الخميس، 26 نوفمبر 2020

الفحم الفاسد

 تأليف : امل شانوحة

جرائم غامضة !


في خمسينات القرن الماضي ، وفي أمسيةٍ باردة .. دخلت امرأة بزيّ ممرضة الى مكتب المحقّق وهي ترتعش خوفاً :

- سيدي ، ارجوك إقبض عليّ قبل قتلي جميع المرضى

- مالذي يحصل معك ؟

الممرضة : لا ادري .. يدي تتحرّك وحدها !.. أنظر !!


وأرته يدها بعد إزالة الرباط عنها ..

المحقق : تبدو عادية 

- كانت تتحرّك وحدها قبل قليل ، أحلف لك .. حتى اني ربطها بقوة لأتحكّم بها .. فهي تصرّ على حمل السكين ، كأنها تأمرني بذبح العجائز 

- العجائز ؟!

الممرضة : نعم انا اعمل في دار المسنين القريب من هنا .. وانا خائفة جداً سيدي ، ماذا أفعل ؟

- اعتقد انك مرهقة من العمل ، إذهبي واستريحي قليلاً 


فوقفت ، قائلةً بعصبية :

- طالما لن تعتقلني ، فلا تلومنّي على ما سيحصل لاحقاً !! 

وخرجت غاضبة من المركز.. 

فتمّتم المحقق بضيق : كان ينقصني المجانين ! الأفضل ان أعود الى منزلي

*** 


إستيقظ المحقق قبيل الفجر على اتصال من المركز يخبروه عن مذبحة حصلت في دار العجزة ، راح ضحيتها 9 عجائز ..ذُبحوا اثناء نومهم على يد ممرضة مجنونة ، تمّ اعتقالها وهي تحاول قطع يدها .. ويريدونه القدوم حالاً للتحقيق معها ، بعد قيام الطبيب بتقطيب يدها المجروحة ! 

فتذكّر على الفور تهديدات الممرضة المضّطربة ، فقال في نفسه :

- يا الهي ! ليتني اعتقلتها بالفعل 

***


في المركز .. وما ان رأته الممرضة ، حتى صرخت في وجهه :

- كلّه بسببك !! طلبت منك اعتقالي قبل ارتكابي الجريمة.. 

المحقق مقاطعاً : رجاءً اهدأي ، واخبرني بما حصل منذ البداية 


فقالت وهي تمسح دموعها : 

- القصة بدأت مع حلول المساء .. حيث نام العجائز بعد تناول ادويتهم .. فذهبت الى مكتبي لأستريح .. أشعلت المدفأة ، واستلقيت على الكنبة .. ثم اشتمّمتُ رائحة سيئة أيقظتني من النوم .. وحينها لاحظت ان يدي تشدّي للخارج ! 

المحقق بتهكّم : يدك ثانيةً ؟

- ارجوك دعني أكمل

- تفضلي


الممرضة : صرت الاحق يدي حرفياً .. وقدماي تركضان خلفها وهي تشدّني للإمام بقوة .. حتى وجدت نفسي في مطبخ الدار .. وأسرعت يدي المجنونة بتفتيش الأدراج ، الى ان أخرجت سكيناً حاداً .. ثم عادت لسحبي باتجاه غرف المرضى ، وأوقفتني قرب أحدهم .. لأراها ترتفع ! كأنها على وشك طعن العجوز النائم .. فتعاركت مع يدي اليسار لإيقافها ، الى ان أسقطت السكين منها

المحقق : إذاً يدك اليسار هي التي تحرّكت وحدها ؟

- نعم وهذا الغريب في الموضوع ! فأنا عادةً استخدم اليمين .. وقدراتي باليسار ضعيفة بسبب حادثٍ قديم ، لكن قوتها تضاعفت بشكلٍ مفاجىء ، وبالكاد أوقعت السكين منها 

- وماذا حصل بعدها ؟


الممرضة : ربطّها بالشاشّ بقوة .. ثم أتيت اليك لتعتقلني ، لكنك رفضت

المحقق : وماذا حصل بعد عودتك للدار ؟

- حاولت النوم في مكتبي .. لأستيقظ بعد قليل على صراخ زميلتي ، وأنا أقف بين عشرات الجثث المذبوحة في العنبر !

