السبت، 30 مارس 2019

سفينةٌ تائهة

مقدمة القصة : فكرة أختي أسمى
خاتمة القصة : تأليف أمل شانوحة


معاً الى ما لا نهاية !

طُردت نورا (الفتاة الثلاثينية) من بيتها في آخر الليل ..وجابت الشوارع المظلمة بخوفٍ شديد وهي تلهث وتبكي بعد ان تحوّل فستانها الشفّاف الأبيض الى اللون الأحمر , ووصلت الى المرسى بخطواتٍ مُتعثّرة وأقدامٍ مُتجرّحة وقلبٍ مُنكسرٍ حزين !  

ونادت مُستغيثة امام السفن الراسية , لكن لا مجيب .. ثم رأت سفينةً فارهة متوقفة بين سفن الصيادين المُهترئة ! وكان الباب الموصل للغرفة السفليّة غير مقفول .. ففتحته وهي تنادي بصوتٍ مُرهق :
- هل يوجد من يساعدني ؟!!

وحين نزلت الأدراج الثلاثة , وجدت مطبخاً صغيراً وغرفة نوم بسريرٍ كبير.. فانهار جسدها الضعيف فوقه , بعد ان فقدت الوعيّ بسبب نزيفها المستمرّ طول الطريق ..
***

مع تباشير الصباح .. إنطلق القبطان برحلته نحو البحر , دون ان يلاحظ شيئاً غريباً في سفينته !

وبعد ساعات .. شعر بالتعب , فأطفأ المحرّك ليستلقي قليلاً في غرفة نومه قبل ان يُكمل رحلته ..
وحين نزل للأسفل .. لاحظ على الفور , قطرات الدم على الدرج باتجاه غرفة النوم ! 
فذهب الى المطبخ وأخرج سكيناً كبيراً , وهو يظن بأن حيوانٍ جريح إقتحم سفينته ..

وحين فتح باب الغرفة ..وجد الغطاء مُكوّماً فوق شيءٍ ضخم يأنّ من الألم , وقد تلوّثت أطراف الملاءة البيضاء باللون الأحمر القاني 
فأقترب بحذر ليكشف الغطاء , وإذّ به يتفاجأ بفتاةٍ تصرخ بخوف بعد رؤية السكين في يده :
- أرجوك لا تقتلني !! 
فقال متلعثماً : من انت ؟! وكيف دخلتي الى هنا ؟
فابتعدّت عن السرير وهي تقول : سأخرج من هنا حالاً , سيدي
- لا انتظري , فنحن في ..

لكنها أسرعت الى فوق , لتنصدم بأنهما في عرض البحر ! 
فلحقها القبطان وهو قلقٌ من الدماء التي تنزل من ساقيها , قائلاً لها:
- لا اريدك ان تخافي مني , فأنا لن أؤذيك
وإذّ بقواها تنهار بعد ان أيقنت بأنها عالقة مع رجلٍ غريب في هذه السفينة التي لا تعلم وجهتها !

فحملها القبطان (الخمسيني) وهو ينظر الى وجهها الشاحب , وأنزلها الى الأسفل .. ثم وضعها فوق السرير وبدأ بعلاجها , فهو لحسن حظها طبيبٌ جرّاح يقوم برحلةٍ سياحية بعد تقاعده المُبكّر 

وفور كشفه عليها , علم بأنها أسقطت جنينها ! ومن الجيد انه يحتفظ بحقيبة إسعافات اوليّة في سفينته , وبداخلها مصلٌ طبّي قام بتعليقه لها لتعويض جسمها عمّا خسرته من دماء.. 

وحين ألبسها بيجامته لاحظ آثار جَلدٍ بالحِزام على ظهرها وكدماتٍ قديمة , وآثار ربطٍ بالحبال حول معصميها وقدميها , بالإضافة لتورّمٍ واضح لعينها اليمنى من لكمةٍ قوية .. فعرف انها هربت من تعذيب زوجها , لأن الخاتم مازال في إصبعها ..

فتمّتم بعد ان غيّر لها الملاءة والغطاء : يا الهي ! كيف تحمّلت المسكينة كل هذا العذاب ؟!
***

وعصراً .. دخل القبطان اليها ومعه طعام , فوجدها إستفاقت من نومها وهي تحاول إزالة المصل من ذراعها .. فقال لها مُحذّراً :
- إتركيه !! ستؤذي نفسك
فسألته بفزع : من انت ؟!! ومالذي أدخلته في جسمي , هل هو مخدرات ؟!
- لا طبعاً , هذا مصلٌ طبّي .. وانا طبيبٌ سابق , أقوم برحلة على سفينتي في يوم عطلتي
فقالت بدهشة : انت طبيب ؟!
- نعم دكتور فؤاد , جرّاح أعصاب متقاعد .. 
فسكتت وهي تشعر بالإحراج ..

الطبيب : سأحاول ان أساعدك , لكن أجيبيني اولاً : هل ضربك زوجك الى ان أسقطّتي جنينك ؟
فهزّت رأسها إيجاباً بحزن..
- وكنتِ في أيّ شهر ؟
فأجابت بقهر : الثالث
فقال بحزم : أعدكِ حين نصل الى مرفأ المدينة المجاورة , سأشهد معك لدى الشرطة كيّ يحبسوه على فعلته الغير إنسانيّة 
بخوف : لا ارجوك ! لا اريد مشاكل معه , فهو مجرمٌ سابق
الطبيب باستغراب : ولما تزوجتي منه ؟!

فأجابت بحزن : لأن والدي باعني له
- ماذا تقصدين ؟!
- والدي مُدمن وزوجي تاجر مخدرات ..فباعني من أجل حقنة هيروين 
الطبيب بصدمة : يا الهي ! ..وماذا عن امك ؟
فأجابت بقهر : والدايّ مُنفصلان منذ صغري .. ورغم انني أفنيت طفولتي بخدمة والدي , لكنه باعني بثمنٍ بخس ! 
- ارجوك لا تبكي .. وسأحاول مساعدتك قدر المستطاع 
- أتدري دكتور .. أحمد ربي على إنني أسقطت الجنين , فأنا لا اريد شيئاً يربطني بطليقي المتوحش 
- طليقك ؟!

نورا : نعم هو طلّقني بعد ان تشاجرت معه بسبب إحضاره بضاعة هيروين الى بيتي , فضربني بقسوة دون ان يرحم حملي .. ورماني بملابس النوم الى الشارع .. وكان وصولي الى سفينتك معجزة ! بعد تجاوزي لمجموعة من الرجال السُكارى والمدمنين المتسكّعين في الشوارع
- جيد انك وصلت اليّ , والا لكنت نزفتِ حتى الموت 
وهي تمسح دموعها : والله الموت أرحم من حياتي البائسة
- لا تقولي ذلك يا .. آه لم اسألك بعد .. ما اسمك ؟ 
- نورا 
- إسمعيني يا نورا .. اريدك الآن ان تأكلي جيداً , فأنت خسرتي الكثير من دمائك .. ومن بعدها تنامين دون ان تفكّري في شيء , وحين نصل للشاطىء نجد حلاً لمشكلتك ..إتفقنا 

ثم تركها لترتاح .. بينما استلقى على سطح المركب رغم الجوّ البارد , وهو ينوي مُعاودة المسير في المساء , لأنه يحتاج الى يومين من الإبحار للوصول لأقرب مرسى 
***

الا ان الطقس الصافي تغير فجأة مع غروب الشمس ! بعد ان أنار البرق ظلمة البحر , تبعه هدير رعدٍ يصمّ الآذان .. ثم تساقط المطر بغزارةٍ  كادت تُمزّق أشرعة السفينة .. 
فأسرع فؤاد الى كابينة القيادة للسيطرة على قاربه الصغير , بعد ان اهتزّ بعنف مُتناغماً مع هيجان الرياح والأمواج المُتلاطمة !

وحاولت نورا الخروج الى السطح , لكنها سمعت القبطان يصرخ عليها للعودة فوراً الى غرفتها وإقفال الباب , وعدم الخروج لأيّ سببٍ كان ..
***

وهناك , حاولت نورا التمسك بالسرير الذي كان يهتزّ بعنف مع اهتزازات السفينة !
وكانت أرعب ليلة في حياتها , فهي تصارع موتاً محقّقاً.. ولم تدري متى نامت , بعد ان تهالك جسمها من شدّ الأعصاب المتواصل
***

إستيقظت صباحاً (بعد انتهاء العاصفة) على صوت أنينٍ قادماً من سطح السفينة ! فأسرعت الى هناك .. لتجد القبطان واقعاً داخل الكابينة بواجهتها المُحطّمة بالكامل .. ويبدو ان شظيّة من الزجاج جرحت خاصرته ..
فقال لها وهو يتأوّه بألم :
- نورا لوّ سمحتي , إحضري علبة الإسعافات 

وبعد ان أحضرتها على عجل , طلب منها تقطيب الجرح .. ورغم خوفها من القيام بذلك , لكنها شعرت بأنها مُلزمة بردّ جميله .. فبدأت بتطهير الجرح وإزالة العالق من بقايا الزجاج , قبل تقطيبه بناءً على إرشاداته .. وبعد ان ضمّدته , ساعدته بالإستلقاء فوق سريره في الأسفل , قائلةً :
- سأحاول الإتصال بالنجدة
الدكتور بتعب : حاولت قبلك , لكن يبدو ان اللاّسلكي تعطّل بالعاصفة , كما المحرّك ..ولا ادري مالسبب !

فسألته بقلق : ومالعمل الآن ؟!
- لاتخافي .. طالما ان الجوّ هدأ الآن , فحتماً ستمرّ سفنٌ أخرى تنقذنا.. اما عن جرحي , فهو سطحي وغير خطير
- لكنك نزفت طويلاً .. ليتك لم تعطني ذلك المصل , لكنت استخدمته الآن 
- انا بخير يا نورا , كل ما احتاجه هو كوب عصير 
- وهل يوجد لديك في المطبخ ؟ 
الدكتور : نعم , داخل حافظة الطعام 
***

حين دخلت الى هناك , وجدت بقايا الطعام مُبعثرة فوق أرضيّة المطبخ ! والذي سلِمَ من العاصفة كان فقط : موز ولوحيّ شوكولا وقاروة مياه واحدة .. فعادت الى الغرفة , وأخبرته بذلك

الدكتور بقلق : هذه مشكلة ! .. اللعنة عليّ !! كيف نسيت إغلاق الحافظة بهذا الجوّ العاصف ؟!  
- الأسوء انه لا يوجد لدينا ماءٌ للشرب !
- سنجرّب طرق الكشّافة البدائية
نورا : تحلية المياه ! لكننا بحاجة للكثير من الأدوات
- أقصد ان الجوّ مازال غائماً .. لذا أريدك ان تفكّي إحدى الأشرعة وتربطيه على شكل وعاء , بحيث اذا أمطرت من جديد , نحصل على مياه للشرب 
نورا : فهمت , سأفعل ذلك الآن 
- ورجاءً لا تتعبي نفسك , فأنت مازلتِ متعبة
- لا تقلق , سأكون بخير
***

ظهراً .. وفور إنتهائها من ربط الشراع , بدأت زخّات المطر تتساقط على يديها
فتمّتمت بقلق : أتمنى ان يكون مطراً عادياً وليست عاصفةٌ أخرى !
وحين هطل المطر , نزلت الى الأسفل ..
***

وفي غرفة النوم .. فرشت نورا اللحاف على الأرض بجوار سريره .. فقال لها : 
- الأفضل ان تنامي على السرير , فجسمكِ مازال متعباً
نورا : لا , حالتك اسوء مني .. إبقى مكانك , وانا سأستريح على الأرض ..اساساً الوقت مازال مُبكراً على النوم
- صحيح ..لنستريح قليلاً , فلا شيء آخر نفعله في هذا الجوّ الماطر .. (ثم سكت قليلاً) هل انت جائعة ؟ فأنت لم تأكلي سوى لوح شوكولا واحد , بعد ان أصرّيتي أن آكل الموز لوحدي ..
- لا تقلق , لا أشعر بالجوع .. وحين يتوقف المطر , سأصطاد بعض السمك .. على أمل ان يتحسّن الطقس قبل غروب الشمس

الطبيب : وهل تعرفي كيف تصطادين ؟! 
- في بداية زواجي أخذني طليقي في رحلة , وعلّمني طريقةً سهلة لصيد السمك.. فهل لديك سنّارة ؟
- بالتأكيد , ستجدينها في إحدى خزائن المطبخ ومعها علبة الديدان
نورا باشمئزاز : هذا هو الجزء المقرف في الصيد
فابتسم لها قائلاً : لا تقلقي , سنحلّ مشكلة الطعام لاحقاً
*** 

بعد تحسّن الجوّ .. خرجت نورا الى سطح المركب لتجميع المياه من داخل الشراع , ووضعتهم في قارورةٍ فارغة .. واتفقت مع الطبيب على شرب القليل من الماء عند الحاجة القصوى
ثم حاولت جاهدة إصطياد السمك ..
***

بعد ساعتين من الفشل المتواصل , قالت في نفسها بضيق :
((عليّ إصطياد شيئاً , فالطبيب جريح وبحاجة للطعام .. يارب أرجوك , أعطني ولوّ سمكةً صغيرة))
وهنا تحرّكت السنّارة ..فصرخت بعلوّ صوتها :
- لقد اصطدّت سمكةً كبيرة !!!
فردّ الطبيب من الأسفل : انا قادم لمساعدتك !!
- لا !! إبقى مكانك

لكنه أصرّ على الصعود بعد ان إتكأ بتعب على جدران السفينة ..  
وقبل وصوله اليها , رآها تسقط في البحر بعد ان قامت السمكة بسحبها بعنف .. فهي دون ان تدري , إصطادت سمكة قرش كبيرة! 

