السبت، 28 ديسمبر 2024

النصيحة المُدمّرة

تأليف : امل شانوحة 

الفرصة الثانية


دخلت العروس الى منزلها الجديد ، وهي تعاتب عريسها :

- لما تصرّفت هكذا بالعرس ؟! لما رفضت الرقص معي ، او التصوير مع عائلتي ؟!

فأجابها بلؤم : لا دخل لك بتصرّفاتي

- حبيبي ، ما خطبك ؟! لم تكن بهذا الجفاء قبل اسبوع !

فقال بحزم : هذه قوانيني الجديدة التي ستُنفّذيها بالحرف الواحد !!

- ما سبب تغيّرك المُفاجىء ؟ هل هي نصيحة اهلك ام اصدقائك؟!

العريس بعصبية : لا احد يُملي عليّ افعالي !! والآن إذهبي وجهّزي نفسك لزوجك

- ليس قبل ان نتفاهم ، فشخصيّتك الجديدة لا تُعجبني !

- هذه شخصيّتي الحقيقيّة 

العروس بخيبة امل : وماذا عن حبنا ايام الجامعة ؟ هل كان إحترامك وحنانك مُجرّد قناعاً مخادعاً للزواج بك ؟!

العريس بلؤم : نعم !! هل لديك مانع ؟

- أهذا يعني وعدك السابق بالعيش بسعادةٍ مُطلقة مُجرّد وهم ؟!

فتأفّف بضيق : يبدو انك تحبين الجدال ، وانا مُتعب من العرس المُملّ .. لهذا انتظريني في السرير ، ريثما أُبدّل ثيابي 

العروس بإصرار : لن ننام بذات الغرفة قبل توضيح سبب تغيّرك لهذه الشخصيّة الغريبة ؟! 

فأجاب بلا مبالاة : حسناً ، كما تشائين


وأخذ وسادة وبطانيّة ، للنوم على اريكة الصالة .. غير آبه بحيرتها وقلقها من تغيّره المُفاجىء !

***


مع مرور الأيام .. إكتشفت إن عناده وجفائه معها ، لم يكن الإختلاف الوحيد بطباعه ، بل صار اكثر عنفاً ولؤماً ! حيث تعمّد معاملتها كخادمة او اسيرة مجبورة على طاعته وإسعاده ، دون استشارتها بأيّ قرارٍ منزليّ او شخصيّ ! 


واستمرّ بهذه التصرّفات لشهورٍ عدّة ، منعها فيها زيارة عائلتها او الخروج من المنزل دون رفقته المزعجة ! وفي حال لم تُنفّذ اوامره ، يستخدم الصمت العقابي لأيامٍ متواصلة الى ان تراضيه ، حتى لوّ كان هو المُخطئ .. فهو لا يعترف بذنبه مُطلقاً ، بحجّة غروره وكبريائه المُصطنع !


وكان املها الأخير بالعودة لطباعه القديمة (كعاشقٍ حنون ، كما أحبّته طوال السنوات الأربع الجامعيّة) هو حملها بطلفهما الأول.. لكن حتى ولادته ، لم تغيّره .. بل زاد بخلاً ، بعد رفضه شراء حاجيّات ابنه .. مما اضطّرها لأخذ الملابس المستعملة من صديقاتها اللآتي لديهنّ اولاد يكبرونه سنّاً .. وهذا أزعجها كثيراً ، كونه ميسور الحال ..لكن هذا لم يهمّه ، فهو نادرٌ ما يحمل طفله او يلاعبه ! 


ولم يكتفي بذلك ، بل كان يؤذي مشاعرها من وقتٍ لآخر : حين يُبدي استغرابه من تصرّفات ابنه التي لا تشبهه ! كأنه يُلّمح على خيانتها ، رغم انها لم تخرج دونه من المنزل الذي اعتاد قفله بعد ذهابه للعمل ، كما حرمها جوّالها او قدوم اهلها وصديقاتها الى بيتها! 


عدا عن نقده الدائم لطبخها ، رغم براعتها فيه ! كما اتهامها بسوء تربيّتها لإبنها او اهتمامها بجمالها لأجله.. وكأنه يريد اخذ كل شيء من العلاقة ، دون المبادرة فيها..

بالإضافة لشجاراته على أتفه الأسباب ، مع شتائمه القذرة التي تخاف ان يحفظها ابنها الصغير ! 

***


الى ان اتى يوم ..عاد فيه من عمله ، ليجد قفل منزله مُحطّماً ! فدخل بحذر ، خوفاً من اقتحام اللصوص .. ليجد رسالة زوجته ، تقول فيها:

((لقد فرغ بئري تماماً ، لم اعد املك الطاقة الإيجابيّة التي تستقوي بها .. ولم يعد بإمكاني اعطائك المزيد من وقتي وجهدي ، والتفانيّ بالإهتمام بمأكلك وملبسك ومنزلك وضيوفك وعزائمك التي لا تنتهي ، وإسرافك على الغريب وبخلك عليّ وعلى ابنك ! وإن كنت تراهن على محبّتي ، فقد قضيّت عليها مع كل شتيمة ونقدٍ مُدمّر وإهمالٍ منك .. سأعود الى وظيفتي التي أجبرتني على تركها ، وسأصرف على ابني .. وعندما يبلغ سن 18 ، سأخيّره البقاء معي او العودة اليك.. الى ذلك الحين ، لا اريد رؤيتك ثانيةً او الإقتراب من الصغير الذي لم تعره اهتماماً منذ ولادته.. أتمنى إرسال ورقة طلاقي بأقرب وقتٍ ممكن .. ولا تقلق ..لا اريد الفراق ، رغبةً بزواجٍ ثاني .. فأنت كرّهتني صنف الرجال جميعاً ! 

ختاماً : لن اقول الى اللقاء ، بل وداعاً لا رجعة فيه)) 


ولأول مرّة ، شعر بخوفٍ شديد .. لدرجة ان اقدامه لم تعد تحمله ! وانهار امام السرير ، وهو مازال لا يصدّق خسارة حبّ حياته .. فهو عشقها منذ ان لمحها لأوّل مرة في الجامعة .. وهو من ألحّ عليها بالزواج ، وهو يعدها بالعيش معاً طول العمر! 


وما ان اشتمّ فستانها (التي تركته على السرير) حتى انهار باكياً ، وهو يتذكّر صديقه الذي نصحه قبل العرس : بالقسّوة عليها ، لكيّ تُصبح خاتماً بإصبعه .. كضمانة لعدم تحوّله الى زوجٍ مطيعٍ وعديم الشخصيّة ، فيصغر بعيون الرجال !

^^^


وفي خَضمّ حزنه بعد انهيار زواجه ، إستفاق وهو يجلس في كوشة عرسه .. وزوجته تسحب ذراعه ، للرقص معها !

(فعلم ان سنوات معاناة حبيبته ، هي لمحة مستقبليّة لفشل زواجهما!)

فتنهّد بارتياح ، وهو يقول لعروسته :

- سنرقص حبيبتي ، لكن عليّ فعل شيءٍ اولاً


ثم نادى صديقه الذي استقبله (العريس) بلكمةٍ قويّة ، أسقطته ارضاً .. وسط دهشة العروس والمعازيم ! 

ثم قال لصديقه المُنصدم :

- أُفضّل ان يناديني الرجال بالخروف او المسحور ، على إفساد زواجي بسبب نصيحتك المدمّرة .. هيا أخرج من عرسي ، يا خرّاب البيوت !!


فخرج صديقه مذهولاً مما حصل ! بينما سارع العريس باحتضان زوجته بعيونٍ دامعة :

- اعدك هذه المرّة ان نحيا حياةً جميلة ، كما تخيّلناها معاً .. ولن أرفض لك طلباً ، او أبخل عليك وأُبكي عينيك الجميلتيّن .. وسنربّي ابننا بحنانٍ ومحبّة.. وعد يا حبيبتي ، ستعيشين معي اجمل سنوات حياتك 


وصار يراقصها بلطفٍ ولباقة.. وهي تبتسم له ، رغم دهشتها والحاضرين مما فعله بصديقه المُقرّب ! 

وبدوره شكر الله على إعطائه فرصة جديدة لتحسين حياته التي ينوي عيشها بسعادةٍ وهناء مع صديقة الدراسة وحبيبته الوحيدة              


الخميس، 26 ديسمبر 2024

الحساب الدنيويّ

تأليف : امل شانوحة 

المحاولة التذكيريّة


في الصباح الباكر .. إستيقظت الصبيّة من نومها ، وهي تشعر بطعمٍ مُزعجٍ في فمها.. وعندما نظرت في مرآة الحمام ، رأته مليئاً بالدماء! 

فأخذت تبصق مِراراً ، ظنّاً بأنه نزيف لثّة .. لكن اتضح انه نزيف من لسانها ! 

فقالت بنفسها بقلق :

((هل عضضّت لساني بقوّة اثناء نومي ؟! مع اني لا ارى شقّاً فيه ! فمن اين تأتي هذه الدماء ؟ ولما لا تتوقف ؟!))

وحشرت المناديل في فمها ، وأسرعت لأقرب مستشفى

^^^


وفور نزولها بجانب الطوارىء .. لاحظت مجموعة من المصابين يعانون من نزيفٍ متواصل ، كحالتها ! لكن اختلفت الأعضاء المُصابة : فبعضهم ينزف من يده ، والآخر من قدميّه .. والبعض من وسطه ! والأخطر من عينيه .. وجميعهم اشتكوا الأمر ذاته : ان النزيف حصل فجأة اثناء نومهم .. وانه لا يتوقف ، رغم عدم تعرّضهم لجروح او حوادث !


لكن الطبيب اعتذر عن مداواتهم ، لأنه يعاني ايضاً من نزيف اصابعه ! مما شكّك الجميع بانتشار مرضٍ مُعدي في مدينتهم الصغيرة ، التي امتلأت عياداتها بالمصابين الذين اوشكوا أن تُصفّى دمائهم التي سالت بالطرقات وفي ممرّات المشافي.. 

والأغرب ان جميع فحوصاتهم المخبريّة والشُعاعيّة تؤكّد خلوّهم من الأمراض او جروحٍ عميقة في اعضائهم التي استمّرت بالنزيف دون توقف! 

وكان اسوء المصابين : هو حاكم المنطقة الذي تمّ تصويره وهو ينزف من كامل جسمه ! 


ولم يفهم المواطنون ما يواجهونه إلاّ بعد سماع صوتٍ رخيم ، جمّدهم في اماكنهم ! حيث سمع كل واحدٍ منهم ، ملاكه (الموجود على كتفه الأيسر) يهمس في اذنه ، بنفس الجمل التالية :

((هذه ذنوبكم !! فمن نزف لسانه : هو إمّا تكلّم بالسوء او شهد زوراً ، او ساهم في نشر النميمة والإشاعات الباطلة.. ومن نزف من عينيه : فقد شاهد مقاطع قذرة في ليلته الماضية.. ومن تنزف يده : فهو حتماً سارق او مُرتشي ، وحتى قاتل .. ومن تنزف قدميه ، فقد ذهب لأماكن مُحرّمة : كالبارات ومحلاّت القمار.. ومن ينزف من اسفل بطنه : فقد أقام علاقةٍ مُحرّمة ، او اعتدى على غيره .. والأطباء الذين نزفوا من اصابعهم : فبسبب قيامهم بعمليّاتٍ جراحيّة لا لزوم لها ، لأجل الكسب الماديّ .. اما من نزف من كل جسمه ، فقد ارتكب جميع تلك الذنوب ، تماماً كما حصل لحاكمكم ..وإن لم تستغفروا حالاً وانتم تتعهّدون ربكم بعدم ارتكاب تلك الذنوب ثانيةً ، سيتصفّى دمائكم بنهاية هذا اليوم ..وتموتون جميعاً !!))


