تأليف : امل شانوحة
مدينة هاشيما اليابانية
في عام 1974 .. وفي جزيرة هاشيما اليابانية المُلقبة ب(جزيرة السفينة الحربية) المشهورة بمبانيها الخرسانية ، تمّ تهجير جميع سكّانها البالغ عددهم (5259) بعد إغلاق المناجم .. فيما عدا العجوز (تاكاشي) الذي رفض ركوب السفينة ، رغم محاولة جيرانه وحفيده الصغير إقناعه بالذهاب معهم ، رغبةً منه للبقاء بجانب قبر زوجته وابنه الوحيد .. وبعد أن يأسوا منه ، وعده قريبه الإهتمام بحفيده الذي ظلّ يبكي اثناء إبتعاد السفينة عن جزيرة هاشيما ..
ولأن الضابط المكلّف بإخلاء السكّان لم يردّ محاسبة إدارته على تركه العجوز ، فقد كتب في تقريره بأن الجزيرة أُخليت بالكامل .. وبذلك لم تعرف الصحافة والناس بأمر تاكاشي المُحتجزّ في الجزيرة المهجورة والذي لم يكن خائفاً على مصيره لامتلاكه قطعة ارضٍ زراعية ، وادوات صيد السمك .. بالإضافة لخزّان المدينة الكبير المليء بالمياه العذبة التي تكفيه لسنواتٍ عدّة .. لهذا لم يكن قلقاً بشأن الطعام والشراب ..
***
بحلول المساء ، شعر لأول مرة بوحدةٍ شديدة مع انطفاء جميع انوار الجزيرة ، فيما عدا منزله الصغير الذي أناره بالقناديل بعد إطفاء المسؤول الأمني لطاقة الكهربائية عن الجزيرة
كما شعر ببرودة الجوّ التي ازدادت بعد تسرّب الهواء من ابواب ونوافذ الشقق المفتوحة .. ولأنه لا يأمن بقصص الجن والأشباح ، غفى سريعاً كعادته فور استلقائه على السرير..
***
في الصباح الباكر .. ذهب الى مزرعته لقطف المحاصيل وإعداد الفطور الذي تناوله قرب البحر وهو شارد بذكريات الماضي .. حيث تذكّر صديقه (آيتارو) الذي شاركه هوايته بصيد السمك ، والذي كان من اوائل المغادرين من الجزيرة
بعد ساعة ، قرّر ان يقوم بجولةٍ حول الجزيرة .. فذهب اولاً الى حديقة العاب الأطفال ، وركب الأرجوحة والمتزحلقة وهو يتخيّل نفسه يلعب مع حفيده الصغير ..
ثم دخل العمارة الأولى .. وصعد طوابقها الأربعة لاستكشاف شققها الثمانية الفارغة ، التي لم يعثر فيها الا على بعض الكتب السياسية والتاريخية والملابس البالية
وقبل عودته منزله ، توجّه الى محطة الكهرباء .. وبعد محاولاتٍ عدة إستطاع إضاءة الشوارع التي خفّفت وحشة الجزيرة مساءً ..
ونام تلك الليلة بعد إنهائه فصلاً من كتابٍ تاريخيّ لجاره
***
وفي اليوم التالي ، قرّر النزول للمنجم المهمل رغم خطورة الأمر .. ونزل بعد إنارة قبّعة عامّلٍ وجدها هناك ..
وجلس قرب المكان الذي دُفن فيه ابنه حياً ، بعد إرتدام جزءاً من جدار المنجم عليه وعلى اثنين من رفاقه .. وأخذ يدعو لهم بالرحمة
ثم عاد بصعوبة الى فوق وهو يسحب حبال المصعد اليدويّ بيديه المتعبتين
وفور وصوله الى السطح ، شعر بوخزٍ مؤلم في قلبه ..
فمشى بإرهاقٍ شديد نحو مشفى الجزيرة .. وبحث طويلاً في غرفه الفارغة ، الى ان وجد الصيدلية التي مازالت تحوي بعض الأدوية
وتناول دواءً لضغط الدم وهو لا يعرف ان كان منتهي الصلاحية ام لا ، فهو لم يحضر معه نظّارة القراءة
ونام على السرير الطبّي الوحيد المتروك هناك ، في محاولة لضبط نبضات قلبه المتسارعة ..
***
إستيقظ تاكاشي في منتصف الليل وسط الظلام الحالك ، فهو لم يحضر قنديله .. وأخذ يتلمّس طريق الخروج بصعوبة ، وهو يشعر بروحٍ مشاكسة تلاحقه وتغلق الأبواب خلفه بقوة .. ولأول مرة في حياته أحسّ بخوفٍ شديد !
وتنفّس الصعداء فور خروجه من المشفى المسكون نحو الشارع المضيء بأنوارٍ خافتة ، بعد نسيانه إراحة المولّد الكهربائي في الصباح ..
