تأليف : امل شانوحة
المبنى الخرساني الغامض !
لم يكن أحد ليعلم بوجود المبنى الخرساني الضخم قبل افتتاح جسراً يمرّ بجانبه ، والذي سرعان ما لفت أنظار السائقين اليه ! خاصة لعدم وجود طريقٌ فرعيّ يصلهم بالمبنى .. مُجرّد طريق ترابي يفصله عن الجسر ، كأن الذي بناه لم يرغب بوصول أحد اليه ..
وكان عبارة عن مبنى عملاق لا يظهر عدد طوابقه ، مع خلوّه التام من النوافذ والشرفات .. مما جعل الناس تتساءل عن طرق التهوئة بداخله ؟ وماذا سيفعل سكّانه او موظفوه في حال اندلع حريقاً فيه ؟
وكل من مشى على قدميه للوصول للمبنى وحاول النظر لأعلاه ، أُصيب بدوارٍ مُفاجىء او صداعٌ شديد ، جعله يبتعد عن المكان الغامض ..
حتى في المساء ، لا تظهر انوارٌ في المبنى .. لهذا أشيع عنه انه مهجور ! ولولا الجسر الذي افتتح حديثاً ، لما عثر عليه أحد .. وتردّدت الإشاعات عن كونه مسكون بالأشباح ، مما جذب المغامرون لاقتحامه .. إلاّ أن مهمّتهم باتت مستحيلة لعدم وجود بابٌ رئيسيّ له ! فسخروا من غباء المهندس الذي بناه بشكلٍ غير قابل للإستخدام
وتجرّأ بعض المتدينيين على حرق المبنى المشؤوم ، إلاّ أن جميع محاولاتهم باءت بالفشل .. والمخيف إن الراهب الذي سكب البنزين على جدار المبنى ، وجدوه منتحراً في منزله باليوم التالي !
وبموته ازدادت الشكوك المُقلقة حول المبنى الغامض ، الذي حاول شاب فضولي كشف لغزه عن طريق إرساله طائرة درون لسطح المبنى ، ليكتشف مهبط لطائرة الهليكوبتر ! فعلم إن زوّار المبنى يدخلون اليه من باب السطح ، لهذا لم يُبنى له باب رئيسي او مخارج أخرى ..
وحين ركّز بطائرته على الشقوق الموجودة في الطابق العلويّ ، شاهد اشخاصاً يلبسون الزيّ الرسمي وهم يضعون أقنعة مخيفة وغريبة على وجوههم ! والذين ما أن رأوا الطائرة ، حتى وجّه أحدهم جهازاً يُشبه تحكّم التلفاز ، جعلت الطائرة تسقط على الفور!
ويبدو أن الجهاز أطلق شعاع ليزر دمّر إلكترونيّات الطائرة ، بما فيها الفيديو المصوّر !
حتى صاحب الطائرة لم يعد سليماً الى منزله بعد تعرّضه لحادثٍ مروريّ ، أصيب بسببها بكسورٍ خطيرة في أنحاء جسمه ! ليس هذا فحسب بل عانى من كوابيس متكرّرة عن الأشخاص المقنّعين وهم يحاولون قتله ، لهذا التزم الصمت ولم ينشر تجربته بالإنترنت
وما حصل معه ، حصل مع العديد من المغامرين الذين قتل بعضهم بظروفٍ غامضة ..
ولكثرة الأحداث الغريبة والغامضة ، إنتشرت الإشاعة : أن المبنى بناه الشياطين لضمّ أهم الماسون في البلاد ، ليكونوا جيران إبليس بعد تقاعدهم من وظائفٍ مهمّة في الدولة !
ورغم قوّة الإشاعة التي أرعبت الجميع ، إلاّ أن جاك (كهربائي المصاعد) لم يصدّق الأكذوبة .. خاصة بعد تلقّيه طلباً على جواله ، لتصليح مصعداً موجود في المبنى الخرساني الغامض ! مما أشعره بالحماس لاستكشافه من الداخل
***
في عصر اليوم التالي .. وفور خروج جاك من منزله وهو يحمل عدّة العمل ، وجد سائق سيارة مُظلّلة يطلب منه الركوب لتوصيله للمبنى..
فتفاجأ لإرسالهم سيارة فخمة اليه !