- يعني ارتكبت الجريمة وانت نائمة ؟ 

الممرّضة : يبدو ان يدي المتوحشة علمت انني سأقاومها ، فاستغلّت نومي للقيام بالجريمة .. ولا تسألني كيف وصلت الى غرفة المرضى ، فأنا لا أتذكّر شيئاً ! 

- هل عادةً تمشين وانت نائمة ؟

- لا ابداً ، وهذا ما يفقدني عقلي ! لهذا حاولت بتر يدي .. قبل ان يوقفوني حرس المشفى الذين اتصلوا بالشرطة.. 

- وكيف تشعرين بيدك اليسار الآن ؟


الممرضة وهي تنظر الى يدها المجروحة : 

- هدأت اخيراً ، لكني مازلت قلقة منها .. فهناك روحٌ شريرة تلبّستها بالفعل !

- سنكمل التحقيق لاحقاً

وطلب من الحرس أخذها الى زنزانة التوقيف ..

***  


كانت هذه أغرب قضية مرّت في حياة المحقق (فهو في سنته الأخيرة قبل التقاعد) لكنه لم يعلم انها بداية لسلسة من الجرائم الغريبة المتلاحقة ! 


ففي أمسيةٍ ماطرة .. قُبض على صبية تعمّدت القيام بحادثٍ مروريّ لقتل خطيبها .. وقد اعترفت بذلك لشرطي المرور الذي نقلها الى المركز .. 


وحين استجوبها المحقق .. قالت وهي مازالت في حالة من الإنكار والذهول :

- كل شيء كان رومنسياً وحالماً ، بعد قدوم خطيبي الى منزلي مساءً للإحتفال بعيد ميلادي .. وفتحنا الهدايا بسعادة ، وأكلنا الكيك والشاي الساخن 

المحقق : ثم ماذا ؟

- لا ادري .. شعرت بالبرد ، فأشعل لي المدفأة .. وبعد قليل طلبت منه اطفاءها بعد خروج رائحة سيئة منها .. وحينها شعرت بيدي تتحرّك وحدها ..

المحقق مقاطعاً : لحظة ! يدك تحرّكت وحدها ؟

- نعم 

- هل قرأت حادثة الممرضة التي نُشرت بالجرائد قبل اسبوعين؟

- من تقصد ؟ فأنا لا احب قراءة الأخبار  

- حسناً إكملي 


الصبية : كنت مذهولة وانا ارى يدي تسحب السكين ببطء من الكيك ، دون تحكّمٍ مني ! 

- هل كانت يدك اليسار ؟

- نعم ! كيف عرفت ؟

- ثم ماذا حصل ؟ 

الصبية : حاولت طعن خطيبي ، لكنه أمسك يدي في اللحظة الأخيرة .. فانهرت باكية ، وطلبت منه الخروج من منزلي .. لكنه لم يقبل ان يتركني بهذه الحالة المضّطربة ، وأصرّ على أخذي في نزهةٍ قصيرة .. وطوال وجودي معه بالسيارة ، كنت أمسك يدي اليسار بقوة كيّ لا تؤذيه .. لكن فجأة خرجت الأمور عن سيطرتي ، ووجدت يدي تقبض على المقود بقوة ، لتوجيه السيارة الى خارج الطريق .. فانحرفنا بسرعة ، مصطدميّن بشجرةٍ ضخمة كانت في مواجهة السائق .. فمات خطيبي على الفور ، وخرجت من السيارة مصابة ببعض الخدوش والرضوض البسيطة .. 