فلم يجد نفسه الا وهو يأخذ الرمح المعلّق على جدار السفينة ويقفز نحوها .. وقد وصل اليها في الوقت المناسب , بعد ان غرز الرمح في عين القرش قبل ثوانيٍ من قضم قدمها , فهربت مُتألّمة في أعماق البحر .. بينما أسرعا في الصعود مجدداً الى السفينة .. واستلقيا على الأرضيّة وهما يلهثان برعبٍ وإرهاق !

ثم بدأت نورا تبكي , فسألها الطبيب بقلق :
- هل أذاكِ القرش ؟! 
- لا انا بخير , وانت ؟
الطبيب : بخير .. لما تبكين ؟!
- لأني جلبت النحس معي الى سفينتك .. هآقد ضاعت سنّارتك بالبحر , وبسببي سنموت جوعاً !
- لا تقلقي , يمكنني صنع سنّارة أخرى .. هيا رجاءً لا تبكي .. ثم بالعكس انت أنقذتي حياتي , لأني أخطأت حين أبحرت دون الإنتباه لحالة الطقس ..ولولاك يا حوريّة البحر لكنت نزفت حتى الموت
فقالت بدهشة وحزن : حوريّة ! أتصدّق انك اول شخص يمدحني في حياتي؟!
- يبدو ان لديك ذكريات سيئة مع والدك وزوجك , لكن تأكدي بأن حياتك ستصبح أفضل بعد وصولنا للشاطىء 

نورا : أتمنى ذلك .. وماذا عنك ؟ هل لديك ابناء ينتظروك في المدينة الثانية ؟
- نعم ابني , وهو يدرس الطب وانا فخورٌ به  
- وماذا عن زوجتك ؟
الطبيب بحزن : توفيت بالسرطان السنة الفائتة , وبسببها تقاعدّت مبكراً 
- لكن الناس بحاجة الى اطباء إنسانيين مثلك !
فؤاد بقهر : لم أعدّ أطيق رؤية المستشفيات بعد ان احتضرت زوجتي هناك لستة أشهرٍ متواصلة 
- آسفة لسماع ذلك ! 
- لهذا اشتريت هذه السفينة لأجوب بها العالم .. وكان ابني يرفض ذهابي لوحدي , وطلب مني مراراً أن أعيّن بحاراً يسافر معي , لكني عاندّته ورفضّت , بحجّة انني بارعٌ في الملاحة .. 
نورا بحزن : على الأقل لديك شخص تعيش لأجله .. اما انا , فلا أدري ماذا سأفعل بعد وصولي للشاطىء , فليس لديّ مكان أذهب اليه 
- لا تقلقي يا نورا , سأساعدك في بناء حياتك من جديد
- شكراً دكتور , انا سعيدة لأن القدر جعلني أختار سفينتك من بين سفن الصيادين في المرسى ..
فابتسم لها بحنان
***

ثم أمضيا بقيّة اليوم في صنع سنّارة يدوية , استطاعا بها اصطياد سمكةٍ صغيرة , قاما بشويها وأكلها .. وان كانت لم تشبعهما , لكنها أفضل من النوم جوعاً ..
***

في المساء .. لم يقبل الطبيب النوم مجدداً على السرير , ونام على فراش الأرض وهو يُطمّئنها بأنه سيتمّ إنقاذهما غداً , لأن إحساسه لا يخطأ ابداً 
***

لكن ما حصل في اليوم التالي كان أغرب من الخيال , حيث استيقظا ليجدا السفينة راسية لوحدها على الشاطىء , وكأن الأمواج تكفّلت بذلك !

ونزلا وهما سعيدان بملامسة أرجلها للتراب , ومشيا مُبتعدان عن العائلات والسوّاح الذين إفترشوا الشاطىء .. وقبل ان يصلا للشارع , شاهد الطبيب ابنه الشاب برفقة رجلٍ يتجهان صوب سفينته المتوقفة قرب البحر ..  
فلحقه ابوه وهو يناديه بصوتٍ عالي وبسعادة : هاى بنيّ !! انا هنا

لكن يبدو ان ابنه مُنشغلاً بالحديث مع الرجل , بحيث لم يلتفت لوالده الذي كان خلفه !
فهمست له نورا : هل انتما على خصام ؟!
الأب بدهشة : لا ابداً ! ربما لم يسمعني من ضجّة مرتادي الشاطىء , لنلحقهما ..

وحين وصلا قربهما , سمعه الأب وهو يقول للمشتري بنبرةٍ حزينة:
- هذه هي سفينة والدي الطبيب , وكان يعشقها جداً  
فقال الرجل : لقد رأيت إعلانها بالأنترنت , وهي جيدة من الداخل وسعرها مقبولٌ جداً ! 
الأبن : نعم , مع اني تكلّفت الكثير لإصلاح عطل محرّكها واللاّسلكي ..وكان ابي إشتراها بمبلغٍ كبير , لكن لم يرضى احد بشرائها بعد معرفتهم بأن والدي مات في الكابينة بعد تلك العاصفة التي ضربت البلاد الشهر الفائت , قبل ان نجد سفينته متوقفة في ميناء الصيادين 

وهنا قال الطبيب لنورا بفزع : ماذا يقول هذا الأحمق ؟!.. (ثم نادى لإبنه من جديد بصوتٍ عالي) ..ابني انا هنا !! لم أمت بعد ! أدرّ ظهرك نحوي يا ولد !!

ثم سمع المشتري يقول لإبنه : يبدو ميناء الصيادين منحوساً ! فقد وجدوا قبل اسابيع جثة امرأة ماتت في المرسى بعد إجهاضها , وكان على جسمها آثار ضربٍ عنيف .. وألقت الشرطة القبض على زوجها الذي كان تاجر مخدرات !

فارتعبت نورا بعد سماعها لذلك , وقالت للطبيب بخوف : 
- لكني لم أمت يا فؤاد ! مالذي يقولانه هذان الأحمقان ؟!
وأسرعا نحوهما وهما يصرخان :
- نحن أحياء !! الا ترونا ؟!

وحين حاول الأب إمساك ذراع ابنه , مرّت يده من خلاله وكأنه طيف ! فتراجع الطبيب للخلف برعب .. 
وحاولت نورا بدورها إمساك ذراع المشتري , لكن حدث لها الشيء ذاته !

وهنا قال المشتري للإبن : رحم الله والدك 
الإبن : سلمت أخي , هيا ندخل لترى السفينة من الداخل
وبعد ان دخلا السفينة ..

قالت نورا وهي ترتجف بخوف : ماذا يعني هذا ؟!
الطبيب بفزع : يبدو اننا ميتان !
نورا وهي تبكي : لا أصدّق هذا , كيف ؟!

وفجأة ظهرت لهما سفينتهما من بعيد وهي تقترب أكثر وأكثر من الشاطىء 
الطبيب : أنظري هناك !! انها سفينتنا المُحطّمة !
نورا بحزن : وماذا نفعل الآن ؟!
ففكّر الدكتور قليلاً , قبل ان يقول بحزن : 
- هاتِ يدك .. دعينا نعود الى سفينتنا , ولنُبحر من جديد
نورا بقلق : أخاف ان ينقصنا الماء والطعام
الدكتور بيأس : لا تقلقي , لن نموت مرتين .. 

ولأول مرة لاحظا بأن جسميهما يطفو بخفّة فوق الماء , الى ان وصلا لسفينتهما الشبح التي لم يرها أحد من مرتاديّ الشاطىء .. ثم أبحرا في عرض البحر مُتجهين نحو الأفق المجهول !

الثلاثاء، 26 مارس 2019

لن تكون لغيري !!

تأليف : امل شانوحة


أريد زوجها لي !!!  

أمضت نجوى ليلتها وهي تغرز الإبرة تلوّ الإبرة في اللعبة القماشية , وهي تقهّق بخبثٍ وشرّ ..

بهذه الأثناء .. مرّت امها من امام غرفتها , ورأتها مُنكبّة على غرز الإبر في اماكن متفرّقة من جسم اللعبة ..
- إرحميها قليلاً , فأنت تعاقبينها منذ اسبوع !
ابنتها بعصبية : مستحيل !! هي سرقت حبيبي , وسأجعلها تندم على ذلك  
الأم بقلق : أخاف ان ينقلب السحر عليكِ
نجوى : وما يُدري تلك الغبية بأمور الشعوذة التي نتقنها انا وانت .. ارجوك يا امي , دعيني أستمتع باللحظة
فتمّتمت الأم : كان الله في عون المسكينة !
***

في الجهة المقابلة من المدينة .. لم تستطع ندى النوم لهذا اليوم ايضاً بعد تزايد الألم في أجزاء متفرّقة من جسمها , ممّا أقلق زوجها الذي لا يدري ما أصابها ! فالأشعة والتحاليل أثبتتّ انها لا تعاني من مشاكل عضويّة او خللٍ صحّي .. ورغم ذلك تبدأ أوجاعها بحلول المساء , وطوال الأسبوع الماضي ! (واليوم يصادف آخر يوم في شهر العسل)  

وبعد ان فكّر الزوج طويلاً , قال بقلق : 
- يا خوفي ان تكوني مسحورة يا ندى !
عروسته وهي تأنّ من الوجع : سحر ! ومن يجرأ على فعل ذلك ؟!
- أظنها نجوى , خطيبتي السابقة .. فقد تركتها قبل شهور من خطبتي لك
- وما سبب الإنفصال ؟.. (ثم صرخت بألم) : آآآآآآي

زوجها : كنت معزوماً على العشاء في منزل امها .. وأردّت دخول الحمام , فدلّتني نجوى عليه وهي منشغلة مع امها في إعداد الطعام بالمطبخ .. فدخلت بالخطأ الى غرفةٍ ثانية أرعبتني ! حيث وجدّت فيها : جماجم وبقايا حيوانات مُحنّطة وبخور وغيرها من أغراض السحر .. وخفت ان أجادلهما بالموضوع .. واعتذرت عن العشاء بحجّة ألمٍ مفاجىء في معدتي .. وعدّت سريعاً الى بيتي .. وأنهيت علاقتي معها في اليوم التالي من الهاتف الذي غيّرت رقمه .. اما بيتي فلم تكن تعرف عنوانه بعد .. وأظنها غضبت حين علمت بزواجنا  
- وكيف سحرتني ؟ فأنا لا أعرفها !

زوجها : تذكّري جيداً , هل أدخلتي احداً الى بيتنا بعد العرس ؟ 
- أتى الكثير من المهنّئين 
- وهل كان بينهم شخصاً لم تعرفيه ؟
ففكّرت ندى قليلاً : آه تذكّرت !! فتاةٌ بشعرٍ اسودٍ طويل.. 
- وعيونٌ سوداء كحيلة ؟
- نعم , قالت انها ابنة خالتك 
زوجها : بل هي اللعينة نجوى !! ..وهل لاحظت إختفاء شيء من أغراضك بعد رحيلها ؟ 
- لا ادري , لكني تضايقت حين دخلت حمامنا وليس حمام الضيوف 
الزوج بضيق : يبدو انها أخذت شيئاً من ملابسك المتسخة لتستخدمه بالسحر 

ندى بتعب : ومالعمل الآن ؟ فكل جسمي يؤلمني 
- سأحضر الشيخ حالاً 
- تأخّر الوقت الآن ! 
زوجها : لا عليك , الشيخ الذي أعرفه مُعتاد على العمل في أوقاتٍ متأخّرة .. سأذهب اليه .. وحاولي ان تتحمّلي الألم قليلاً , حبيبتي
***

قبيل الفجر .. استيقظت الوالدة على صرخات نجوى المتألّمة ! فدخلت غرفتها لترى الدخان يخرج من جسمها
ونادتها وهي تبكي بفزع : امي !! انهم يحرقونني
فأغلقت الأم أذنيها بقوة , بعد سماعها لتراتيل الشيخ يتردّد صداها في غرفة نجوى .. فقالت معاتبة : 
- الم أخبرك ان لا تتمادي بالسحر ؟!! هآقد أحضرت ندى شيخاً ليفكّ سحرها , فانقلب السحر عليكِ
- أنقذيني يا امي !! أشعر وكأن ناراً تحرقني من الداخل 
- انتظري , سآتي حالاً

وعادت الى الغرفة بعد قليل ..وهي تحمل قدراً من الفخّار تستخدمه لحرق البخور , ثم أشعلته وهي تتلوّ التعاويذ السحريّة التي استحضرت بها معاونها الجني لإنقاذ ابنتها .. 

