاباً.. وأكملت سماع والدها الذي قال بابتسامة :

((اساساً جميع هدايا طفولتكم التي أحضرها المحامي آدم ، هي من مالي الخاص.. أخفيت الأمر عنكم ، لأني لم اردّ إعتيادكم على الهدايا الكثيرة .. لهذا طلبت من آدم إعطائكم رقمه الخاص ، لعلمي انكم ستلجأون اليه بعد إحساسكم بكرمه وعطفه ... وبنفس الوقت لن تطلبوا منه سوى الطلبات الملحّة الذي أخبرني بها ، والتي اخترت منها ما يناسبكم ... 

اما ابني العزيز جون .. فأعلم انني ظلمتك حين رفضّت دخولك مدرسة الباليه ، رغم موهبتك الجسدية الرائعة .. فعلت ذلك خوفاً عليك .. فلطالما كنت ولداً مُرهف الحسّ .. وأنت تعرف رأيّ جيداً برقص الرجال ، خاصة ان محبّي تلك الهواية عادة ما يكونوا ذويّ ميولٍ منحرفة .. لهذا أرسلتك للمدرسة الداخلية العسكرية لتزداد صلابة .. وهذا ما حصل بعد تخرّجك برتبة ضابطٍ قوي يُعتمد عليه .. وانت يا عزيزتي الصغيرة ديانا .. أعرف انني ضايقتك كثيراً بلقب (الطماطم الفاسدة) رغم انك أجمل طفلة رأتها عينايّ ....))


فبكت ديانا بقهر ، وهي تُكمل سماع والدها الذي قال :

((أردّت إفقادك ثقتك بجمالك ، خوفاً عليك من المستغلّين القذرين .. فالفتيات الجميلات عادة ما يخطفن ويؤذين من مدّعي الشهرة ومسارح الأزياء ، لهذا اردّت توجيه اهتمامك لشيءٍ آخر غير جمالك .. ولأني خائفٌ عليك من تحرّشات مدراء الشركات الأخرى ، أجبرتك على العمل بشركتي كي تبقي تحت حمايتي .. لكني علمت مؤخراً ان كثرة إنتقادي جعلك ترفضين العديد من العرسان ! لهذا رجاءً ابنتي ، يا جميلتي الصغيرة .. إنسي ما قلته لك ، وتزوجي رجلاً جيداً وانجبي الكثير من الأطفال .. فجمالك الحقيقي هو قلبك الطيب الحنون ، الذي سيجعلك أروع زوجة وأم .. ويوماً ما إحضري عائلتك الى قبري لأتعرّف عليهم .. أوعدني بذلك حبيبتي....))


فتمّتمت ديانا وهي تمسح دموعها : أعدك ابي

وأنهى الأب وصيته قائلاً :

((والآن سأترككم مع المحاميّ .. العم آدم .. لتوزيع الميراث عليكم بالتساوي .. ونصيحتي الأخيرة : لا تفسدوا اولادكم بالدلال الزائد .. دعوهم يعرفون قيمة المال ، وبأن السعادة الحقيقية هي بالعطاء ومساعدة الآخرين .. كما يمكنكم ايضاً إخبارهم عن جدهم البخيل ، ليتعلّموا من اخطائي .. بالنهاية أطلب منكم مسامحتي على قساوتي معكم .. فكل ما أردّته هو إعتمادكم على انفسكم ، وأن لا يلتفّ حولكم الفاسدين والطامعين ، كيّ لا تصابوا بخيبات أملٍ كما حصل معي .. أحبكم يا اولادي الأعزّاء ، وافتخر بكم جميعاً .. تذكّروني بالخير.. الوداع))


وفور انتهاء الفيديو ، إنهار الجميع بالبكاء .. وشعر الأخّوان الكبار بالخزيّ لكرههما له طوال حياتهما ..


وبنهاية الإجتماع .. إتفق الأبناء على إقامة تأبينٍ فاخر لوالدهم في اليوم التالي .. والذي حضره ذات الأشخاص الذين تفاجؤوا بالخطب المؤثرة للشباب الأربعة وحزنهم الواضح على وجوههم ، بعكس اليوم الأول لوفاة والدهم ! 

الوحيد الذي فهم مشاعرهم هو المحامي آدم الذي ابتسم برضا ، قائلاً في نفسه :

((أحسنت التربية يا صديقي جاك))


الخميس، 24 ديسمبر 2020

يتيم الإيدز

 كتابة : امل شانوحة

الطفل الصيني ألونغ وكلبه  


في عام 2010 ، وفي ريفٍ بجنوب غرب الصين .. كانت والدة (ألونغ) البالغ من العمر 6 سنوات تحتضر بسبب الإيدز ..


وفي تلك الليلة الباردة .. حاول الصغير تدفئة امه التي ترتعش بألمٍ شديد ، قائلةً بتعب :

- ألونغ لا تبكي

- امي انا خائف

- إجلس بجانبي ، علينا التكلّم بأمرٍ مهم


فجلس وكلبه (لاوّ هي) بجانبها ، لتخبره :

- مهما حصل يا أولنغ ، إيّاك العودة لقريتنا التي طردتنا بعد مرضنا 

- كنت أنوي الذهاب صباحاً لمناداة الجدة (ليانغ) 

الأم : أجبرها عمك على الإنتقال معه لمكانٍ بعيد ، خوفاً أن تمرض بعد زيارتنا  

- اذاً دعيني أذهب غداً لإحضار الطبيب 

- إسمع بنيّ .. لا أظنني سأصمد حتى الصباح


فانهار ألونغ باكياً .. فشدّت على يده بما تبقى من قوتها ، قائلةً بحزم: 

- لا تبكي .. ألونغ !! قلت لا تبكي 

فمسح دموعه بقهر ..  

الأم : عليك النضوج بسرعة للإهتمام بنفسك بعد رحيلي ..

- انا خائفٌ يا امي

- وممّا تخاف ؟ .. علّمتك كل شيء : كيفية الإعتناء بمزرعتنا الصغيرة ، وطريقة سلق الأرز والخضار.. ولديك القوة لسحب الماء من البئر الذي حفرناه العام الماضي .. وكلبك سيساعدك بصيد الأرانب .. وحين يشتدّ البرد ، تتغطّى بلحافي فوق بطانيتك بعد إيقاد النار في المدفأة .. هذا كل شيء .. 


فسألها بتردّد : وماذا أفعل حينما ..

فأكملت عنه : أموت .. (وسكتت قليلاً محاولةً تمالك نفسها) ..تسحبني من قدمي بكل قوتك باتجاه الحفرة التي حفرتها البارحة قرب قبر والدك .. وترميني بها .. ثم تردم التراب فوقي ، كما فعلنا مع قطتك التي ماتت الشهر الماضي 


فعاد للبكاء ثانيةً .. فحاولت تهدأته من جديد

- ألونغ !! انا ذاهبة الى الجنة ، فلا تخف عليّ .. لن أشعر بشيء تحت التراب .. بالعكس تماماً ، حين أموت تنتهي آلامي .. (وقبّلته بحنان) ..أعدك أن أزورك في المنام من وقتٍ لآخر .. 


ابنها بقلق : ومتى ألحقك ؟ فأنا ايضاً مصاب بالإيدز  

- لكن جسمك أقوى مني ومن والدك ، لهذا ستقاوم المرض لتعيش سنواتٍ عديدة .. لهذا عدني ان تحافظ على نفسك وعلى كوخنا الصغير ، وأن لا تطلب المساعدة من احد .. عليك الإعتماد على نفسك منذ اليوم .. فهل بإمكان بطلي الصغير فعل ذلك ؟

فأومأ برأسه إيجاباً وهو يرتجف خوفاً ..


فقالت الأم مع غصّة في قلبها : 

- إن استيقظت غداً ووجدت عينايّ مفتوحتان ، وجسمي بارد دون حِراك ، فاعلم انني متّ .. واسرع بدفني كما علّمتك .. هل كلامي مفهوم؟ 

فاكتفى بدمعتين إنسابتا على خده ، دون إجابة ..

ففتحت الأم ذراعيها وهي تقول : 

- الآن نمّ بجانبي ، واحضني بقوة ..