وحين رأيت جثة حبيبي ، أصبت بانهيارٍ عصبي .. وصرت أصرخ بهستيريا ، الى أن مرّ شرطي المرور .. فاعترفت له بكل شيء ، واقتادني الى هنا .. هذا كل ما أتذكّره عن الحادث 


ثم بكت الصبية ، وأخذت تضرب يدها اليسار بالطاولة بعنف :

- لما قتلتي حبيبي ايتها اليد الملعونة ؟!!

وكادت تكسرها ، لولا ان أوقفها المحقق الذي نادى طبيب المركز لإعطائها حقنة مخدر ، قبل نقلها الى سجن التوقيف !

***  


ثم توالت القضايا الغريبة ! حيث قام رجلٌ بإطلاق النار على كلبه المفضّل بعد هجومه المفاجىء على أطفاله ، مما اضّطره لقتله 

كما قامت أم بخنق رضيعها دون سببٍ مقنع ! 

وتعارك طلاّب مدرسةٍ داخلية بعنف ، قبل قيام المدير والأساتذة بإيقافهم بصعوبةٍ بالغة 

والكثير من هذه القصص التي تزايدت في الآونة الأخيرة !

***


وفي إحدى الأيام .. تناقش المحقق وافراد الشرطة عن تلك الحوادث ، فأخبره كبيرهم :

- جميعهم كاذبون ، يحاولون تقليد السفّاح المنتحر

المحقق باهتمام : من تقصد ؟

- القصة حصلت قبل قدومك الى مدينتنا بسنة 

- وماهي قصته ؟ 


فأخبره الشرطي العجوز عن شاب كان من عبّاد الشياطين ، هرب بعد قتله عائلته واصدقائه بحفلة رأس السنة .. 

فقامت دوريات الشرطة بملاحقته .. الى ان اختبأ في معمل الفحم ..

وحين حاصروه .. وقف فوق محرقة الخشب ، وهو يصرخ قائلاً :

- لست القاتل !! يدي تحرّكت وحدها .. الشيطان تلبّسها !! هو من جعلني أسرق السلاح لقتل المعازيم .. أحلف لكم !!

المحقق باهتمام : وماذا حصل بعدها ؟


فأكمل العجوز قائلاً : طلبنا منه النزول من فوق المحرقة بعد تصاعد الدخان من حذائه ، فهي مليئة بالأخشاب التي كانت تُحرق لتحويلها الى فحم .. ولا ادري كيف تحمّل حرارتها !.. وحين حاول أحدنا إنزاله بالقوة ، قال كلمته الشهيرة : ((سأنقل لعنتي اليكم)) ..ثم رمى نفسه داخل المحرقة 

المحقق : أحقاً ! وهل أخرجتم جثته من هناك ؟

- هل تمزح سيدي ؟ الحرارة حوّلته الى رماد في دقائق ، ليختلط عظامه بالفحم

المحقق : وهل تخلّص صاحب المعمل من الفحم الملوّث ؟ 

- لا اظن ! فهو معروف ببخله ، ولن يجازف بخسارة كميةٍ هائلة من الفحم .. وأظنه باعه دون إخبار الناس بأنه مخلوط بدم السفّاح .. مع إن قصته نُشرت في كل الجرائد المحلّية .. لذلك أعتقد إن القتلى الذين قبضنا عليهم في الآونة الأخيرة يقلدونه (بأن يدهم تتحرّك وحدها) لإخفاء جرائمهم  

فعلقت القصة في ذهن المحقق ، وإن كان لم يصدقها بالكامل .. 

***


بعد اسبوع .. وبينما كان المحقق منشغلاً في مكتبه بالمركز لحلّ اللغز .. سمع الموظف يعاتب العامل لإحضاره فحماً متعفّناً ، قائلاً له : 

- الا تراه مُخضرّ اللون ؟

العامل : إشتريته بثمنٍ زهيد ، سأشعله في غرفة العمّال اولاً .. وإن لم يكن منتهي الصلاحية ، أشعل الكمية الباقية في مدفأة المكاتب 

***


لم تمضي ساعة .. حتى علا الصراخ في الطابق السفليّ للمركز !