وظهر لهما على هيئة دخان , وقال معاتباً بغضب : 
- كيف تُحضريني الآن وآيات الشيخ تصدح في المكان , أتريدين حرقي؟!! 
الأم : رجاءً أنقذ ابنتي ..
الجني وهو يغلق أذنيه : لا استطيع فعل شي قبل انتهاء جلسة الشيخ , والا احترقنا جميعاً
الأم بقلق : وماذا أفعل لها ؟ 
الجني : ضعيها في حوض الإستحمام , وأغمريها بماء السحر ..وأوقدي الشموع والبخور في ارجاء الحمام .. ودعيها هناك حتى الصباح .. وسأعود لاحقاً لحلّ المشكلة 

ثم اختفى فجأة ! فساعدت الأم ابنتها للإستلقاء بالحوض الذي ملأته بمياه وأعشابٍ سحريّة لتخفيف آلام الحروق في جسم نجوى بعد ان إحمرّ جلدها  
***

في الصباح .. كان الزوجان سعيدين بانتهاء الأزمة بعد إستعادة ندى لصحتها ونشاطها من جديد.. والتي قالت : 
- علينا تشغيل القرآن دائماً في بيتنا , الى أن تزيلك تلك اللعينة من رأسها 
زوجها : نجوى فتاةٌ حقودة ولن تنساني بسهولة , لهذا حافظي على أذكار الصباح والمساء
- وانت كذلك , فأنا خائفة عليك
الزوج بغضب : والله لوّ كان الأمر بيديّ , لعاقبتها بشدّة على فعلتها الحقيرة !!
- إيّاك ان تقترب منها !! فالسحرة كالزجاج المكسور لا يمكنك لمسه دون ان تُجرح .. فدعها وشأنها , والله يُمهل ولا يُهمل 
***

في بيت المشعوذة .. إنتهى عذاب نجوى مع تباشير الصباح , وأخرجتها امها من الحمام .. ثم غيّرت ملابسها المبلّلة ووضعتها في السرير..
نجوى بإرهاق : مازال جسمي يؤلمني يا امي
- ألم أعلّمك سابقاً إن السحر يكون بمقادير محدّدةٍ بدقّة , ولا يمكننا تجاوزها على حسب مزاجيتنا المتقلّبة 
نجوى وهي تبكي : لقد إنقهرت كثيراً حين علمت بزواجه , فأنت تعلمين كم كنت أحبه
- اهدأي يا ابنتي , وأعدك بأنهما لن يهنئا بحياتهما 
- حقاً يا امي ! هل ستجعليه يُطلّقها قريباً ؟
- سأحاول جهدي 
***

مرّت الشهور , وأصبحت ندى حاملاً .. لكن المشاكل تزايدت بينها وبين زوجها في الفترة الأخيرة , بعد ان لاحظت سوائلاً كريهة تُسكب على عتبة منزلها ! فداومت على تنظيف بيتها بالملح وماء البحر , وقراءة القرآن والأذكار .. لكنها في اليوم الذي تنسى فعل ذلك , تحدث مشكلة كبيرة بينهما
***

وفي إحدى الإيام , سافر زوجها برحلة عمل ..فأحضرت عاملاً لتركيب كاميرا على باب بيتها ..

وبعد ايام , إستيقظت في آخر الليل .. 
وفور خروجها من الحمام , سمعت اصواتاً خافته خلف باب منزلها .. وحين نظرت الى شاشة الكاميرا , رأت ابن جارتها في الطابق العلويّ (8 سنوات) يسكب شيئاً على بابها .. 
فأسرعت بفتح الباب وإمساك يده بقوة , وأدخلته عنّوة الى بيتها وهو يرتجف خوفاً !
وسألته بغضبٍ شديد : ماذا كنت ترمي على بابي ؟.. تكلّم يا ولد !!
فبكى الصبي من الخوف قائلاً : امي تُجبرني على فعل ذلك كل يوم!
- إذاً لن تخرج من عندي , حتى تأتي امك .. مفهوم !!
***

بعد قليل .. طرقت الجارة الباب بقلقٍ شديد , فأدخلتها ندى كيّ لا يسمع الجيران صراخها :
- لما ترمين السحر على بابي , وانت لا تعرفينني جيداً ؟!! 
فالتزمت الجارة الصمت وهي تشعر بالخزيّ ..
فهدّدتها ندى بإبلاغ الشرطة وإعطائهم الفيديو المصوّر الذي يثبت قيامها هي وابنها بالسحر 
- هيا اعترفي !! ام تريدين الشرطة ان تحبسك انت وابنك الصغير ؟

الجارة برعب : لقد دفعت لي مبلغاً كبيراً
- من هي ؟!
- سيدة كبيرة في العمر ليست من سكّان عمارتنا , زارتني قبل شهر وأعطتني قارورة كبيرة فيها ماءٌ نتن , وطلبت مني سكب مقدار فنجان على عتبة بابك كل يوم في هذا الوقت من الليل ..وأعطتني مبلغاً من المال , ووعدّتني بمضاعفته بعد إنتهاء المهمة 
ندى بقلق : وكم سكبتي منه حتى الآن ؟
- نصف القارورة
- لعنة الله عليك !! كُدّت بسببك أتطلّق من زوجي
الجارة : وهذا ما كان سيحصل بعد انتهاء الكميّة ..
- إذهبي وإحضري القارورة الآن !! 
الجارة بقلق : لا استطيع , أخاف ان تؤذيني تلك المشعوذة
ندى بحزم : هاتها !! والا والله اتصلت الآن بالشرطة 
- حسناً إهدأي , سأذهب الى شقتي وأحضرها لك 

وبعد قليل , أعطتها القارورة ..
ندى بعصبية : خذي ابنك واذهبي , وأحلف ان رأيتكما تقتربان مجدداً من بيتي , فسأبلّغ عنكما الشرطة ولن أضعف امام توسلاتك
- سامحيني , فقد كنت بحاجة الى المال
- لا أصدّق انك بعتي دينك من أجل مالٍ زهيد ؟! الا تخافين على ابنك الذي علّمته الشرّ ان يكرّرها معك في كبرك ؟ انت والدة سيئة , وجارةٌ لعينة .. وعقابك سيكون كبيراً في الآخرة , لأني لن اسامحك ابداً .. (صارخةً بغضب) ..هيا إغربا عن وجهي !!
وأغلقت الباب خلفهما بعنف !!!!!  
***

واحتفظت ندى بالقارورة لحين عودة زوجها من السفر بعد ايام .. وما ان أرته فيديو الكاميرا , حتى أسرع لإحضار الشيخ..

وبعد أذان العصر , قدِمَ برفقة رجلٍ غريب  .. وحين رأته ندى , أخذت زوجها جانباً وسألته :  
- هذا ليس الشيخ الذي قرأ عليّ المرة الماضية ؟!
زوجها : زوجته أخبرتني انه مريض .. وحين خرجت , ناداني هذا الرجل من الشارع وقال بأنه تلميذه .. فطلبت منه الحضور معي
- وهل هو قويّ كأستاذه ؟
- لا ادري , لكن مالذي سنخسره ؟
ندى بقلق : زواجنا مثلاً !!
- لا تقلقي , فقط أعطه إيّاها

وما ان رأى الرجل ما بداخل القارورة , حتى أغلقها ووقف متجهاً نحو الباب الخارجي , وهو يقول :
- حسنا الى اللقاء 
ندى باستغراب : لحظة ! الى اين انت ذاهب ؟
الرجل : لا يمكنني رمي الماء المسحور في البلاّعة , عليّ رميها في البحر .. وسأذهب الى هناك في منتصف الليل , وأقرأ عليها الأذكار وانا أسكبها رويداً رويداً في سبعة أمواجٍ متتالية .. 
الزوج : يعني ليس الآن ؟!
الرجل : لا , لابد ان يكون مساءً ..فهناك طريقة معينة لفكّ الأسحار , هذا ما علّمني إيّاه شيخي الجليل

الزوج : حسناً , انت أدرى بعملك .. كم تريد منا ؟
- معاذ الله , فأنا أساعدكم لوجه الله
- لكن شيخك أخذ منّا المرة الماضية !
- شيخي رجلٌ فقير , اما انا فلي محلٌ تجاريّ استرزق منه ..وانا أتعلّم منه فكّ الأسحار لكيّ أساعد الناس بالمجّان 
الزوج : جزاك الله خيرا !
***

بعد خروج الرجل من المبنى , ركب سيارةً مظلّلة النوافذ ..
وفي الداخل .. قالت له السائقة (ام نجوى) : هات القارورة 
ابنتها من الخلف بسخرية : الأغبياء أعادوا لنا سحرنا !
الأم : طبعاً , فأنا دفعت الكثير لأستاذي من اجل هذا الماء النتن
الرجل : أتمنى ان لا تنسيا دوري بالمهمة .. فأنا راقبت الزوج فور رجوعه من السفر , ولحقته الى بيت الشيخ .. وألقيت التعويذة عليه ليقبل ذهابي معه 
الأم : انت مساعدي ويدي اليمنى , وسأكافئك لاحقاً

نجوى بحزن : والآن ماذا نفعل يا امي بعد فشل خطتنا ؟
الأم : سنُكمل المهمة طبعاً .. لكن عليّ اولاً إضافة التراب الى هذا الماء كيّ يصبح وحلاً , ثم أجفّفه ليتحوّل تراباً , فهو لن يثير الشبهات كالسوائل المسكوبة على عتبة منزلها
نجوى باهتمام : ثم ماذا ؟
الأم : أعود للإتفاق مع زوجة بوّاب العمارة , فقد عرفت من الجارة انها تقوم بتنظيف بيت ندى مرتين بالشهر .. وسأطلب منها وضع حفنة من التراب المسحور تحت دعّاسة منزلها كلما ذهبت اليها 
نجوى : وهل ستقبل الخادمة ؟ 
الأم : الجميع يرضى مقابل المال  
ابنتها : لكن استعجلي يا امي قبل ولادة ندى 
الأم بخبث : هي لن تلدّ اصلاً , لا تقلقي
***

وبالفعل أجهضت ندى قبل اسبوع من ولادتها ومن دون سببٍ واضح , فهي لم تقع او ترهق نفسها بالعمل ! 
وحين علم زوجها بخسارة الجنين , إنفجر غاضباً عليها امام طبيبها الذي طلب من الحرس طرده من غرفة المستشفى خوفاً على المريضة , ممّا أدّى لتفاقم الوضع وجعله يرمي عليها يمين الطلاق الذي تسبّب لها بنزيفٍ حادّ من شدّة الحزن , وبالكاد استطاع الطبيب إنقاذ حياتها ..
لكن لم يستطع أحد من أقاربها إنقاذ زواجها بعد ان ثبّت الزوج الطلاق في المحكمة باليوم التالي , وسافر بعدها الى الخارج ! 
***

وفي الوقت الذي كانت فيه ندى تعاني من إنهيارٍ نفسيّ في بيت أهلها , كانت نجوى وامها تحتفلان بنجاح خطتهما الشريرة..
نجوى بحماس : ومتى يا امي ستبدأين بتنفيذ الخطة التالية ؟
الأم معاتبة : آخ !! كلّه من عنادك ..لوّ انك سمعتي كلامي منذ البداية وجعلتني أسحره حين قدِمَ لخطبتك , لكان لديكما طفلاً الآن
ابنتها : وما كان سيُدريني إنه سيتركني ! المهم , متى سترجعينه لي ؟

فأخرجت الأم سُبحة من جيبها .. وحين رأتها نجوى , قالت بدهشة:
- انها سُبحة حبيبي , اليس كذلك ؟!
- نعم , فزوجة البوّاب استطاعت سرقتها من بيت ندى (قبل طلاقها) حين كانت تنظفه , وطلبت بالمقابل مبلغاً كبيراً .. النصّابة!
نجوى بارتياح : ممتاز !! وهكذا حصلنا على شيء من أثره 
فتقول الأم وهي ترمي البخور السحريّ في النار الموقدة امامها :
- والآن سأجعله زوجاً وصهراً مطيعاً لنا 

ورمت السُبحة في النار , وهما تتلوان التعاويذ السحريّة ..والإبتسامة الخبيثة تعلو وجهيهما , في انتظار عودة العريس مغلوباً على أمره !

السبت، 23 مارس 2019

شيطانٌ في الجنة !

تأليف : امل شانوحة


ماهي اسرار البشريّة ؟

في القرن العاشر قبل الميلاد .. كان علم الشعوذة في ذرّوته , وكان للسحرة شأنٌ كبير في إدارة شؤون البلاد , حيث اعتاد الملوك على استشارة مشعوذيهم في امور الحرب وأحكام القضاء .. كما كان للسحرة إحتراماً ورهبة لدى العامة , بعد تمكّن أعوانهم الشياطين من الحصول على معلوماتٍ صحيحة من خلال تنّصتهم على كلام ملائكة السماء .. وبرغم صعوبة مهمّتهم , الا انها لم تكن مستحيلة في ذلك الزمان .. وكان تحقّق جزء من النبوءات كافياً لإرضاء فضول البشر في معرفة مستقبلهم , كما انها تساعد في الأعمال السحريّة وإيذاء الآخرين !
***

وفي إحدى ايام ذلك العصر القديم .. نزلت حوريّة من الجنة مُخترقةً الفضاء .. الى ان وصلت للغيوم التي جلست فوقها , وهي تنظر الى دنيا البشر وتتساءل :
- ماذا لوّ نزلت اليهم ؟ حتماً سأكون أجمل نساء الأرض , وسيتنافس الجميع على إرضائي .. 

وبينما هي غارقة بأفكارها , لمحت شيئاً اسوداً يخرج من الأرض ويحلّق مُسرعاً , مُخترقاً السحب باتجاه الفضاء .. فلحقته دون ان يشعر بها .. وحين تجاوزا السموات السبع , وجدته يقف عند باب الجنة وهو يحاول التنصّت على الملائكة , مُسترقاً النظر من فتحة القفل .. 
فصرخت بعلوّ صوتها :
- يا حرّاس الجنة !! هناك شيطان يتلصّص علينا
الشيطان بخوف : رجاءً اسكتي .. لا اريدهم ان يقتلونني !