وقد حاول ألونغ السهر تلك الليلة ، لكنه غفى مباشرةً بعد نوم والدته 

***


في الصباح الباكر .. إستيقظ ألونغ خائفاً بعد شعوره ببرودة يد امه على وجنته .. وحين التفت اليها .. وجدها شاخصة البصر بثغرٍ مفتوح ، ووجهٍ شاحب بشكلٍ مخيف ! فعلم بموتها ..

وكانت لحظة مخيفة جعلته يتجمّد في مكانه ، وكأن صرخاته علقت بين أضلعه .. كما شعر بالضغينة لقريته التي رفضت علاجها اكثر من مرة .. 


وبعد ان هدأ روعه ، تذكّر وصيتها .. فنادى كلبه لمساعدته بسحب امه الى المزرعة .. وشدّاها من بنطالها بكل قوتهما ، الى ان وصلا لحفرةٍ ليست عميقة .. وردم التراب فوق جسمها ، لكنه عجز عن دفن وجهها .. وانهار باكياً ، في الوقت الذي أكمل الكلب ردم التراب فوق الجثة .. 


وظلّ ألونغ يبكي بقهرٍ شديد دون سماعه احد ، الى ان أمطرت السماء  ..ولولا ان شدّه الكلب لداخل الكوخ ، لما تزحزح امام قبر امه .. ليكمل بكائه فوق فراش امه ، وكلبه يراقبه بحزن ..

***


بحلول العصر .. نبح الكلب من شدة الجوع ، فأدرك ألونغ إن عليه تحضير الطعام قبل حلول المساء ..


وفور توقف المطر .. حمل سلّته باتجاه مزرعته ، مُحاولاً إشغال نفسه دون الإلتفات الى قبر والديه .. وقطف بعض الخضراوات التي حملها الى كوخه لسلقها مع القليل من الأرز .. فأمه نصحته أن يقتصد باستخدام شوال الأرز التي اشترته من السوق قبل طردها من القرية (بعد ان أبلغهم الطبيب بمرضها المعدي الذي انتقل اليها ولإبنها من زوجها بعد خروجه من السجن) 

اما كلبه : فقد احتفظت امه ببعض العظام التي أعطاها له ..


وحين همّ بسكب الأرز الساخن في صحنه ، سقط بعضه على ذراعه .. وازداد الألم باحمرار جلده .. الا انه يعلم مسبقاً ان عيادة القرية لن تستقبله (تماماً كالمدرسة التي طردته من الصف الأول بعد علمها بمرضه ، بسبب إحتجاج اهالي الطلاّب) .. 

وتناول الطعام مختلطاً بالدموع (فهي المرة الأولى التي يتغدّى دون امه) محاولاً إحتمال ألم ذراعه التي وضع عليها القماش المبلول بالماء البارد ، كحلٍ بديل عن مرهم الحروق الذي لا يملك ثمنه ! 

***


قبل حلول المساء .. جمع ألونغ الحطب من الغابة على عجل ، بعد عواء كلبه بشراسة لإبعاد قطيع الذئاب من الهجوم عليهما .. 


وعاد للداخل لإشعالهم وتدفئة كوخه المتهالك الذي يتسرّب الهواء البارد من كل جوانبه .. 

ثم استلقى في فراش امه مُحتضناً كلبه ، وهو يشعر بالوحدة بعد رحيل والديه .. وسرعان ما غفى من شدة حزنه وتعبه ..

***


وتوالت الأيام على ألونغ الصغير التي قضاها بين الإهتمام بمزرعته والصيد ونقل المياه من البئر وتدفئة الكوخ والطبخ والإهتمام بكلبه ، والدعاء لوالديه امام قبرهما 

وقراءة كتاب القراءة لصفّ الروضة الذي يملكه والذي حفظ جميع حروفه ، دون ان يعلّمه أحد كيف ينظّمهم في كلماتٍ وجملٍ مفهومة ..كما أعاد مراراً تمارين الكاراتيه التي علّمه إيّاها جاره ، قبل انتقاله من المنطقة خوفاً من العدوى !

***


وحلّ فصل الشتاء الذي غطّى مزرعته بالثلوج الكثيفة ، فلم يعد امامه سوى العودة للقرية لطلب المساعدة ، بعد نفاذ الأرز وتجلّد مياه البئر ! 


وأخذ يتجوّل في سوقهم بملابسه التي باتت قصيرة عليه ، وبنطاله ومعطفه الممزّق بسبب صيده المتكرّر في البراريّ .. 

ومشى بين الناس بحذر ، الى ان انتبه أحدهم على شاله الصوفيّ التي اعتادت امه على غزلهم وبيعهم في السوق بألوانها الفاقعة (قبل مرضها) ، فصرخ بعلوّ صوته :

- ولد الإيدز هنا !!


لتعلو معها الصرخات المطالبة برحيله فوراً من القرية ، دون ان ينصتوا اليه وهو يخبرهم بوفاة امه ونفاذ طعامه ! 

حتى ان أحد الباعة وخزه بعصا طويلة وهو يدفعه بقوة للعودة الى بيته ، قبل نشر مرضه القاتل بينهم 

 

فرجع ألونغ حزيناً مع كلبه الى الكوخ ، بعد بكائه كثيراً امام قبر امه وهو يترجّاها أن تأخذه اليها ، قبل موته برداً وجوعاً


ونام تلك الليلة جائعاً ، قبل استيقاظه آخر الليل على رائحةٍ لذيذة ! ليتفاجأ بكلبه يجلس قرب المدفأة وفروه مغطّى بالثلوج ، بعد ان بحث طويلاً في الغابة لإحضار غصنٍ فيه توتٍ برّي للصغير الذي أكلهم بنهمّ ، والذي سهر طوال الليل وهو يخطّط للإنتقام من اهل قريته الأشرار

***


في الصباح الباكر .. تفاجأ البائعون بلطخةٍ حمراء على ابواب الأكشاك ، لكنهم أكملوا فتح محلاّتهم الخشبيّة دون الإهتمام بالأمر !


وبعد امتلاء السوق بأهل القرية ، نادى ألونغ من بعيد :

- هاى انتم !! لقد لوّثت محلاّتكم بدمائي ، وأصبحتم جميعاً مصابين بالإيدز !!  

ورفع ذراعه ، ليريهم الدماء التي تسيل منها بعد جرحها بالسكين ..وأكمل قائلاً :

- قريباً ستموتون كما مات والدايّ ، ايها الملاعيين !!!


فحصل هرجٍ ومرج بالسوق بعد ان أرعبهم الموقف ، فمعظمهم لا يعرف الأماكن التي لوّثها بدمائه .. 

وصرخ أحدهم بغضب :  

- أقتلوا ذلك الموبوء الحقير !! 


وهجموا باتجاهه .. حتى إن الجزّار لحقه بالساطور ! كأنهم يطاردون سفّاحاً ، وليس طفلاً مريضاً ويتيماً


وظلّوا يركضون خلفه ، الى ان وصلوا الى كوخه .. لكنه هرب منهم لأعلى التلّ .. ونبح الكلب في وجههم بشراسه كيّ لا يلحقوا بهما


فصرخ الجزّار بعصبية ، وهو يلوّح بسكينه مهدّداً : 

- حسناً !! إبقى فوق الى ان تتجمّد ايها المشاكس ، سأربّيك على غلطتك الشنيعة

وأشعل خشب الكوخ بولاّعته.. 

فصرخ ألونغ بفزع :

- لا تحرقوا بيتي !!


فقال احدهم : هذا سيعلّمك ان تبتعد عن قريتنا للأبد 

وقال الآخر : عشّ بالغابة مع الحيوانات ، او مُتّ كوالديك وأرحنا من همّك!! 


وبعد تأكّدهم من إشتعال الكوخ ، عادوا الى قريتهم كأن شيئاً لم يكن ! تاركين الصبي يبكي قرب بيته المحترق الذي وعد امه بالحفاظ عليه 

***


من جهةٍ أخرى .. شاهد قائد طائرةٍ شراعية الدخان المتصاعد في السماء ، فقال للطبيب الأجنبي الذي يرافقه : 

- يبدو هناك حريق في الغابة !

الطبيب بقلق : هل هو قريب من القرية التي أتيت لعلاجها ؟ 

- أظن ذلك

- اذاً لنهبط في مكانٍ قريب ، لنرى ما حصل 

***


حين وصل الطبيب الى القرية ، وجدهم يتابعون حياتهم دون الإكتراث للحريق الذي لا يبعد كثيراً عن سوقهم ! (بعد قيامهم بغسل الدماء الملوّثة عن محلّاتهم ، وتطهيرها جيداً) ..