وفجأة ! علا صوت الإستغفار في ارجاء المستشفيات ، تردّد صداها للمنازل والشوارع ..وصولاً للحاكم الذي سجد باكياً ، وهو يعدّ ربه بإقامة العدل بين مواطنيه ومراعاة مصالحهم .. 


وإذّ بالدماء تتوقف تماماً ! حينها سمعوا ملاكهم الآخر (الموجود على كتفهم الأيمن) يهمس لهم : 

((يوم القيامة سيحصل لكم الشيء ذاته .. لكن ليست دماء ، بل ستتعرّقون تحت الشمس الحارقة ، حسب ذنوبكم .. فالبعض عرقه سيُغطّي قدميه .. والبعض الآخر سيصل الى وسطه.. بينما الآخرون سيغرقون بعرقهم ، كنوع من الفضيحة امام الملأ .. وما حصل اليوم هو مجرّد تحذير لما ينتظركم بالآخرة ، فلا تكرّروا ذنوبكم!!))

^^^


وعقب انتهاء الأزمة المرضيّة .. عاد الجميع الى بيوتهم للإستحمام وتغيّر ملابسهم المُلطّخة بالدماء بعد شفائهم التام .. لينهار بعضهم باكياً ، ندماً على إنحرافه السابق .. بينما سارع الآخرون الى دوّر العبادة ، لبدء صفحة جديدة ونظيفة في حياته .. لكن الأكثريّة اكتفى بالنوم تلك الليلة .. ليعود في اليوم التالي لمزاولة الذنوب ذاتها ، كلاً حسب عمله ! فالمحامي : عاد للكذب لمصلحة موكّله المُذنب ، لغاية ربحه القضيّة والكسب المادي .. والتاجر : إستمرّ بالغشّ في بضاعته .. والنساء إستمرّين بالنميمة ونشر الإشاعات المسيئة بسمعة بعضهنّ .. والحاكم تخلّى عن قراره بإغلاق السجون السياسيّة ! بل اعطى اوامر لحرّاسه : بعقاب كل شخص يتكلّم ساخراً ، عمّا حصل له البارحة .. مع إقفال المحطّات التي عرضت صورته المُدمّاة وانهياره بالبكاء ، اثناء ذهابه بالمروحيّة لأفخم مستشفى بالعاصمة !


وهنا علِمَ ملاك اليمين والشمال انه لا فائدة من تحذير البشر ، فكلاً سيُحاسب بذنبه يوم القيامة ! قائلين لبعضهما بيأسٍ وحسرة :

- الآن فهمت لما سيرفض الله إعطاء فرصة ثانية لأهل جهنم للعودة للدنيا والقيام بالعمل الصالح  

- لأنه من الصعب تغيّر الطباع التي نشأوا عليها ..ولوّ عادوا للحياة ، لارتكبوا الأخطاء ذاتها !

- حقاً لجهنم اهلها ، وللجنة ناسها 

- على الأقل قمنا بمحاولة أخيرة لتنبيهم قبل حلول أجلهم ، لكن دون فائدة ! 

- بالنهاية الهداية بيد الله .. ثم لا تنسى الشياطين وزعيمهم ابليس الذي لن يهدأ باله قبل رميّ آخر فرد من ذريّة آدم ، ليحترق معه بالنار !

- ليس امامنا الآن سوى العودة الى عملنا 

- سهلٌ عليك قول هذا ، فمن النادر قيامهم بعملٍ صالح .. بينما أمضي نهاري وليلي كلّه ، بتدوين ذنوبهم التي لا تنتهي

- بأيّ صفحة أصبحت ؟ انا مازلت بمقدمّة كتابي

- هذا عاشر مُجلّد لهذا الشاب ، وهو مازال بمقتبل العمر !

- حقاً هناك شياطين بشريين !

- اراك لاحقاً ، فالشاب فتح الإنترنت على مواقع قذرة مجدداً ! عليّ تدوين ذلك بالحال

- اعانك الله على عملك الصعب


وهذا الحوار تكرّر بين ملكيّ اليمين والشمال للعديد من البشر الذين لم يتعظوا من المحاولة الملائكة التحذيريّة لما ينتظرهم بالآخرة من عقابٍ شديد ، والذي سيمتدّ الى ابد الآبدين !


الثلاثاء، 24 ديسمبر 2024

القرار العادل

تأليف : امل شانوحة 

مكتب المحاماة


بعد اسبوع .. عاد المدير من مهمّته الخارجية الى شركة المحاماة التي يملكها ، ليلاحظ استهزاء موظفيه من محاميةٍ (خمسينيّة) معروفة بنجاح مرافعاتها طوال العشر سنوات التي عملتها في مكتبه ! بينما انتبه على بكائها المستمر ، وشتائمها وعصبيتها ضدّ أحد الموظفين كلما مرّ بجانب مكتبها ! كما سمعها تُدنّدن اغنيةً حزينة لوحدها في مكتبها في فترة الغداء ، بعد رفضها النزول لكافتيريا الموظفين .. 


فسأل سكرتيرته عنها ، فأخبرته : أن الموظف (الستيني) سيء السمعة ، قام باستغلال عنوستها.. ومن بعدها طردها من منزله ، بعد شهور طويلة من علاقته المزيّفة بها.. ويبدو ان غدره بها ، أفقدها رشدها بعد أن عدّته أملها الأخير بالزواج!


فسأل المدير عن موقف بقيّة الموظفين منها ، فأجابت السكرتيرة :

- لم يهتموا لمصابها ، بل عدّوها رخيصة لقبول دعوته الى منزله 


فتضايق المدير مما حصل ! وانتظر انتهاء الدوام ، لمناداة موظفيه لإجتماعٍ طارىء..

***


وفي مكتبه .. جلست الموظفة مُنزويّة عن زملائها ، وهي تستمع لمديرها يعاتبهم قائلاً : 

- كيف سأثقّ باهتمامكم بقضايا الموكّلين ، طالما لم تكترثوا لمصيبة زميلتكم ؟! حتى لم تتنازلوا لسماع لشكواها او المطالبة بحقوقها ، رغم أخلاقها الحميدة وتفانيها بالعمل لسنوات .. بل الأسوء انكم ساهمتم بنشر الإشاعات المسيئة عنها ، مع علمكم بسوء طباع زميلكم المخادع ؟! 


فتضايق ذلك الموظف من شتمه علناً ! بينما حاول احد الموظفين تبرير موقفه :

- سيدي هي ليست صغيرة ليُغرّر بها ، بل ذهبت طواعيةً الى منزله مساءً ! وكان عليها توقع ما حصل ..

فوقفت باكية : هو وعدني بالزواج مِراراً .. وطلب مني القدوم لرؤية منزلنا المستقبليّ .. لم أتوقع تخلّيه عني ، بعد خضوعي له ! 

المدير : ومالذي حصل تلك الليلة ؟

فمسحت دموعها ، بقهر : 

- كنت سعيدة بأول تجربة عاطفيّة لي ، وصرت أغني له هذه الأغنية


وبدأت تُنشد اغنية اجنبية بصوتٍ عذبٍ وجميل .. بينما حاول الموظفون مسك انفسهم من الضحك ، لظنهم أنها فقدت عقلها تماماً .. لكنهم تفاجأوا بالمدير يُصفّق لها ، بعد انتهائها من الغناء ! مما أجبرهم على التصفيق لها ايضاً.. بينما اكتفى حبيبها المخادع بنظرات الإشمئزاز والتعالي!

المدير : احسنتِ !! صوتك جميلٌ للغاية

فقالت بابتسامةٍ حزينة : كنت المُغنية الأساسية في المدرسة والحفلات الجامعيّة

المدير : وكيف كانت ردّة فعله على غنائك ؟ 

فنظرت الى حبيبها بحنق : رمى عليّ الوسادة ، وشتمني لأني أزعجته .. وطلب مني مغادرة منزله ، وأخبرني بعدم رغبته رؤيتي مجدّداً .. مما صدمني للغاية ! لدرجة محاولتي الإصطدام بشاحنة ، بنيّة الإنتحار .. لولا تغير رأيّ باللحظة الأخيرة .. لكن مازالت فكرة الإنتحار تراودني حتى اليوم ، بعد ان فقدت تركيزي بالعمل الذي كنت بارعة فيه .. فاللعين أخسرني احترامي لنفسي ، ورغبتي للحياة


المدير معاتباً : ماذا عنكم ايها المحاميين ؟ ما رأيكم القانوني لوّ كانت زميلتكم هي موكّلتكم الجديدة ؟

احدهم : عليه دفع تعويض مادي لإضراره بعملها

محامي آخر : وتعويض معنوي على تشويه سمعتها بيننا

المدير : هذا صحيح .. وانا أضيف عقوبة الطرد من شركتي

فوقف المخادع دون اكتراث : لا يهم ، فخبرتي تؤهلني للعمل بأيّ مكتب محاماة بالبلد

المدير بحزم : على فكرة !! تعويض نهاية الخدمة سأحوّله على حسابها ، كتعويض عن الضرر الذي ألحقته بها

المخادع بلا مبالاة : لديّ ما يكفي من المال ، لا حاجة لرواتبك الزهيدة


وقبل خروجه من قاعة الإجتماع ، أوقفه المدير مُهدّداً :

- سأعيّن من يراقبك على الدوام.. وفي حال وصلتني شكوى بتحرّشك بأمرأةٍ اخرى .. احلف انني سأرافع ضدّك ، لزجّك بالسجن !! وانت تعرف براعتي جيداً ، وكيف تسبّبت باعتقال كبار الفاسدين .. لذا خُذّ إنذاري محمل الجدّ !!


فخرج مُتأفّفاً لحزم اغراضه ، والخروج مذلولاً من الشركة.. في الوقت الذي كان فيه المدير يتابع كلامه مع بقيّة موظفيه في القاعة :

- اما انتم !! إن عرفت بتحدّثكم سوءاً عن زميلتكم او التقليل من شأنها ، فسأخصم من رواتبكم .. والآن انتهى الدوام ، اراكم غداً 

فخرجوا مصدومين من موقفه الجادّ ضدّهم !

^^^


وبعد ذهابهم .. ربت على كتفها ، لتهدئتها قائلاً :  

- ما كان عليك التقليل من شأنك ، والذهاب لمنزل عديم الشرف

فقالت بقهر : إنخدعت بغزله اللطيف .. أعرف اني لست صغيرة بالسن ، لكنه عرف كيف يوقعني في شباكه !  

المدير : ليكن درساً لك بالحياة

- بل هو أقسى الدروس

- سأمنحك اجازة شهر مدفوعة الأجر ، إستريحي قليلاً قبل عودتك الينا..

مقاطعة : شكراً سيدي على كل شيء ، لكني لا استطيع مواجهة زملائي بعد هذه الفضيحة ..لذا رجاءً إقبل استقالتي


ففكّر قليلاً ، قبل ان يقول : 

- حسناً .. بعد إنهاء اجازتك ، ارسلك الى صديقي القاضي ..فهو يريد مساعدة ذكية له .. وسأرسل معك شهادة تقدير على جهدك بقضايا مكتبي طوال السنوات الماضية 

- لا ادري كيف اشكرك !

المدير : هذا حقك ، فأنت نجحتي بجميع المهام التي أوكلتك بها سابقاً.. لكن رجاءً خذي حذرك من ذلك اللعين ، خوفاً من انتقامه منك 

- سأعود لقريتي لبعض الوقت ، لإراحة اعصابي ..ثم انتقل للعمل عند صديقك .. وأعدك بأن تفخر بإنجازاتي لديه  


وسلّمت عليه .. وخرجت من الشركة وهي تتنفّس الصعداء بعد استرداد حقها المغصوب طوال الأسبوع الماضي ، بسبب حكمة وفطنة مديرها العادل !