وكان شيطاناً يافعاً وذكيّاً , حيث إستطاع بسرعة (وفور سماعه لصوتها من خلفه) بتحويل شكله المرعب الى شابٍ وسيم , ممّا أربكها ! فهي لم ترى مثل هيئته من قبل .. فقالت بارتباك :
- إذاً أهرب بسرعة , فليس مسموحاً لكم الإقتراب من هنا 

وبهذه اللحظات .. سمعا صهيل الأحصنة من بعيد , فقالت له :
- هيا إهبط بسرعة الى الأرض , ماذا تنتظر ؟ فحارس الجنة قادماً الى هنا على حصانه السريع 
الشيطان بقلق : لا استطيع .. فأبي طردني من البيت , ولن يسمح لي بالعودة الا اذا قمت بالمهمّة التي طلبها مني المشعوذ البشريّ.. لذا رجاءً أدخليني الجنة , فأنت تملكين المفتاح
- لا طبعاً , هذا ممنوع !! 

وحين سمعت الحارس يصرخ من بعيد : 
- من ناداني ؟!!! 
لم تجد نفسها الا وقد فتحت البوّابة , ليُسرعا بالتخفّي بين اشجار الجنة وهما ينظرا بقلق نحو الملاك الحارس الذي وصل الى الباب المفتوح .. وحين لم يجد أحداً هناك , قام بإقفاله من جديد ورحل ..

الشيطان بعد ان تنفّس الصعداء : شكراً لك 
الحوريّة : إسمعني جيداً , ستخرج من هنا مع حلول المساء ودون ان يراك أحد .. اساساً انت جريء لأنك أتيت الى هنا في الصباح !
- هذا لأني أعرف بأن أعداد حرسكم تزداد في المساء , فهو الوقت الذي يقوم به معظم أعوان السحرة الشياطين بعملية سرقة المعلومات , مُعرّضين أنفسهم للقتل او الحبس في جهنم 
الحوريّة : معلوماتك خاطئة ..فجهنم لم تفتح ابوابها بعد , فقط في يوم القيامة
الشيطان بدهشة : أحقاً ! اذا اين يختفي شبابنا ؟!
- يقتلون حتماً .. لكن ما لا أفهمه , لما تصرّون على هذا العمل الخطير ؟ 

الشيطان بحزن : لأننا مجبرين .. فالجن انواع : منها الضوئي والقمري والمائي والترابي والهوائي والناري... 
الحوريّة مقاطعة : وماهو نوعك ؟ 
- انا جني مُتشيطن ترابي , وتحكمنا الشياطين النارية من ابناء ابليس الملاعيين الذين يأمرونا بإطاعة اوامر السحرة البشريين الذين بدورهم يطالبونا بإحضار ولوّ معلومةً واحدة صادقة من خلال تنّصتنا على الملائكة , ثم يضيفون عليها عشرات الأكاذيب التي يصدّقها الأغبياء من البشر المهوسين بمعرفة مستقبلهم !
الحوريّة : لكن هذا خطأ ..فلوّ فرضنا إنكم أحضرتم لهم بشرة سعيدة , فمعرفتهم لها قبل وقتها يُفسد عليهم فرحة المفاجأة ..وان أخبرتموهم بقدرٍ سيء ينتظرهم , فهذا سيخيفهم حتماً .. ولذلك أخفى الله عنهم المستقبل , لأنهم كائناتٌ هشّة ونفسيتهم تتحطّم بسرعة !
- أعرف هذا , لكنهم يدفعون الكثير من أجل هذه المعلومة الصغيرة التي نحضرها لهم بشقّ الأنفس 

الحوريّة بحزم : لهذا ستبقى تحت ناظري , الى ان تخرج من هنا .. فأنا مُحال ان أسمح لك بسرقة أيّةِ معلومة من الملائكة
- أقبل ذلك , بشرط ان تدعيني أتجوّل معك في الجنة 
فتفكّر الحوريّة قليلاً , قبل ان تقول : 
- حسناً لكن إيّاك ان تبتعد عني , فأنا لا أثقّ بالشياطين ..وعلينا اولاً تغير هيئتك البشريّة .. 

وأخذته الى نهرٍ قريب , قائلةً :
- عليك ان تسبح في هذا النهر 
الشيطان باستغراب : ولماذا ؟!
- ستخرج منه على هيئة خدم الجنة الصغار , وحينها يمكنك التجوّل هنا دون ان يلاحظك أحد .. هيا قمّ بذلك ولا تجادلني

وفعل ما أمرته به .. وقد صعق حين رأى إنعكاس وجهه على النهر (بعد خروجه منه).. 
الشيطان بدهشة : يا الهي ! أبدو كصبيٍ وسيم  
الحوريّة : نعم , والآن إلحقني .. سآخذك في جولةٍ سريعة 
- إتفقنا 
*** 

وأخذته اولاً الى مطبخٍ ضخم : فيه الآف النساء الجميلات اللآتي تقمنّ بإعداد الطعام .. 
وحين إقترب الشيطان (بهيئة الصبي) من الحافظات العملاقة التي فيها كل أصناف الطعام , قال بدهشة :
- يا الهي ! هناك جبالٌ من الأطعمة الفاخرة , لمن كل هذا ؟!
الحوريّة : نحن نتحضّر لاستقبال المؤمنين بعد اجتيازهم ليوم الحساب 
الشيطان باهتمام وقلق : وهل يوم القيامة قريب ؟!
- لا أحد يعرف .. كما ان التوقيت هنا يختلف كثيراً عن الأرض ..وأظنهنّ بدأنّ بالتحضيرات قبل سنوات من خلقي .. وقبل ان تسأل , الأطعمة هنا لا تفسد وستبقى طازجة لحين بدء طلباتهم

الشيطان بقهر : كم هم محظوظون !
- بالطبع , فمعظم سكّان الجنة سيكونون من البشر الفقراء .. الم تسمع بأن درجاتهم في الجنة تتفاوت على حسب صبرهم على مصائب الدنيا ؟  
- وماذا عن اثرياء البشر ؟
الحوريّة : معظمهم فاسدون ومن اهل جهنم , الاّ من رحم ربي  
- فعلاً , فقسمة الحظوظ في الدنيا غير عادلة 
- هي كذلك , لكن بالآخرة سيُحاسب الجميع عن أبسط اخطائهم ..وكذلك الشاطين والجن  
الشيطان بحزن : أعلم ذلك , وكم يخيفني ذلك اليوم 
***

ثم مضيا في طريقهما , الى ان مرّا من امام نافذةٍ ضخمة .. وحين نظر الشيطان من خلالها عمّا يوجد خارج الجنة , قال بدهشة : 
- ما أجمل منظر المجرّة ! 
الحوريّة : نعم ويمكنك رؤية الكواكب وهي تسير في مدارها بانتظام , ومع ذلك أحب ان انزل الى سماء الدنيا لأراقب البشر من فوق الغيوم .. 
الشيطان : صدّقني هي ليست جميلة كما تبدو لك , فالقويّ فيها يأكل الضعيف , وقانون الغاب هو السائد بينهم 
الحوريّة : أعلم ذلك .. (ثم سكتت قليلاً) .. أتريد رؤية جهنم ؟ 
- أحقاً ! وهل ترونها من هنا ؟ 
- تعال معي 
***

وفتحت جناحيها , بينما أمسّك بيدها بخوف .. لتطير به باتجاه واديٍ سحيق , وكان يوجد في الأسفل : فتحةً عميقة , وامامها عدسة مكبّرة ضخمة .. 
الشيطان : هل هذا بركان ؟
- بركان في الجنة ! .. فقط انظر من خلال العدسة عمّا يوجد في أعماق الحفرة  

فاقترب بحذر من الحافّة , ونظر من خلال العدسة للأسفل : ليرى وكأن جهنّم على كوكبٍ آخر بعيد ! ثم رأى زبانيتها وهم يحضّرون أدوات التعذيب المختلفة من مقالع ومساميرٍ حادة وخوازيق وحبالٍ غليظة وغيرها , إستعداداً لاستقبال أهل جهنم .. بينما الآخرون يرمون بالجمر والحطب في مواقدها لزيادة لهيبها .. كما هناك من يزرع الزقّوم في ارجاء متفرّقة من اراضي جهنم اليابسة .. وكان رئيسهم مالك (خازن النار) يُشرف على سير العمل , وهو يستعجلهم لإتمام كل شيء قبل الموعد المحدّد الذي لا يعلمه أحدٌ سوى الله ..

فبلع الشيطان ريقه بخوفٍ شديد , ثم سألها :
- وكأني أرى عدّة طبقاتٍ لها ؟! 
فأجابته الحوريّة : نعم وهي سبعة : جهنم ولظى والحطمة والسعير وسقر والجحيم والهاوية...والطبقة السفلى تكون مباشرةً فوق الموقد الناريّ الضخم كما ترى : وهي لإبليس وابنائه وللمنافقين البشر , وكذلك الملحدين كفرعون وغيره .. اما الطابق السابع والأخير : فسيعاقب به المؤمنين العصاة الذي يتفاوت مدة عقابهم على حسب ذنوبهم , الى ان يغفر الله لهم ويدخلون الجنة
الشيطان بدهشة : جميعهم ؟!
- نعم , فالطابق الأخير سيُغلق بعد فترة , بعكس الطوابق الباقية .. 

فيتنهّد الشيطان بحزن : آخر شخص سيخرج من هناك سيكون أكثر حظاً منا , نحن الشياطين !
- صحيح فهو سيحظى فور دخوله الجنة بنعيم يساوي عشرة أمثال الدنيا
- ما أعدلك يا ربي ! أتدرين .. لا يحقّ لرئيسنا ابليس ان يرغمنا على اتباعه ويحرمنا من دخول الجنة
الحوريّة : خاصة انه عاش هنا لفترةٍ طويلة 
الشيطان بغيظ : لكن غروره أفسد كل شيء !!
- عليكم وعلى البشر المساكين
- صحيح 

الحوريّة باهتمام : هل هذا يعني انك تفكّر بالتوبة ؟ 
فأجابها بحزن : صدّقيني الأمر ليس بهذه السهولة .. لأني في حال فشلت في مهمّتي الحالية , سيُخبر المشعوذ البشريّ الشياطين الناريّة بالأمر ويقتلونني , وربما يحرقون عائلتي ايضاً !
- هذا يعني انك مصرّ على سرقة المعلومات من هنا ؟
فكذب عليها قائلاً : لا ابداً !! بل العكس , سأخبر عائلتي واصدقائي بجمال الجنة , لربما تابوا على يديّ
الحوريّة بسعادة : إن كانت هذه نيتك , فسأريك شيئاً آخر ..إمسك بيدي
***

وطارت به نحو قصرٍ موجود في أعلى الجبال .. ودخلا الى غرفةٍ كبيرة لايوجد فيها سوى كرسي مريح .. 
الشيطان باهتمام : ما هذه الغرفة ؟
فأجابته : ان جلست على هذا الكرسي يمكنك الإنتقال الى أيّ زمانٍ تريده , فلربما اهل الجنة (حين يحضرون) يتمنّون تجربة الماضي
- تقصدين من وقت آدم ؟
الحوريّة : ومن وقت سوميا إن أردّت 
فقال بحماس ودهشة : أحقاً ! من وقت أبو الجن .. إذاً اريد تجربتها 
- حسناً إجلس على الكرسي , واختار الحقبة الزمنية التي تريدها 

وما ان أغمض عيناه , حتى رأى ابليس وهو يُطرد من الجنة مذلولاً والحقد يملأ صدره .. ثم رآه وهو يتفق مع الثعبان للعودة الى الجنة لإغواء زوجة آدم .. ثم شاهد الأحداث تتسارع , وكيف كبرت مملكة ابليس على الأرض , وكيف تحكّم ابناءه ببقيّة انواع الجن بعد آلاف المعارك الدمويّة بين الطرفين ..ثم شاهد تاريخ البشر بشكلٍ متسارع , وصولاً الى زمنه الحالي 

ثم فتح عيناه وهو منبهر ممّا شاهده :
- كنّا اقوياء جداً في زمن الفراعنة , ثم أتى النبي سليمان واستعبدنا لفترةٍ طويلة .. لكنّا الآن عدنا للذرّوة بعد تأسيس البشر للماسونية , فهم يحتاجوننا دائماً في تسير امورهم التدميرية 
الحوريّة باشمئزاز : لا اريد مناقشتك بهذه الأمور المريبة .. دعنا نذهب لمكانٍ آخر قبل حلول المساء
*** 

واثناء سيرهما بين الحقول , رأى العمّال يجتهدون في بناء القصور 
فقالت الحوريّة : كل هذا تحضيراً لقدوم المؤمنين
- لكنها قصور مختلفة !
- طبعاً , فالفخامة تختلف على حسب حسنات ومكانة كل شخص .. 
الشيطان : لكني أرى أعداد القصور قليلة بالنسبة لمن نوسّوس لهم ؟! .. (ثم قال بارتياح) .. يبدو اننا سننجح في إغواء البشر  
فتتنهّد بضيق : احياناً أنسى انك شيطان .. (وتسكت)
فابتسم قائلاً : إكمليها .. شيطانٌ لعين , اليس كذلك ؟
فتجاهلت كلامه قائلة : هيا بنا , فهناك شيءٌ اريد أن اريك إيّاه
***