 

فسألهم الدكتور (بلغتهم التي يتقنها) :

- لما لا تطفؤون الحريق ؟!

فأجاب أحدهم : ننتظر ان يحترق كوخ الملعون بالكامل

الطبيب : من تقصدون ؟

فأخبروه بقصة الصغير وامه..


الطبيب بدهشة : هل أحرقتم بيت اليتيم في هذا الجوّ البارد ، أتريدون قتله؟!

- موته أرحم من أن يُعدينا جميعاً بالإيدز 

الطبيب بصدمة : يالا قلوبكم المتحجّرة !


فتوجّه للغابة لإنقاذ الطفل ، فناداه أحدهم :

- لا تذهب الى هناك يا دكتور !!

الجزّار : إن ذهبت لتعالجه ، فلا تعدّ الينا !!

سيدة بغضب : لا نريدك ان تُعدينا انت ايضاً !!


لكنه لم يكترث لكلامهم ، وذهب باتجاه الحريق .. ليجد الولد يحتضن كلبه في محاولة لتدفئة نفسه قرب قبر والديه ، والذي ما أن شاهد الطبيب الأجنبي ، حتى رفع عصاه مهدّداً بعدم الإقتراب منه .. 


فحاول الدكتور تهدأته :

- لا تخفّ ، أتيت لإنقاذك.. ما اسمك ؟

لكن الولد ظلّ خائفاً ، وكلبه بجانبه ينبح بشراسة ..

 

فأخرج الطبيب شطيرة لحم من حقيبته ، قسمها لقسمين .. نصفها للكلب الذي اشتمّها اولاً قبل تناولها .. والنصف الآخر للولد الذي أخذها بتردّد ، قبل أن يأكلها بنهمّ .. 


وبعد ان أنهاها ، قال له الطبيب :

- قدمت من مكانٍ بعيد لأداويك .. فدعني أعالج ذراعك 

الطفل بقلق : لا تقترب !! معي إيدز

- أعرف هذا ، واريد نقلك الى مشفى متطوّر لعلاجك 

- لا علاج لهذا المرض ، فوالدايّ ماتا بسببه

- انت صغير في العمر ، وجسمك القوي سيقاوم المرض .. تعال معي لنركب الطائرة ونسافر للعاصمة بكّين .. وربما لاحقاً أنقلك الى اميركا

الصبي بدهشة : طائرة !

- هل رأيت واحدة من قبل ؟

فأشار الولد الى السماء : قبل قليل حلّقت واحدة فوق الغابة

الدكتور : تلك طائرتي الشراعية .. أتريد ركوبها ؟

فأومأ برأسه إيّجاباً بحماسٍ وسعادة .. 


الطبيب : اذاً دعني أضمّد جرح ذراعك اولاً يا..

- إسمي ألونغ

- وانا الدكتور جاك الذي سيبعدك عن هذا الجحيم 

الصبي بقلق : ماذا عن كلبي وجثة والدايّ ؟

- سنأخذ الكلب معنا .. اما والداك ، فسيبقيان هنا .. وحين تتعالج وتصبح شاباً قوياً ، تعود لزيارتهما ..


وبالفعل سمح له بتضميد ذراعه ، بعد أن لبس الطبيب قفّازاته الواقية  

ثم تفاجأ الصغير بالدكتور يحمله ! فكلا والديه لم يستطيعا ذلك بسبب اوجاع عظامهما 

وكان عليهما المرور من القرية للوصول الى المدرّج الصغير التي فيها طائرته .. 


وحين رأوه الأهالي يحمل الطفل الموبوء ، إبتعدوا عنهما باشمئزاز..

وقال أحدهم : 

- هل أتيت من اميركا لتصاب بالإيدز يا دكتور ؟

لكن لم يجيبه .. فقالت سيدة بعصبية :

- الحكومة الصينية طلبت زيارتك لتعالجنا ، لا لترحيل هذا الشيطان الصغير !

فأجابها الطبيب : بل الربّ أرسلني لإنقاذ الملاك الشجّاع من قساوة قلوبكم وضمائركم الميتة

*** 


في الطائرة .. جلس ألونغ سعيداً بجانب النافذة ، وهو يسأل عن كيفية قيادتها.. والطيّار يجيبه برحابة صدر

(حيث فضّل الطبيب عدم إخبار الطيّار بمرض الصغير كيّ لا يُسمعه كلماتٍ جارحة .. واكتفى بالقول : ان الولد بحاجة لنقله الى مشفى العاصمة) 


ومن فوق .. شاهد ألونغ حطام كوخه ، ومزرعته التي فيها قبر والديه الذي لن يراهما ثانيةً لسنواتٍ عديدة .. 

وحين شعر الطبيب بدموع الصغير ، ربت على كتفه بحنان وهو يهمس له:

- ستصبح رجلاً عظيماً يا ألونغ .. وانا أعدك ان يعرف العالم بكفاحك وقوتك

الولد : ونذالة قريتي ؟

الدكتور مبتسماً : نعم سأخبر الصحافة عن قساوتهم ايضاً ، لا تقلق

***


ولاحقاً حصل ألونغ على ضجّةٍ إعلامية بعد إخبار الطبيب قصته بمؤتمرٍ صحفيّ ، ليحصل على تضامن القلوب الرحيمة التي تبرّعت له بآلاف الدولارات ، مُتكفّلين بعلاجه وتعليمه .. 


ليصبح أحد الطلاّب المتفوقين الذي يحلم بالتخصّص بالأبحاث المخبرية لاكتشاف علاجٍ فعّال للإيدز ، بعد نجاته منه بأعجوبة ! والعودة الى الصين لنشر التوعية عن معاملة المصابين بهذا المرض دون تدميرهم نفسياً ، كما حصل في قريته المتخلّفة .. 

لكنه يعلم ايضاً ، انه حتى لوّ وجد علاجاً لجميع الأمراض المعدية ، فلن يجد حلاً للقلوب القاسية والضمائر الميتة التي سيعاني منها المرضى الفقراء طوال حياتهم البائسة !

******


ملاحظة : 

القصة مستوحاة من احداثٍ حقيقية لطفلٍ صيني عاش وحده بعد موت والديه بالإيدز ، بعد رفضه من دور الأيتام ! 

ولأن الصحافة لم تتابع قصته .. فلا ادري ان كان شُفيّ من مرضه ، او مازال يعيش كمراهقٍ وحيد في زمننا الحالي ! 

ولا ننسى بأن هناك آلاف الأطفال مشرّدين بالشوارع حول العالم ، دون اهتمام الحكومات لإيجاد حلٍ نهائيّ لهذه المشكلة ! كان الله بعونهم جميعاً


الأحد، 20 ديسمبر 2020

السرقة الأدبيّة

 تأليف : امل شانوحة

الموهبة المزيّفة !


في خمسينات القرن الماضي ، إنتشرت طباعة الكتب والمجلات .. وذاع صيت الكتّاب الأدبيين الذين ازدادوا ثراءً وسمعة ، مما أثار غيرة المصحّح اللغويّ (جيم اندرسون) دكتور الأدب الإنجليزي الذي لجأ اليه الكتّاب المبتدئين لتنقيح قصصهم قبل نشرها بأعدادٍ هائلة ! ليحصل هو على أجرٍ زهيد ، مقابل ثروة الكتّاب التي تضاعفت مع كل قصة نشروها .. وهو ما أشعره بالغبن ، فقصصهم الركيكة ما كانت لتنجح لولا تنقيحه المحترف الذي رفع كثيراً من قيمتها اللغوية .. 

مما زاده رغبة في تجربة التأليف لإتقانه قوانين اللغة والوصف التعبيري ، ولا ينقصه سوى الفكرة المبتكرة لبدء قصته الأولى ..


وعلى مدى شهور .. حاول جيم كتابة قصة قصيرة تُرضي الناشر اولاً ، والذي رفض له العديد من مسودّات القصص رغم لغتها القوية ، لأنها برأيه تفتقر للإبداع التي يشدّ انتباه القارىء المتلهفّ لأفكارٍ غير مستهلكة 

وقد حاول الدكتور في جميع المجالات : الدرامية والمخيفة والخيالية والبوليسية والرومنسية وحتى قصص الأطفال ، لكنه فشل في إيجاد فكرة تناسب ذوق القرّاء .. 