ومشى بتعب حتى وصل الى بيته .. تناول طعاماً خفيفاً وعاد للنوم .. فهو لا يحب السهر في الجزيرة التي تزداد رعباً في المساء
***
وهكذا مرّت الأيام ببطءٍ شديد على العجوز الذي اعتاد صيد السمك والإهتمام بمزروعاته ، وزيارة الشقق الفارغة كنوع من التسلية ..الى أن مرّ أصعب يومٍ عليه ، بعد اهتزاز الجزيرة بعنف إثر هزّةٍ أرضيّة مفاجئة!
فهرب من بيته ، خوفاً من إنهيار سقفه القديم .. ووقف في الشارع في انتظار انتهاء الهزّة التي دامت دقيقتين أحسّهما دهرا !
بعد هدوء الوضع .. أخذ ينظر للخراب الذي أحدثه الزلزال الذي يبدو انه فاق 5 درجات ، والذي أدى لانهيار بعض المنازل المتهالكة
والأسوء ان مزرعته تضرّرت كثيراً .. كما غرق مكانه المفضل قرب البحر ، بعد موجةٍ عنيفة ضربت المكان .. حينها فقط تمنى لوّ انه رحل مع بقية سكّان الجزيرة بدل عناده بالبقاء وحده في مكانٍ كئيبٍ ومهجور ..
***
وفي احد الأيام .. واثناء صيده السمك بشرودٍ تام ، تفاجأ بصوتٍ يناديه :
- تاكاشي !! شدّ السنّارة قبل إفلات السمكة
فنظر خلفه ، ليرى صديقه القديم يتجه نحوه ! فناداه بدهشة :
- آيتارو ! متى عدّت ؟ وكيف ؟
- إستأجرت قارباً أوصلني من الجهة الأخرى للجزيرة ، وتوقعت وجودك هنا ..
تاكاشي والدموع في عينيه : إشتقت اليك يا صديقي
واحتضنه بشوقٍ كبير .. ثم جلسا قرب البحر وهما يتذكّران الماضي ويتحدثان بأمورٍ كثيرة ..
ولاحقاً قاما بشواء السمكة وهما يغنيان اغاني وطنية بحماسٍ وسعادة
***
في المساء .. أصرّ تاكاشي على مبيت صديقه في منزله ، وان لا يتفارقا ابداً ..ومدّ له فراشاً بطرف الغرفة ، نام عليه آيتارو على الفور
ورغم شخيره العالي ، الا ان تاكاشي كان سعيداً بعودته وبقائه معه في الجزيرة
***
ومرّت الأيام .. تساعد الصديقان بكافة امور الحياة : من توفير الطعام والإهتمام بالمنزل المشترك بينهما ..
الى ان أتى يوم تفاجآ فيه بعودة جارتهم عجوز ..
تاكاشي بدهشة : إيتو !
السيدة : قرّرت العودة الى هنا ، قبل ان ترميني زوجة ابني في دار المسنين
آيتارو : هل سفينتك أوصلتك ايضاً من الجهة الأخرى للجزيرة كما حصل معي ؟
السيدة : نعم .. وأنا سعيدة برؤيتكما هنا ، فقد خفت ان تكون الجزيرة مهجورة بالكامل .. ولولا إجبار الحكومة بإخلاء منازلنا ، لما تركت المكان ابداً !!
تاكاشي : أهلاً بعودتك سيدة إيتو .. تفضلي ، شاركينا الطعام
السيدة : الم تكتفيا من اكل السمك المشوي ؟ تعالا وساعداني بحمل الصناديق الى بيتي ، وسأطبخ لكما أكلةً شهيّة
وبالفعل تناولوا العشاء معاً في منزل تاكاشي الذي أصرّ على بقاءها معهما.. فاختارت إحدى غرفه للمبيت فيها
وبعد أن أصبح هناك شخصين في منزله ، لم يعد يشعر بوحشة المكان
***
قضى الثلاثة معاً أشهراً سعيدة بين الضحك والعمل ، قبل عودة بضعة عجائز من السكّان القدامى الى الجزيرة الواحد تلوّ الآخر ..حتى سكنت عمارته من جديد ، بأكثر من عشرين جاراً ..
***
وفي أحد الأيام .. تطوّع تاكاشي لإصلاح عطلٍ طارئ في المحطة الكهربائية .. واثناء إنشغاله بالعمل ، تفاجأ بصوتٍ أنثويّ مألوف تناديه بقلق :
- إنتبه ان لا تُصاب بصعقةٍ كهربائية !!
وكاد يسقط من فوق ! لولا إسراع السيدة بإمساك السلّم الذي نزل منه وهو يرتجف ، بعد رؤية زوجته المتوفاة الذي سألها بخوف :
- كيف هذا ؟! جثمانك مدفونٌ بأرضي
فأجابته بابتسامةٍ حنونة : طبيعي ان تلتقي الأرواح فيما بينها
- لم افهم !
وهنا تجمّع سكّان الجزيرة حولهما (20 شخصاً) بوجوههم الشاحبة !
تاكاشي بقلق : ماذا حصل لكم ؟ تبدون كالأموات !
آيتارو : هذا لأننا جميعاً ميتون يا صديقي ...(بتردّد) .. وأنت ايضاً
تاكاشي بعصبية : هل جننت ؟!! انا لم أصبّ يوماً بمرضٍ خطير
زوجته : هل نسيت الأزمة القلبية التي تعرّضت لها في المشفى ؟
تاكاشي : مجرّد وخزٍ في قلبي ، واستيقظت في منتصف الليل ..