ووصلا الى بابٍ كبير موجود في إحدى زوايا الجنة .. 
الشيطان : ما هذا الباب ؟
الحوريّة : ليس باباً بل مصعداً ينزل فيه اصحاب الطبقات العليا لزيارة أقاربهم واصدقائهم المتواجدين في الطبقة أقل منهم .. ونحن الآن في الطبقة الأخيرة .. وفي الجنَّةِ مائةَ درجةٍ , ما بينَ كلِّ درجَتينِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ .. والفِردوسُ أعلاها درجةً ، ومنها تُفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ الأربعَةِ .. ومِن فوقِها يكونُ عرش الرحمن...
الشيطان مقاطعاً بحماس : اذاً لنصعد الى الفردوس ونراها !!
- لم تدعني أكمل كلامي .. الأقل مرتبة لا يمكنه الصعود الى فوق 
- آه ! لكيّ لا يحسدوا اصحاب الطبقة الأعلى منهم , اليس كذلك ؟

الحوريّة : في الجنة لا يوجد غيرة او حسد .. لكن مراعاةً لشعورهم , ينزلون من فوق لزيارتهم وليس العكس .. أفهمت الآن؟ 
- فهمت , ومع هذا لا أصدّق ان كل هذا النعيم الذي رأيناه هو للمؤمنين من الطبقة الأولى ! إذاً كيف يعيش من قصره في أعلى مرتبة من الجنة ؟ 
الحوريّة : الفردوس للصالحين والشهداء , وسيكونوا جيران الأنبياء.. كما يمكنهم رؤية الله

الشيطان : هم محظوظون .. وماذا عن البيت المعمور ؟ سمعت انكم تطوفون حوله 
الحوريّة : نعم , لكن لم يحنّ دوري بعد .. حيث يزوره سبعون الف ملك , لا يعودون له ابداً.. فهي مرة واحدة في حياتنا , وكم أتشوّق لرؤيته
الشيطان بدهشة وخوف : يا الهي ! وهل أعدادكم هائلة لهذه الدرجة ؟! 
- نعم , وانتم ايضاً
- أشفق على البشر , فنحن نفوقهم في العدد والقوة والدهاء
الحوريّة معاتبة : لا تقللّ من شأنهم , فبسببهم ستحرقون بجهنم .. اما نحن فخلقنا لخدمتهم بعد دخولهم الجنة
- آه صحيح , ذكّرتني بالحوريات .. ماذا عنهنّ ؟
- كنت أتوقع سؤالك , تعال معي
***

وأخذته الى صالةٍ كبيرة : تتعلّم فيه الحوريات كيفية الطيران بخفّة , والكلام والإبتسام بلطف , وحسن المعاملة والتصرّف 
الحوريّة : هؤلاء حوريات يافعات , لم يتخرّجن بعد من التدريبات .. اما انا , فتخرّجت قبل سنوات ..ولاحقاً سيقسّمونا في جداول , كل مجموعة تكون ملكاً لأحد المؤمنين 
- وماذا عن زوجاتهم الحقيقين في الدنيا ؟
- ستكون زوجته أجمل منا جميعاً
الشيطان : أمتأكدة من هذه المعلومة ! فقد رأيت بعضهنّ , وأشكالهنّ أشبه بزوجاتنا نحن 
فابتسمت قائلة : حين يدخلنّ الجنة يتحسّن مظهرهنّ وأخلاقهنّ ايضاً 

الشيطان : جميلٌ جداً .. (ثم تنهّد بضيق) .. أتدرين .. لوّ رأى الناس ما رأيته هنا , لتقاعدت الشياطين عن أعمالها , ولقضى ابليس وقته في صيد السمك 
الحوريّة : معك حق , مع ان جميع الأنبياء بشّروهم بالجنة وأنذروهم من جهنّم , لكن الكثير ينسون ذلك .. الا من رحم ربي طبعاً !
- بالحديث عن الأنبياء , هل يوجد نبي بعد سليمان ؟ فقد مات قبل سنواتٍ طويلة 
- انا لا أعرف بهذه الأمور .. لكن ربما نجد الإجابة في مكتبة الملائكة
فتنفّس الشيطان الصعداء وهو يخفي فرحه , لأن الأمور الغيبيّة هي ما  جلبته الى هنا ..
***

في المكتبة الضخمة , وجدا كتاباً بعنوان : انبياء البشر .. ففتحته على الفهرس , وقالت له :
- ارأيت !! سيأتي بعد النبي سليمان النبي زكريا ثم يحي , ثم عيسى للنصارى .. ومن بعدهم الرسول محمد وهو خاتم الأنبياء , كما هو مكتوبٌ هنا
فتنهّد الشيطان بارتياح , وقد ارتسمت إبتسامةٍ عريضة على وجهه 

الحوريّة بعد ان فتحت على صفحة الرسول محمد , قالت له : 
- لا تفرح هكذا فهو سيُرسل لجميع البشر والجن , ودينه سيبقى الى يوم القيامة
الشيطان بغيظ : لا ! هذه مصيبة علينا
- ليس هذا فحسب.. إقرأ هذه الجزئيّة التي تتكلّم عنكم 

فقرأ بأن مع قدوم الرسول محمد ستُغلق ابواب السماء في وجه الشياطين والجن , وكل من يحاول التنصّت على أقوال الملائكة سيُرجم بالشهب 
الحوريّة : أرأيت !! هذا يعني انه في ذلك الزمان ستختفي الشعوذة تماماً
- لا أظن ذلك , فكما ذُكر في الزّبور : ان السحر باقٍ الى يوم القيامة
الحوريّة : لكن السحرة بحاجة لتنبوءاتٍ صحيحة , فكيف ستقومون بالتنّصت علينا بوجود الشهب الحارقة في المستقبل ؟
الشيطان بقلق : يبدو ان وظيفتنا ستتحوّل من صعبة الى عملٍ إنتحاريّ !
الحوريّة : ولما كل هذه المجازفة ؟! 
فأجبها بعصبية : لأننا مجبرين !! فحياتنا ليست سهلة مثلكم ..فنحن محاصرون بين الملائكة وابناء ابليس الملاعيين الذين يراقبوننا وكأننا عبيداً عندهم !! 

وهنا سمعا مسؤول المكتبة يقول لهما :
- سنُغلق المكتبة بعد قليل , فقد حلّ المساء
فقالت الحوريّة للشيطان : هيا دعني آخذك الى البوّابة , فأنت وعدّتني بالعودة مساءً الى الأرض .. 
- حسناً كما تشائين 
وفي هذه اللحظات كان يفكّر في نفسه بقلق : 
((لم أتمّ مهمّتي بعد ! فماذا أفعل ؟))

وقبل خروجه من المكتبة , لمح موسوعة عن أسرار البشريّة .. وبخفّةِ يد سرق كتاباً منها وأخفاه في ملابسه , دون ان تلاحظ الحوريّة ذلك
***

وخارج بوّابة الجنة , عاد الشيطان الى شكله قديم..
الحوريّة بفزع : يا الهي ! كم شكلك مخيف 
- آسف , لكن لا داعي من التنكّر بعد خروجي من الجنة ..سأذهب الآن , وأشكرك على الجولة الرائعة التي لن انساها ابداً 

وقبل ان يذهب , نادته قائلة : 
- أتمنى ان تفكّر جديّاً بالهداية !!
- أعدك ان أزور مدينة الجن المؤمنين , فأنا لست غبياً كيّ أحرم نفسي من نعيم الجنة
الحوريّة : إذاً السلام على من اتبع الهدى ..
وودّعته وهي لا تعلم بأنه سرق الكتاب الذي يتكلّم عن : تأثيرات الفلك على البشر .. 
***

وهبط سريعاً نحو الأرض وهو سعيداً بما أخذه.. لكن قبل وصوله للأرض اعترضه ابن ابليس.. وظلّ يحقّق معه الى ان عرف بشأن الكتاب , فأخذه الى قصر والده .. وأدخله مكتب ابليس ..
وهناك تكلّم الشيطان بحماسٍ وفخر عن سرقته للكتاب بخفّة من مكتبة الملائكة .. وحين بدأ في وصف جهنّم , لاحظ ابليس خوف ابنه ! فطلب منه تركه لوحده مع الشيطان اليافع .. فخرج متضايقاً لأنه كان يرغب بسماع وصف الجنة التي لم يخبرهم ابليس عنها يوماً !

وبعد ان أنهى الشيطان وصفه لكل ما رآه بالجنة , قال له ابليس :
- أظنك تنتظر مني ان اكافئك على شجاعتك ؟
فأجاب الشيطان بغرور : طبعاً , فأنا الشيطان الوحيد الذي تجوّل بالجنة 
وإذّ به يتفاجأ بإبليس يسلّط عليه عصاه ليحرقه ! 

ودخل ابن ابليس مُسرعاً الى المكتب بعد سماع صرخات الشيطان المتألّمة , ليتفاجأ بجثته متفحّمة ! 
فسأل والده بدهشة :
- ظننتك ستكرّمه وتُعلي شأنه بيننا !
- قتلته لأنه رأى أكثر من اللازم 
- لكن ابي ..
ابليس مقاطعاً بغضب : أتعترض على حكمي يا ولد !!
فسكت ابنه خوفاً من ان يلاقي ذات المصير .. 

ثم أردف ابليس قائلاً وهو يتصفّح كتاب الملائكة :
- خذّ جثته وسلّمها لأهله .. واخبرهم بأنه لم ينجز مهمة التنصّت , لذلك أعدمناه
الأبن : لكنك لم تجيبني على سؤالي بعد .. لما قتلته ؟

فأغلق الكتاب بعنف وتوجه نحوه بغضب , مما أربك الإبن :
ابليس بعصبية : إفهم يا غبي !! إن تفوّه هذا الأحمق بالنعيم الذي رآه فوق فسيؤمن بعض الشياطين , وربما عدد كبير من الجن .. أتريد ان تتدمّر إمبراطوريتي بعد ان أوهمت الجميع ولقرونٍ طويلة بأن الحياة في الدنيا أكثر حماسةً وجمالاً من الجنة ؟ 
ابنه باهتمام : وهل الجنة جميلة لهذه الدرجة يا ابي ؟!
فصفعه بقوة أوقعته أرضاً , قائلاً بغضبٍ شديد :
- ولما تظنني غاضباً لهذه الدرجة من ذريّة آدم ؟!!!!! 
ابنه وهو يرتجف بخوف : آسف ابي , لم أقصد إزعاجك

فعاد ابليس الى عرشه وهو يشتعل غضباً : 
- آدم حرمني من أجمل شيء في حياتي , وقد قلت لربي يومها : بأنني سأغوي ذرّيته .. وسأفعل ذلك , الى ان يأمر الله بقبض روحي الأبدية اللعينة !!!
فأراد ابنه تغير الموضوع , فسأله : وماذا عن الكتاب ؟

فتنفّس ابليس قليلاً ليهدّأ من اعصابه , ثم عاد لتصفّحه من جديد : 
- اريد دراسته اولاً .. فقد كنت أعلم مُسبقاً بأن للقمر تأثيراً على الإنسان , وبأن للخسوف والكسوف تأثيراً على الطبيعة .. لأنني حين كنت في الجنة , سمعت الملائكة تردّد قولاً لله يقول فيه : ((فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)).. لهذا سأحتفظ بالكتاب , الى ان أجد انساناً خبيثاً يستطيع تحويله الى علمٍ يؤذي البشريّة .. والآن خذّ جثة الأحمق , واغرب عن وجهي 
- حاضر ابي  
***

بعد قرون .. وتحديداً في القرن الثاني قبل الميلاد , أعطى ابن ابليس (بناءً على طلب والده) ذلك الكتاب الى بطليموس السكندري ليقوم بتحويله الى كتاب بعنوان ((تيترابيبلوس – Tetrabiblos)) .. ومن بعده انتشر التنجيم في الشرق الأوسط وفي أوروبا .. وبقيّ هذا العلم الفلكي لبطليموس , حتى القرن السابع عشر حيث تغيرت ثقافته قليلاً خلال القرون اللاحقة .. وبسببه تعلّق الكثير من البشر بالأبراج الغربية والصينية لتحديد مصائرهم , بناءً على حركة الكواكب .. مما أثّر سلباً على أعمالهم وروابطهم الإنسانية كما علاقاتهم الزوجيّة , خاصة إنه يعدّ شركاً أصغر بالله لعدم الإيمان بالقدر .. 

ممّا أسعد إبليس كثيراً , الذي قال في نفسه : 
((كان عليّ تكريم ذلك الشيطان المغامر , لكني قتلته لأنه أغاظني حين ذكّرني بما خسرته .. وبسبب حرماني من ذلك النعيم الذي لا يعوّض , لن أتقاعس يوماً على أذيّة ذرّية آدم الى يوم الدين .. تماماً كما وعدّتك يا ربي , والتي ذكرتها في كتابك الكريم : ((قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِم وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ))
ثم همس قائلاً : صدق الله العظيم 
ومسح دمعته بقهر .. 

الأربعاء، 20 مارس 2019

إنهيار مبنى

تأليف : امل شانوحة

اين سنعيش الآن ؟!

في حيٍّ شعبيٍّ فقير , وفي منتصف الليل .. إستيقظ سكّان العمارة على صوت البوّاب وهو يطرق بهستيريا على ابواب شققهم , صارخاً بفزع : 
- إستيقظوا , المبنى سينهار !! إنزلوا فوراً الى الشارع .. بسرعة !!!

