كتابة : امل شانوحة
القصة المُبكيّة
هزّ الحارس الصحفي (الستيني) النائم بقدمه ، داخل زنزانته الإنفراديّة في المعتقل السياسي :
- هاى انت !! إستيقظ
الصحفي بنعاسٍ وخوف : ماذا هناك ؟!
- كيف نمت مع بكاء الولد المزعج في الزنزانة المجاورة ؟!
- لأني مُتعب من التعذيب.. لما يبكي هكذا ؟!
الحارس بابتسامةٍ ماكرة : لأن امه غائبة عن الوعيّ بعد عودتها من مهجع الضبّاط ، وفهمك كفاية
- وماذا تريد مني ؟!
- اريد النوم قبل بدء نوبتي المسائيّة الطويلة.. وأحلف إن لم يسكت اللعين خلال عشر دقائق ، سأفرّغ المسدس في رأسه !! فصداعي يكفيني
الصحفي : وكيف سأهدّئ الصغير ؟!
- ألست كاتباً ؟ إخبره قصة تُشغله عن امه
- حسناً سأحاول
***
وأخذه للمُنفردة المجاورة التي نُقلت اليها الأم (والذي انضمّ اليها الصغير لاحقاً) عقاباً على مقاومتها الضبّاط !
وهناك وجد الصحفي ام الصبيّ مُتكوّرة على نفسها بالزاوية الرطبة دون حِراك ! بينما يحاول ابنها إيقاظها ، وهو خائف ان تكون ماتت كغيرها من المُعتقلات في الطابق الأرضيّ الذي كان فيه .. فهو اعتاد رؤيتهم يموتون تِباعاً ، رغم عدم تجاوز سنّه الستّ سنوات !
فتساءل الصحفي بنفسه :
((ماذا يمكنني إخبار طفل ، ولِدَ وكبر في المعتقل ؟!))
ثم ناداه :
- هاى يا صغير !! تعال واجلس بجانبي
فارتعد الصبي خوفاً ، والتصق اكثر بأمه..
الصحفي : لا تقلق ، لن أضربك كبقيّة الحرّاس .. بل اريد إخبارك بقصّةٍ جميلة
فاقترب الصغير منه بتردّد ، وهو يسأله :
- ماذا يعني قصّة ؟!
- يعني سأخبرك بمغامرة قطّة صغيرة اثناء بحثها عن ..
الولد مقاطعاً : وماهي القطّة ؟!
فأخذ الصحفي نفساً ثقيلاً ، وهو يقول بنفسه :
((كيف سأخبره بأشياء لم يرها بحياته ؟!))
الصحفي : حسناً ، سأخبرك قصّة أخرى عن شجرة وسط الغابة..
الولد مقاطعاً : وماذا تعني شجرة وغابة ؟!
الصحفي بنفسه بحزن : ((هو لم يرى شيئاً بالحياة ، فكيف سأخبره عن العالم الكبير المتواجد خلف هذه الزنّزانات القذرة المظلمة ؟!))
ثم أسند ظهره مُتثاقلاً على الحائط ، وهو يمسح دمعته.. وهو مازال يُحدّث نفسه بقهر :
((ما ذنب هذا الصغير ليعيش حياةً صعبة ، لم يقدر على تحمّلها أقوى الرجال الذين انهاروا تحت التعذيب اللّا إنساني ؟! كيف سأقنعه ان هناك حياةً جميلة في الخارج ، وأنا لا اضمن خروجه حيّاً من هنا!))
فهزّ الولد ذراع الصحفي : لما سكتّ يا عم ؟! عن ماذا تتحدّث القصّة؟
ففكّر الصحفي قليلاً :
((ليس امامي سوى إخباره عن اشياء يعرفها))
ثم أخذ نفساً طويلاً ، قبل البدء بسرد قصته :
- في يوم من الأيام .. واثناء نوم طفلٍ في مثل عمرك بجانب امه بالزنّزانة ، بعد تناولهما وجبة العشاء المُقدّمة من السجّان ..وهي عبارة عن بطاطا مقرمشة وفاصولياء ورز..