فنزل المحقق مع بقية الشرطة الى هناك .. ليجدوا العامل يضرب رفاقه بحديدة المدفأة ، صارخاً بفزع :

- أهربوا مني !! فأنا لا أتحكّم بيدي اليسار 


ثم هجم فجأة على المحقق ! فأطلق الشرطي النار عليه ، وقتله على الفور .. ونقلوا جثته للمشرحة لمعرفة سبب جنونه المفاجىء ..


حينها اشتمّ المحقق رائحة سيئة تنبعث من مدفأة الطابق السفلي (التي مازال فحمها الأخضر ساخناً ، رغم انطفائه) فتذكّر تفاصيل الحوادث السابقة : فجميعهم أكّدوا ان يدهم اليسار تحرّكت وحدها بعد إشعالهم المدفأة التي خرج منها رائحة سيئة ! 

لذلك استدعى الموظف ليسأله عن المكان الذي اشترى منه العامل المقتول الفحم الفاسد ؟ .. فأخبره بإسم المحل .. 

فأسرع المحقق الى هناك .. 

***


في المحل .. سأل المحقق البائع : 

- كيف سمحت لك البلدية ببيع فحمٍ أخضر متعفّن للناس ؟

فأجاب بارتباك : سيدي .. انا أبيعه بثمنٍ بخس ، فهو تعفّن بعد تعرّضه لماء المطر 

- لا أظن المطر هو السبب .. هل وصلتك شكاوي من الزبائن بخصوصه ؟

- نعم .. قالوا ان رائحته كريهة عند الحرق ، والبعض الآخر ..

المحقق : إكمل ، لما توقفت ؟

البائع بقلق : بعض زبائني قُبض عليهم لارتكابهم جرائم عنيفة ، لكن لا دخل لفحمي بالموضوع .. مجرّد صدفة 

المحقق : فهمت .. أعطني اسم المعمل الذي اشتريت منه الفحم ؟


فأعطاه العنوان .. وذهب المحقق الى هناك ، لسؤال رئيس المعمل عن مصدر الفحم الفاسد 

***


وكان الإرتباك واضحاً على رئيس المعمل الذي أكّد أن الأمطار أفسدت جزءاً من فحمه الخشبيّ ، لذا اضّطر لبيعه بسعرٍ رخيص .. 

فأصرّ المحقق على رؤية البضاعة الفاسدة .. 

فأراه المخزن الذي تبقى فيه شوال واحد من الفحم الأخضر ، موضوعاً بجانب جبلٍ من الفحم الجيد المستورد حديثاً ..

فطلب المحقق من رئيس المعمل إتلاف الفاسد فوراً ، والا سيحاكم ببيع بضاعةٍ ضارّة بصحة الناس .. 

فأمر الرئيس عامله برمي الشوال في البحر .. 


وحين رأى المحقق الشوال مربوطاً بالرافعة ، شكر رئيس المعمل وعاد الى مركزه ..

لكنه لم يعلم انهم قبل رميه في البحر ، تمزّق كيس الخيش من الأسفل ! ليسقط الفحم الفاسد فوق جبلٍ من الفحم الجيد .. 

وعلى الفور تحوّلت كل الكمية لفحمٍ مُخضرٍ برائحة قذرة .. 

وذهل العمّال بما حصل !


فسأل أحدهم الرئيس : سيدي ، هل نرميهم جميعاً بالبحر ؟

- هل جننت ؟!! أتدري كم ثمن البضاعة ؟

- الم تسمع المحقق يقول ان الفحم الفاسد يسبب هلوسة للناس عند حرقه ، فيرتكبون الجرائم الفظيعة ؟

المدير : كلامٌ فارغ 

- وماذا سنفعل ؟

المدير بضيق : يبدو انني سأضّطر لبيعه ايضاً بثمنٍ بخس ، لكن للمدن المجاورة كي لا نقع بمشاكل مع المحقق الطفيليّ 

***


وبالفعل بيع الفحم الفاسد للمدن البعيدة ، ليزداد عدد الجرائم هناك بشكلٍ تصاعديّ ! 