وكان المبنى مكوّناً من اربعة أدوار : كل دور فيه شقتين .. بالإضافة الى منزل البواب وعائلته ..

تسع عائلات تسكن هذا المبنى القديم المتهالك .. وفي هذه الليلة , لاحظ حارسها تصدّعاً هائلاً لإحدى أعمدتها الرئيسية ! فما كان منه الا ان أخرج زوجته واولاده الثلاثة الى الشارع , قبل صعوده الطوابق الأربعة لتنبيه بقيّة السكّان ..

وتجمّع الناس حول المبنى , بعد سماعهم لصرخات زوجة البوّاب المرتعبة التي منعت اولادها من اللحاق بوالدهم ..

وكان يسكن في الطابق الأول : رجلٌ أرمل مع ابنه 6 سنوات .. وفي الشقة المجاورة له : يسكن عجوزٌ لوحده .. 
وقد إضّطر الرجل لكسر باب العجوز الأصمّ ومساعدته لنزول الأدراج , بينما امسك طفله بملابسه وهو مازال نعساً 

اما في الطابق الثاني : فكانت شقة والدين , كانا زوّجا ابنهما الوحيد قبل شهور .. وبدورهما طرقا كثيراً على باب جارهم (المعروف ببخله) .. لكنه لم يفتح لهما الباب , فظنّا بأنه مازال في دوامه المسائيّ .. ونزلا الأدراج بأسرع ما يمكنهما , رغم معاناتهما من البدانة وآلام المفاصل  

في الطابق الثالث : أسرعت أم بحمل طفلها 3 سنوات , وإمساك يد ابنتها 9 سنوات .. وركضوا للأسفل بعد تساقط الأتربة عليهم من سقف شقتهم .. ولم تبالي بتنبيه جارتها بوسي (سيئة الخلق) التي عادةً تكون في البار بهذا الوقت المتأخّر .. كما لم تسمع بكاء طفل بوسي , لِذا ظنّت بأن الشقة فارغة بعد ان حملته الخادمة الى الشارع .. 

اما في الطابق الرابع والأخير : فيعيش شاب جامعي لوحده .. وفي الشقة المقابلة له : تسكن عائلة مكوّنة من والدين وابنٌ في العاشرة وفتاةٌ مراهقة ..جميعهم كانوا من الناجيين ..
***

تجمّع السكّان اسفل عمارتهم , مع وصول اول سيارة شرطة استطاعت إبعاد الحشود عن المبنى المتهالك .. 

في هذه الأثناء.. وصل الجار البخيل الى العمارة , ليتفاجأ بالخبر ! وإذّ به يسرع كالمجنون بصعود الأدراج نحو منزله لإنقاذ ماله المُخبأ داخل خزنته , الذي جمعه خلال سنواتٍ من دواميه المرهقين الصباحيّ والمسائيّ .. ولم تستطع الشرطة اللحاق به , بعد ازدياد ميلان العمارة نحو الأمام !

فأسرع الشرطي بسؤال البوّاب : هل هناك أحدٌ غيره في المبنى ؟ 
فنظر البواب سريعاً للجيران الذين كانوا يبكون على منازلهم التي أوشكوا على خسارتها .. وأجاب الشرطي : 
- انا لا ارى فتاة الليل التي تسكن الطابق الثالث مع طفلها ! وهذه السيدة هي جارتها بنفس الطابق 

فأسرع الشرطي نحوها وسألها ان كانت رأتها , فأجابته بخبث :
- نعم نزلت قبلي مع طفلها .. ورأيتها تركب التاكسي قبل قليل

وهي كذبت لأنها ارادت التخلّص من تلك السيدة الفاسدة , خوفاً على ابنتها الصغيرة التي وجدتها ذات يوم في شقتها وهي تعلّمها الرقص , مما أدّى الى شجارٍ عنيف بين الجارتين .. 
***

وفي الوقت الذي انتظر فيه الجميع خروج البخيل من المبنى الذي بات على وشك الإنهيار , غافل الولد الصغير اباه (الأرمل) وركض بسرعة باتجاه المبنى بعد تذكّره لقطته التي نساها بالمنزل  
وحاول والده اللحاق به , لكنه سقط مغشياً عليه بعد سقوط إحدى الشرفات فوق رأس ابنه , لتسحقه على الفور ! 

وقبل ان يستوعب الجميع ما حصل , إنهار المبنى تماماً ليتحوّل بثوانيٍ الى جبلٍ من الركام , وسط صراخ وبكاء سكّان العمارة المتهدّمة ..
***  

وخلال ساعاتٍ قليلة .. تجمّع الصحفيون ورجال الشرطة والإسعاف , بالإضافة الى جرّافةٍ ضخمة وكلاب بوليسية في محاولة لإنقاذ الجار البخيل العالق هناك .. او بالأرجح إخراج جثته , مع أشلاء ابن الأرمل من تحت الشرفة المنهارة .. 

وفجأة ! صرخ الشرطي على الناس المتجمّهرة هناك :
- اسكتوا جميعاً !!! فهناك شخصٌ حيّ تحت الركام !
فصمت الجميع ! ليظهر صوت بكاءٍ مكتوم لطفلٍ صغير ..

البواب بدهشة : يا الهي ! أظنه طفل بوسي  
ثم وجّه كلامه لجارتها : ألم تقولي انك شاهدتها تنزل مع ابنها لأسفل العمارة ؟!
فنظر الجيران اليها بحنق , فأجابت بارتباك : 
- ظننتها في العمل , وأن خادمتها أنقذت الطفل !
فقالت لها زوجة البواب بعصبية : هي لم تذهب للبار اليوم , وخادمتها في إجازة  
السيدة : لم اكن أعرف ! فأنا لم اسمع بكاء ابنها , رغم الإهتزاز العنيف للمبنى 
فقالت زوجة البواب : لأن امه السكرانة عادةً ما تسقيه منوّماً قوياً , هذا ما أخبرتني به الخادمة .. ورغم كرهنا جميعاً لأخلاقها السيئة , لكن لا يحقّ لك ان تكذبي على الشرطة وتوقفينهم عن إنقاذ طفلٍ بريء !
فتمّتمت الجارة بازدراء وبلا مبالاة : هو بالنهاية طفلٌ غير شرعيّ 

الغريب انهم أخرجوا الطفل سليماً من تحت الأنقاض , مع إصابته ببعض الخدوش الغير خطيرة ! اما امه , فلم يعثروا الا على جزء من جمّجمتها المهشّمة 

وبعد ساعتين .. وجدوا نصف الرجل البخيل وهو يحتضن خزنته الحديدية التي انكسر بابها بفعل الأنقاض , لتتطاير بقايا امواله الممزّقة في الهواء  وتتبعثر فوق الركام !

اما طفل الأرمل , فقد سحقته الشرفة تماماً ..ولم يجدوا من أشلائه , سوى عظمة ساعده الأيمن !
***

حلّ الصباح , ومازالت الشرطة تطوّق المكان .. بينما ذهب الناس الى اعمالهم وبيوتهم , تاركيّ جيران العمارة المنهارة في حيرةٍ من أمرهم بعد خسارتهم لسكناهم , وهم يفكّرون بمكانٍ آخر يأوون اليه 

أتدرون مالذي حصل لهم ؟ .. سأترك البوّاب يخبركم ببقيّة القصة 
*** 

مرحباً .. انا عثمان ..حارس البناية المنكوبة .. في ذلك الصباح المشؤوم , أخذتنا الشرطة لنبيت في جامع قيد الإنشاء , بعد ان تكرّم علينا الناس ببطانيات وغيارات للأولاد , مع سندويشة فلافل لكل واحداً منا .. 
وجلسنا هناك ونحن مصابون بالذهول ! حتى اننا لم نتكلّم كثيراً في الموضوع .. بينما كان اولادنا يلعبون في ارجاء الجامع الفارغ .. 

وكان اول الخارجين من هناك : عائلة الطابق الرابع .. حيث قامت ابنتهم الصبية بعملٍ بطوليّ .. حين استغلّت نوم اهلها ظهراً , لتذهب الى محل العجوز(ميسور الحال) وتخبره بأنها قبلت الزواج منه (بعد ان كانت رفضته سابقاً) بشرط ان يجد بيتاً مفروشاً لأهلها , وبأسرع وقتٍ ممكن .. 

ورغم اعتراض والديها الا ان إمام الجامع قام بتزويجهما امامنا , بعد ان سلّم العجوز مفاتيح إحدى شققه المفروشة لعائلتها كمهرٍ لها  
وخرجت العروس باكية من المسجد .. تتبعها عائلتها والألم يعتصر قلبهم , لكنهم ايضاً فخورين بتضحية ابنتهم العظيمة ! 
***

وفي اليوم التالي لنا بالجامع .. ودّعنا الشاب الجامعي الذي قرّر الإلتحاق بالعسكرية بعد تخليه عن حلم الدراسة , فكل شهاداته واوارقه الرسمية دفنت تحت الركام !

اما طفل السيدة اللعوب (التي ماتت في إنهيار المبنى) : فقد قامت سيدة ثريّة بتبنيه بعد سماعها قصته من الأخبار ..وربما كان المحظوظ الوحيد بيننا

اما جارتها , فقد تمكّنت بعد اسبوعين من تشرّدنا من إيجاد عملٍ كخادمة في إحدى فللّ الأثرياء الذين رفضوا إستقبال ولديها ! ممّا اضّطرها لوضعهما في دار الإيتام , وزيارتهما مرة كل شهر .. 

وفي يوم التقت مع زوجتي في السوق وأخبرتها : بأن القدر يعاقبها على تركها لبوسي تموت هناك , فلربما كارثة الإنهيار كانت سبباً في هدايتها.. من يدري ! 

اما العجوز الأصمّ الذي سكن الطابق الأول : فقد توجّه بنفسه الى دار العجزة ليأسه من الحياة , بعد إنهيار شقته التي فيها كل ذكرياته مع زوجته المتوفاة

اما الوالدان من الطابق الثاني : فعاشا عند زوجة ابنهما التي تضايقت كثيراً من وجودهما , بحجّة انها عروس جديدة ومن حقها ان يكون منزلها لوحدها .. ولم يمضيا شهراً عندها , حتى أصيب الوالد بأزمةٍ قلبية .. وكنت انا آخر من زاره , وقد شكا لي ضعف شخصية ابنه الذي خيّب أمله بعد وقوفه المتكرّر مع زوجته , حتى انه لم يعاتبها حين قالت لهما : ان موتهما في شقتهما تلك الليلة , كان أفضل لهما ! .. وبعد مراسم الدفن والعزاء , إنتقلت الأم الى منزل صديقتها العانس , وعاشا سوياً هناك .. وهذا آخر ما عرفته عنهما 

اما جارنا الأرمل الذي فقد ابنه الصغير امام عينيه , فصار مُلقّباً لدى  الجميع : ((بمجنون الخرابة)) .. حيث يضع عظمة ساعد ابنه المتفحّمة والمتعفنة كعقدٍ حول رقبته , وينام فوق اطلال المبنى المُهدّم .. ويعيش على صدقات الناس وبقايا طعامهم !

اما انا .. فقد عدّت مع عائلتي الى قريتي للعمل مجدداً في الفلاحة , بينما تقوم زوجتي وابنائي برعاية الماشية , بعد ان ضاعت احلامنا بحياةٍ أفضل في المدينة ..

وكما رأيتم .. تسع عائلات تبعثرت حياتهم في ثوانيٍ بعد انهيار المبنى , فيالها من حياةٍ هشّة التي نعيشها ! 
لذلك إن كنتم محصّنون في بيوتكم , فاحمدوا الله ألف مرة .. فهناك آلاف العائلات تنام في عماراتٍ وبيوتٍ متهالكة , واضعةً مصيرها وأحلامها ومستقبلها على حافة الهاوية , متأمّلين بأن لا يتشابه قدرهم مع الذي حصل معي ومع سكّان عمارتنا المنكوبة .. لكن العيش على هامش الحياة سيبقى دائماً صعباً ومخيباً للآمال !  