ونصحه كاتبٌ بريطاني مشهور (إيريك آمبلر) بالإكتفاء بعمله كمدقّقٍ لغوي ، قائلاً بغرور : 

- أيّ شخص يمكنه تعلّم تقنيات الكتابة , لكنه لا ينجح سوى الموهوب بالفطرة .. فموهبة الكتابة تولد مع الإنسان مثل المواهب الأخرى كالغناء والرسم والنحت والرقص وغيرها ، فلا ترهق نفسك بالمحاولة  

الا ان جيم أصرّ إن إجتهاده وإصراره كافيان لمنافسة أهم الكتّاب الأدبيين!

***


وبعد فشله بالطرق العادية لكتابة قصة ناجحة ، فكّر بطرقٍ ملتوية .. فحاول إرشاء كاتبة مبتدئة لنسب قصتها له مقابل مبلغاً مغرياً ، مُوهماً إيّاها بأن القرّاء لن يتقبّلوا قصصاً من تأليف سيدة .. 

لكنها رفضت طلبه وسحبت قصتها التي أعطتها لمدقٍّقٍ لغويّ آخر بعد ان آثار ريبتها !


فبدأ بخطته التالية ..وهي الإتفاق مع خادم الكاتب الإنجليزي (جورج أورويل) لإحضار قصاصاته المرمية في سلّة نفايات مكتبه ، مقابل مبلغاً من المال

وبالفعل أعطاه الخادم مجموعة من الورق المُجعّد التي فيها رؤوس اقلام لأفكار جورج العابرة , وهو ما ينقص جيم لبدء قصته الأولى ..حيث أسهب في طرح الفكرة الى أن تجاوزت 50 صفحة ، قام بكتابتها بلغةٍ قوية ومعبّرة.. كانت كفيلة بقبول الناشر طباعتها أخيراً  

***


إحتفل الدكتور مع اصدقائه بإصدار نسخته الأولى في المكاتب .. الا انه بعد اسابيع ظلّت نسبة مبيعها منخفضة ، لكونه كاتباً غير معروف !

لهذا كان عليه إيجاد افكاراً اخرى لقصصٍ إضافية ، فقام بإرشاء خادمين لكاتبين آخرين حصلا على المال مقابل النفايات الورقية لسيدهما ..والذي استطاع جيم بواسطتهما إصدار مجموعته الأولى المتنوعة


ولحسن حظه ، لاحظ احد النقّاد الأدبيبن قصته الأخيرة التي مدحها في الجريدة المحلية ، مما رفع نسبة مبيعاتها بشكلٍ ملحوظ .. 

وهذا شجّع الناشر على طباعة المزيد من النسخ ، ومطالبة جيم بأفكارٍ جديدة بأسرع وقتٍ ممكن ! 

***


من جهةٍ أخرى .. وصلت مجموعته القصصية لجمعية الكتّاب المحترفين ، الذي لاحظ أحدهم التشابه بين قصص جيم وأفكاره القديمة ! وأخبر زملائه بشكّه بحدوث سرقةٍ أدبيّة 


وحين تطفّل جيم على إحدى ندواتهم الفكرية ، سأله أحدهم عن سرّ ذاك التشابه .. فتظاهر جيم بثقة ، مُخفياً ارتباكه : 

- مجرّد توارد خواطر .. فالأفكار هي سرب من الطيور ، إن أطلقتها من يدك (تخلّيت عنها) فستصل حتماً لمخيّلة كاتبٍ آخر.. ويبدو انها وصلت لي 


فردّ عليه الكاتب العجوز : كلامك وإن كان خياليّ الا انه منطقي ، ولا أنكر إعجابي بكيفية تحويل فكرتي البسيطة الى قصةٍ متكاملة

جيم : عفواً سيدي ، تتكلّم وكأنني سرقت فكرتك بالفعل

- لم أقصد ذلك ، لكني تخلّيت عن تلك الفكرة بعد عجزي عن إيجاد خاتمة تليق بها .. فهنيئا لك بها

***


وبعد تزايد شهرة جيم وثروته ، إزداد ضغط الناشر عليه لتأليف المزيد من القصص ، مما أشعره بالضيق بعد نفاذ جميع افكار الكشاكيل المهملة .. خاصة بعض رفض الخادمين سرقة سيدهما اللذان شكّا بالأمر ، فأصبحا يمزّقان مسودّاتهما وأفكارهما العابرة زيادةً في الحرص ..


اما خادم الكاتب (جورج أورويل) فطمع بالمزيد من المال ، وحين رفض جيم زيادة أجره ..أخبر سيده بأنه رأى الدكتور يأخذ شيئاً من سلّة نفايات مكتبه حين زاره المرة الماضية .. 


وعلى الفور !! إنتشرت الإشاعة بين الناس مُتهمين الدكتور بالسرقة الأدبية .. حيث انتقده الكتّاب والقرّاء على حدٍ سواء .. ومزّق الناس قصصه ورموها في وجهه بالشارع .. 


فصرخ مدافعاً عن نفسه :

- لا تنظروا اليّ كأنني مجرم !! فمعظم كتّابكم المحبوبين لم يكن لينشهروا لولا تنقيحي المحترف لأخطائهم اللغوية على مدار سنوات .. وانا كاتبٌ مثلهم ، بل أفضل منهم !! كل ذنبي انني استعرت مخلّفات أفكارهم 

فردّ أحدهم : طالما أخذتها دون إذنهم ، فأنت لا تختلف عن بقية اللصوص ايها التافه !!

***


وبعد تزايد المضايقات ، إستقال جيم من الجامعة وانزوى في بيته .. لكن الأمر لم يتوقف هنا .. فالخادم الطمّاع إستغلّ الفضيحة لسرقة أغراضٍ ثمينة من القصر ..

وحين اكتشف سيده المفقودات ، أبلغ الشرطة التي حقّقت مع جميع العاملين .. وحين وصلت للخادم الطمّاع ، أخبرهم بأن الدكتور بعد سرقته الأوراق من سلّة النفايات تجوّل في غرف المنزل ..وخرج من القصر وهو يحمل حقيبة يدٍ ثقيلة !


ولأن صيت جيم أصبح سيئاً ، فلم تشكّ الشرطة والناس بمزاعم الخادم ..وتمّ القبض عليه بتهمة السرقة .. 

حيث رمى المارّة الخضراوات الفاسدة عليه اثناء اعتقاله ، ووضعه بعربة الشرطة باتجاه الزنزانة التي ظلّ فيها لشهورٍ عديدة ، إمتنعت فيها عائلته واصدقائه عن زيارته ! وعانى كثيراً من قسوة الحرس والمساجين .. 


الى ان حدثت سرقة ثانية مشابهة في قصر سيدٍ آخر ..القاسم المشترك بينهما هو الخادم الذي انتقل للعمل هناك .. 

فتمّ القبض عليه ، والذي اعترف لاحقاً بكل شيء ..وبذلك ظهرت براءة الدكتور جيم الذي عاد الى منزله منكسراً وحزيناً 

**


ولاحقاً إتفق كبار الكتّاب على زيارته ومواسته في محنته ..

وحين فتح لهم الباب ، قال متفاجئاً وبعصبية :

- انتم ! ماذا تريدون مني ؟ انا لم اسرق افكاركم هذه المرة ؟

وبعد دخولهم الصالة ، قال (صامويل باركلى بيكيت) :

- نريدك ان تعود للكتابة

جيم بحسرة : انا مجرّد استاذ لغة ، ولست كاتباً

إيريك آمبلر :  بلى ، نحن قرأنا قصصك المنشورة .. صحيح انها أفكارنا القديمة ، لكن طريقة سردك للأحداث وحوارات شخصياتك مثيرة للإعجاب  

جيم بدهشة : أحقاً !

أجاثا كريستي : نعم ، عدا عن براعتك في اختيار الصيغ البلاغية ! ولوّ لم أتخلّى عن فكرتي ، لما كتبتها بهذا البراعة


جيم بيأس : لم يعد الأمر يهم ، فلا احد سيشتري قصصي ثانية

جورج أورويل : نحن سندعمك ، ونغيّر رأيهم اتجاهك .. لكن بشرط!!