وقد حاول المحقق إطلاع مراكز الشرطة الأخرى بنتيجة تحقيقاته ، لكنهم لم يصدّقوا خرافة : (إن روح السفّاح اختلطت بالفحم الفاسد).. خاصة بعد تقاعد المحقق الذي تأمّل إنتهاء الكابوس مع نفاذ الفحم الفاسد .. لكنه لا يعلم إن تجّار الفحم في المدن الأخرى قاموا بخلط الفحم الأخضر بالفحم الجيد لإخفاء العفن .. وبذلك ضاعفوا الكمية ، مُعرّضين البلاد بأكملها لإنفلاتٍ أمني خطير ستدوم نتائجه لسنواتٍ طويلة !  

الأحد، 22 نوفمبر 2020

رحلة الشقاء

 كتابة : امل شانوحة

قطار اولاد الشوارع


في مدينة نيويورك 1854 .. إجتمع (تشارلز لورينغ بريس) مع افراد جمعيته (مساعدة الأطفال) لإيجاد حلٍّ سريع ونهائيّ لتخلّص من أولاد الشوارع الذين انتشروا في مدينته ، مُسبّبين قلقاً للسكّان لاعتمادهم على التسوّل والسرقة كقوت يومهم ..

وكان الحل : هو جمعهم داخل قطار يعبر كافة الولايات الأمريكية ، وصولاً لأقصى الشرق .. وعرضهم للتبني او البيع لمن يحتاجهم للعمل

وقد أعجب إقتراحه كبار المسؤولين في البلد ، وطلبوا تنفيذه على الفور

*** 


من جهةٍ اخرى ، وفي زقاق منطقةٍ فقيرة قرب ميناء نيويورك .. عاش الأخوان اليتيمان (فريد 12 سنة ، وهاورد 7 سنوات) مع والدتهما المريضة التي طلبت من ابنها الكبير في ذلك النهار ان يتسوّل في الشوارع لإحضار المال الكافي لشراء دوائها .. 

فاستأذنها بأخذ اخيه معه لأول مرة ، لعلّ المارّة يشفقون على الصغير ويعطوه المزيد من المال .. ووعدها بإعادته سالماً الى المنزل قبل حلول المساء .. فقبلت بتردّد وهي تشعر بالقلق 

***


توجه الأخوان الى منطقةٍ مزدحمة بالسكّان .. وأخذا يستعطفان الناس الى ان سمعا جرساً من بعيد ، قادماً من محطة سكّة الحديد .. 

وهناك تفاجئا بوجود عددٍ كبير من اولاد الشوارع !


حيث أخبرهما أحدهم عن الإعلان الذي ألقاه موظف الدولة قبل قليل ، قائلاً بحماس :

- لقد قرّر رئيس البلدية الإهتمام بالفقراء الصغار .. واستأجر لنا رحلة مجانية بقطارٍ مليء بملابس جديدة وطعامٍ وحلويات تكفينا جميعاً

فريد باستغراب : أحقاً ! وما سرّ اهتمامه المفاجىء بنا ؟ بالعادة الأغنياء يجلدونا بالسياط كلما إقتربنا من عرباتهم ! 

الولد : لا ادري ، ربما حنّ قلبهم علينا اخيراً


وهنا خرج عامل القطار ، مُنادياً بصوتٍ عالي :

- سيدخل الأولاد دون سن 18 من هذا الباب !! والبنات الصغار من الباب الآخر !! هيا إسرعوا ، فالأماكن محدودة 


فأسرع الأولاد بدخول القطار وهم يشعرون بحماسٍ شديد .. وكان من بينهم فريد الذي أمسك بإحكام بيد اخيه ، خوفاً من ضياعه بين مئات الأولاد المشرّدين الآخرين 

***


الغريب ان إعلان رئيس البلدية لم يكن كاذباً ! حيث وجدوا بالداخل ملابس جديدة من كافة الأحجام ولجميع الأعمار .. لكنهم مُنعوا من لبسها قبل الإستحمام ..

