تأليف : امل شانوحة
المنام الغريب !
بعد وفاة ستيف بشهر ، نامت ابنته بسرير امها التي مازالت تفتقد زوجها
بعدها بساعات .. إستيقظتا وهما تشعران بالبرد داخل كهفٍ جبليّ ، وهما تلبسان جلد حيوانٍ برّي ، وامامها شعلة النار !
فنظرتا لبعضهما بدهشة ، قبل سماعهما صوتاً مألوفاً .. لتنصدما برؤية ستيف يدخل الكهف ، وهو يحمل غزالة اصطادها بالرمح !
فهمست الأم لإبنتها بقلق : أهذا منام ؟!
فأجابتها بخوف : وكيف ارى نفس منامك ، يا امي ؟!
ستيف مُبتسماً : إهدآ قليلاً
زوجته : الم تمت بالعمليّة الجراحيّة ؟!
فأجابها : بلى ، انتهت حياتي قبل شهر .. وانتقلت روحي للبرزخ ، وهو المكان الذي تجتمع فيه الأموات بانتظار حسابهم
ابنته : اذاً كيف نراك ونسمعك بوضوح ؟!
ستيف : أخبرني ملاكٌ هناك ، أنه يحقّ للميت التواصل مع احبّائه من خلال منامٍ واحد ! فاخترت أن يكون منامي طويلاً ، من خلال رؤيتكما لنهارٍ كامل في كل عصر
زوجته مُعاتبة : ألم تخترّ سوى العصر الحجريّ ؟!
ستيف : بهذه الطريقة ، اراكما لفترةٍ اطول
ابنته بضيق : وكم سنعيش بهذا العصر المتخلّف ؟!
ستيف : سنقضي في كل زمانٍ ، منذ شروق الشمس حتى غروبها ..
ابنته : يعني سنعيش كل العصور ، وصولاً لعصرنا الحديث ؟
الأب : بل سيتوقف المنام بعد تحقيق هدفي .. ولا تسألاني عنه ، لأنكما ستدركانه لاحقاً .. والآن دعونا نفطر سريعاً ، لاكتشاف العالم خارج الكهف
زوجته : أنفطر لحم غزال ؟!
ستيف : عزيزتي ، لا يوجد جبن ورقائق ذرة بهذا العصر .. لذا تناولي بعضاً منه ، لربما لن أوفّق بالصيد مساءً
وقامتا بشواء اللحم وهما تخبرانه عن تفاصيل جنازته ، ومن حضرها ..وكيف كان شعورهم على فراقه المفاجئ
^^^
بعدها خرج الثلاثة من الكهف لاكتشاف العالم البدائيّ..
ابنته بقلق : أمازالت هناك ديناصورات ، يا ابي ؟
ستيف : يبدو اننا بالعصر الذي يلي إنقراضهم ! لكني لاحظت أن الحشرات كبيرة ، مُقارنةً بعصرنا .. يعني مثل التي هناك ..
..(وأشار على شيءٍ يتحرّك بين الأشجار)
ابنته بخوف : أهذا حيوانٌ زاحف ؟!
ستيف : بل صرصارٍ طائر .. لذا انتبهي
زوجته باشمئزاز : يا للهول ! دعنا لا نبتعد كثيراً عن الكهف ، اخاف ان نضيع بالغابة
ستيف : دعونا نكتشف اولاً ذلك الشلاّل الجميل
وأمضوا نهارهم وهم يتناولون فاكهة لم تعد موجودة بعصرنا ! كما جمعوا ماء النهر بعد اصطيادهم الأسماك ، بعصيّهم المُسنّنة لشويّها بالمساء.
وما ان تنالوا وجبتهم وهم يراقبون غروب الشمس على التلال الخالية من المباني وحضارة البشر ، حتى غفوا جميعاً بجانب النار
^^^
لتستيقظ الأم وابنتها في غرفة النوم..
وعلى الفور تشاركتا الحلم الذي تشابهت احداثه فيما بينهما !