الأحد، 22 ديسمبر 2024

القناع المُزيّف

تأليف : امل شانوحة 

الكرت المُحترق


سلّم رئيس لجنة حفظة القرآن الميداليّة الذهبيّة ، للصبيّة العشرينيّة (مريم) بعد فوزها على بقيّة المشتركات..


وبعد انتهاء الحفل ، سألها :

- ماذا ستفعلين الآن ؟

مريم : سأذهب للفندق ، عليّ السفر غداً صباحاً

الشيخ (السبعيني) : هل أتيتِ وحدك الى بلدنا ؟

- نعم ، فأفراد عائلتي مشغولين بأعمالهم

- طالما لا شيء تفعلينه لبقيّة النهار ، ما رأيك لوّ تأتي الى مجلسي ؟ سأعدّ عشاءً للمشتركين بالمسابقة .. واريد مُنشدة اساسيّة للحفل ، بدل تلك التي انسحبت باللحظة الأخيرة ! هل تحفظين بعض الأناشيد الدينيّة ؟

مريم بخجل : فقط المشهورة منها

^^^


وأخذها بسيارته ، وهو يستمع للأناشيد التي تتقنها..

الشيخ : ما شاء الله ! صوتك جميلٌ فعلاً


وعندما دخل من بوّابة قصرٍ فخم ، سألته بدهشة :

- أهذا منزلك ؟!

الشيخ : لا طبعاً ، هو تابع لدار الفتوى


ونزل من سيارته باتجاه المجلس (المتواجد في ساحة قصره) وفيه ثلاثة رجال يلبسون أطقماً رسميّة فخمة .. فتوجّه الشيخ نحوهم ، للسلام عليهم .. بينما مشت مريم بحياء في ارجاء الحديقة ، وهي تشاهد بعض الفتيات ينظفنّ المكان .. الى أن اقتربت احداهنّ منها ، وهي تتلفّت بخوف :

- أهربي بسرعة قبل وقوعك بالفخّ ، كما حصل معنا

ثم ابتعدت سريعاً ، بعد أن لمحت رجل الأمن يقترب منهما !


بعدها بقليل .. إقتربت فتاةٌ اخرى وبيدها المكنسة ، وهي تحدّثها الإنجليزيّة:

- الجهلاء لا يفهمون اللغة الأجنبيّة .. إهربي قبل ان يبعيك اللعين للرجل الثريّ


وهنا انتبهت مريم الى نظرات الإغراء من أحد الرجال الثلاثة الذي يبدو وكأنه يساوم الشيخ على سعرٍ ما .. وعلى الفور ، شعرت بالخطر الوشيك!


وأرادت الخروج من القصر ، إلاّ أنها وجدت حارسيّن مُسلّحيّن بجانب البوّابة ! 

وهنا ناداها الشيخ من بعيد : 

- أخت مريم !! تعالي الى هنا .. اريد ان أُعرّفك ببعض الشخصيّات المهمّة بالبلد

مريم بارتباك : أشعر بالدوّار ، سأغسل وجهي اولاً 


وتوجّهت نحو دوّرة مياهٍ تابعة لمنزل الحارس (في الحديقة) الذي قال لها : 

- حمامي ليس نظيفاً ، يمكنك الذهاب لغرفة الضيوف بالقصر !

مريم : اريد فقط غسل وجهي ، لن اتأخّر


ودخلت وهي ترتعش بقوّة .. ثم نظرت من فتحة باب الحمام ، لتجد حارس الأمن ينتظرها بالخارج .. فتأكّدت شكوكها من وجود شيءٍ مُريب بالقصر!


وأسرعت الى نافذة الحمام التي تطلّ على الشارع الخارجيّ.. لتجد عامل البلديّة  مشغولاً بدهن الرصيف..

فحاولت لفت نظره ، برميّ الصابون والفرشاة عليه .. الى ان التفت نحوها .. ليجدها تشير اليه بيدها ، دون رفع صوتها .. 

فاقترب منها ، وهو يسألها باستغراب :

- ماذا هناك يا آنسة ؟!

مريم بصوتٍ منخفض : رجاءً أنقذني ، فأنا مُختطفة بالقصر


في البداية ، لم يصدّقها ! الى ان سمع صراخها ، بعد اقتحام الحارس الحمام (عقب تأخّرها هناك)..

فأسرع العامل بسحبها من النافذة ، بينما الحارس يشدّها من قدمها..


وما ان اصبحت بالشارع ، حتى تفاجأت بمقتل العامل برصاصة في رأسه (من مسدس الحارس) .. فعلمت ان الأمر خطيرٌ فعلاً ، وعليها الهرب بأسرع ما يمكنها باتجاه الشارع العام .. 


وهناك أوقفت اول سيارة أجرة ، وهي تقول للسائق برعبٍ شديد :

- رجاءً خدني لفندق العاصمة !!


وفي الطريق اتصلت بالشرطة ، وأخبرتهم بعنوان القصر وما يحدث داخله

^^^


في هذا الوقت .. علم الشيخ بفضحيته بعد هرب ضحيّته الجديدة ! فسارع بإخراج ضيوفه الأثرياء من القصر (الذي كان ينوي بيع العذراء المُتديّنة لهم).. 

ثم أطلق سراح الفتيات المُختطفات عنده منذ سنوات ، بعد تهديدهنّ بالقتل ان فضحوا سرّه ! 


وقبل إطلاقه النساء المُحتجزات بقبوّ قصره (كعقاب على مقاومتهنّ العنيفة له ولضيوفه ، او بسبب حملهنّ بالشهور الأخيرة) ألقت الشرطة القبض عليه

***


وفي الوقت التي وصلت فيه مريم الى بلدها سالمة ، كان الإعلام ينشر فضائح الشيخ الذي اعتدى على الفاتنات الصغيرات من حلقات التحفيظ ، او المشتركات بمسابقات دينيّة اللآتي قدمنّ لبلده دون عوائلهنّ.. حيث تكفّلت الدولة بإعادتهنّ الى اهاليهم بعد سنوات من اختطافهنّ !

***


وفي مركز الشرطة .. تفاجأ الشيخ بوجود طبيب يُحضّر حقنة بغرفة التحقيق ! 

الشيخ بقلق : ماذا يحدث ؟!

المحقّق : لقد تواصلت مع الماسون قبل قليل ، وأخبروني انهم رفضوا طلبك بإنقاذك من هذه الورطة .. لأنك تماديّت بعملك ، مُفسداً قناعك الدينيّ .. لهذا يخيّروك بين أمريّن : إمّا أخذ حقنة السمّ ، او الموت بالضرب المُبرح داخل سجنك ؟


الشيخ بفزع : لكني نفّذت جميع طلباتهم ، وأتقنت دوّر رجل الدين .. وأصدرت العديد من الفتاوي الخاطئة ، وبعت الكثير من النساء الشريفات للأثرياء .. أهذا جزائي على تفانيّ بالعمل ؟!!

المحقق : لقد احترقت ورقتك ، يا زميلي .. فماذا تختار ؟

فأجاب وهو يرتعش رعباً : الحقنة طبعاً

^^^


وبعد موته .. طلب المحقّق من حارسه : دفنه بمكانٍ مجهول ، بعيداً عن الإعلام وأهالي المُختطفات الذين استقبلوا بناتهم بالدموع .. بينما البعض فضّل قتلها مع ابنها الغير شرعيّ ، لعدم تحمّله فكرة تحوّل ابنته المُتديّنة الطاهرة ، لسلعةٍ رخيصة بأيدي الذئاب البشريّة عديمي الرحمة والإنسانيّة!


********

ملاحظة :  

انا لا أفضّل الكتابة السيئة ضدّ رجال الدين .. لكن تفاصيل هذه القصة (منذ بدايتها حتى نهايتها) كانت حلماً شاهدته البارحة ، وكان واقعياً لدرجة أحسّست بأنه حصل فعلاً بإحدى البلاد العربيّة ! ولوّ كنت أتقن الرسم ، لرسمت شكل الشيخ والصبيّة مريم 


فمنذ وقتٍ قريب ، قُبض على شيخ بتهمة التحرّش بطالباته .. كما سمعنا كثيراً عمّا يحصل من اعتداءات داخل الكنائس ! 

ويبدو أن هناك بعض الماسون إختاروا التخفّي بيننا ، تحت قناع المشايخ او الرهبان الذين تسبّبت خطاباتهم الثوريّة (المُتفق عليها سابقاً مع الحكومة) بسجن العديد من الشباب الصالح الثائر !

لكن طبعاً هذه الأمور تُعتبر استثناءً ، ولا يمكن تعميمها على جميع رجال الدين .. 


ومع ذلك يبقى الحرص واجباً : ومن الأفضل عدم ترك بناتنا معهم لوحدهنّ ، بحجّة حفظ كتاب الله .. فالشيطان يستغلّ الخلوّة ، لبثّ افكاره القذرة .. 

كما لا أحبّذ سفر النساء وحدهنّ دون محرم ، فهناك الكثير من الماكرين حول العالم .. لهذا القصة للتحذير فقط ، وليس استخفافاً بالدين او إنقاص من قيمة المشايخ.. حفظ الله بناتنا من كل شرّ !


الجمعة، 20 ديسمبر 2024

طبّاخة الرئيس

تأليف : امل شانوحة 

العقوبة المُحيّرة !


في القصر الجمهوري ، دخلت الخادمة الى المطبخ فزعة : 

- هل سمعتي ما حصل ؟!

الطبّاخة (الستينيّة) : ماذا هناك ؟

- الرئيس وعائلته يستعدّون للهرب للخارج !

- أهذا يعني سقوط النظام ؟!

- نعم .. وسيعلن الثوّار النصر ، فور وصولهم الى هنا

فتنهّدت الطبّاخة بارتياح : ممتاز !! وأخيراً سنحصل على حرّيتنا

الخادمة بخوف : وماذا لوّ عدّنا الثوّار خوّنة ، وأعدمونا ؟! 

- ولماذا يفعلون ذلك ؟! فكلانا أُجبرنا على خدمة سكّان القصر !

- لا احد يعرف حقيقية عملنا الجبريّ سوى المتواجدين هنا ، وهم ايضاً يستعدّون للهرب فور خروج الرئيس وعائلته من القصر 

الطبّاخة : تقصدين الحرس ؟

- وبقيّة الخدم وطبيب الرئيس ومصفّفة الشعر والمعالج الفيزيائيّ والبستانيّ والمربيّة .. وبرأيّ ان نهرب قبل إعدامنا بتهمة خيانة الوطن  


فسارعت الطبّاخة العجوز بحزم حقيبتها الصغيرة للخروج من القصر ، بعد توجّه الرئيس وعائلته الى مطاره السرّي

^^^


وفور دخول منزلها (الذي لم تره منذ عشرين سنة) صلّت ركعتيّن شكر لله ، بعد أن مُنعت من اداء الشعائر الدينيّة طوال وجودها القسريّ بالقصر !