الخميس، 14 مارس 2019

واجه ماضيك

تأليف : امل شانوحة


 
عقدنا النفسيّة المدمّرة 

امتلأت قاعة الإنتظار بالمرضى في عيادة الطبيب سليم , أمهر الأطباء النفسيين , رغم ان هذا النوع من العلاج غير مُستحبّ في البلاد العربية ! لكنه أصبح مشهوراً بعد ان ذيّع صيته بقدرته على علاج العقد النفسية والإضطرابات العاطفية بجلسةٍ واحدة للتنويم المغناطيسي ! وارتفعت سمعته بعد نجاحه في إقناع العديد من الأزواج بالتخلّي عن فكرة الطلاق , مُنقذاً بذلك أطفالهم من خطر التفككّ الأسريّ .. 
***

وفي ظهر هذا اليوم .. دخل الشاب أحمد متردّداً الى العيادة , لعلاج مشاكله العاطفية المتأزّمة .. واستلقى على الكنبة , بناءً على اوامر الدكتور سليم الذي سأله : 
- ماهي مشكلتك بالضبط ؟
فأجاب الشاب بنبرةٍ حزينة : دائماً أبعد احبائي كلما اقتربوا مني 
- وهل تقوم بذلك دون إرادةٍ منك ؟
أحمد : نعم , ولا أدري ما السبب ! فأنا أغضبهم بأيّة طريقة لإبعادهم عن طريقي , رغم انني أتوق للقياهم ! وبسبب ذلك إنفصلت عن العديد من الصداقات .. لكن هناك علاقة كسرت قلبي , بعد ان خسرت فتاة أظنها توأم روحي 
الطبيب : ما اسمها ؟
- رؤى
- حسنا فهمت المشكلة .. اريدك ان تغمض عينيك وتسترخي تماماً , وسأقوم بالعدّ الى الرقم 7.. سأبدأ : 1 – 2 – 3.....7 .. انت الآن في نومٍ عميق

وفي اللحظة التي غفى فيها الشاب .. قام الطبيب بتسليط نور جهازه السرّي (الذي أخرجه من الخزانة) على رأس المريض , لتخرج ذكرياته كفيلمٍ قصير على شاشة الحائط ..
فبدأ الدكتور سليم يشاهد أهم اللحظات السعيدة والسيئة التي مرّت في حياة أحمد :
الذي يبدو انه عاش طفولةً سعيدة في ظلّ والدين حنونين وأخوة اكبر منه سناً .. وفي المدرسة كان طالباً نجيباً ومميزاً , حظيّ بالكثير من الأصدقاء , خاصة الفتيات  .. لكن بعمر التاسعة , حصلت له اول صدمة في حياته ! حيث شاهد الدكتور على الشاشة : والد أحمد وهو يحمل ابنه البكر (المراهق) الذي وقع على الأرضيّة دون حراك , وأسرع به للمستشفى ..ثم مضى وقت العزاء ثقيلاً على أحمد , أثّر كثيراً على تركيزه الدراسيّ 

ثم مرّ الفيلم سريعاً , الى ان توقف عند صدمة أحمد الثانية بعد وفاة والده , عقب دخوله الجامعة  ..مما جعله يهتم أكثر بالرياضة والطعام الصحيّ .. كما زاد تعلّقه بأمه وأخيه واخته الأكبر سناً , فهو آخر العنقود 

واستمر فيلم حياته بشكلٍ متسارع , الى ان توقف عند الحادثة التي تسبّبت في عقدته الأساسية : وهي خوفه من الإرتباط العاطفيّ .. بعد وفاة خطيبته قبل شهرين من زواجهما , إثر حادث سيارة .. ويبدو انهما كانا على خلافٍ قبلها ! 

وقد أدّى موتها المفاجىء الى ارتباكٍ كبير في حياته , جعلته يهمل واجباته العائلية والدراسية والعمل , كما صحته بعد إكثاره من الشرب .. والأسوء ان رفقاء السوء نصحوه بالعلاقات العابرة لنسيان حبيبته .. وبدوره انغمس بالملذّات من شدة يأسه .. ولخوف عائلته عليه من الضياع , قاموا بتسفيره الى الخارج 

من بعدها بدأت مرحلة جديدة من حياته في الغربة , لكن ما ان بدأ يتعوّد عليها حتى أصيب بعارضٍ صحيّ مفاجىء , حيث لم تنفع الأدوية العادية لعلاج صداعه المستمرّ .. فأخبره الطبيب انه مصاب بصداعٍ نصفيّ سيعاني من اعراضه طوال حياته .. لكن الأمر الجيد بالموضوع انه التقى بزوجته الأجنبية التي تعمل في المستشفى كطبيبة اطفال .. وقد لاحظ الطبيب سليم على الفور (من الشاشة) : التشابه الكبير بينها وبين خطيبة أحمد المتوفاة ! وربما لهذا استعجل بالزواج منها خلال شهرٍ واحد .. 

ثم عُرضت السنوات اللاحقة لأحمد في خلال ثوانيٍ مرّت بالشريط : كبرت فيها ابنته المدلّلة على قلبه , التي أسماها على اسم خطيبته السابقة 

لكن ظهر ايضاً على الشاشة : انه خان زوجته أكثر من مرة مع فتيات تعرّف عليهنّ من خلال الإنترنت , لم تدمّ علاقته معهنّ اياماً! 

ووصل الفيلم الى المرحلة الأهم من حياته : وهي تعرّفه على الفتاة رؤى من خلال الفيسبوك ..التي يبدو من تعابيره المنشرحة وهو يكلّمها , بأنها استطاعت إقتحام قلبه المكسور !

لكن مع تتابع الشريط .. شاهد الطبيب (من عينيّ أحمد) عباراته القاسية اتجاهها .. وكأنه يثير المشاكل لإبعادها , كلما قربت المسافة بينهما ! 
الى ان وصله ردّها الأخير : بإنهائها العلاقة بعد يأسها منه .. ويبدو ان رسالتها الأخيرة أخافته لدرجة انه قبل فكرة العلاج النفسيّ..

وهنا أطفأ الطبيب الجهاز (الذي أخفاه في الخزانة) .. واقترب من المريض النائم لإيقاظه , بعد ان أصبحت لديه فكرة شاملة عن الظروف التي مرّت في حياته 
وهمس في إذن أحمد :
- ستستيقط عند رقم سبعة : 1 , 2....7 .. استيقظ الآن !!
واستفاق أحمد وهو يسأله : هل شُفيت دكتور ؟
الطبيب : ليس بهذه السهولة .. اريد اولاً مراجعة بعض الأحداث التي ذكرتها اثناء نومك المغناطيسيّ
أحمد : تفضّل , مع اني لا أذكر انني قلت شيئاً عن ماضيّ ! 
- بل قلت الكثير .. لنعدّ بذاكرتك الى الوراء .. ماهو شعورك اتجاه وفاة اخيك ؟

فتنهّد أحمد بضيق : كنت أظن في صغري ان الموت لا يصيب سوى العجائز .. وأخي كان مراهقاً قوياً , ومات من دون سبب ! 
- وهل كان موته المفاجىء سبباً لخوفك من خسارة أحبائك ؟
- كان صدمتي الأولى في الحياة 
الطبيب : وماذا عن وفاة والدك ؟
- ابي كان سندي , وهو من توصّت لي لدخول الإختصاص الذي اريده في الجامعة بعد إكتمال العدد ..وكنت متعلقاً به أكثر من امي , وخسارته جعلتني أشعر باليتم ولوّ كنت كبيراً

الطبيب : وماذا عن خطيبتك السابقة ؟
فسكت أحمد طويلاً , قبل ان يقول : 
- كان التشابه بيننا كبيراً , وكأنها مخلوقة مني .. فهي تفهم مشاعري دون ان أتكلم .. وأكثر ما يحزنني انني لا أتذكّر سبب خلافنا الأخير .. (يسكت قليلاً) .. ربما أثرت غيرتها بكلامي عن جمال ورقّة صديقاتي بالجامعة , كما أفعل عادةً 
الطبيب : وهل كنت تفعل ذلك لتشعرها بخطر فقدانك , فتهتم بك أكثر ؟ 
- ربما .. لكنها غضبت وسافرت على الفور , فهي مضيفة طيران .. وقرّرت مصالحتها فور عودتها , لكن مرضاً ألمّ بي منعني من الذهاب للمطار , فذهبت بسيارة الشركة
- وحصل الحادث
فأجاب أحمد بصوتٍ متهدّجٍ مكسور : نعم للأسف 
- وانت سافرت بعدها للخارج ؟
- اهلي رتّبوا كل شيء لخوفهم من فقدان عقلي بسبب إدماني على الشرب ..فكل شيء بمنطقتي يذكّرني بحبيبتي , فهي كانت جارتي 

الطبيب : وماذا عن زوجتك الأجنبية ؟
- هي ام ابنتي , وانا أحبها كثيراً
الطبيب : لكنك لست مخلصاً لها , لماذا ؟
ففكّر قليلاً قبل ان يقول : لا ادري .. أشعر بأن لديّ العديد من الخيارات , فأنا وسيم وغني وموهوب وذكي  .. والفتيات بالغربة سهل الحصول عليهنّ , فلما اكتفي بواحدة ؟
الطبيب : أهذا هو السبب , ام انك تخشى الوقوع بالحب ؟ 
- انا أحببت الكثيرات.. 
الطبيب مقاطعاً : أقصد العشق الذي يجعلك ضعيفاً امام امرأة واحدة دون غيرها.... يمكنك إجابتي , فأنا طبيبك واريد مساعدتك 
فأومأ أحمد برأسه إيجاباً.. 

فأردف الطبيب قائلاً :
- أتخاف ان أحببتها لهذه الدرجة , يُفرّق الموت بينكما من جديد ؟
- او أخسر قيمتي امامها , فأنا اريد ان ابدو دائماً كرجلٍ قويّ 
الطبيب : وهل تظن الرجل الذي يُغدق على حبيبته بالمشاعر هو رجلٌ ضعيف ؟
أحمد : نعم
- مخطئٌ تماماً.. فالرجولة ليست ان تحب إمرأة مختلفة كل يوم , بل انت تحب المرأة ذاتها كل يوم
أحمد : لكن دكتور ..

الطبيب مقاطعاً : ما رأيك لوّ نتكلّم قليلاً عن رؤى..باختصار كيف تراها ؟ 
- زوجة وأم مثالية 
- وما المختلف فيها عن بقية النساء اللآتي تعرّفت عليهنّ بحياتك ؟ 
فأجابه أحمد بعصبية : هي نكدية وعنادية جداً , وهذا يغضبني للغاية
- هل تضايقك لأنها تشبهك ؟ 
فسكت أحمد مطولاً , قبل ان يقول : 
- سابقاً كنت أتلوّن على حسب ما تريده كل فتاة لكيّ أتقرّب منها وأحصل على ما اريده , ثم اختفي من حياتها .. اما رؤى فلم تنفع معها أية وسيلة , فهي تطالبني بالتعامل معها على طبيعتي ! وهذا يثير حيرتي .. والأغرب انها تصرّ على إنني أضع قناع القسوة على وجهي البريء ! هل تصدّق ذلك ؟!
الطبيب : طالما انها تعرفك لهذه الدرجة , فلما لا تتكلّم معها بصراحة دون تصنّع ؟

فأجاب أحمد بعصبية وتوتر : لأنني لا اعرف كيف يا دكتور !! فلي سنوات طويلة وانا أتصرّف هكذا , حتى نسيت من أكون ! 
- إهدأ يا احمد .. انا أتفهمك جيداً .. فأحيانا نغير شخصيتنا لكي نتناسب مع المحيط من حولنا , او لكسب اصدقاء جدد .. لكن ما لا تعرفه انك محظوظ لأنك وجدت فتاة تتقبّلك كما انت , بعيوبك التي تحاول جاهداً إخفائها عن الجميع 
أحمد بقلق : وماذا لوّ تركتني بعد معرفتها بقلبي الهشّ الرقيق , وبأنني مرهف المشاعر كالشعراء ؟ أكيد ستتحطّم صورة الشاب القوي امامها , وربما أخسرها للأبد

الطبيب بحماس : ممتاز !! بدأنا نصل الى نتيجة 
أحمد باستغراب : لم أفهم !
- لقد اعترفت للتوّ ان قسوتك ماهي الا خوف من خسارة حبيبتك , وهذه الخطوة الأولى للعلاج .. 
- آسف , لم استوعب بعد !
الطبيب : لأفسّرها لك بطريقةٍ أخرى .. هل ترغب في معرفة المشكلة الرئيسية بينكما ؟
- نعم 

الطبيب : انت عشت فترة طويلة بحياة زوجية روتينية , بعد ان كنت شاباً عازباً لديه الكثير من المغامرات .. وحين أغدقت عليك رؤى بحنانها , شعرت بقيمتك وزادت ثقتك بنفسك .. فشعرت الفتيات من حولك بوهجك الجديد , وازدادت الخيارات امامك .. ولذلك خنت زوجتك اولاً , كما ثقة رؤى التي وعدتها بالزواج
أحمد بقهر : لكنهنّ بالنهاية كانوا خياراتً زائفة ! 
الطبيب : وعرفت ذلك بعد خسارتك للحب الحقيقي الذي اهداه الله لك على طبقٍ من فضة , اليس كذلك ؟
أحمد : غياب رؤى قهرني من الداخل , وذكّرني بفقدان خطيبتي السابقة

الطبيب : اذاً لندخل الى صلب الموضوع .. هل تريد العودة الى رؤى؟
أحمد : بالطبع , لكن كيف ؟ فهي حظرتني من صفحتها على الفيسبوك ؟
- إذاً أعطني رابط الصفحة , وانا سأكلّمها الليلة
فردّ أحمد بارتباك : لا , لا اريد
فضحك الطبيب قائلاً : لا تخف , لن أسرقها منك .. ثم هل ستفضّل عجوزاً على شاب وسيم مثلك ؟ عليك ان تثقّ بإخلاصها لك .. هيا لا تعاندني , فأنا اريد مصلحتك ..