الولد مُعترضاً : تقصد بندورة وبصل ؟!!
- هناك يا بنيّ ، طعامٌ آخر ..
الولد مقاطعاً بإصرار : لا !! فقط بندورة وبصل
فتحدّث الصحفي في نفسه : ((كيف لوّ عرف أن هناك عصائر لذيذة وشيبسيّات متنوّعة وشوكولا ومثلّجات ، والعاب وملاهي وملابس جديدة ، وبيتٌ دافىء خارج هذه القضبان اللعينة ؟!!))
الولد : هيا !! إكمل القصّة
الصحفي : وكانت الأم ذلك المساء نائمة ..
- مثل امي
- نعم ، لأنها متعبة .. واستيقظ الصغير على فتح باب الزنّزانة..
الولد بقلق : هل كان الرجل الذي لديه رسومات على عضلاته ، والذي يحوّل الناس الى جثث ؟ ام هو الرجل الطويل الذي يسحب النساء من اقدامهنّ للخارج ؟!
- لا يا صغيري ، كان رجلٌ رحيماً كالملاك
- هل هو ملك الموت ؟
فتمّتم الصحفي بحزن : يا الهي ، ماذا اقول له ؟! ..لا يا عزيزي ، هو بطلٌ رائع..
الولد : هل هو الذي ينقل المساجين للجنة ؟
- من أخبرك بهذا ؟!
- ام لؤيّ العجوز .. كانت معنا بالزنزانة التي فوق .. ففي يوم عادت من غرفة التحقيق وهي تنزف بشدة .. وبكت امي كثيراً لأنها صديقتها ، وانا أعتبرها كجدتي .. وعندما رأتني خائفاً ، أخبرتني انها ذاهبة الى الجنة حيث الأنهار والتلال والطعام الشهيّ .. وانها ستلتقي بزوجها وإبنيّها الذين قتلوا قبلها بالتعذيب.. فهل كنت تقصد ملاك الرحمة بقصّتك ؟!
الصحفي : يمكننا إعتباره هكذا ، فهو شاب جميل يلبس ثياباً عسكريّة..
الولد بفزع : يعني سيقتل الصغير ! فجميع الجنود مُجرمين
- لا ، هو قائد الثوّرة ..
- تقصد انه من الأشخاص الذين يرفعون العلم الأخضر ؟
الصحفي باستغراب : كيف تعرفهم ؟!
- أخبرتني امي ان والدي كان منهم ، لهذا قتلوه قبل ولادتي ..فهم حبسوها اثناء حملها بي ، لأنها زوجته
- اذاً قصتنا ستكون عن بطل الثوّرة .. لكن لا تخبر احداً ، كيّ لا يعاقبوننا معاً
الولد : حسناً يا عمّ ، إكمل
- عندما فتح الزنّزانة..
مقاطعاً : الم يقابل الجنود المُرعبين بالخارج ؟!
الصحفي : بلى ، لكنه قاومهم جميعاً
- تقصد قتلهم ؟
- نعم
الولد : لوحده !
- هو وأفراد الثوّرة ، لكنه وصل اولاً لزنّزانة الصغير
الولد بحماس : وكيف قتل الملاعين ؟! هل بعصا التي فيها مسامير ، ام بالكلاب السوداء او بالصعقة الكهربائيّة ام أغرقه..
- توقف يا بنيّ ، فكلامك يفطر قلبي !
ثم قال الصحفي بنفسه ، بقهر :
((لا اصدّق ان ولداً بالسادسة يعرف كل انواع التعذيب المُستخدمة هنا ! لابد انه سمع ذلك من المُعتقلات في الزنّزانة الكبيرة ، قبل نقله مع امه الى المُنفردة))
الولد بقلق : إكمل القصّة ، ماذا فعل بالصبي ؟ هل مزّق ملابسه ، كما يفعل الضبّاط بالمعتقلين ؟!
- لا بنيّ ! هو بطل وليس مجرم .. رجاءً إخبرني انهم لم يفعلوا ذلك بك ؟!