وكان الموضوع محرجاً .. حيث قمن سيدات (تم تعينهم من الدولة لهذه المهمة) بتحميم الأطفال (فور تحرّك القطار) داخل احواض حديدية صغيرة ، بها ماء وصابون .. 


وبدأن بالأطفال دون سن 8 .. وبعد الإستحمام ، ألبسوهم ملابس جميلة تناسب مقاسهم .. وقامت الأخريات بتمشيط شعرهم وإلباسهم الأحذية التي يجرّبونها لأول مرة في حياتهم القصيرة 


وحين حان دور الأولاد الكبار (دون سن 14) .. رفض معظمهم الإستحمام على مرأى الجميع .. 

فاضّطرت المسؤولة لوضع حاجز من الستائر القماشية .. وتركهم يستحمون وحدهم ، بعد رمي ملابسهم المتسخة جانباً .. والتي جمعتها النسوة لرميها خارج القطار !

***  


بعد الإنتهاء من هذه الخطوة .. بدأن بتقديم شطائر الخبز والجبن للأولاد الذين تناولوها بنهمٍ شديد ، فبعضهم لم يأكل شيئاً منذ ايام ..

بعد ذلك أخبروهم أنهم سيحظون بحياةٍ جميلة ستبدأ فور توقفهم في المحطة القادمة .. وأن عليهم إلتزام الهدوء اثناء فحصهم من قبل العائلات المستعدة لتبنّيهم ..


وحين سمع فريد ذلك ، إقترب من احداهن قائلاً :

- عفواً سيدتي .. هل قلت تبنّي ؟

- نعم 

فريد : لكن انا واخي لدينا ام مريضة ، وهي تنتظر عودتنا لإحضار الدواء.. فمتى سنعود الى نيويورك ؟


وهنا اقترب احد مسؤليّ الدولة (الذي رافقهم بالرحلة) ليجيبه بلؤم ، وبصوتٍ عالي سمعه كل اطفال القطار :

- لن يعود احد منكم الى نيويورك بعد اليوم !!


وما ان سمعوا ذلك ، حتى ضجّ القطار بالصراخ والبكاء .. فجميعهم ولدوا هناك وتربّوا في شوارعها وزقاقها .. وإنتقالهم الجبريّ والفوريّ لمدينة أخرى أربكهم وأخافهم جداً ..


فأكمل المسؤول قائلاً بنبرة عتاب :

- هذا بدل ان تشكرونا لأنا سنوفّر لكم بيتاً وطعاماً وعائلات تقبل بتبنّيكم ، ايها المشرّدين القذرين !! 

فريد بخوف : سيدي ارجوك ، اريد العودة الى امي في الحال

فدفعه بقوة ، أسقطته ارضاً .. قائلاً له :

- عدّ الى مقعدك فوراً ايها التافه !! فليس امام امك الا الشفاء وحدها ، او الموت لترتاح من حياتها البائسة

 

فعاد فريد مصدوماً الى مقعده ، ليواسي اخيه الصغير بعد يقينهما أنهما لن يريا امهما ثانيةً !

***


بعد ساعتين ، توقف القطار عند اول محطة .. 

وطلب المسؤول من الأطفال الإصطفاف بجانب القطار .. 

حيث كانت العائلات في انتظارهم ، بعد الإعلان عن قدوم القطار قبل ساعة 


من بعدها .. بدأ الرجال بفحص الأولاد ، والسيدات بفحص البنات الصغار .. وكان فحصاً سريعاً للعيون لتأكّد أنها غير مُصفرّة بداء الكبد ..كما الأسنان والعضلات .. وكذلك خلوهم من الأمراض الجلدية المعدية 

وفي حال أعجبهم الولد ، يدفعون مالاً زهيداً للمسؤول الذي يقوم بتسليمه لهم ! 