وبعد تردّدٌ كبير , أعطاه أحمد رابط صفحتها .. وخرج من العيادة , بعد ان أخبره الطبيب بأنه سيحدّد له موعداً لاحق
***

وفي المساء .. ارسل الطبيب سليم رسالة لرؤى يُخبرها فيها عن موجز ما حصل ..
فأجابته بدهشة :
- أتقصد ان أحمد يتعالج نفسيّاً عندك ؟ ..لا أصدّق ذلك !
فكتب لها على الفيسبوك قائلاً : كانت جلسته العلاجية الأولى , ولوّلا إهتمامه الكبير بك لما أقدم على هذه الخطة الجريئة .. فمن يتمتّع مثله بالنرجسية , من سابع المستحيلات ان يعترف بوجود خطبٍ في سلوكه .. لذلك اريدك ان تحضري الى عيادتي غداً 
رؤى بقلق : وهل هذا ضروري ؟!
- إن كنت تريدين ان يتمّ الزواج بينكما
ففكّرت قليلاً , ثم قالت : حسناً , سآتي على الموعد 
***

وفي ظهر اليوم التالي .. طلب منها الدكتور سليم الإستلقاء على الكنبة
رؤى : لكني لست مريضة !
الطبيب : صدّقيني عزيزتي .. لا يخلوّ انسان من عقدٍ نفسيّة , حتى انا 

وبعد ان استلقت , قام بتنويمها مغناطيسياً .. ثم أخرج إختراعه السرّي من الخزانة .. وسلّط نور الجهاز على رأسها , ليظهر شريط حياتها امامه على شاشة الحائط :
ويبدو انها كانت طفلة قوية ومنطلقة بالكلام , الى ان سافرت مع اهلها لبلدٍ عربي آخر .. وربما اختلاف اللهجات والعادات جعلها إنطوائية في المدرسة , رغم تفوقها الدراسيّ !

وظنّ الطبيب ان السبب هو الغربة فقط .. لكن بعد طبع عدة كلمات على الحاسوب المتصل بإختراعه , ظهر بالفيلم قريبتها وهي تضع السحر في طعامها لتجعلها غير مرئية للآخرين , بعد ان خفّفت من وهج طاقتها كثيراً  
فتمّتم الطبيب بغيظ : 
- اللعنة على السحرة , وعلى غيرة الأقارب .. لنُكمل الشريط

ثم شاهد رؤى داخل منزلها , وكانت فتاة مرضية لعائلتها ..لكن السحر تسبّب بتوترٍ كبير بين والديها , وبين علاقتها بأبيها , أدّى لاحقاً للكثير من المشاكل التي تركت أثراً كبيراً على نفسيتها  .. 

وبعد تخرّجها الجامعيّ , حاولت جاهدة إيجاد وظيفة لكن دون جدوى .. فبقيت في المنزل , وبدأت بتطوير مواهبها الأخرى .. الى ان تعرّفت على أحمد بالإنترنت ..لكنها بعد ثلاث سنوات , أنهت العلاقة والحزن بادٍ على وجهها !

وهنا أيقظها الطبيب , ليسألها عن عدة امور :
- أحسسّت من كلامك وانت منوّمة مغناطيسياً انك تخافين ان تحظين بعلاقة سيئة , كعلاقة والدك بأمك ؟ 
رؤى : انا لا أكره ابي , فهو واجه الكثير من الصعوبات في حياته أجبرته أن يكون قاسياً  
الطبيب : كنت أعني إنك تعاقبين حبيبك على اخطاء والدك , لذلك كنت تحذفين صفحتك باستمرار , وتغيبين عنه لشهور بقصد ترويض الأسد , اليس كذلك ؟ 
رؤى : انا أعشق قوة شخصية أحمد ولا اريده ضعيفاً .. لكني لا اريد ايضاً ان أخاف منه , أو أعاني من قسوته كما عانت أمي .. كما ان معظم من حولي لم يهنأوا بحياتهم , مما جعلني أخاف من فكرة الزواج بشكلٍ عام ..لكني مستعدّة للمجازفة مع أحمد ولا أحد غيره , فهو صديق العمر وتوأم الروح

الطبيب : هذا جيد .. لكن هل تريدين منه الحب ام الأمان ؟
- الأمان طبعاً .. فأنا أرى من واجبي ان اختار زوجاً يكون والداً حنوناً لأولادي .. لا ان يخافوا دائماً من عصبيته الزائدة , كما عانيت انا واخوتي في الماضي .. فكل ما اريده هو بيت مليء بالحب والطمأنينة , فهل هذا كثير ؟! 
- وهل أحمد سيوفّر لك طلبك ؟ 
رؤى بحزن : إعتقدت ذلك في البداية وتمسّكت به كالغريق المتعلّق بقشّة .. لكنه خذلني أكثر من مرة , حتى فقدّت ثقتي به  

الطبيب : إذاً إخبريني عن سلبيات حبيبك ؟ 
فتنهدت بضيق ثم قالت : هو متغطرس واناني ..ولديه عادات سيئة تخيفني , كما انه شكّاك وغيور .. وعصبيته ترعبني كثيراً , لذلك اهرب منه خوفاً من ان أجرحه بكلامي اثناء عصبيتي .. ولأني ايضاً أكره المشاجرات , فقد عشت الكثير منها ولا اريد تجربة المزيد
- وماذا ايضاً ؟
- اريده ان يحافظ على سرّية العلاقة , وأظنه أخبر اسراري لكل اصدقائه وافراد عائلته ! ولوّ كان يحبني بالفعل لكان حافظ على سمعتي , وحماني من غيبتهم .. اليس كذلك ؟

الطبيب : معك حق , لكن ربما وقتها لم يظن بأن الأمر سيتطوّر أكثر من صداقة على الإنترنت .. فهو بالنهاية رجلٌ يعشق الحرّية وتعدّد العلاقات , وأظنك تعرفين ذلك ؟
- نعم للأسف 
الطبيب : وهل تظنين ان بإمكانك صرفه عن عاداته السيئة ؟ ..أقصد انت من جيله , فهل ستكفينه ؟  
- في حال لم أوفيه حقه , فأنا مستعدّة لتزويجه بإخرى 
الطبيب بدهشة : ألهذه الدرجة ؟!
- نعم , أحبه لدرجة انني أخشى عليه دخول النار بسبب تقصيري , وطالما انه سيتزوج بالحلال , فلما لا ؟ .. اساساً الخيانة عندي أشدّ من الطلاق , فهي تدمّر الثقة اللازمة للاستمرار العلاقة .. (ثم تسكت قليلاً) ..ومع هذا سأحاول جهدي ان أكون زوجة مثالية قدر المستطاع 

الطبيب : حبك نادر يا بنتي ! وهو محظوظٌ بك .. حسناً لننتقل الى صفاته الإيجابية ؟ 
ففكّرت رؤى قليلاً , ثم ابتسمت قائلةً : 
- أشعر انه ذكي جداً ..وفي قلبه طفلٌ بريء , لكن الظروف أجبرته ان يجاري من حوله من رفقاء السوء .. فأصبح يقلّدهم ويفكّر مثلهم بسطحية , حتى أغرقوه بعاداتهم السيئة .. لكني متأكّدة انه يتوق للعودة نظيفاً كما كان دائماً 
الطبيب : وكيف عرفت ذلك ؟
- لا ادري .. فأنا أشعر به عن بعد وكأني أراه , مع انه للآن لم يريني صورته  
الطبيب بدهشة : أحقاً ! وكيف تحبين شخصاً لم ترينه ؟

رؤى : لا تسألني دكتور , حتى انا لا أعرف السبب ! ..لكن لا أجد صعوبة في تفهّم شخصيته الصعبة وكأني زوجته منذ عصور , حتى مشاعره خلف الحاسوب أشعر بها .. وأعرف متى يكذب ومتى يحزن ومتى يغار , رغم محاولاته الجاهدة لإخفاء مشاعره , لكنه بالنسبة لي كتاب مفتوح ! ..(ثم تنهّدت بحزن) .. ليته فقط يعلم الحياة الجميلة التي تنتظرنا , لوّ إنه اختارني من بين صديقاته الكثر 
الطبيب مبتسماً : يبدو من نبرة صوتك الغاضبة انك تغارين عليه ؟
- كثيراً !! وهو يعلم ذلك , لهذا يثير غضبي بذكر محاسنهم امامي 

الطبيب : وماذا عن زوجته ؟ هل ستجبرينه على الطلاق منها ؟
رؤى : بالطبع لا .. فهي زوجته الأولى وام ابنته , وانا من اقتحمت حياتها وليس العكس .. وأشعر بتأنيب الضمير لفعل ذلك .. لكني حاولت الإبتعاد عنه عشرات المرات , الا ان القدر يجمعني به مجدداً رغماً عني ! ولا ادري ان كان أحمد مجرّد تجربة في حياتي , ام هو بالفعل نصيبي 
- أتمنى ان يتمّ الزواج بينكما 
رؤى بقلق : شكراً دكتور .. ورجاءً لا تخبره بأنني قدمت اليك 
الطبيب مبتسماً : وكيف برأيك حصلت على رابط صفحتك ؟ ..المهم لا تقلقي يا آنسة , ودعي الموضوع لي
***

بعد اسبوع وفي اليوم المحدّد .. دخلت رؤى عيادة الطبيب , لتجد شاباً هناك..
رؤى : آه آسفة دكتور ! السكرتيرة أدخلتني..
أحمد مقاطعاً بدهشة : روح !  
(وكان هذا اسم دلعها)  
رؤى باستغراب : حمادة ! أهذا انت ؟!
الطبيب : أهذه اول مرة ترين وجهه ؟
فأجابته بعينين دامعتين : نعم , لكن شكله ليس غريباً عليّ !

أحمد معاتباً الطبيب بعصبية : لم أكن اعلم انك ستجمعني بها !! 
الطبيب بحزم : رجاءً إجلس سيد أحمد , ولا تحاول الهرب من الموقف مجدداً .. وانت يا رؤى , إجلسي على المقعد المواجه له .. 
وبعد ان جلسا بتوترٍ واضح , قال الطبيب بجدّية :
- سأتحدث الآن , وانتما تسمعاني دون مقاطعة .. مفهوم !!
ثم أردف الطبيب قائلاً :
- ان كنتما تظنان بأن بإمكانكما تجاهل مشاعركما , فأنتما مخطئان تماماً .. وستعرفان السبب الآن 

ثم أخرج إختراعه الثاني من الخزانة , وهو جهاز لمعرفة المستقبل .. ليشاهدا على الشاشة حياتهما سوياً في بيتٍ جميل يجمعهما مع طفلٍ صغير .. كما رأى أحمد ابنته المراهقة تزورهما بالعطل الرسمية , بعد ان كوّنت علاقة جيدة مع خالتها رؤى التي كانت تحدّثها بلغتها .. ثم شاهدا لحظاتهما الجميلة خلال النزهات العائلية واثناء تناولهم الغداء , وايضاً وهما يعملان معاً على تطوير موهبتهما .. كما مرّت على الشاشة : الكثير من اللقطات السريعة الجميلة بينهما 

أحمد بمكر : وماذا عن غرفة النوم , دكتور ؟
الطبيب ممازحاً : لن أضع هكذا صور على شاشتي ايها المنحرف
فضحكت رؤى بخجل..
الطبيب : لكن يمكنني إظهار نسب توافقكما 

ثم طبع على حاسوبه , ليظهر على الشاشة نسب كبيرة لتوافقهما في العاطفة والعائلة ..وحتى في العمل , حيث كلاهما يملكان خيالٌ خصب وموهبة ستكبر مع الأيام بسبب دعمهما المعنويّ المتبادل بينهما  
الطبيب : ارأيتم كيف سيكون مستقبلكما جميلاً .. أتريدان خسارة تلك الحياة الجميلة بعنادكما ؟
فأجاب أحمد : لا 
وهزّت رؤى برأسها نافية..

فقال الطبيب : اذاً عليكما القيام بالخطوة الأولى
أحمد : أتقصد الخطوبة ؟
الطبيب : بل الإعتذار عن تصرّفاتكما الطائشة 
فاقترب أحمد منها , وأمسك يدها : أعتذر منك يا روح  
فابتسمت له بحنان : أعرف كم صعبٌ عليك الإعتذار , ولا أنكر ان شخصيتك المغرورة تثير جنوني .. وانا بدوري أعتذر منك عن هروبي المتكرّر .. لكن عدني ان لا تقسو عليّ مجدداً , وان تثق بحبي وإخلاصي لك 
أحمد : وانا أثق بك فعلاً 
أروى : لدرجة ان تفتح لي قلبك ؟ فهو لن يتحطّم معي , أعدك بذلك .. فقط أطلق العنان لمشاعرك , ولا تكبتها عني مجدداً 
أحمد : سأفعل إن وعدّتني ان تتوقفي عن حركاتك المجنونة
أروى بابتسامة : جنوني هو جزء من شخصيتي , عليك التعوّد عليها
أحمد بسعادة : وانا أعشق جنونك يا روح 

الطبيب : أحسنتما .. والآن الخطوة التي تليها يا أحمد
فقال أحمد لرؤى : أظنه حان الوقت لكيّ اسألك عن عنوانك , فأنا اريد شرب القهوة مع والدك
أروى : يمكننا الذهاب سوياً إن أردّت 
أحمد بقلق : الآن ؟!
أروى بجدية : هل ستهرب من الموقف ثانيةً ؟! 
أحمد بابتسامة : لا ليس هذه المرة .. على بركة الله

الطبيب : ولا تنسيا ان تعزماني على عرسكما 
أحمد : بالتأكيد .. مع اني مازلت مندهشاً من جهازك الغريب الذي استطاع رؤية المستقبل ؟!
الطبيب : رجاءً لا تخبرا أحداً بشأنه , فهو جهازي السرّي 
رؤى : لا تقلق , لن نؤذيك بعملك بعد ان ساعدتنا ..
الطبيب : والآن إذهبا , وعِداني ان تبقيا سوياَ رغم أنف الحاقدين .. الوداع

وبعد ان شكراه .. خرجا من العيادة وهما متأمّلان بمستقبلٍ جميل , يُشبه ما شاهداه على شاشة الطبيب السحريّة !

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...