الولد : الضابط المُسمّى فرعون ، أخبرني انني سأكون زوجته العام القادم
- اللعين !! أتمنى فوز الثوّرة قبل تجربتك ذلك العذاب المُهين
وحضنه باكياً ..
الولد : رجاءً ، إكمل القصّة
فمسح دموعه : ثم قام بطلنا بفكّ اغلال الأم وإبنها ، وطلب منهما الّلحاق به
الولد : وكيف سيخرجون دون اوامر الضابط ؟!
الصحفي : لأن رجال الثوّرة احتلّوا المُعتقل بالكامل ، وهم يحملون العلم الأخضر اثناء قيامهم بفتح بقيّة الزنّزانات
- يعني أسقطوا النظام ؟!
فوضع الصحفي يده على فمّ الصغير : رجاءً ، إخفض صوتك.. (ثم تنهّد بضيق) .. دعني أُكمل القصّة .. وبعدها أخرجهم من هذا المبنى
الولد باهتمام : وماذا يوجد خلف السوّر الكبير ؟!
- الحياة يا بنيّ .. الحياة الحقيقيّة
- هل يوجد هواء نقيّ ، كما قالت المرحومة ام لؤيّ ؟!
الصحفي : نعم حبيبي .. الهواء بالخارج لا يشبه ما نتنفّسه هنا ، والمعبّق برائحة الجروح المُتقرّحة والجثث المُتحلّلة والجرَب المُنتشر بين المساجين!
- وهل سأرى المطر الذي اسمع صوته ؟! أخبرتني امي انه يُشبه دشّ الحمام الذي نذهب اليه مرّة بالشهر !
- نعم يشبهه ، لكنه منعشٌ اكثر .. وهو ينزل من السماء الزرقاء الذي تطير فيه العصافير الجميلة .. حيث يلعب الأطفال في مثل عمرك تحت المطر بسعادةٍ وفرح
الولد : رأيت اولاداً بزنازين أخرى ، لكن معظمهم رُضّع .. يبدو انني كبيرهم !
- بالخارج ، ستجد اولاداً من كافّة الأعمار
- وبعد خروج الولد وامه من المعتقل ، الى اين ذهبوا ؟
الصحفي : لمنزل والده
- الم يمت مثل ابي ؟!
- حسناً ، لنعتبر انهما ذهبا لمنزل العائلة .. يعني جدّته وأعمامه الذين استقبلوه بالأحضان والقبلات ، والطعام اللذيذ كالبيتزا والهمبرجر والكنافة
الولد باستغراب : هل هذه اسماء طعام ؟!
- نعم ، وهي لذيذةٌ جداً
- هل طعمها حادّ كالبصل ؟ فهي تحرق لساني
فحضنه من جديد :
- يا الهي ! ماهذا الظلم ؟! بأيّ حقّ يحرمونك الحياة !
ولم يستطع الصحفي تحمّل المزيد .. وأخذ يطرق باب الزنّزانة بكلتا يديه ، وهو مُنهار بالبكاء..
الحارس بعد فتحه الباب : هل انتهيت ؟
الصحفي وهو يمسح دموعه : نعم ، رجاءً أعدني الى زنزانتي .. أكاد أختنق
- لا ، ستذهب مباشرةً الى مكتب الضابط
الصحفي بخوف : ولماذا تعاقبونني بعد تنفيذ أمركم ؟!
الحارس : بل حصلت على إعفاء ! يبدو ان واسطتك قويّة .. فبالعادة من يدخل الى هنا مفقود ، والخارج مولود .. لكن يبدو إن سياسيّاً عربيّاً يُحب مقالاتك السخيفة ..(ثم همس في إذنه).. دعني أنصحك منذ الآن .. إن تحدّثت عمّا رأيت هنا ، فسنعتقلك من جديد .. وفي المرّة القادمة لن نكتفي بالجلد والإعتداء عليك ، بل سنقطّع اصابعك ولسانك .. واحتمال كبير ان نقتل عائلتك امام عينيك .. فلا وسيلة تعذيب ممنوعة علينا ، فنحن مخلوقين دون قلبٍ او ضمير .. اما عن غرفة الأمانات : فقد تقاسمنا نقودك وأغراضك الشخصيّة .. وستخرج من هنا ومعك الهويّة فقط ، وذكرياتك الجميلة
الصحفي : وماذا عن الطفل وامه ؟
- مصيرهما لم يُحدّد بعد ، ربما يبقيان هنا الى نهاية عمرهما ..