فأكمل صديقه بحزن : لتنتحر
فصرخ تاكاشي : مستحيل ان أفكّر بالإنتحار !!
زوجته وهي تمسك يده بحنان : اذاً تعال معنا
وأخذوه الى المشفى المهجور ، ليشاهد جثته المتحلّلة مشنوقة في وسط الغرفة .. وعبارةٌ مكتوبة على الجدار المتهدّم بخطّ يده المميز:
(سامحني يا حفيدي العزيز آكيرا ، لم أعد أحتمل العيش وحيداً في هذه الجزيرة اللعينة)
وهنا عادت اليه ذاكرته : وتذكّر ليلتها انه كان مازال يلبس قبعة عامل المنجم ، الذي اضاء مصباحها لكتابة جملته الأخيرة بقلمه .. من بعدها ربط الملاءة في حلقة السقف ، بعد وقوفه على السرير الذي قفز منه منتحراً !
تاكاشي مصدوماً : يا الهي ! ماذا فعلت ؟
زوجته : ليتك ذهبت مع حفيدنا ، بدل نهايتك المأساوية
فسكت قليلاً ، قبل ان يقول :
- لحظة ! طالما انني روحٌ الآن ، فيمكنني الذهاب اليه ؟
فأجابه صديقه بحزن : نحن بإمكانها الذهاب أينما شئنا ، لأننا متنا بشكلٍ طبيعي .. لكنك انتحرت ، لهذا روحك ستبقى عالقة في الجزيرة.. ولحزننا على مصيرك ، قرّرنا زيارتك .. لكنه حان الوقت لعودتنا الى السماء
تاكاشي باكياً : لا ارجوكم !! لا تتركونني وحدي في هذا المكان الكئيب
الاّ ان الأرواح ودّعته سريعاً ، قبل إنطلاقها الواحد تلوّ الآخر الى السماء
وقبل ذهاب زوجته ، أمسك بيدها بقوة وهو يترجّاها أن تبقى معه .. فأشارت الى البحر وهي تقول :
- لديك زائرٌ قادمٌ اليك ..
فنظر تاكاشي من نافذة المشفى المكسور نحو البحر ، ليشاهد مجموعة من الشباب ورجلٍ ينزلون من القارب الذي ربطوه بالجزيرة المهجورة..
فسأل زوجته باهتمام :
- من هؤلاء ؟!
فأجابته : مغامرون شباب ، قدموا لاستكشاف الجزيرة ..اما الرجل فهو حفيدنا
- هل تمزحين ؟ آكيرا عمره سبع سنوات
- أصبح الآن 42 سنة
تاكاشي بصدمة : مرّت 35 سنة ! مستحيل !! أنا لم أتمّ سنتي الأولى لوحدي هنا
زوجته : الموتى لا يشعرون بالوقت .. فنحن الآن في عام 2009 ، وهو العام الذي سمحت فيه الدولة للسوّاح بزيارة الجزيرة التي أُغلقت لثلاثة عقود .. وقد حاول آكيرا في مراهقته إبلاغ الصحافة عنك ، لكن لم يصدقه احد .. لهذا حجز في اول رحلة للجزيرة .. وهو الآن في طريقه الى هنا .. سأتركك مع حفيدك ، الى اللقاء يا عزيزي
تاكاشي صارخاً : ارجوك لا تذهبي !!!!
الاّ أن روحها خرجت من النافذة باتجاه السماء !
ورغم حزنه على خسارة اصدقائه ، لكنه متحمّس لرؤية حفيده الذي دخل وحده لاستكشاف المشفى المهجور ، وهو يصوّر غرفها الخالية بكاميرته الصغيرة .. الى ان توقف مذهولاً قرب الهيكل العظمي المشنوق ! وانهار باكياً فور قراءة اسمه على الجدار .. فهو يعلم أن جده هو آخر شخص سكن الجزيرة
ونادى المغامرين الذين صوّروه وهو يُنزل جثة جده الذي حمله للخارج .. ليقوم بدفنه قرب قبر جدته في الأرض الزراعية التي أصبحت بورا ..
وجلس يدعو لهما بالرحمة ، بينما تابع الشباب استكشاف الجزيرة ..
اما آكيرا فاكتفى بزيارة منزل جده القديم .. وقام بأخذ نظّارته وبعض اغراضه الشخصية ودفتر مذكراته كتذكارٍ منه ، قبل عودته الى السفينة مع بقية المغامرين للرحيل من الجزيرة قبل غروب الشمس ..
وظلّ تاكاشي يراقب حفيده لحين اختفاء السفينة خلف امواج البحر ، وهو يشعر بالندم والحزن بعد أن علقت روحه في الجزيرة المهجورة للأبد !
جميلة جدآ جدآ يا(كنز الابداع )واتمنا لك التوفيق والنجاح الدائم
ردحذفماشاءالله عليها مبدعه بجد
حذفانشاءالله تحقق كل اهدافها واحلامها في الكتابة الأدبية