وبعد ركوبه ، قال السائق :
- علمنا انك أفضل ميكانيكي مصاعد ، لها استدعوك للمبنى
جاك : من استدعاني ؟
- السيد طلبك بالإسم
قال الجملة برهبةٍ وخوف ، منعت جاك من الاستفسار عن هويّة السيد !
***
إقتاده السائق باتجاه الطريق الرمليّ الذي أوصلهما الى خلف المبنى .. وكانت الشمس على وشك المغيب..
فسأله جاك عن الباب الرئيسي .. ليتفاجأ بالسائق يدير ظهره ، ويرشّ مخدّراً على وجهه ، جعلته يسقط مغشياً عليه فوق المقاعد الخلفيّة !
ورغم شعور جاك بدوخةٍ شديدة .. إلاّ انه شعر بشخصٍ ضخم يفتح بابه الخلفيّ ليقوم بحمله ، ووضعه داخل طائرة الهليكوبتر صعدت به الى السطح ..
ثم عاد لحمله الى داخل المبنى ..
وهناك اشتمّ رائحة دواء قوية ، جعله يستعيد وعيه .. ليجد نفسه مُستلقياً قرب مصعدٍ ذهبيّ !
وحين نهض ، قال له السائق :
- المصاعد الأخرى بحالةٍ جيدة ، العطل موجود فقط في هذا المصعد .. إصلحه في الحال ، كيّ أعيدك لبيتك قبل منتصف الليل
جاك باستغراب : منتصف الليل ! لا أظن عملي يستغرق كل هذا الوقت
- جيد ، الأفضل أن تسرع .. فهذا المصعد مُخصّص للإجتماعات المهمّة في الطابق السفليّ .. لذا ابدأ العمل فوراً
***
وكان عطلاً بسيطاً إستغرق إصلاحه أقل من ساعتين ، بعد تغيره سلكاً مُهترئاً .. وقبل ترتيب جاك عدّته ، سمع صبياً يقول من خلفه :
- هل تأخذني معك للخارج ؟ ملّلت البقاء هنا
فالتفت المصلّح يميناً ويساراً ، للتأكّد أن الشخص الضخم المقنّع الذي راقبه منذ بدئه العمل غير متواجد في الممرّ .. ثم سأل الصبي بصوتٍ منخفض :
- منذ متى وانت في المبنى ؟
- أتيت الى هنا بعمر 7 سنوات .. والبارحة كان عيد ميلادي ، وأصبحت 12 عاماً
جاك باستغراب : الم تخرج من هنا ابداً ؟!
- لا أحد من الجيران خرج من المبنى .. وما يحزنني أن الأولاد الذين لعبت معهم ، إختفى الواحد تلوّ الآخر ! ..فلما سمحوا لهم بالخروج ، بينما يمنعوني من رؤية البحر او الذهاب للملاهي؟!
جاك : ولما انتقل اهلك الى هنا ؟
- والدي أخبرني إن عمله في الخارج انتهى باكراً ، وأن وجودنا هنا مكافئة عن جهوده السابقة .. لكني ارى الشقّق كزنزانات ذهبيّة ، وكأنه محكوم علينا بالسجن المؤبّد !
جاك : لاحظت الفخامة من الممرّات الداخليّة ، رغم انه من الخارج مُجرّد مبنى خرساني غير مدهون !.. إخبرني يا صغير ، من يحضر لكم الطعام؟
- يوزّعون الوجبات المجانيّة على الشقّق .. وهو أكل لا طعم له ، يطبخه رجال السيد .. وهو عبارة عن لحوم وبقوليات ، دون سكّريات او عصائر
جاك : وماذا عن المدرسة ؟
- هناك معلّمة في الطابق العلويّ ، تدرّسني انا والخمسة الأطفال المتبقّين في المبنى
- وما رأيّ اهلك بالموضوع ؟
الولد : والدي يقول بأني محظوظ لأن السيد وافق على بقائي معهما ، بعكس الكثير من ابناء الجيران الذين سجّلوهم في المدارس الداخلية قبل التحاقهم بالمبنى
جاك : أراك تتكلّم كثيراً عن سيد المبنى ، فمن هو ؟
- لم أره من قبل .. كل ما أعرفه أن الجميع يهابه ويطيعون اوامره ، بما فيهم والدايّ !