ثم نظر الحارس للأم التي مازالت مُنزويّة على الحائط دون حِراك :
- يبدو انها ستنتحر قريباً ، فأحياناً نُوفّر لهم سكيناً لقطع عروقهم او حبلاً لشنق أنفسهم .. اما الصغير ، فقريباً سيصبح لعبة مُسلّية لنا .. هيا أخرج امامي !!
الصحفي : لحظة واحدة
وعاد لاحتضان الطفل بقوّة ..
الولد : هل سأراك غداً ، لتروي لي قصّة البطل من جديد ؟
فتساقطت دموع الصحفي الذي تمنّى أخذه معه .. لكن الحارس سحبه من ذراعه بقوّة لخارج الزنزانة التي أعاد إقفالها !
بينما ظلّ ينظر للوراء ، وهو يرى يد الصغير تلوّح مُودّعة من بين القضبان الصدِئة .. دون علم الصحفي إن كان مُقدّراً للطفل الحرّية ، ام سيموت قريباً مع امه التي تحتضر في زنّزانتها العفنة ؟!
نشرت ببداية القصة انها كتابتي وليست تأليفي ، لأن مقدمة القصة حقيقية حصلت مع المخرج (ميشيل كيلو) الذي اراد اخبار طفل الزنزانة قصة عن العصفور والشجرة ، لكن الولد لم يفهم كلامه .. فخرج باكياً من السجن ..
ردحذففأردّت تأليف قصة للطفل تناسب ما عايشه في المعتقل .. ولا اقول سوى حسبي الله ونعم الوكيل على كل ظالمٍ بهذه الدنيا
نتمنى أن يكون الطفل قد مات كي لا يصير مازن الحماده أو غيره فيما بعد ..بعض المعتقلين قضوا أكثر من 40 سنه ..وبعضهم لا يعلم إسمه ..وهذه ليست نكته وقد رأيتها بنفسي كثيرا في إحدى الدول الخياليه لقارة ليموريا ..حيث هناك درجه من الألم اللامحتمل يلجأ فيها العقل إلى الإنفصال التام عن الواقع ونسيان كل شيء .. وهذا ما يقصده العامه حين يقولون جاله لطف ..
ردحذفلقد مر جيلنا المنكود بكثير من الصدمات والصواعق المزلزله ..
أعتقد أن أسود يوم مر علي في حياتي الكالحه كان في 7 فبراير 2011 حين قسمت السودان ..في العتمة والغفله ..
ثم تلا ذلك كثيرا من الغبن والطحن والدحس ..
ثم كان 7 أكتوبر 2023 يوم العبور الحقيقي وتحطيم الأصنام ..
ثم 8 ديسمبر 2024 يوم العيد مع التوجس والترقب لما هو آت ..
أبشروا فمازالت تنتظرنا أمالٱ عظيمه ..
أو ألامٱ عظيمه ..حتى لا يتقلقل تشارلز ديكنز في رقدته ..
بالتأكيد سيتأثرون هم واهاليهم نفسياً ، لكن جميعهم بإذن الله مقاماتهم عالية في الجنة .. فالفردوس له ناسه الذين سيرافقون الصحابة والأنبياء .. الله يرفق بهم ، وبالمسلمين جميعاً
حذفإلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم ، حسبنا الله ونعم الوكيل 💔😔
ردحذفلن أقول الا يلعن روحك يا حافظ ويا بشار القذر أمين تنفجع يا بشار انت وعائلتك بابشع موتة بالتاريخ
ردحذفهل الاخ من سوريا
حذفهكذا يحدث في السجون الاسرائيلية لاخوات فلسطين ولاطفال فلسطين
ردحذفمتابع بصمت
ردحذف