جيم : ماهو ؟

جورج : ان تكون قصتك التالية من تأليفك وحدك

جيم : لا املك أفكاراً ادبية

صامويل : إسمعني جيداً .. الكتابة مثل أيّ وظيفة اخرى .. 20 بالمئة موهبة ، و80 بالمئة جهد ..وهي عبارة عن تجارب الحياة التي مرّرنا بها جميعاً

- معه حق ..فأنا مثلاً مشهور بالقصص الرومنسية ..والسبب الحقيقي وراء براعتي ، هي كسرة قلبي ايام شبابي بعد ان هجرتني ابنة الجيران التي تزوجت غيري


جيم باستغراب : لم اكن أعرف هذا !

- وانا أصبحت كاتبة قصص بوليسية بعد مقتل قريبي من مجرمٍ إحتال على القضاء للهرب من العقاب 

- وانا أصبحت كاتب قصصٍ خيالية ، بسبب قسوة والدي التي جعلتني أهرب لعالم الخيال كيّ أنسى كلماته الجارحة .. 

- ماذا عنك ؟

جيم : انا حياتي روتينية ، قضيتها بين التدريس في الجامعة وتنقيح الكتب والقصص

- أنسيت تجربتك الأخيرة بعد التشهير بك ، وحياتك في السجن؟


جيم بحزن : كانت تجربة قاسية بحق !

- اذاً أكتب عنها ، ولتكن روايتك الأولى 

- وإن كانت جيدة ، سنمدحك في مؤتمرٍ صحفيّ 

- وسيدعمك اصدقاءنا النقّاد لتنشهر من جديد 

جيم بتردّد : لا ادري ان كنت..

- لا تتردّد يا دكتور ، فنحن ككتّاب لا نتوقف من اول محاولة فاشلة ..فالكتابة مهنة شاقة ، وعليك المتابعة حتى النهاية ..

- حتى لوّ فرضنا انك لم تنشهر بحياتك ، فقصصك ستظلّ موجودة لأجيالٍ من بعدك ، وسيكون هذا إرثك 

- ولا تنسى ان تضفّ الى روايتك آرائك الخاصة لحلّ المشكلة ..ونصائحك للقارىء في حال واجهته ذات المحنة .. فأفكارنا تؤثّر على الرأيّ العام 

- هذا صحيح ..فهناك حروب ومعاهدات سلام وعادات وتقاليد إختلفت بعد اصدار كتابٍ واحد غيّر مفاهيم العالم ، فلا تستهين بموهبتك .. 

- إكتب يا بنيّ !! ونحن معك


وخرجوا من عنده بعد ان أعطوه دافعاً قوياً للكتابة ، جعله يسهر طوال الليل امام آلة الكاتبة لطباعة مسودّة عن قصة حياته .. 

***


بعد شهر ..أنهى تصحيحها اللغوي ، وعرضها على مدير النشر الذي قال بلؤم :

- لولا دعمك من نقابة الأدباء ، لما نشرت لك شيئاً.. لكني بالنهاية تهمّني الأرباح ، وسأراهن عليك هذه المرة

***


وبالفعل لم تنشهر روايته الا بعد حصوله على دعمٍ قويّ من الكتّاب القدامى وأصدقائهم النقّاد ، لتباع آلاف النسخ من قصته التي تُرجمت لاحقاً للعديد من اللغات حول العالم ، تحت عنوان : (السرقة الأدبيّة) 


ومع استمرار جيم بالكتابة ، صار من أشهر الكتّاب الإنجليز المحترفين .. وأصبحت تجربته دافعاً للكتّاب المبتدئين للإستمرار بالمحاولة حتى النجاح

*****


ملاحظة :

خطرت ببالي هذه الفكرة بعد سرقة قصتي (الحافلة المظلمة) التي حُوّلت الى فيديو باليوتيوب بعنوان (رحلة الإنتقام) .. وللأسف لم يعرض صاحب الموقع إسمي كصاحبة القصة

رابط الفيديو :

https://www.youtube.com/watch?v=Bm6ZwKuO3PY

رابط قصتي الأصلية المنشورة في كابوس :

https://www.kabbos.com/index.php?darck=1418

الأربعاء، 16 ديسمبر 2020

جريمة يوم الإثنين

الفكرة : مستوحاة من مقالة (Ayman Alasd)
كتابة : امل شانوحة

بريندا سبنسر


في سجن ولاية كاليفورنيا ، وفي شهر ابريل 2020 .. وضعت طبّاخة السجن في صينية (بريندا سبنسر) قطعة كيك صغيرة ، وهي تقول :

- كل عام وانت بخير 

بريندا بابتسامة : آه ! نسيت انه عيد ميلادي ال 58 .. شكراً لك


ثم جلست لتناول طعامها بجانب السجينات اللآتي تراقبنها بغيظ لحصولها وحدها على التحليّة .. فأسرعت بالقول :

- انه عيد ميلادي

فقالت إحداهنّ بغيرة : أصبحتِ صديقة الطبّاخة ! 

بريندا : سجُنت بعمر 16 .. ولي 42 سنة هنا ، وهي أطول مدة بين السجناء ، وطبيعي ان يعرفني الجميع .. 


في هذه اللحظات .. إقتربت من طاولتهنّ سجينة عجوز (من البشرة الداكنة) وهي تحمل صينيتها وتقول :

- وانا قضيت 50 سنة في هذا السجن الكئيب ، يعني الأقدم بينكنّ 

بريندا : آسفة ! لم أقصد مضايقتك يا زعيمتنا جاكلين 


وبعد جلوسها قربها ، وانشغال السجينات بتناول طعامهنّ ..همست في أذن بريندا : 

- إن أعطيتني نصف كعكتك ، إخبرك بسرٍّ مهم

فقسمت بريندا كعكتها ، لتقوم جاكلين بالتهام حصّتها بنهمّ .. 

وسألتها بريندا بصوتٍ منخفض :

- ماهو السرّ ؟

جاكلين : إنهي طعامك ، وقابليني امام زنزانتك

- ألن تنزلي للساحة ؟

- ليس اليوم 

*** 


وبالوقت الذي تجمّعت فيه السجينات في ساحة السجن بعد فترة الغداء ، صعدت بريندا الى عنبر السجون الخالي من الحارسات المنشغلات بتناول غدائهنّ او مراقبة الساحة ..

بريندا : هآ انا قدمت ، ماذا تريدين إخباري ؟

جاكلين : اريد أن أريك شيئاً 


وأخرجت سلكاً حديدياً صغيراً من شعرها الكثيف وهي تقول :

- أخفيته في شعري ايام شبابي ، قبل قبض الشرطة عليّ متلبّسة بسرقة القصر .. وبسبب تقزّز الحارسة العنصرية مني ، لم تفتّشني جيداً  

- وما فائدته ؟! 

جاكلين : كنت استخدمه في فتح الخزائن الحديدية لمصلحة عصابتي التي تخلّت عني وتركتني أواجه التهم وحدي ، لأحصل على حكم المؤبد رغم انني لم اقتل احداً ! حيث نجح الأثرياء الذين سرقتهم بالضغط على القضاء والتأثير على الحكم النهائيّ 

بريندا باهتمام : وهل مازلتي تجيدين استخدامه ؟ 

- أحكمي بنفسك .. 


وأدخلت جاكلين طرف السلك المدبّب في قفل الزنزانة .. وبعد تحريكه بطريقةٍ معينة ، إستطاعت فتح الباب بسهولة 

بريندا بحماس : رجاءً علّميني الطريقة !!  

- ليس الآن ، في المساء بعد نوم الجميع

- لكننا في زنزانتين منفصلتين !

- رفيقة سجني تسرّحت يوم امس ، وسيحضرون بعد قليل سجينتين جديدتين .. وبما ان رفيقتك بالسجن ماتت بأزمةٍ قلبية قبل اسبوع .. فسيضمّونا سوياً ، لأننا أقدم السجناء ولا نشكّل تهديداً لهم 


بريندا بسعادة : ممتاز !! سنهرب الليلة معاً  

- فقط انت .. فليس لديّ مكان أذهب اليه بعد موت عائلتي ، ولا اريد أن أصبح مشرّدة في الشوارع .. إعتبري تعليمك طريقة الهروب هديةً مني في عيد ميلادك 

بريندا بتردّد : لا ادري ان كنت سأجرأ على ذلك ، فلديّ جلسة إستماع في العام القادم .. وأخاف إن أمسكوني ان يزيدوا عقوبتي 

- الم يرفضوا إطلاق سراحك ثلاث مرات من قبل ؟ 

- لكن.. 