- حسناً يا صغيري كنت اريد ..
الولد مقاطعاً : لا تناديني صغيري ، إسمي إريك
جاك : حسناً يا إريك ، اريد سؤالك عن شيءٍ لفت انتباهي .. يوجد في المصعد ازرار ل 20 طابقاً اسفل المبنى ، فهل نزلت الى هناك من قبل ؟
- لا يسمح للأطفال النزول للطوابق السفلى ، فقط العجائز
جاك باستغراب : العجائز !
- نعم .. الأشخاص المهمّين في الدولة ، هذا ما سمعت ابي يقوله لأمي بالخفاء
جاك باهتمام : وماذ سمعت ايضاً ؟
- بأنهم حصلوا على ميزة البقاء في المبنى ، بعد تنفيذهم اوامر السيد من خلال قراراتٍ إداريّة اثناء عملهم السابق بالدولة
وهنا سمع جاك خطواتٍ قادمة باتجاههما ، فسأل إريك :
- سؤال اخير .. هل المبنى مُخصّص للماسون المتقاعدين ؟ وهل في الأسفل قاعة يجتمعون بها مع إبليس ؟
وقبل أن يجيبه إريك ، صرخ الرجل المقنّع الضخم :
- اريك !! الى منزلك فوراً
الولد بخوف : حاضر سيدي !!
وأسرع بدخول إحدى الشقق .. فاقترب الرجل من المصلّح وهو يسأله :
- بماذا حدّثك الصبي ؟
جاك بارتباك : كان يخبرني عن اشتياقه للبحر ، فهل فعلاً تمنعون الأطفال من مغادرة المبنى ؟
فأجابه بلؤم : من يدخل هنا ، لا يخرج ابداً
فشعر جاك بالقلق ، وأخذ يرتّب عدّته وهو يقول :
- عملي انتهى هنا .. إن احتجتم لشيء ، اتصلوا بي .. انا مستعد الآن للصعود معك للسطح ؟
فظلّ الرجل صامتاً ، فقال جاك بقلق :
- يكفي أن توصلني للشارع ، وأنا أكمل طريقي للبيت
الرجل : لا يريد رئيسي المجازفة بخروجك من هنا ، لربما فضحتنا في كل مكان
- أفضح ماذا ! انا لم ارى سوى مصعدكم
وإذّ بشخصين يهجمان عليه من الخلف ، ليضع أحدهم المخدّر على انفه .. جعلته يغفو على الفور !
***
إستيقظ جاك في اليوم التالي على فراشه بمنزله ، وهو يشعر بألمٍ شديد بفمه ! وما أن لمح قطعة لحم على الطاولة امامه ، حتى أسرع للمرآة ..ليلاحظ لسانه المقطوع !
ورغم صدمته الشديدة ! إلاّ أنه عاد لسريره لقراءة الملاحظة المتروكة هناك ، وكان فيها :
((هكذا ضمنّا عدم إخبارك احد بما رأيته في مبنانا ..وإن خطر ببالك كتابة شيء لعامة الناس ، سنعود لقطع ذراعيك .. مع العلم انك ستبقى مراقباً على مدار الساعة ، حتى نهاية عمرك))
فانهار جاك باكياً ، وهو يشعر بالندم لتصليحه مصعدهم اللعين
***
وبالطبع إريك الصغير لم يسلم من العقاب ، بعد سماع السيد كلامه مع المصلّح من خلال الكاميرات المزروعة بكل شبرٍ في المبنى .. وأخبر والديه بأنه اختاره لمؤدبة حفلة نهاية العام ..
فتقبّل الأب قرار السيد بصعوبة .. بينما انهارت الأم وهي تحتضن ابنها باكية ، محاولةً إسترحام زوجها :
- دعني أهرب مع الصبي ، ارجوك !!
الزوج بيأس : سيعثر عليكما السيد أينما ذهبتما ، فرجاله منتشرون في انحاء الدولة..علينا تقبّل الأمر ، كما فعل بقيّة الأهالي
إريك بقلق : ماذا يحصل يا ابي ؟! لما امي خائفة لهذه الدرجة ؟
والده : لا تقلق بنيّ .. السيد اختارك ، لتنضمّ الى رفاقك القدامى .. علينا تجهيزك لحفلة اليوم
إريك بحماس : هل أخيراً سمحتما بنزولي للقاعة السفليّة؟
الأب وهو يكتم حزنه : نعم حبيبي ، ستنزل معنا
فعادت الأم للبكاء ، دون فهم ابنها سبب حزنها الشديد !