***


لم تمضي ايام .. حتى وصلها تهديد من اهالي المُعتقلين ، بمحاكمتها على خدمتها للحاكم الظالم ! ولأن عائلتها تخلّت عنها بعد انتقالها للقصر ، لم يكن امامها سوى الإستعانة بإبنة الجيران لنشر فيديو على الإنترنت (من خلال الجوّال الذي لا تعلم طريقة استخدامه) قالت فيه :

((قبل عشرين سنة ، كنت أملك مطعماً مشهوراً للأكلات الشعبيّة .. وذات يوم طلب مني الضابط إرسال الطعام للقصر الجمهوريّ ، فرفضت أمره .. وفي اليوم التالي ، أخرجني الحرس مع عمّالي من المطعم الذين قاموا بحرقه ! ثم أذاعوا بين الناس : انه احترق بفعل ماسٍّ كهربائيّ ، وهدّدوا عمّالي بالسجن إن اخبروا الحقيقة .. ثم ارسلوني جبراً للقصر ، لخدمة العائلة الحاكمة دون راتب .. فأجرتي كانت طعامي وسكني فقط ! وحرموني رؤية اولادي الذين تبرّأوا مني .. والآن بعد تحرير سجني ، عُدّت الى بيتي ..لأفاجأ برسالة تهديد بقتلي ! انا مظلومة ، تماماً كأبنائكم المُعتقلين ..فقد عشت كل يوم في القصر بقلقٍ دائم مع كل طبخة أعدّدتها ، خوفاً من إلاّ تُعجب ذوّق الرئيس وزوجته التي كانت تُجبرني على إعداد وجباتٍ خاصّة تناسب حميّتها الغذائيّة ، عدا عن إطعام حيواناتهم الأليفة ! ولأني لا اعرف مصيري بعد التحرير ، سأخبركم ببعض اسرار القصر التي عرفتها اثناء تواجدي هناك..))


وأطلعت الثوّار على سردابٍ سرّي اسفل القصر ، فيه جثث السياسيّن والمعارضين المهمّين بالبلد.. وايضاً المخزن المليء بالمخدّرات والآثار المسروقة من الدولة.. كما فضحت العلاقات السرّية للحاكم .. وبنهاية الفيديو : إعتذرت من الشعب على خدمتها الرئيس المخلوع طوال عشرين سنة الماضية ، طالبةً السماح لها بعيش ما تبقّى من حياتها بسلام

^^^


وانتشر الفيديو سريعاً بين الناس ، مع تعاطف الكثيرين معها .. إلاّ انه لم تمضي ايام على انتشاره ، حتى وجدوا جثتها مذبوحة في شقتها ! مع رسالة ورقيّة بجانبها : 

((ابني مات جوعاً بسجون النظام ، وانت تُطعمين اللعين ألذّ الطبخات والحلويات ! انت لا تستحقين الرحمة))


فعرفوا أن قاتلتها : هي والدة احد المُعتقلين المتوفيين بالسجون.. وبذلك تحقّقت المقوّلة : ((اكبر عدوّ للمرأة ..هو المرأة) ! 

***


وانتم ما رأيكم ؟ هل من العدل مُعاقبة خدم الرئيس المخلوع وإعدامهم جميعاً ، كما حصل بالثوّرة الفرنسيّة القديمة .. ام مسامحتهم على خدمتهم الجبريّة للحاكم الظالم؟!


الخميس، 19 ديسمبر 2024

الرحلة العلاجيّة

تأليف : امل شانوحة 

 

الغيمة السوداء


بعد فشل أشهر طبيبٍ نفسيّ بعلاج اربعة مرضى من الأثرياء (شاب ورجل ، وأمرأة وصبيّة) لديهم عُقد مستعصيّة من ماضيهم .. قرّر أخذهم برحلة طائرةٍ خفيفة يتقن قيادتها بعطله السنويّة .. لتشجيعهم على التحدّث معاً عن مشاكلهم ، اثناء تحليقهم بالطقس الربيعي الدافىء


لكن اثناء وجودهم بالجوّ ، ظهرت غيمةٌ سوداء من العدم ! فحاول الطبيب (الطيّار) تفاديها بشتّى الطرق .. لكن طائرته مرّت فيها ، كأن مغناطيساً سحبها للداخل !


وبعد خروجهم من الغيمة الرعديّة (التي عطّلت التحكّم بالمحرّك ، واطفات الأنوار  والجوّالات .. وسط صراخ الركّاب العالقين بالطائرة المظلمة) خرجوا أخيراً للنور.. ليتفاجأوا باختفاء الطيّار !

احدهم بقلق : اين الطبيب ؟! هل سقط من الطائرة ؟!


ودبّ الذعر فيهم ، بعد هبوط الطائرة بسرعة باتجاه البحر ! فحاول الراكب (الذي كان بجانب الطيّار) الإمساك بالمقوّد ورفعه للأعلى .. لكن الطائرة استمرّت بالهبوط ، الى ان سقطوا جميعاً بالبحر !

^^^


لم يكن إختفاء الطبيب هو الشيء الصادم الوحيد بهذه الرحلة ، بل استيقاظ المرضى الأربعة وسط جزيرةٍ صغيرة ، دون إبتلال ملابسهم .. مما اربكهم جميعاً ، خصوصاً بعد اختفاء الطائرة الخفيفة!


الشاب : ماذا حصل ؟! وكيف وصلنا الى هنا ؟!

الصبيّة : أهو حلم ؟

الشاب : وهل سنشاهد جميعنا الحلم ذاته ؟!

الرجل : المهم اننا سالمين .. دعونا نبحث بالجزيرة عن مكانٍ يأوينا في المساء

المرأة : ولا تنسوا إشعال النار ، كيّ ترانا فرق الإنقاذ

الصبيّة بضيق : والدي لن يسكت عن هذه المهزلة ، وسيسجّن الطبيب على مجازفته بحياتنا بمغامرته المجنونة .. فأبي محامي محترف ، وسيرفع دعوى قضائيّة على شركة الطيران لتسليمنا طائرة مُعطّلة

المرأة غاضبة : وانا مذيعةٌ مشهورة ، وسأفضحه بالإعلام ..


الرجل مقاطعاً بعصبية : وكأننا نعلم مصير الطبيب الذي تريدان مقاضاته ! ثم هذه جزيرةٌ نائية ، ولن تهمّنا عائلاتكم الراقية او ثروّاتكم الضخمة .. دعونا نجمع اوراق الشجر لإشعالها ، فالبرودة ستزداد حتماً في المساء  

المرأة : توقعت سخريّتك من ثرائنا ، فأنت حسب كلام الطبيب من حديثي النعمة 

الرجل باشمئزاز : يمكنني إسكاتك ، لكني لا استطيع تميّز معالم وجهك من عمليات التشويه في..

المرأة مقاطعة بعصبية : عمليات التجميل كلّفتني اكثر مما تملكه شركتك البسيطة

الشاب : رجاءً اهدآ !! ودعونا نتأقلم مع بعضنا ، الى أن نخرج من هذه الأزمة


وكان صعباً التفاهم بينهم ، فالشاب والمرأة والصبيّة مُتغطرسين ومُدللّين من عائلاتهم الثريّة ، لهذا قام الرجل (حديث النعمة) بمعظم العمل .. الى ان تجمّعوا مساءً حول النار التي أشعلها بولّاعته ، لتناول السمكة الكبيرة التي اصطادها وحده 

الصبيّة بضيق : السمكة لا نكهة لها من دون الملح والبهارات والحامض

الرجل بتهكّم : لم تذكري الصوصّ والمشروب الغازيّ ! ..(بصوتٍ عالي) ..أنظري حولك !! نحن في مكانٍ مجهول ، ولم تمرّ سفينةٌ واحدة منذ الصباح

المرأة : كلّه بسب الطبيب المتهوّر !! لما أخذنا برحلةٍ طويلة دون إطلاعنا على التفاصيل ؟!

الشاب : اساساً اين هو الآن ! ولما اختفى فور خروجنا من الغيمة السوداء؟!


الرجل : أتركونا من هذا الحديث ، فقد أمضينا النهار كلّه بتحليل ما حصل دون فائدة .. ما رأيكم لوّ نتكلّم عن مشاكلنا التي جعلتنا نذهب لنفس الطبيب المشهور ؟ 

فتنّهدت الصبيّة بحزن : انا اعاني من رهاب الطعام بسبب امي التي عاقبتني كلما زاد وزني عن وزن العارضات ، وتُجبرني على رجيمٍ قاسي ..لأننا سيدات مجتمع ، وعلينا المحافظة على اجسامنا .. وهذا أرهقني نفسيّاً لعشقي للطعام ، مما اضّطرني احياناً لسرقة الأطباق من ثلّاجتنا اثناء نومها

الشاب : لكنك تناولتِ الطعام بشهيّة هذه المرّة ! 

الصبيّة بصدمة : آه صحيح ! ولم أحسب السعرات الحراريّة ، كما أفعل دائماً منذ سن المراهقة..هذا غريبٌ فعلاً !


المرأة : لا تقلقي عزيزتي ، لن تسمني من ربع سمكة .. اما انا ، فمشكلتي هي الوسّوسة بالنظافة ..فوالدي اعتاد معاقبتي على توسيخي زيّ المدرسة .. فهو كان رئيس الخدم لرجلٍ سياسيّ قام بتوريثه امواله بعد وفاته ، لأنه عقيم .. ورغم ان والدي انتقل لإدارة شركة المرحوم إلاّ انه مازال صارماً بشأن النظاقة والترتيب ، ويعاملني كأحد الخدم المُشرف عليهم ! وبسبب اهتمامه بأدقّ التفاصيل ، استقال العديد من موظفيه 

الصبيّة باستغراب : أمازال حيّاً الى الآن ؟

المرأة : هو تجاوز السبعين .. ورغم بلوغي سن الأربعين إلاّ انه يعاملني كمراهقة غير ناضجة ، مع اني ناجحة بعملي كمذيعة 

الشاب : طالما لديك المال ، فاستأجري شقة لك 

المرأة : ابي كبير في السن ، ويرفض وجود الممرّضات في بيته .. لهذا اضطّر البقاء معه 

الرجل : قلت انك تخافين الوساخة .. لكنك تجلسين الآن فوق تراب الشاطئ ، وتتناولين الطعام بيديك دون الإكتراث لهذا الموضوع !

المرأة بدهشة : وهي المرّة الأولى التي أجرأ على فعل ذلك ! (ثم لعقت أصابعها) ..الآن تأكّدت ان تناول الطعام باليدين يجعله أكثر لذّة ، كما كانت تقول جدتي .. لا تدرون كم صعباً على طفلة تناول طعامها دون تلويث فمها ، عدا عن خوفي من الإختيار الخاطئ للملعقة المناسبة للطعام ! .. وانت ماهي مشكلتك ؟


الشاب : كرهت جميع النساء اللآتي تقرّبن مني ، طمعاً بثروّة والدي .. وكأني نكرة من دونه ! مع اني معيدٌ جامعيّ .. وكلّه بسبب اختيار اهلي الخاطئ لخطيباتي السابقات من طبقتنا الإجتماعية ، لأتفاجأ بأن جميعهن طمّاعات وسيئات السمعة .. لهذا قرّرت البقاء أعزباً .. لكن والدايّ يصرّان على تزويجي ، كوني الوريث الوحيد لهما .. لهذا ارسلاني لنفس طبيبكم 

الصبيّة : لكنك تكلّمت معي منذ الصباح دون شعوري بنفورك من النساء ، كما تدّعي ! 

الشاب : بالفعل ! حتى انني منجذبٌ اليك دون ارادةٍ مني

فابتسمت الصبيّة بخجل ..


المرأة : ماذا عنك يا حديث النعمة ؟

الرجل بعصبية : أمازلتم تتحدثون معي باستعلاء ، رغم توفيري الطعام لكم هذه الليلة ! يالكم من اولاد مُدلّلين ، وعديمي المسؤوليّة ..

المرأة مقاطعة : يبدو ان مشكلتك هي العصبية الزائدة 

فتنهّد الرجل بضيق : بل الإنطوائيّة .. فأنا أتجنّب الناس رغم نجاحي بالعمل ، بسبب صدماتي المتكرّرة بالمحيطين بي ! فبعد نجاحي بالبورصة ، أصرّ اهلي على مساعدة اقاربي الفقراء .. لكن معظمهم سرقوني ونشروا الشائعات القذرة عني ، التي أضرّت بعملي ! ومن يومها قرّرت تجاهلهم ، وعدم الإكتراث لمشاكلهم .. ليس فقط الأقارب ، بل بعدي عن جميع الناس  

المرأة : لكنك قمت بمعظم الأعمال على الجزيرة : حفرت كلمة (HELP) على الشاطئ ، لكيّ تراها طائرات الإنقاذ .. وجمعت اوراق الشجر التي أوقدتها بنفسك لتدفأتنا .. بالإضافة لصنع رمح من غصنٍ طويل ، لاصطياد السمكة الكبيرة التي أشبعتنا هذه الليلة .. فكيف تدّعي عدم اكتراثك بمن حولك ؟! 