جاكلين مقاطعة : إسمعيني جيداً يا بريندا .. هم لن يطلقوا سراحك ابداً لأنهم يعدّونك مجنونة خطيرة ، لإصابة الفصّ الصدغي لديك .. لذا لا تفوتي الفرصة مثلي ، مازال بإمكانك الهرب .. فكّري بالأمر .. الآن سأعود للساحة لتنشّق الهواء

وتركتها وهي تفكّر بالأمر

***


في المساء ، تمّ جمعهما في نفس الزنزانة .. 

وخلال الليالي التالية .. درّبتها على فتح القفل بالسلك ، الى أن أتقنت بريندا الطريقة بعد اسابيع ..


وفي تلك الأمسية الباردة .. قالت لها جاكلين بصوتٍ منخفض : 

- بقيّ ساعتين على منتصف الليل ، وإطفاء انوار الزنزانات .. حينها تعتمدين على نور العنبر لفتح القفل ، فقد أصبحت ماهرة مثلي

بريندا بارتباكٍ وقلق : لا ادري ان كنت سأفعلها اليوم !

- الليلة هي فرصتك الأخيرة ، فغداً يقطعون الأعشاب البرّية التي نمت على الجدار الخارجيّ ، التي ستستخدمينها للتسلّق والهرب من هنا .. كما اننا في ليلة الأثنين 


فتنهّدت بريندا بضيق : آه ! كم اكره هذا اليوم 

- أتدرين ! لم أسألك بعد لما اخترت يوم الإثنين بالذات لارتكاب جرمك بقتل المعلمة وحارس المدرسة وإصابة 8 اطفال في عام 1979 ؟

بريندا بنبرةٍ حزينة : لأن في هذا اليوم تدمّرت حياتي بعد انفصال والديّ .. وفي يوم الإثنين ايضاً إنتقلت للعيش مع ابي السكّير .. كما ان رفاقي بالمدرسة إعتادوا التكلّم عن نزهاتهم ايام الآحاد ، الذي أقضيه بالسهر بسبب الموسيقى العالية والضحكات المستفزّة لصديقات والدي اللآتي يحضرهنّ من الملهى يوم عطلته .. لهذا غفوت دائماً صباح الإثنين في المدرسة وحصلت على عقوبات الحجزّ .. عدا عن سخرية اصدقائي وقسوة المعلمين الذين لم يُتعبوا أنفسهم بسؤالي عن سبب إرهاقي المستمرّ!


جاكلين : سببٌ مقنع لكره يوم الأثنين ! لكنك الليلة ستحولينه الى يومٍ سعيد بهروبك من هنا 

بريندا بقلق : أخاف ان يقتلني الحرس

جاكلين : إحتمالٌ وارد

- ماذا تقصدين ؟!

- الم تتساءلي عن تشابه مصيرك بمصير الشاب المضّطرب الذي قتل 5 تلاميذ من مدرسة كليفلاند الإبتدائية وجرح العشرات ؟

جاكلين باستغراب : نفس المدرسة ؟!

- ونفس السلاح 

- لم افهم !

جاكلين : قام شرطي فاسد ببيع سلاح والدك في السوق السوداء ، واشتراه الشاب الذي قام بالجريمة ذاتها 

- يالها من صدفةٍ غريبة !


جاكلين : لا أظنها صدفة .. فكّري بالأمر .. الم تخبريني سابقاً عن الأصوات التي سمعتها في رأسك ايام مراهقتك ، التي حثّتك على ارتكاب الجريمة ؟ 

بريندا بخوف : أتقصدين ان السلاح ملبوس بالجن والعفاريت ؟! 

- والدك الوحيد الذي يستطيع الإجابة ، حين يُعلمك عن المكان الذي اشترى منه السلاح الرخيص كهدية عيد ميلادك 

- والدي توفّى قبل سنوات !

جاكلين : لا يهم ، فالشرطة صادرت السلاح بعد قتلها الشاب الذي تسبّبتِ انتِ وهو في إغلاق المدرسة نهائياً .. (ثم صافحتها قائلةً) على كلٍ سأودّعك الآن ، لأني سأنام قبل هروبك من الزنزانة .. فأنا لا اريد مشاكل مع إدارة السجن .. 


بريندا بقلق : على الأقل ساعديني بفتح قفل الزنزانة !

جاكلين بحزم : عليك الإعتماد على نفسك ، فسيعترض طريقك ابواباً عديدة مُقفلة ، يجب فتحها جميعاً قبل وصولك للساحة .. بالتوفيق لك ، وتصبحين على خير

 

وفي الوقت الذي علا فيه شخير جاكلين العجوز .. كانت بريندا في انتظار لحظة اطفاء الأنوار لبدء مجازفتها الخطيرة ، وهي غارقة بذكريات الماضي : حيث تذكّرت يوم إلقاء القبض عليها في الصيف ما قبل الجريمة ، بسبب إطلاقها النار على الطيور .. كما رفض والدها علاجها النفسيّ ، الذي عاتبها لاحقاً بأنه أهداها البندقية لتطلق منها رصاصة واحدة فقط ! كأنه أراد إفهامها بأن تنتحر لتريحه من همّها ، والتي تعاكس احلامها بأن تُحدث ضجّة إعلامية حول شخصيتها الفريدة !  


وبينما هي غارقة بذكرياتها الكئيبة ، عاد اليها الصوت الذي سمعته ايام مراهقتها ! وهي لرجلٍ مجهول يهمس في أذنها :

((بريندا !! إجعلي الصحافة تتكلّم عنك مجدداً))

بريندا بضيق : لا ! ليس ثانية 


وانضمّت اليه أصواتاً أخرى : كصوت والديها وهما يتشاجران قبل طلاقهما ، والضحكات الماجنة لفتيات الليل اللآتي سهرنّ في منزل ابيها ليلة الأثنين ، وانتقادات معلمّيها لكسلها ونومها المتكرّر في الفصل ، وسخرية زميلاتها .. وصرخات التلاميذ الفزعة اثناء اطلاقها النار عليهم .. كل هذه الأصوات تزاحمت في ذهنها دفعةً واحدة ! 


بريندا بحزن : يا الهي ! كيف نسيت إخبار الحرس بنفاذ دوائي ، فالهلاوس تهاجمني من جديد ، وعقلي يكاد ينفجر !!


وهنا اطفأت انوار الزنزانات..

بريندا : اذاً الآن الساعة 12 ، يعني أصبحنا في ليلة الإثنين

فعادت لتسمع صوت الرجل يقول في ذهنها :

((الإثنين يا بريندا ..اليوم الذي تكرهينه جداً))

- أصمت ايها اللعين !!!

((إستخدمي السلك للهروب من الجحيم ، والحصول على حرّيتك))


وانتظرت بريندا نزول الحارسات الى القسم الإداريّ في الطابق السفليّ للإستراحة ، بعد أنتهاء عملهنّ .. اما الحارستان المسائيتان فانشغلتا بجوالاتهما ، وهما تقفان بعيداً عن زنزانة بريندا التي تحاول للمرة الثالثة فتح القفل (كما علّمتها جاكلين الغارقة في النوم) .. الى أن نجحت أخيراً في فتح الزنزانة .. 


فخرجت بهدوء باتجاه الأدراج التي نزلت عليها حافية القدمين كيّ لا تصدر صوتاً .. ووصلت الى الساحة ، بعد فتحها ثلاثة ابوابٍ أخرى .. وهناك سمعت الصوت الرجوليّ في ذهنها وهو يصرخ بحماس :

((اركضي يا بريندا باتجاه الجدار الخارجيّ .. هيا بسرعة !!!)) 


لكنها تردّدت بعد رؤية الأسلاك الشائكة فوق حائط السجن ..الا ان الصوت طمّأنها :

((لا تخافي ، فدهون بطنك ستحميك من الإصابةٍ خطيرة .. هيا تسلّقي الجدار ، ماذا تنتظرين ؟!))


فحاولت التسلّق ، مُتمسكةً بالأعشاب البريّة النامية على الجدار بسبب الرطوبة .. قبل سماعها صرخة حارس منارة السجن : 

- سجينة تحاول الهرب ، إمسكوها !!