***
في منتصف الليل .. نزل إريك مع والديه لأول مرة الى القاعة السفليّة .. وحين فُتحت البوّابة الضخمة ، شاهد جميع جيرانه العجائز مُقنّعين بوجوهٍ مخيفة !
ورأى في واجهة القاعة عرشاً ذهبيّاً ، يجلس عليه مخلوقاً مخيفاً بجلده الأحمر وقرونه الطويلة وذيله المدببّ ، والذي اشار إليه وهو يقول غاضباً:
- ما كان عليك أن تفضحنا يا إريك !!
الصبي بقلق : مالذي فعلته ؟!
المخلوق : تكلّمت مع الغرباء ..الم ينبّهك والديك أن اسرار المبنى تبقى بيننا ؟
إريك ممتعضاً : وكيف أتحدّث مع الغرباء بعد حرماني من جوّالي وحاسوبي ، فور سجني في المبنى الكئيب ؟!
المخلوق بغضب : الكئيب !!
وشهق الحاضرون بقلقٍ شديد !
فنزل المخلوق عن عرشه ، مُتجهاً لإريك .. ليخرّ الجميع سجّداً له ، بما فيهم والدايّ الصبي الّلذين يرتعشا خوفاً..
المخلوق صارخاً : وهل جيرة إبليس كئيبة لهذه الدرجة ، يا ولد ؟!!
أريك بصدمة : إبليس .. أتقصد والد الشياطين ؟!
المخلوق بغرور : بل آله الشياطين !! وآله هؤلاء البشر ايضاً (وأشار للحضور)
إريك مُعترضاً : لا طبعا !! الله الذي في السماء هو من خلقنا جميعاً
إبليس بصدمة : ماذا قلت ؟!
والد إريك بحزم : إسكت بنيّ !!
إريك : اليست هذه الحقيقة .. الم يطردك آله السموات والأرض من الجنة ؟.. اليس حقدك المدمّر على البشر ، هو بسبب قهرك على خسارة الجنة ؟ ..أكان عليك الإعتراض على اوامر الربّ ؟ ..لوّ انك سجدّت لآدم ، لوفّرت كل هذا الشقاء على جنسك من الجن والشياطين ، وعلينا ايضاً ..لكن غرورك أفسد كل شيء ..
إبليس بغضبٍ شديد : أصمت !!
وصفعه بقوة ، أسقطت الصبي أرضاً .. ثم نادى رجاله :
- جهّزوا الصبي الوقح ، ليكون قرباناً لي ولأبنائي
وضرب بشوكته الحديديّة الأرض ، ليخرج منها الجن والشياطين الذين زاحموا المتواجدين البشر في القاعة الضيّقة..
ثم هجم مخلوقان ضخمان على إريك ، وحملاه وهو يحاول مقاومتهما بالصراخ والإستنجاد بوالديه اللّذين تجمّدا مكانهما !
ثم ربطاه فوق بلاطةٍ ساخنة ، قرب العرش الذي عاد اليه ابليس وهو يقول:
- إبدأوا بالترانيم ، وجهّزوا السكين !! سأدع امه تقدّم القربان لي
الأم باكية : ارجوك سيدي ، ليس انا !
إبليس بإصرار : بل انت ستقدمين ابنك العاقّ لي ، ووالده سيشرب اول كأس من دمه .. وهذا شرفٌ كبير لكما .. وإن رفضّتما أمري ، سأجعلكما تندمان على اليوم الذي انضممّتما فيه الى جمعيتي السرّية!!
ثم ارتفع صوت الترانيم المخيفة ، بعد إشعال النار حول الصبي المصدوم من امه التي اقتربت منه وهي تحمل السكينة الحادّة !
- امي لا تفعلي ، انا إريك ابنك ..ابي أوقفها ارجوك !!
وكانت هذه آخر كلماته قبل نحر رقبته ، وهجوم الحاضرون على جثته لاقتسام اشلائه وشرب دمائه ، وسط احتفالٍ مُهيب لا يمتّ للإنسانيّة بصلة!