الأم باستغراب : يعني لم يكن حلماً ، نحن التقينا فعلاً بوالدك بالعصر الحجري !
ابنتها باهتمام : ترى أيّ عصرٍ يليه ؟!
- ربما الثلجيّ
- أخاف أن نموت برداً !
الأم : لا اظننا سنلتقي بإبيك قبل نومنا مساءً
- ماذا لوّ جهّزنا حقيبةً صغيرة ، وضعناها في السرير .. هل تظني ستنتقل معنا للعصور القديمة ؟
- لا ادري يا ابنتي ! لنجرّب
وجهّزتا حقيبتا ظهر ، وضعتا فيها : سكين متعدّد الإستخدامات .. وفأس (من ورشة حديقة ستيف) ..وبعض الإسعافات الأوليّة.. ومياهٌ عذبة .. وشالات صوفيّة.. وبعض الشطائر .. ونامتا تلك الليلة وهما تشعران بحماس ، بانتظار المغامرة الجديدة
***
وبالفعل استيقظتا في جوٍّ بارد ، داخل كوخٍ خشبيّ بدائيّ الصنع !
وبعد دقائق ، دخل عليهما ستيف بلباس جلد الدبّ .. قائلاً بسعادة :
- هآقد اجتمعنا من جديد !! ماذا تحملان على ظهركما ؟
وهنا انتبهتا ان الحقيبتيّن انتقلت معهما ! فسارعت الأم بإخراج الشطائر ، وهي تسأل زوجها :
- هل اشتقت الى طعامي ؟
فأجابها بشوّق : بالتأكيد حبيبتي !! هل أحضرتي عصيري المفضّل؟
زوجته : طالما عرفنا انه بإمكاننا نقل الأغراض لأيّ عصرٍ نريده ، فسنحضر المزيد في المرة القادمة
ابنته : المهم يا ابي ، هل نحن بالعصر الجليدي ؟!
- نعم وهو عصرٌ سيء ، لا يوجد فيه الكثير من الطعام .. فالثلوج قضت على معظم الكائنات الحيّة !
الأم بقلق : وكيف سنقضي نهارنا هنا ؟!
ابنتها : بالنسبة لي ، يكفي ان أبقى بجانب ابي
فنظر الأب من النافذة وهو يقول :
- الأفضل البقاء في الكوخ ، فلا يوجد بالخارج سوى العواصف المميتة
الأم : اذاً لنزيد شعلة المدفأة ، ونأكل الشطائر التي أحضرتها معي
وأمضتا اليوم وهما تستمعان لستيف الذي أخبرهما عن احوال الموتى في البرزخ
***
في المرة الثالثة ، جهّزتا حقيبتيّن كبيرتيّن مليئتيّن بالطعام اللذيذ وإحتياجاتٍ أخرى
لتستيقظا في إحدى العصور الوسطى المظلمة ! في منزلٍ ليس فيه دورة مياه ، فقط دلوّ من الحديد في زاوية كل غرفة .. ولم تصدقا أحوال المدينة التي فاحت منها رائحة القاذورات ، عدا عن قذارة الناس .. حيث عُرف ملكهم برائحته النتة ، بينما انتشرت بين افراد الشعب الجذام والأمراض الجلديّة ..
ولشدّة إشمئزاز الأم وابنتها مما سمعوه من الناس (بأن الكهنة حرّمت عليهم الإستحمام ، لأنه من عمل الشيطان) فضّلتا البقاء داخل منزلهم الخشبيّ.. خاصة ان بشرتهم سمراء ، وسيعدّوهم عبيداً .. لذلك ابتعدوا عن الأنظار قدر الإمكان
وفي ذلك المساء .. تناولت عائلة ستيف ما احضروه من المستقبل ، وهم يتبادلون الأحاديث الشيّقة بينهم .. مُتجاهلين طرق المتسوّلين على بابهم من وقتٍ لآخر ، الذين كثر عددهم من شدّة الفقر في ذلك العصر الكئيب !