الصبيّة : يبدو ان جميع مشاكلنا حُلّت على الجزيرة ! 

الشاب : صحيح ! وكأنه مكانٌ سحريّ لفكّ العقد النفسيّة

الرجل : سنعرف صحّة هذا الكلام في الأيام التالية

وناموا تلك الليلة ، وهم يحاولون حلّ لغز الجزيرة الغامضة ! 

***


وبمرور الأيام .. إختفت معظم عقدهم ومشاكلهم مع تكرار الأعمال اليوميّة على الجزيرة : كتوفير مياه الشرب من الأمطار المتقطّعة ، وصيد السمك وقطف الثمار البرّية ..وبناء خيمة من الأغصان واوراق الشجر للإحتماء فيها .. ومهمّة إيقاد النار بعد نفاذ وقود الولّاعة .. 

عدا أن الشاب الذي يكره النساء ، تعمّقت علاقته بالصبيّة التي لاحظت إختفاء مشكلتها مع الطعام .. وصارت تأكل كل ما تجده في الجزيرة من فواكة وزهور ، وجميع انواع السمك دون اعتراض 


بينما المرأة : فلم تعد تكترث كثيراً للنظافة والترتيب ، بل اصبحت تتصرّف بعفويّة مطلقة.. خاصة بعد تعلّقها بالرجل (حديث النعمة) بسبب خبرته الواسعة بالحياة (قبل بناء ثروّته) .. وهو أعجب بمدحها لعصاميّته ، واهتمامه بأصدقائه على الجزيرة .. 


وبذلك تكوّنت علاقتان جميلتان بين الناجين الأربعة الذين لم يعودوا يحسبون الوقت ، كما فعلوا بأيامهم الأولى على الجزيرة

***


وذات يوم ..إستيقظوا على صوت الطبيب وهو يسألهم :

- هل فقدتم الوعيّ جميعاً ، خوفاً من الغيمة الرعديّة ؟! 

فنظروا لبعضهم بدهشة ، بعد ان وجدوا أنفسهم داخل الطائرة الخفيفة!

فنظر الرجل بساعته الذهبيّة ، وهو يقول بصدمة :

- مرّت دقيقتان فقط !

الطبيب : نعم ، مرّرنا بسلام من الغيمة السوداء

الصبيّة : لكننا عشنا على الجزيرة قرابة شهر !

الشاب : تحديداً شهر وثلاثة ايام !  

الطبيب : عن أيّةِ جزيرة تتحدثون ؟!


فالتفت الرجل حديث النعمة (الذي يجلس بجانب الطبيب الطيّار) للشباب الثلاثة في المقعد الخلفي ، بنظرة تعني : كتمان السرّ .. 

فالتزم الجميع الصمت ، فهم لا يريدون من الطبيب إخبار اهاليهم بانتكاسة حالتهم النفسيّة بعد الرحلة الجويّة 


الطبيب : لما انتم صامتون هكذا ؟! الن تخبروني عن تلك الجزيرة ؟

الرجل : رجاءً أعدنا الى مدرّج الطيران

الطبيب : لكن رحلتنا لم تنتهي بعد ، علينا التحدّث سويّاً عن عقدكم النفسيّة

المرأة : لا داعي لذلك ، فقد حُلّت جميع مشاكلنا 

الطبيب باستغراب : ومن حلّها ؟

الصبيّة : الغيمة السوداء


وابتسموا بارتياح بعد إيجاد نصيبهم على تلك الجزيرة ، الذين سيكملون حياتهم معهم بعيداً عن عائلاتهم التي تسبّبت بعقدهم النفسيّة ..تاركين الطيّار بصدمة بعد قرارهم الجماعي بترك العلاج في عيادته ، دون إخباره : بأن الغيمة السوداء نقلت ارواحهم الى جزيرةٍ سحريّة تمكّنت من فكّ جميع عقدهم النفسيّة التي عجز عن علاجها لشهورٍ طويلة .. بينما تعاهد الشباب الأربعة على إكمال حياتهم بعقليّةٍ سليمة ونسيان ماضيهم الأليم ، وكلّهم امل بمستقبلٍ مليء بالمحبّة والسلام !


الثلاثاء، 17 ديسمبر 2024

سجن صيدنايا

تأليف : امل شانوحة 

السجين البطل 


ما ان رأت الأم فيديو السجين (فاقد الذاكرة) بالمستشفى ، حتى طلبت من ابنها الآخر إيصالها الى هناك .. فرغم تغيّر شكل ابنها البكر إلاّ انها عرفته على الفور ..حيث صوّرها الإعلام وهي تصفّق مع رقصات السجين الذي فقد عقله من أثر التعذيب بسجن صيدنايا ! رافضةً إقتراح الطبيب بأخذه لمشفى المعاقين للإهتمام به ، قائلةً بإصرار :

- حُرمت منه عشرين سنة ، سأخدمه بعيوني حتى آخر نفسٍ لي


ونقلته الى منزلها .. لتجد ابنتها أعدّت مائدة كبيرة ، بأشهى المأكولات التي يحبها .. لكنه خاف من تذوّقها ! 

وما ان رأى صحن البصل حتى سارع بأكل ثلاثة منها ، كونه الطعام الوحيد الذي تناوله طوال فترة إعتقاله الطويلة ، الى أن نسيّ عقله مذاق الأطباق الأخرى !


وفي المساء .. رفض إغلاق باب الغرفة ، او اطفاء النور.. فنامت امه بجانبه وهي تحضنه كطفلٍ صغير (رغم بلوغه الأربعين) وهي تغني انشودة نوم الأطفال ، وسط حزن الأخويّن على ضياع عقله !

***


بعد شهر.. قرّر الأخ الصغير مناداة طبيبٍ نفسيّ لمعاينته في المنزل ، والذي حاول لساعات إعادة ذاكرة السجين دون فائدة .. فاقترح أخذه لسجن صيدنايا الذي أصبح مزاراً للسوّاح ..ورغم خوف الأم من انتكاسة ابنها إلاّ ان الأخويّن أقنعاها بأنه من الأفضل مواجهة خوفه ..

***


عندما وصل السجين مع الطبيب وأخيه للسجن ، نزلت دموعه بعد تذكّره بعض المقاطع المرعبة : كالشاب الذي رفع اصبعه للتشهّد اثناء استلقائه على الأرض الباردة ..فشاهده الحارس الذي كسر اصبعه بالعصا ، لمعرفته انه يصلّي ! حيث مُنعوا من الصلاة في فترة إعتقالهم ، والتي أدّوها بعيونهم فقط ! كما أجبروهم على الإفطار طوال رمضان


وعندما وصل لمكتب التحقيق ، صرخ لأوّل مرة منذ تسريحه :

- لا !! .. الكلب لا !!

فأمسك الأخ يده : اهدأ رجاءً ..لم يعد هناك كلاب بالمعتقل ، فقد قتلناها جميعاً بعد ان أصبحت وحشيّة

فأشار السجين الى ذراعه المُصابة ، قائلاً بحزن :

- أكلت قطعةً مني

فقبّل اخوه ذراعه ، وهو يقول :

- لعنة الله عليهم !!

فسأله الطبيب :

- طالما استعدّت نطقك ، فهل تتذكّر السجّان الذي عذّبك ؟

السجين : عزرائيل

الأخ : هذا اللعين ذكره جميع المعتقلين ، لكننا لم نعرف هويّته حتى الآن !

فإذّ بالسجين يقول إسماً ثلاثيّاً ..

الأخ بصدمة : لمن هذا الإسم ؟!

السجين : عزرائيل


فنظر الطبيب والأخ منصدميّن ، لأن قادة الثوّار يبحثون عنه في كل مكان دون العثور عليه .. فلا احد من المسجونين يعرف اسمه ، فهو عذّبهم وهو يلبس قناعاً صوفيّاً حتى في فصل الصيف ! مانعاً بقيّة السجّانين والحرس من مناداته بإسمه الحقيقيّ ، كما لم يعثروا على سجلّه في مكتب المعتقل كبقيّة السجّانين الذين تمّ شنقهم جماعيّاً !

- اخي ، هل انت متأكّد بأن هذا هو اسمه ؟! 

السجين : نعم ..فالطبّاخ الذي دخل مكتبه ، لتقديم وجبته .. ناداه بإسمه الحقيقيّ ، مما اغضب عزرائيل الذي قتله على الفور .. رغم انني حينها كنت أمثّل دوّر الميت.. وبعدها نادى الحارس لرميّ جثتي بغرفة الملح

الأخ : وهذه الغرفة ايضاً ، لم نعثر عليها.. هل تذكر اين هي ؟

فأشار بيده للأمام :

- هي بآخر هذا الممرّ


وتوجّها حيث أشار ، ليجدا حائطاً إسمنتيّاً !

الطبيب : لا يوجد شيءٌ هنا


فقام السجين بفتح القابس الكهربائيّ بالحائط ، ليظهر خلفه مفتاح ! ما أن اداره ، حتى ارتفع الباب الإسمنتيّ الى فوق .. وعلى الفور !! فاحت رائحة الجثث المُتحلّلة داخل الأكياس البلاستيكيّة المكدّسة فوق بعضها.. وكل واحدة عليها اسم القتيل !

وأخبرهم ان الشيء الذي انقذه من الموت ، هو ارتباك الحارس بعد سماعه تكبيرات المجاهدين تقترب من المعتقل .. فأعاد إغلاق غرفة الملح ، وهرب .. بينما اختبأ هو في إحدى الزوايا المظلمة ، لحين اقتحام الثوّار السجن وإنقاذه


فأعاد الأخ إغلاق الباب من جديد ، هامساً للطبيب :

- لن نخبر احداً بهذا الإكتشاف ، قبل اتصالنا بقادة الثوّار لمسك اللعين عزرائيل اولاً !! 

^^^


وبالفعل قبضوا عليه وهو يحاول الهرب من الحدود البرّية .. حيث اعترف بجرائمه بعد التحقيق معه لثلاث ايامٍ متواصلة : وقيامه بإحراق ملفّه من سجّلات الجنود بالمعتقل ، فور سماعه بانتصارات المجاهدين واقترابهم من سجن صيدنايا .. وأخبرهم ان القلّة من الحرس يعرفون اسمه الحقيقي ، او حتى شكله الذي يخفيه طوال وجوده بالمعتقل !

***


واحتشد الشعب في ساحة العاصمة لرؤية شنق عزرائيل ، كونه المسؤول عن مقتل آلاف المساجين بأسوء طرق التعذيب .. وذلك بحضور المعتقلين السابقين وأهاليهم الذين كبّروا الله فور شنقه !


ثم قام المسؤولون بإخراج آلاف القتلى المشوّهين من غرفة الملح ، والإتصال بالأهالي لمعاينة الجثث .. وبعدها أقيمت جنازة جماهيريّة ، بصلاةٍ جماعيّة على ارواح الشهداء بعد دفنهم معاً في مقبرة العاصمة.. 


ثم حمل الشعب السجين على الأكتاف لاكتشافه مكان الجثث المفقودة ، ولإراحته قلوب الكثيرين بعد شنق اسوء السجّانين بالبلد .. وهو يصفّق بغباء دون فهمه ما حصل ! بينما أمه ترقص مع الجماهير ، وهي فخورة بإبنها المجاهد البطل الذي كان له دوّر في تغيير بلاده لمستقبلٍ أفضل !