وعلى الفور !! إنطلقت صافرات الإنذار مُتزامنة مع صرخات الحرس الراكضين باتجاهها ، في الوقت الذي كانت تحاول فيه القفز فوق الأسلاك الحادّة التي أصابت يديها وبطنها بجروحٍ عميقة 

بهذه اللحظات ، سمعت صوت والدها يصرخ في ذهنها غاضباً : 

((إنتحري يا غبية !!))


قبل شعورها بحرق الرصاصة تخترق جمسها والتي أسقطتها بقوة على ظهرها ، مُتسببةً بتشوّش رؤيتها بعد تجمّع الحرس حولها !


وسمعت الحارسة تطلب إحضار طبيبة السجن لإسعافها ، قبل صراخها على زميلاتها : 

- إصمتوا جميعاً !! بريندا تقول شيئاً .. (واقتربت منها) ..هيا بريندا انا أسمعك ، ماذا تريدين قوله ؟ 

فقالت بريندا متلعثمة ، والدماء تخرج من فمها : 

- أكره ... يوم .. الإثنين 

ثم لفظت أنفاسها الأخيرة ! 

*****


ملاحظة :

طلب مني الأستاذ (Ayman Alasd) تحويل مقاله (الفتاة التي تكره يوم الإثنين) المنشور في موقع كابوس الى قصة .. أتمنى ان تعجبه وتعجبكم 

رابط المقال : 

https://www.kabbos.com/index.php?darck=9786


السبت، 12 ديسمبر 2020

أسير الجزيرة المهجورة

 تأليف : امل شانوحة

مدينة هاشيما اليابانية


في عام 1974 .. وفي جزيرة هاشيما اليابانية المُلقبة ب(جزيرة السفينة الحربية) المشهورة بمبانيها الخرسانية ، تمّ تهجير جميع سكّانها البالغ عددهم (5259) بعد إغلاق المناجم .. فيما عدا العجوز (تاكاشي) الذي رفض ركوب السفينة ، رغم محاولة جيرانه وحفيده الصغير إقناعه بالذهاب معهم ، رغبةً منه للبقاء بجانب قبر زوجته وابنه الوحيد .. وبعد أن يأسوا منه ، وعده قريبه الإهتمام بحفيده الذي ظلّ يبكي اثناء إبتعاد السفينة عن جزيرة هاشيما ..


ولأن الضابط المكلّف بإخلاء السكّان لم يردّ محاسبة إدارته على تركه العجوز ، فقد كتب في تقريره بأن الجزيرة أُخليت بالكامل .. وبذلك لم تعرف الصحافة والناس بأمر تاكاشي المُحتجزّ في الجزيرة المهجورة والذي لم يكن خائفاً على مصيره لامتلاكه قطعة ارضٍ زراعية ، وادوات صيد السمك .. بالإضافة لخزّان المدينة الكبير المليء بالمياه العذبة التي تكفيه لسنواتٍ عدّة .. لهذا لم يكن قلقاً بشأن الطعام والشراب .. 

***


بحلول المساء ، شعر لأول مرة بوحدةٍ شديدة مع انطفاء جميع انوار الجزيرة ، فيما عدا منزله الصغير الذي أناره بالقناديل بعد إطفاء المسؤول الأمني لطاقة الكهربائية عن الجزيرة 

كما شعر ببرودة الجوّ التي ازدادت بعد تسرّب الهواء من ابواب ونوافذ الشقق المفتوحة .. ولأنه لا يأمن بقصص الجن والأشباح ، غفى سريعاً كعادته فور استلقائه على السرير..

***


في الصباح الباكر .. ذهب الى مزرعته لقطف المحاصيل وإعداد الفطور الذي تناوله قرب البحر وهو شارد بذكريات الماضي .. حيث تذكّر صديقه (آيتارو) الذي شاركه هوايته بصيد السمك ، والذي كان من اوائل المغادرين من الجزيرة 


بعد ساعة ، قرّر ان يقوم بجولةٍ حول الجزيرة .. فذهب اولاً الى حديقة العاب الأطفال ، وركب الأرجوحة والمتزحلقة وهو يتخيّل نفسه يلعب مع حفيده الصغير .. 

ثم دخل العمارة الأولى .. وصعد طوابقها الأربعة لاستكشاف شققها الثمانية الفارغة ، التي لم يعثر فيها الا على بعض الكتب السياسية والتاريخية والملابس البالية 


وقبل عودته منزله ، توجّه الى محطة الكهرباء .. وبعد محاولاتٍ عدة إستطاع إضاءة الشوارع التي خفّفت وحشة الجزيرة مساءً ..

ونام تلك الليلة بعد إنهائه فصلاً من كتابٍ تاريخيّ لجاره 

*** 


وفي اليوم التالي ، قرّر النزول للمنجم المهمل رغم خطورة الأمر .. ونزل بعد إنارة قبّعة عامّلٍ وجدها هناك .. 

وجلس قرب المكان الذي دُفن فيه ابنه حياً ، بعد إرتدام جزءاً من جدار المنجم عليه وعلى اثنين من رفاقه .. وأخذ يدعو لهم بالرحمة 


ثم عاد بصعوبة الى فوق وهو يسحب حبال المصعد اليدويّ بيديه المتعبتين 


وفور وصوله الى السطح ، شعر بوخزٍ مؤلم في قلبه .. 

فمشى بإرهاقٍ شديد نحو مشفى الجزيرة .. وبحث طويلاً في غرفه الفارغة ، الى ان وجد الصيدلية التي مازالت تحوي بعض الأدوية 

 

وتناول دواءً لضغط الدم وهو لا يعرف ان كان منتهي الصلاحية ام لا ، فهو لم يحضر معه نظّارة القراءة 

ونام على السرير الطبّي الوحيد المتروك هناك ، في محاولة لضبط نبضات قلبه المتسارعة .. 

***


إستيقظ تاكاشي في منتصف الليل وسط الظلام الحالك ، فهو لم يحضر قنديله .. وأخذ يتلمّس طريق الخروج بصعوبة ، وهو يشعر بروحٍ مشاكسة تلاحقه وتغلق الأبواب خلفه بقوة .. ولأول مرة في حياته أحسّ بخوفٍ شديد ! 


وتنفّس الصعداء فور خروجه من المشفى المسكون نحو الشارع المضيء بأنوارٍ خافتة ، بعد نسيانه إراحة المولّد الكهربائي في الصباح .. 

ومشى بتعب حتى وصل الى بيته .. تناول طعاماً خفيفاً وعاد للنوم .. فهو لا يحب السهر في الجزيرة التي تزداد رعباً في المساء

***


وهكذا مرّت الأيام ببطءٍ شديد على العجوز الذي اعتاد صيد السمك والإهتمام بمزروعاته ، وزيارة الشقق الفارغة كنوع من التسلية ..الى أن مرّ أصعب يومٍ عليه ، بعد اهتزاز الجزيرة بعنف إثر هزّةٍ أرضيّة مفاجئة! 

فهرب من بيته ، خوفاً من إنهيار سقفه القديم .. ووقف في الشارع في انتظار انتهاء الهزّة التي دامت دقيقتين أحسّهما دهرا ! 


بعد هدوء الوضع .. أخذ ينظر للخراب الذي أحدثه الزلزال الذي يبدو انه فاق 5 درجات ، والذي أدى لانهيار بعض المنازل المتهالكة  


والأسوء ان مزرعته تضرّرت كثيراً .. كما غرق مكانه المفضل قرب البحر ، بعد موجةٍ عنيفة ضربت المكان .. حينها فقط تمنى لوّ انه رحل مع بقية سكّان الجزيرة بدل عناده بالبقاء وحده في مكانٍ كئيبٍ ومهجور ..  

***


وفي احد الأيام .. واثناء صيده السمك بشرودٍ تام ، تفاجأ بصوتٍ يناديه :  

- تاكاشي !! شدّ السنّارة قبل إفلات السمكة


فنظر خلفه ، ليرى صديقه القديم يتجه نحوه ! فناداه بدهشة :

- آيتارو ! متى عدّت ؟ وكيف ؟

- إستأجرت قارباً أوصلني من الجهة الأخرى للجزيرة ، وتوقعت وجودك هنا ..

تاكاشي والدموع في عينيه : إشتقت اليك يا صديقي


واحتضنه بشوقٍ كبير .. ثم جلسا قرب البحر وهما يتذكّران الماضي ويتحدثان بأمورٍ كثيرة .. 