***
بعدها انتقلوا لعصرٍ جديد ، وهو عصر الحروب الصليبيّة.. ومع انهم يُعدّوا من العبيد ، الا ان ستيف وعائلته إجبروا على ركوب السفينة المتوجهة للأندلس !
ورغم إمضائهم النهار كلّه في البحر ، بظروف جويّة سيئة .. الا ان الحلم لم ينتهي مع شروق شمس اليوم التالي !
حيث استيقظتا على صوت ستيف ، يهمس لهما :
- وصلنا للشاطئ .. والقائد يأمرنا بالتسلّح لمحاربة المسلمين
زوجته بقلق : ماذا ! نحن لا نرغب بالقتال .. كما اننا سيدتان !
ستيف : نحن عبيد بهذا العصر .. وأخبروني أن مهمّتي هي تزويد المقاتلين بالأسلحة ، بينما عليكما مداواة الجرحى .. هيا استعدا للنزول من السفينة ، فنحن لا نريد إغضاب قائدنا الهمجيّ
^^^
في خضمّ المعركة الدمويّة .. استطاع ستيف الوصول لزوجته وابنته المنهمكتا بتضميد الجرحى الأوربيين ..
- إتركا كل شيء ، وتعالا معي
وتمكّن بذكاءٍ وهدوء تهريب عائلته خارج ارض المعركة ، متوجهين الى سوقٍ شعبيّة .. ومن هناك اشتروا ملابس عربية ، للإنخراط مع الشعب الأندلسيّ الخائف من المعارك الدائرة على اطراف دولتهم !
والغريب انهم اتقنوا اللغة ، كأنها جزء من مغامرتهم الخارقة .. وفور وصولهم لوسط البلد ، إندهشوا من الحضارة المتطوّرة بعكس التخلّف المنتشر عند الأوربيين بتلك الحقبة الزمنيّة !
وأكثر ما اعجبهم هي الحمّامات العامة ، التي استمتعوا فيها بحمامٍ دافئ .. وبعدها استقبلتهم عائلة اندلسيّة في منزلها .. وأكرموا ضيافتهم ، كونهم عابري سبيل (دون معرفة قدومهم مع جيش العدوّ)
^^^
وفي ذلك المساء .. استمعوا باهتمام لأبناء العائلة المسلمة وهم يقرأون القرآن ، بينما يفسّر الوالد الآيات لهم .. وحينما وصلوا لسورة مريم ، سأل ستيف الرجل العربي :
- في إنجيلنا لم يذكروا ان عيسى تحدّث وهو طفل ! رغم انه دليلٌ قاطع على براءة السيدة مريم .. فلما ألغوه ؟!
الرجل العربي : مع انه ذكر بالتوراة ! .. وعلى فكرة ، الإسلام هو شرح للدين المسيحي .. فالوصايا العشر التي ذكرها عيسى..
ستيف : تقصد : ((لا تقتلوا لا تسرقوا لا تزنوا ..
العربي مقاطعاً : نعم هذه ، فنحن لم نُحلّل شيئاً من محرّماتكم .. كل ما هنالك ان النبي عيسى لم يكن لديه وقت لشرح الوصايا .. بينما شرحها نبينا محمد خلال 23 عاماً ..
زوجة ستيف باهتمام : أتقصد ان الدينيّن متشابهان ؟!
العربي : الإسلام هو النسخة الأخيرة للدين المسيحيّ ، دون تحريف الكهنة .. (ثم نظر لستيف) .. اريد سؤالك شيئاً .. كم عدد الكارهين للإسلام ؟ طبعاً دون نسياننا الصليبيين الذين يحاربوننا على اطراف مدينتنا
ستيف : ما أعرفه ، أن هناك العديد من السياسيين ورجال الدين الذين يرغبون بالقضاء على دينكم
العربي : اذاً لماذا لم يُحرّف القرآن حتى الآن ؟ بل لم يتغيّر من نصوصه علامات الترقيم ، رغم كثرة الكارهين ؟!