السبت، 14 ديسمبر 2024

إنتقام المعتقل

تأليف : امل شانوحة 

 

جدران الزنزانة 


بعيونٍ دامعة شاهد بالإنترنت اخاه الأكبر وهو يزحف خارج زنّزانته المُنفردة بعد إطلاق سراح المساجين ، عقب نجاح ثوّرة الشعب .. 

وحاول الإتصال بعائلة اخيه لزيارته بعد ٢٠ سنة من إعتقاله في سجون التعذيب ، لكن الزوجة والإبن الكبير رفضا استقبال العم الذي كان السبب في سجنه ظلماً !


وتوقع العمّ ردة فعلهما العنيفة ، بسبب غلطته التي لا تُغتفر بحقّ اخيه الكبير ..وجلس يستذكر الماضي عندما أغضبته وصيّة والده الذي سجّل الأرض بإسم أخيه فقط ! فرفع قضيّة ضدّه ، بتهمة سرقة نصيبه من الميراث .. 

لكن لسوء الحظّ ، إشتبه المحقّق بأنه احد اعضاء الثوّرة ! ورغم إصراره بعدم المشاركة بأيّةِ مظاهرة ، الا انهم نقلوه لمعتقل التعذيب..


وبسب ذلك ماتت امهما قهراً .. بينما حاول الأخ الصغير التكفير عن ذنبه بالعمل الجادّ بالأرض (التي أصبحت له بعد سجن اخيه الوحيد) للصرف على عائلته ، بسبب إحساسه بالذنب اتجاههم .. 


لكن فور بلوغ ابن اخيه الكبير سن18 ، رفض اخذ المال من العم .. وصار يصرف على عائلته من عمله بورشة السيارات ، بعد ترك دراسته .. لهذا يكره عمّه الذي تسبّب بإعاقة والده بعد قيام النظام بقطع قدميه ، بالإضافة لفقدانه النطق من اثر التعذيب !

***


وفي تلك الليلة .. اعاد العم فيديو اقتحام المُعتقل مِراراً ، الى ان انتبه لكلامٍ كتبه أخوه على جدران زنزانته المُنفردة ! 

فقرّب الصورة .. ليجد اسماء ستة سجّانين ، والوسيلة التي استخدموها في تعذيبه !

فقال بقهر :

- أعدك بالإنتقام منهم قريباً ، يا اخي العزيز

***


بعد شهر على فوز الثوّرة بالحكم ..قدِمَ رجل الى منزل الأخ الكبير ومعه شريط فيديو ، مع ملاحظة تقول :

((رجاءً شاهد الفيديو لوحدك ، لأن فيه مناظر مرعبة))


لكن الإبن البكر أصرّ على مشاهدة الفيديو مع ابيه المشلول ..

وفي بداية الفيديو : ظهر العم وهو يذكر اسماء السجّانين ! 

فانتفض الأخ الكبير بعد سماع اسمائهم من جديد ..

فأمسك الإبن يده ، بقلق : 

- ابي ان كنت لا تريد مشاهدة الفيديو ، أشاهده وحدي وأخبرك بمحتواه 


فهزّ الأب رأسه رافضاً .. مع استغراب الإبن من معرفة العمّ لأسماء السجّانين الذين لم يعرفهم قادة الثوّار بعد ! 

وتابع عرض الشريط ، ليسمع عمه يقول :

- كنت رأيت اسماء الملاعين محفورة في زنزانتك ، ضمن مشاهد تحريرك ..وقرّرت معاقبتهم بنفس ادوات التعذيب التي استخدموها معك .. وتطلّب الأمر شهراً حتى وجدتهم ، بمساعدة صديقي (موظّف الجوازات) الذي امسك احدهم هارباً عبر الحدود.. ثم قمت بتخديرهم وإحضارهم تِباعاً الى قبوّ منزلي .. والآن سأدعك تشاهد تعذيب الملاعين ، لإراحة نفسك المتعبة .. فعلى حسب القائمة التي كتبتها في زنزانتك : قام السجّان الأول بقلع اظافرك.. وهذا ما سأفعله به الآن


وبصعوبةٍ بالغة شاهد الإبن تعذيب العم للسجّان البدين الذي كان يتلوّى فوق كرسيه الحديديّ المُقيّد فيه بالأصفاد ، بصرخاتٍ مكبوتة اسفل الشريط الّلاصق على فمه 


وبعد الإنتهاء من قلع اظافر يديه وقدميه ، أطلق النار على رأسه من مسدسه .. وكان صعباً على الإبن رؤية ما مرّ به والده من تعذيب ، لكنه استمرّ بالمشاهدة لمساندة ابيه .. ليرى العم يقترب من الكاميرا ، بعد تلطّخ ملابسه بالدماء وهو يقول: 

- اعرف انه لم يقتلك ، لكني انتقمت لجميع المساجين الذين عذّبهم دون رحمة .. والآن لننتقل للسجّان الآخر


وكان مُقيّداً بجانب القتيل الأول ، والذي لوّث ملابسه رعباً !

ثم قال العم : اخي .. انت ذكرت باللائحة انه صعقك كهربائيّاً خلال التحقيق الثاني معك .. وهذا ما سأفعله به. .

وبدأ بصعقه مِراراً ، قبل إطلاق النار عليه ! 


العم : والآن دوّر السجّان الثالث الذي اعتدى عليك اكثر من مرة .. لكني حتماً لن ألمس هذا القذر .. لهذا سأستخدم عصا البيسبول ..وسأكون رحيماً معه 

وسكب الزيت على العصا .. 

فلاحظ الإبن الإبتسامة الحزينة لوالده الأخرس !


وبعدها قام العم بقتل السجّان الضخم ، وهو يقول : 

- حسناً ، دوّر الرابع الذي قطع رجلك اليمنى


وأخرج منشاراً من خزانته ، وبدأ ببتر رجل السجّان الذي كان ينتفض في مقعده المقيّد به .. ثم أطلق النار عليه .. وكذلك فعل بالسجّان الخامس الذي قطع رجل اخيه اليسرى ، بعد شهرين من فقدانه الرجل اليمنى !


العم : والآن يا اخي ، بقيّ السجّان الأخير .. لكنك لم تكتب ما فعله بك ! يبدو انك كنت متعباً لدرجة عدم تذكّرك جريمته .. لهذا سأعذّبه حتى الموت

وصار يضربه بعصا البيسبول على رأسه حتى قتله !


ثم اقترب العم من الكاميرا ، ووجهه وملابسه مُلطّخة بدماء السجّانين الستة:

- اعلم يا اخي انه مهما فعلت لن أعوّضك عن سجن ٢٠ سنة ظلماً ، بسبب طمعي بالأرض ! ولوّ علمت ما ستواجهه بسببي ، لأصبحت عبداً لك طوال حياتي .. (ثم مسح الدماء عن وجهه).. ستجد مُرفقاً مع الشريط ، اوراق تنازلي عن الأرض لإبنك البكر .. 


ووضع رصاصة واحدة بمسدسه ، وهو يتابع كلامه بقهر : 

- اما انا !! فلست قويّاً مثلك لأتحمّل تعذيب المُحقّقين الملاعين.. سامحني يا اخي ..وأتمنى ان تسامحني امي ايضاً.. سيأتي صديقي بعد قليل لتسلميك الفيديو ، بعد قيامه بدفني بعيداً عن قبور الأنجاس الستة.. الوداع يا اخي العزيز

ووضع المسدس في فمه ..


وهنا نطق الأخ المُعاق لأوّل مرّة منذ سنوات ، بفزعٍ شديد :

- لا تفعل !!

الا انه شاهد مع ابنه انتحار اخيه الصغير !


فحضنه الإبن بعد سماع صوت ابيه من جديد ، وهو يقول بحزنٍ شديد :

- اخي حبيبي .. انت عندي اغلى من كنوز الأرض ..

وانهار مع ابنه ببكاءٍ مرير !


الجمعة، 13 ديسمبر 2024

المختار

تأليف : امل شانوحة 

مسابقة سلّم النجاح 


تجمّع الشباب المُتحمسين (بأطقهم الرسميّة وعطورهم الفوّاحة) امام الحافلات الحمراء التي لا تظهر في ساحة المدينة سوى مرّة كل عشرين سنة ، لنقل الشباب الناجحين والموهوبين الى سلّم النجاح الذي ينزل من السماء ، بنفس توقيت ظهور الحافلات بأبواقها المميزة .. حيث يُسمح لأفراد مُعينين (مذكورين بلوائح محدّدة) بصعود الحافلات باتجاه السلّم الطويل الذي يصل نحو القمّة المُضيئة ، ممّن لديهم قواسم مشتركة : كالطموح والجهد المتواصل والأمل بالمستقبل والرغبة بمساعدة الآخرين..


وكان جيم احد المذكورين بالّلائحة مما اسعده كثيراً ، لأنه يطمح لهذه المسابقة منذ كتابة قصته الأولى التي نالت إعجاب المحيطين به !

^^^


وفي الطريق .. تناقش الشباب داخل الحافلات الثلاثة ، إنجازاتهم وخططهم المستقبليّة ..فيما عدا جيم الذي نظر من النافذة بحماس ، في انتظار رؤية السلّم الذي سمع عنه طوال حياته .. فالقلّة من المشاهير استطاعوا الوصول الى قمّته المُضيئة المليئة بالنعم والخيرات الإلهيّة !

^^^


وعندما وصلت الحافلات .. وقف الشباب مذهولين امام السلّم بدرجاته الملوّنة التي تصل للسماء .. فالنور الساطع فوق القمّة ، لا يُظهر نهاية السلّم الذي يحوي مئات الدرجات !


بينما وقف بجانب الدرجة الأولى ، حارسٌ ضخم بعضلاته المفتولة وهو يحمل لائحة بأسمائهم .. فاصطفّ الشباب في طابورٍ طويل بانتظار سماع اسمائهم..

 

وبالفعل بدأ كل شاب بصعود الأدراج فور مناداته..

لكن كلما وصل الدوّر لجيم ، أوقفه الحارس وهو يطلب منه العودة لآخر الطابور دون فهمه السبب ! 

^^^


ومرّ الوقت وهو ينظر لبقيّة الشباب الذين سبقوه بعشرات بل مئات الدرجات للأعلى ، وهو مازال في مكانه ! 

وبدأ حماسه يقلّ ، كلما أوقفه الحارس وأعاده للخلف دون ذكره الأسباب ! الى أن تفاجأ جيم بصعود زميليّه قبله ، رغم تفوّقه عليهما ! فكتاباتهما لم تتعدّى ٢٠ قصة ، مع إلتزامهما بنوعٍ محدّد من المواضيع .. بينما قصصه تجاوزت ٨٠٠ ، وبمواضيع متنوّعة ! 

***


ومع مرور الوقت .. شعر جيم باليأس وهو يتوهّم أن الإشتراك بالمسابقة متوقفاً على الواسطة والحظّ ، وأن بوّابة النجاح والشهرة غير مُقدّرتان له! 

فرمى جاكيته بغضب ، مُتوجهاً نحو الحافلة وهو ينوي ترك موهبته التي جاهد فيها منذ مراهقته ! 


لكن قبل صعوده الحافلة والدموع في عينيّه (لعلمه بأنه سيخيّب امل والديّه الّلذين ينتظرا نبأ نجاحه ، كما وعدهما دائماً) شعر بشيءٍ قاسي يربت على كتفه ! 

فالتفتّ .. ليجد عصا الحارس الطويلة موجّهة نحوه ، وهو يطالبه بالإقتراب منه .. بعد صعود جميع الشباب قبله !