ولاحقاً قاما بشواء السمكة وهما يغنيان اغاني وطنية بحماسٍ وسعادة 

***


في المساء .. أصرّ تاكاشي على مبيت صديقه في منزله ، وان لا يتفارقا ابداً ..ومدّ له فراشاً بطرف الغرفة ، نام عليه آيتارو على الفور 

ورغم شخيره العالي ، الا ان تاكاشي كان سعيداً بعودته وبقائه معه في الجزيرة  

***


ومرّت الأيام .. تساعد الصديقان بكافة امور الحياة : من توفير الطعام والإهتمام بالمنزل المشترك بينهما .. 


الى ان أتى يوم تفاجآ فيه بعودة جارتهم عجوز ..

تاكاشي بدهشة : إيتو !

السيدة : قرّرت العودة الى هنا ، قبل ان ترميني زوجة ابني في دار المسنين 

آيتارو : هل سفينتك أوصلتك ايضاً من الجهة الأخرى للجزيرة كما حصل معي ؟

السيدة : نعم .. وأنا سعيدة برؤيتكما هنا ، فقد خفت ان تكون الجزيرة مهجورة بالكامل .. ولولا إجبار الحكومة بإخلاء منازلنا ، لما تركت المكان ابداً !!

تاكاشي : أهلاً بعودتك سيدة إيتو .. تفضلي ، شاركينا الطعام 

السيدة : الم تكتفيا من اكل السمك المشوي ؟ تعالا وساعداني بحمل الصناديق الى بيتي ، وسأطبخ لكما أكلةً شهيّة 


وبالفعل تناولوا العشاء معاً في منزل تاكاشي الذي أصرّ على بقاءها معهما.. فاختارت إحدى غرفه للمبيت فيها 

وبعد أن أصبح هناك شخصين في منزله ، لم يعد يشعر بوحشة المكان 

***


قضى الثلاثة معاً أشهراً سعيدة بين الضحك والعمل ، قبل عودة بضعة عجائز من السكّان القدامى الى الجزيرة الواحد تلوّ الآخر ..حتى سكنت عمارته من جديد ، بأكثر من عشرين جاراً .. 

***


وفي أحد الأيام .. تطوّع تاكاشي لإصلاح عطلٍ طارئ في المحطة الكهربائية .. واثناء إنشغاله بالعمل ، تفاجأ بصوتٍ أنثويّ مألوف تناديه بقلق : 

- إنتبه ان لا تُصاب بصعقةٍ كهربائية !!


وكاد يسقط من فوق ! لولا إسراع السيدة بإمساك السلّم الذي نزل منه وهو يرتجف ، بعد رؤية زوجته المتوفاة الذي سألها بخوف :

- كيف هذا ؟! جثمانك مدفونٌ بأرضي

فأجابته بابتسامةٍ حنونة : طبيعي ان تلتقي الأرواح فيما بينها

- لم افهم !


وهنا تجمّع سكّان الجزيرة حولهما (20 شخصاً) بوجوههم الشاحبة !

تاكاشي بقلق : ماذا حصل لكم ؟ تبدون كالأموات ! 

آيتارو : هذا لأننا جميعاً ميتون يا صديقي ...(بتردّد) .. وأنت ايضاً

تاكاشي بعصبية : هل جننت ؟!! انا لم أصبّ يوماً بمرضٍ خطير 

زوجته : هل نسيت الأزمة القلبية التي تعرّضت لها في المشفى ؟

تاكاشي : مجرّد وخزٍ في قلبي ، واستيقظت في منتصف الليل ..

فأكمل صديقه بحزن : لتنتحر 

فصرخ تاكاشي : مستحيل ان أفكّر بالإنتحار !! 

زوجته وهي تمسك يده بحنان : اذاً تعال معنا


وأخذوه الى المشفى المهجور ، ليشاهد جثته المتحلّلة مشنوقة في وسط الغرفة .. وعبارةٌ مكتوبة على الجدار المتهدّم بخطّ يده المميز:

(سامحني يا حفيدي العزيز آكيرا ، لم أعد أحتمل العيش وحيداً في هذه الجزيرة اللعينة)


وهنا عادت اليه ذاكرته : وتذكّر ليلتها انه كان مازال يلبس قبعة عامل المنجم ، الذي اضاء مصباحها لكتابة جملته الأخيرة بقلمه .. من بعدها ربط الملاءة في حلقة السقف ، بعد وقوفه على السرير الذي قفز منه منتحراً !

تاكاشي مصدوماً : يا الهي ! ماذا فعلت ؟

زوجته : ليتك ذهبت مع حفيدنا ، بدل نهايتك المأساوية


فسكت قليلاً ، قبل ان يقول : 

- لحظة ! طالما انني روحٌ الآن ، فيمكنني الذهاب اليه ؟

فأجابه صديقه بحزن : نحن بإمكانها الذهاب أينما شئنا ، لأننا متنا بشكلٍ طبيعي .. لكنك انتحرت ، لهذا روحك ستبقى عالقة في الجزيرة.. ولحزننا على مصيرك ، قرّرنا زيارتك .. لكنه حان الوقت لعودتنا الى السماء

تاكاشي باكياً : لا ارجوكم !! لا تتركونني وحدي في هذا المكان الكئيب

الاّ ان الأرواح ودّعته سريعاً ، قبل إنطلاقها الواحد تلوّ الآخر الى السماء 


وقبل ذهاب زوجته ، أمسك بيدها بقوة وهو يترجّاها أن تبقى معه .. فأشارت الى البحر وهي تقول :

- لديك زائرٌ قادمٌ اليك ..


فنظر تاكاشي من نافذة المشفى المكسور نحو البحر ، ليشاهد مجموعة من الشباب ورجلٍ ينزلون من القارب الذي ربطوه بالجزيرة المهجورة.. 

فسأل زوجته باهتمام :

- من هؤلاء ؟!

فأجابته : مغامرون شباب ، قدموا لاستكشاف الجزيرة ..اما الرجل فهو حفيدنا

- هل تمزحين ؟ آكيرا عمره سبع سنوات 

- أصبح الآن 42 سنة

تاكاشي بصدمة : مرّت 35 سنة ! مستحيل !! أنا لم أتمّ سنتي الأولى لوحدي هنا 

زوجته : الموتى لا يشعرون بالوقت .. فنحن الآن في عام 2009 ، وهو العام الذي سمحت فيه الدولة للسوّاح بزيارة الجزيرة التي أُغلقت لثلاثة عقود .. وقد حاول آكيرا في مراهقته إبلاغ الصحافة عنك ، لكن لم يصدقه احد .. لهذا حجز في اول رحلة للجزيرة .. وهو الآن في طريقه الى هنا .. سأتركك مع حفيدك ، الى اللقاء يا عزيزي

تاكاشي صارخاً : ارجوك لا تذهبي !!!!

الاّ أن روحها خرجت من النافذة باتجاه السماء ! 


ورغم حزنه على خسارة اصدقائه ، لكنه متحمّس لرؤية حفيده الذي دخل وحده لاستكشاف المشفى المهجور ، وهو يصوّر غرفها الخالية بكاميرته الصغيرة .. الى ان توقف مذهولاً قرب الهيكل العظمي المشنوق ! وانهار باكياً فور قراءة اسمه على الجدار .. فهو يعلم أن جده هو آخر شخص سكن الجزيرة 


ونادى المغامرين الذين صوّروه وهو يُنزل جثة جده الذي حمله للخارج .. ليقوم بدفنه قرب قبر جدته في الأرض الزراعية التي أصبحت بورا .. 

وجلس يدعو لهما بالرحمة ، بينما تابع الشباب استكشاف الجزيرة ..


اما آكيرا فاكتفى بزيارة منزل جده القديم .. وقام بأخذ نظّارته وبعض اغراضه الشخصية ودفتر مذكراته كتذكارٍ منه ، قبل عودته الى السفينة مع بقية المغامرين للرحيل من الجزيرة قبل غروب الشمس ..


وظلّ تاكاشي يراقب حفيده لحين اختفاء السفينة خلف امواج البحر ، وهو يشعر بالندم والحزن بعد أن علقت روحه في الجزيرة المهجورة للأبد !  


مسابقة الجدارة

تأليف : امل شانوحة منصبٌ رفيع إستوفى خمسة شباب شروط الوظيفة في شركةٍ مرموقة .. واجتمعوا في مكتب المدير العام (أغنى تجّار البلد) الذي قال لهم...