فسكتت عائلة ستيف ، لأن ليس لديهم اجابة ! .. فأكمل الرجل كلامه:
- هم حاولوا بالفعل تحريف القرآن .. لكن في كل مرة تنكشف مؤامرتهم ، ويتم حرق النسخ المزوّرة .. أتدرون لماذا ؟ لأن الله عندما ترك امر كتبه للبشر ، حُرّفت كما حصل بالتوراة والإنجيل الذين نشروا العديد من النسخ المشوّهة .. لهذا ذكر بالقرآن :(( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) .. وبذلك يكون الله تكفّل بحماية القرآن بنفسه .. وهذا دليلٌ قاطع على صحّة ديننا ، اليس كذلك ؟
ستيف : وما المطلوب منّا لدخول دينكم ؟
العربي : يكفي نطق الشهادة مرة واحدة بحياتكم ، ولوّ في قلبكم دون الجهر به .. لتعودوا كما ولدتكم امهاتكم .. فهل يوجد دينٌ اسهل من ذلك ؟
وتحدّثوا عن الإسلام لساعات .. بعدها تناولوا العشاء .. ثم فُرشت لهم غرفة الضيوف ليناموا .. لكن عائلة ستيف لم تغفوا تلك الليلة ، وهم يتحدثون عن اخلاق المسلمين ودينهم الحنيف
ابنة ستيف : ابي ! أتظن اننا انتقلنا لهذا العصر ، لتحسين ديننا ؟!
فاكتفى ستيف بابتسامة : ستعرفين الإجابة قريباً .. فملاك البرزخ اعطاني هذه الفرصة ، لأريكما الحقيقة المطموسة بكتب التاريخ .. فالمسلمون لم يكونوا يوماً وحشيين ، بل العكس .. ظلموا كثيراً على مدى العصور ..
فسألته زوجته باستغراب : تبدو على إطلاع بدينهم ، حتى قبل انتقالنا لها العصر؟!
ستيف : ناما الآن ، وستعرفان الحقيقة قريباً
ورغم غموض كلامه ، الا انهما غفيا سريعاً من شدة تعبهما اثناء المعركة
***
إستيقظت الأم وابنتها في زمن الحاضر ، وذهنهما مُشوّشاً من احداث العصر الأخير
- ما رأيك يا امي لوّ نذهب لمسجد المسلمين لسؤالهم عن دينهم ؟ وفي حال استطاع شيخهم إقناعنا ، نُعلن اسلامنا
الأم بحزن : إن كنّا سنؤمن فعلاً ، فهذا يعني أننا لن نجتمع مع والدك ثانيةً .. فالمنام انتهى دون إعلان اسلامه
وبعد تردّد ، ذهبتا للجامع .. لتعودا لمنزلهما بنهاية النهار ، وقد أعلنتا اسلامهما .. وتحجّبتا عن إقتناع !
ليجدا محامي ستيف بانتظارهما ، والذي اعطاهما الوصيّة (التي كتبها قبل دخوله العملية الجراحية التي قضت على حياته) ومعها شهادته بحفظ القرآن ! فستيف اسلم قبل عام ، دون إخبارهما بذلك !
حينها فهمتا المنام الغريب الذي كان أمنيّة روح ستيف لإنضمامهما اليه ، على امل الإجتماع لاحقاً في الجنة .. كما فهمتا لما تحدّث في كل عصر عن الروحانيّات وعظمة الخالق ، كأنه يُحضّرهما نفسيّاً لتغيّر معتقداتهما الخاطئة التي تربيّا عليها !
***
ولم تنتهي السنة حتى حجّتا لأوّل مرة ، وعيونهما تفيض من الدمع ولسانهما يلهج بالدعاء ، شكراً لله على المنام الغريب الذي هداهما للطريق المستقيم !