الحارس منادياً : هيا تعال !! جاء دوّرك


فردّ جيم بضيق : لم اعد اريد !! فأنت سمحت لمن هو أقل موهبةً مني بالصعود قبلي .. وحتى لوّ صعدت الآن ، لن أسبق التسعين متسابقاً .. فقد تجاوزوني بعشرات الدرجات

فقال الحارس جملةً غريبة :

- السهم لا ينطلق بقوّة إلاّ اذا شدّدت وتر القوس لأقصى نقطة للوراء 


واقترب من جيم وهو يشير نحو القمّة ، قائلاً بابتسامة :

- هيا انطلق يا بطل !! 


ثم دفعه من ظهره نحو الدرجة الأولى ، التي ما ان اضاءت تحت قدميّه حتى عاد حماسه من جديد ! 

فشمّر اكمام قميصه ، مُنطلقاً بأقصى سرعته الى فوق .. وهو يستذكر كل التعليقات الساخرة من أقرانه وأقاربه الذين وصفوه بالفاشل ، لتضيّع وقته بموهبته بدل إيجاده وظيفةً اداريّة.. وتذكّر سنوات جهده ليلاً نهارا ، لنشر أفضل القصص.. كما الصداع وآلام عينيه والأرق الدائم التي عانى منها خلال عصر دماغه كل يومين ، لإخراج فكرةٍ جديدة مُبتكرة !


وصار يُشجّع نفسه ، مُتجاهلاً آلام ركبتيّه اثناء صعوده الدرجات الكثيرة : 

((انا استحقّ النجاح ، فقد عملت جاهداً لهذا اليوم .. ومن حقّ أهلي وأقاربي أن يفخروا بي .. وقريباً سيعلم العالم من اكون))

^^^


وفي طريقه الى فوق .. تفاجأ بأن معظم الشباب توقفوا عن الصعود ، بعد شعورهم بالتعب والإحباط من طول المسافة للقمّة .. حتى ان منهم غفى على جانب الدرج ! ومنهم من تسلّى بجوّاله .. بينما زميليّه يتسامران على درجتيّن متتاليتيّن ، ليتوقفا عن الحديث بعد رؤيتهما جيم يتجاوزهما بسرعة وهو مازال يملك النشاط لمتابعة الصعود للأعلى !


وبعد تعدّيه جميع الشباب الذين وقفوا مذهولين (كلاً فوق درجته التي وصل اليها) وهم ينظرون اليه ينطلق دون هوادة الى فوق ، ليصل الى مكانة لم يصل اليها احد منذ وقتٍ طويل ! بدأوا يهتفون له لمتابعة المسير ، ويصفّقون لتشجيعه وهم فخورين بإنجازه الفريد من نوعه ! 

مما اعطاه القوّة لتجاهل تعبه وإرهاقه ، وهو يفكّر بمستقبله وبتطوير مجتمعه.. الى ان وصل للدرجات الأخيرة من السلّم ، وهو يتأمّل ظهور الخيرات في حياته وبفخر والديّه ، وانتقامه من الحاقدين الذين حاولوا تدميره طوال السنوات الماضية .. 


وجاهد نفسه لمتابعة الصعود ، الى ان وصل للقمّة اخيراً .. فوقف لاهثاً وهو يرفع يديّه نحو الشمس التي ركّزت شعاعها الذهبيّ عليه ، مع علوّ التصفيق والصفير من الشباب اسفل منه .. وصل صداها للمدينة ، مُتزامنة مع صوت المُفرقعات التي أشعلها حارس السلّم ، إعلاناً بوصول احد الشباب للقمّة ، والذي لم يصل اليها احد منذ سنواتٍ طويلة ! مما اسعد اهالي المدينة .. حيث تمنّت كل عائلة ان يُذاع اسم ابنها ، كالفائز بهذه المسابقة الشاقّة

^^^


وفي الوقت الذي كان جيم في قمّة فرحه .. نظر الحارس بلائحة الأسماء التي يحملها ، والمذكور فيها اسم جيم على رأس القائمة : كالشخص المُختار لهذا العام !

وتمّتم قائلاً :

((كلما زادت الصعوبات والإحباطات بحياتك ، كلما كنت الشخص المُختار))

ثم ابتسم لجيم (الذي يقفز فرحاً فوق القمّة) باعتزازٍ وفخر !


الأربعاء، 11 ديسمبر 2024

طفل الزنزانة

كتابة : امل شانوحة 

 

القصة المُبكيّة


هزّ الحارس الصحفي (الستيني) النائم بقدمه ، داخل زنزانته الإنفراديّة في المعتقل السياسي : 

- هاى انت !! إستيقظ

الصحفي بنعاسٍ وخوف : ماذا هناك ؟!

- كيف نمت مع بكاء الولد المزعج في الزنزانة المجاورة ؟!

- لأني مُتعب من التعذيب.. لما يبكي هكذا ؟!

الحارس بابتسامةٍ ماكرة : لأن امه غائبة عن الوعيّ بعد عودتها من مهجع الضبّاط ، وفهمك كفاية

- وماذا تريد مني ؟!

- اريد النوم قبل بدء نوبتي المسائيّة الطويلة.. وأحلف إن لم يسكت اللعين خلال عشر دقائق ، سأفرّغ المسدس في رأسه !! فصداعي يكفيني  

الصحفي : وكيف سأهدّئ الصغير ؟!

- ألست كاتباً ؟ إخبره قصة تُشغله عن امه

- حسناً سأحاول

***


وأخذه للمُنفردة المجاورة التي نُقلت اليها الأم (والذي انضمّ اليها الصغير لاحقاً) عقاباً على مقاومتها الضبّاط ! 

وهناك وجد الصحفي ام الصبيّ مُتكوّرة على نفسها بالزاوية الرطبة دون حِراك ! بينما يحاول ابنها إيقاظها ، وهو خائف ان تكون ماتت كغيرها من المُعتقلات في الطابق الأرضيّ الذي كان فيه .. فهو اعتاد رؤيتهم يموتون تِباعاً ، رغم عدم تجاوز سنّه الستّ سنوات !

فتساءل الصحفي بنفسه : 

((ماذا يمكنني إخبار طفل ، ولِدَ وكبر في المعتقل ؟!))


ثم ناداه :

- هاى يا صغير !! تعال واجلس بجانبي

فارتعد الصبي خوفاً ، والتصق اكثر بأمه..

الصحفي : لا تقلق ، لن أضربك كبقيّة الحرّاس .. بل اريد إخبارك بقصّةٍ جميلة

فاقترب الصغير منه بتردّد ، وهو يسأله :

- ماذا يعني قصّة ؟!

- يعني سأخبرك بمغامرة قطّة صغيرة اثناء بحثها عن .. 

الولد مقاطعاً : وماهي القطّة ؟!

فأخذ الصحفي نفساً ثقيلاً ، وهو يقول بنفسه :

((كيف سأخبره بأشياء لم يرها بحياته ؟!))

الصحفي : حسناً ، سأخبرك قصّة أخرى عن شجرة وسط الغابة..

الولد مقاطعاً : وماذا تعني شجرة وغابة ؟!

الصحفي بنفسه بحزن : ((هو لم يرى شيئاً بالحياة ، فكيف سأخبره عن العالم الكبير المتواجد خلف هذه الزنّزانات القذرة المظلمة ؟!))


ثم أسند ظهره مُتثاقلاً على الحائط ، وهو يمسح دمعته.. وهو مازال يُحدّث نفسه بقهر : 

((ما ذنب هذا الصغير ليعيش حياةً صعبة ، لم يقدر على تحمّلها أقوى الرجال الذين انهاروا تحت التعذيب اللّا إنساني ؟! كيف سأقنعه ان هناك حياةً جميلة في الخارج ، وأنا لا اضمن خروجه حيّاً من هنا!))

فهزّ الولد ذراع الصحفي : لما سكتّ يا عم ؟! عن ماذا تتحدّث القصّة؟

ففكّر الصحفي قليلاً : 

((ليس امامي سوى إخباره عن اشياء يعرفها))  


ثم أخذ نفساً طويلاً ، قبل البدء بسرد قصته :

- في يوم من الأيام .. واثناء نوم طفلٍ في مثل عمرك بجانب امه بالزنّزانة ، بعد تناولهما وجبة العشاء المُقدّمة من السجّان ..وهي عبارة عن بطاطا مقرمشة وفاصولياء ورز..

الولد مُعترضاً : تقصد بندورة وبصل ؟!!

- هناك يا بنيّ ، طعامٌ آخر ..

الولد مقاطعاً بإصرار : لا !! فقط بندورة وبصل

فتحدّث الصحفي في نفسه : ((كيف لوّ عرف أن هناك عصائر لذيذة وشيبسيّات متنوّعة وشوكولا ومثلّجات ، والعاب وملاهي وملابس جديدة ، وبيتٌ دافىء خارج هذه القضبان اللعينة ؟!!))

الولد : هيا !! إكمل القصّة


الصحفي : وكانت الأم ذلك المساء نائمة .. 

- مثل امي

- نعم ، لأنها متعبة .. واستيقظ الصغير على فتح باب الزنّزانة..

الولد بقلق : هل كان الرجل الذي لديه رسومات على عضلاته ، والذي يحوّل الناس الى جثث ؟ ام هو الرجل الطويل الذي يسحب النساء من اقدامهنّ للخارج ؟! 

- لا يا صغيري ، كان رجلٌ رحيماً كالملاك  

- هل هو ملك الموت ؟

فتمّتم الصحفي بحزن : يا الهي ، ماذا اقول له ؟! ..لا يا عزيزي ، هو بطلٌ رائع..  

الولد : هل هو الذي ينقل المساجين للجنة ؟ 

- من أخبرك بهذا ؟!

- ام لؤيّ العجوز .. كانت معنا بالزنزانة التي فوق .. ففي يوم عادت من غرفة التحقيق وهي تنزف بشدة .. وبكت امي كثيراً لأنها صديقتها ، وانا أعتبرها كجدتي .. وعندما رأتني خائفاً ، أخبرتني انها ذاهبة الى الجنة حيث الأنهار والتلال والطعام الشهيّ .. وانها ستلتقي بزوجها وإبنيّها الذين قتلوا قبلها بالتعذيب.. فهل كنت تقصد ملاك الرحمة بقصّتك ؟! 


الصحفي : يمكننا إعتباره هكذا ، فهو شاب جميل يلبس ثياباً عسكريّة..

الولد بفزع : يعني سيقتل الصغير ! فجميع الجنود مُجرمين 

- لا ، هو قائد الثوّرة .. 

- تقصد انه من الأشخاص الذين يرفعون العلم الأخضر ؟

الصحفي باستغراب : كيف تعرفهم ؟!

- أخبرتني امي ان والدي كان منهم ، لهذا قتلوه قبل ولادتي ..فهم حبسوها اثناء حملها بي ، لأنها زوجته

- اذاً قصتنا ستكون عن بطل الثوّرة .. لكن لا تخبر احداً ، كيّ لا يعاقبوننا معاً 


الولد : حسناً يا عمّ ، إكمل

- عندما فتح الزنّزانة..

مقاطعاً : الم يقابل الجنود المُرعبين بالخارج ؟!

الصحفي : بلى ، لكنه قاومهم جميعاً

- تقصد قتلهم ؟

- نعم

الولد : لوحده !

- هو وأفراد الثوّرة ، لكنه وصل اولاً لزنّزانة الصغير

الولد بحماس : وكيف قتل الملاعين ؟! هل بعصا التي فيها مسامير ، ام بالكلاب السوداء او بالصعقة الكهربائيّة ام أغرقه..

- توقف يا بنيّ ، فكلامك يفطر قلبي !

ثم قال الصحفي بنفسه ، بقهر : 

((لا اصدّق ان ولداً بالسادسة يعرف كل انواع التعذيب المُستخدمة هنا ! لابد انه سمع ذلك من المُعتقلات في الزنّزانة الكبيرة ، قبل نقله مع امه الى المُنفردة))


الولد بقلق : إكمل القصّة ، ماذا فعل بالصبي ؟ هل مزّق ملابسه ، كما يفعل الضبّاط بالمعتقلين ؟!

- لا بنيّ ! هو بطل وليس مجرم .. رجاءً إخبرني انهم لم يفعلوا ذلك بك ؟! 

الولد : الضابط المُسمّى فرعون ، أخبرني انني سأكون زوجته العام القادم  

- اللعين !! أتمنى فوز الثوّرة قبل تجربتك ذلك العذاب المُهين 

وحضنه باكياً .. 

الولد : رجاءً ، إكمل القصّة


فمسح دموعه : ثم قام بطلنا بفكّ اغلال الأم وإبنها ، وطلب منهما الّلحاق به

الولد : وكيف سيخرجون دون اوامر الضابط ؟! 

الصحفي : لأن رجال الثوّرة احتلّوا المُعتقل بالكامل ، وهم يحملون العلم الأخضر اثناء قيامهم بفتح بقيّة الزنّزانات 

- يعني أسقطوا النظام ؟!

فوضع الصحفي يده على فمّ الصغير : رجاءً ، إخفض صوتك.. (ثم تنهّد بضيق) .. دعني أُكمل القصّة .. وبعدها أخرجهم من هذا المبنى

الولد باهتمام : وماذا يوجد خلف السوّر الكبير ؟! 

- الحياة يا بنيّ .. الحياة الحقيقيّة 

- هل يوجد هواء نقيّ ، كما قالت المرحومة ام لؤيّ ؟!

الصحفي : نعم حبيبي .. الهواء بالخارج لا يشبه ما نتنفّسه هنا ، والمعبّق برائحة الجروح المُتقرّحة والجثث المُتحلّلة والجرَب المُنتشر بين المساجين!

- وهل سأرى المطر الذي اسمع صوته ؟! أخبرتني امي انه يُشبه دشّ الحمام الذي نذهب اليه مرّة بالشهر !

- نعم يشبهه ، لكنه منعشٌ اكثر .. وهو ينزل من السماء الزرقاء الذي تطير فيه العصافير الجميلة .. حيث يلعب الأطفال في مثل عمرك تحت المطر بسعادةٍ وفرح


الولد : رأيت اولاداً بزنازين أخرى ، لكن معظمهم رُضّع .. يبدو انني كبيرهم !

- بالخارج ، ستجد اولاداً من كافّة الأعمار 

- وبعد خروج الولد وامه من المعتقل ، الى اين ذهبوا ؟

الصحفي : لمنزل والده 

- الم يمت مثل ابي ؟!

- حسناً ، لنعتبر انهما ذهبا لمنزل العائلة .. يعني جدّته وأعمامه الذين استقبلوه بالأحضان والقبلات ، والطعام اللذيذ كالبيتزا والهمبرجر والكنافة  

الولد باستغراب : هل هذه اسماء طعام ؟!

- نعم ، وهي لذيذةٌ جداً

- هل طعمها حادّ كالبصل ؟ فهي تحرق لساني

فحضنه من جديد :

- يا الهي ! ماهذا الظلم ؟! بأيّ حقّ يحرمونك الحياة !


ولم يستطع الصحفي تحمّل المزيد .. وأخذ يطرق باب الزنّزانة بكلتا يديه ، وهو مُنهار بالبكاء.. 

الحارس بعد فتحه الباب : هل انتهيت ؟

الصحفي وهو يمسح دموعه : نعم ، رجاءً أعدني الى زنزانتي .. أكاد أختنق

- لا ، ستذهب مباشرةً الى مكتب الضابط

الصحفي بخوف : ولماذا تعاقبونني بعد تنفيذ أمركم ؟!

الحارس : بل حصلت على إعفاء ! يبدو ان واسطتك قويّة .. فبالعادة من يدخل الى هنا مفقود ، والخارج مولود .. لكن يبدو إن سياسيّاً عربيّاً يُحب مقالاتك السخيفة ..(ثم همس في إذنه).. دعني أنصحك منذ الآن .. إن تحدّثت عمّا رأيت هنا ، فسنعتقلك من جديد .. وفي المرّة القادمة لن نكتفي بالجلد والإعتداء عليك ، بل سنقطّع اصابعك ولسانك .. واحتمال كبير ان نقتل عائلتك امام عينيك .. فلا وسيلة تعذيب ممنوعة علينا ، فنحن مخلوقين دون قلبٍ او ضمير .. اما عن غرفة الأمانات : فقد تقاسمنا نقودك وأغراضك الشخصيّة .. وستخرج من هنا ومعك الهويّة فقط ، وذكرياتك الجميلة


الصحفي : وماذا عن الطفل وامه ؟

- مصيرهما لم يُحدّد بعد ، ربما يبقيان هنا الى نهاية عمرهما .. 

ثم نظر الحارس للأم التي مازالت مُنزويّة على الحائط دون حِراك : 

- يبدو انها ستنتحر قريباً ، فأحياناً نُوفّر لهم سكيناً لقطع عروقهم او حبلاً لشنق أنفسهم .. اما الصغير ، فقريباً سيصبح لعبة مُسلّية لنا .. هيا أخرج امامي !!

الصحفي : لحظة واحدة

وعاد لاحتضان الطفل بقوّة ..

الولد : هل سأراك غداً ، لتروي لي قصّة البطل من جديد ؟


فتساقطت دموع الصحفي الذي تمنّى أخذه معه .. لكن الحارس سحبه من ذراعه بقوّة لخارج الزنزانة التي أعاد إقفالها ! 

بينما ظلّ ينظر للوراء ، وهو يرى يد الصغير تلوّح مُودّعة من بين القضبان الصدِئة .. دون علم الصحفي إن كان مُقدّراً للطفل الحرّية ، ام سيموت قريباً مع امه التي تحتضر في زنّزانتها العفنة ؟!


الأحد، 8 ديسمبر 2024

العرش اللاصق

تأليف : امل شانوحة 

يوم الحساب


إتصل بيدٍ مرتجفة بعد سماعه تكبيرات الثوّار في محيط قصره :

((الو سيدي .. لقد انتهى امري .. جنودي الجبناء هربوا ، وتركوني وحيداً .. الى اين اهرب ؟ إخبروني رجاءً)) 


فاقترحوا عليه التوجّه لإسرائيل بطائرة مُحمّلة بأطنان الذهب التي سرقها من بلاده اثناء حكمه ، بعد رفض بقيّة الدول استقباله !

^^^


وقبل وصول الطائرة الى وجهتها (مع إحتلال الثوّار للقصر الجمهوريّ) إختفت فجأة من شاشة مراقبة المطار ! 

وتضاربت الأخبار العالميّة عن مصير الرئيس ! 

لكنهم لا يعلمون انه وصل سالماً الى وجهته .. وبعد قيام الحرس الصهيوني بنقل صناديق الذهب لبنكهم المركزيّ ، قاموا بتصفية الرئيس وعائلته بعد تقيّدهم داخل الطائرة التي فجّروها لإزالة الدليل الأخير على وجوده عندهم !

***


في السماء .. كانت ارواح المواطنين المظلومين تشاهد اخبار الثوّرة من فوق ، وهي تُكبّر فرحاً بعد معرفتهم بأن مقتلهم لم يذهب سُدى ..


واثناء فرحتهم ، قدِمَ الملاك لتخيّرهم بين أمرين :

- اولاً مبروك النصر لأهاليكم وللجيل القادم .. ثانياً : هل تريدون الإنتظار ليوم القيامة لرؤية عقاب رئيسكم الظالم او ..

فقاطعه احدهم بدهشة : وهل مات حقاً ؟!

- نعم ، انتقلت روحه الينا قبل قليل

فسألته إحداهنّ باهتمام : وما الخيار الثاني ؟

الملاك : ان تقتصّوا حقكم منه بأنفسكم

- وكيف هذا ؟!

الملاك : نعطيكم نفس الوسائل التي مُتّم بها ، وانتم تقتلونه بها 

- لكنه سيموت من اوّل مرة !

الملاك : سيهبه الله حياةً بقدر عددكم ، وكل واحدٍ يقتله بالطريقة التي مات بها

فقالوا جميعاً بصوتٍ واحد ، وبفرحةٍ عارمة :

- الخيار الثاني طبعاً !!

الملاك : اذاً تعالوا معي 

***


وفي ساحةٍ ضخمة بالسماء الأولى .. إجتمع آلاف القتلى من المواطنين الغاضبين ، وامام كل واحدٍ منهم صندوقاً فيه اداة التعذيب التي مات فيها  

وفي المقابل : وقف الرئيس مرعوباً ، وهو مُقيّد بسلاسل غليظة 


وقبل بدء العقاب الجماعيّ ، سألت إحداهنّ الملاك :

- انا متّ بسب الإعتداء المتواصل عليّ من حرس سجنه ، فكيف سأعاقبه ؟!

الملاك : عندما يحين دوّرك .. سيتحوّل جسدك لنفس قوّة ذلك الحارس ، بينما الرئيس سيحصل على جسمك الأنثويّ الضعيف آنذاك

المرأة بحماس : ستكون ليلةً طويلة .. لن أنتهي منه ، حتى يخرج مصرانه من بطنه كما حصل معي

ولد : وانا ايضاً متّ بالطريقة ذاتها ، فهل سأصبح رجلاً عندما يصل دوري ؟

الملاك : نعم 

رجل : وانا سأفعل الشيء ذاته به ، فحرسه لم يفرّقوا بين ذكرٍ وانثى

طفل : اما انا ، فسأضع رأسه بالماء الى ان يموت اختناقاً .. كما متّ غرقاً اثناء هجرتي مع اهلي الى اوروبا


عجوز وهو ينظر لأدوات التعذيب بالصندوق الذي امامه ، بعيونٍ دامعة :

- نعم ! الملاعين استخدموا كل هذه التعذيبات لقتلي ، فقط لأني صحفي نشرت كلمة الحقّ .. لهذا سأقطع لسانه وأصابعه على التوالي ، ثم أصعقه عشرات المرّات حتى موته مُتفحّماً 

شاب : وانا سأقلع اظافره اولاً ، ثم أحطّم اسنانه .. وبعدها أُقطّع جسده حيّاً الى ان يُصفّى دمه ، كما فعلوا معي !

الرجل : وانا حُبست عشرين سنة ، فقط لأني اصلي الفجر ! وبعد جلدهم لي دون رحمة ، دفنوني حيّاً قبل إكمال نطق الشهادة !

وكان الرئيس يتصبّب عرقاً كلما سمع طرق موتهم الّلا إنسانيّة !


امرأة : اما انا ، فكنت حاملاً بشهريّ الأخير حينما ضربوني على بطني مِراراً الى ان مات الجنين بداخلي .. وتركوني أنزف طوال اليوم حتى فاضت روحي ! 

ثم نظرت للرئيس الذي كان يرتجف رعباً :

- مبروك سيدي الرئيس ، ستصبح حاملاً


فعلت الضحكات بين المظلومين الذين وقفوا بالترتيب حسب تاريخ وفاتهم.. حيث وقف الأولاد الذين عُذّبوا ببداية الثورة في مقدّمة الطوابير .. 


وكان المشهد مروّعاً بعد حملهم ادوات التعذيب في انتظار دوّرهم للإقتصاص من الرئيس الظالم الذي مازال ينتظره عقاب ربه ، برميه في الدّرك الأسفل من جهنّم يوم القيامة الى أبد الآبدين !


الرصاصة الطائشة

فكرة : الأستاذ احمد السيد كتابة : امل شانوحة  الطلقات المُميتة عُيّن رئيس بلديّة جديد (قادم من المدينة) في قريةٍ شعبيّة.. ولم يمضي شهر على ت...