وسارت الأمور بهدوء ، قبل أن تضجّ المحطة بصرخات فريد الغاضبة بعد شراء سيدة عجوز لإخيه الصغير .. 

حيث حاول تخليصه منها ، قبل قيام المسؤول بصفعه وإعادته بعنف الى الطابور ..

بينما هاورد يبكي بحرقة ، بعد إجلاسه بالقوة في عربة العجوز التي قادتها بعيداً عن المحطة

ولم يهدأ فريد الا بعد جلده بالسوط ، ليقف مرتعشاً وهو خائف على مصير اخيه المجهول ..


وهنا سأل أحد الرجال المسؤول :

- ما اسم هذا المشاغب ؟

فأجابه : فريد .. إشتريه إن أعجبك 

- مستحيل ان تقبل أيّ عائلة تبني ولداً عصبياً مثله .. الأفضل ان تبيعه لأصحاب الحقول والمناجم .. فهناك يستفيدون من قوته وعناده 

المسؤول : لا تقلق ، سيعود القطار الى نيويورك فارغاً بعد بيعهم جميعاً .. حتى لوّ اضّطررت لتسليمهم لرجال العصابات بنهاية الرحلة


وضحكا غير آبهين بخوف الأولاد من كلامهما القاسي عن مصيرهم المرعب في حال لم يتبناهم أحد من العائلات الأسريّة ..

***  


بعد ساعة .. بيع عشرة أولاد من صغار السن للعائلات المتبناة .. وطُلب من البقية العودة الى القطار ، لإكمال رحلتهم المجهولة ! 


وبالقوة قام الموظف بإدخال فريد الى القطار ، لرفضه التخلّي عن اخيه الصغير .. وترجّاهم كثيراً أن يتركوه في تلك المدينة للبحث عنه ، لكن المسؤول رفض ذلك .. 

وأمر بتقيده في مقعده لحين ابتعاد القطار عن المنطقة ، دون الإكتراث ببكائه المرير لفقدان عائلته ..

***


حلّ المساء .. ونام الأولاد بتعب فوق مقاعد القطار الخشبية ، بعد تناولهم العشاء الذي كان عبارة عن عصيدة رديئة .. بينما حُرم فريد من الطعام عقاباً له على سوء افعاله .. 

***


إستيقظ فريد فجراً قبل الجميع ، بعد شعوره بجوعٍ شديد .. وتسلّل لمقطورة المطبخ لسرقة قطعة خبز .. أكلها على الفور ، قبل عودته الى مكانه .. 


وأكمل رحلته صامتاً .. والدموع تنساب على خديه ، كلما تذكّر امه واخاه اللذان قد لا يراهما ثانية ..

***


بعد ساعة .. أيقظه عامل القطار للنزول الى المحطة الثانية مع بقية الأولاد الذين إصّطفوا هناك ، في انتظار شرائهم من قبل المزارعين واصحاب الحقول ..


وهناك اقترب منه رجلٌ ضخم ، قام بفحصه بنظراتٍ غير مريحة .. وكانت هيئته تدل على انه رجلٌ سيء .. ففريد تعلّم من سنوات حياته التي قضاها في شوارع نيويورك على التفريق بين الإنسان الطيب واللئيم من النظرة الأولى .. 


وأخذ يدعو ربه ان لا يشتريه ذلك الرجل المخيف .. لكن للأسف ، دفع مبلغاً زهيداً للمسؤول ، قبل إقترابه منه قائلاً :

- تعال معي يا ولد ، فأمامك عملٌ كثير في مزرعتي

 

وكان فريد متعباً من الرحلة الطويلة ومن قلّة الطعام ، لهذا لم يملك الطاقة للرفض والإحتجاج .. وانساق معه طواعيّةً ، لجلوس بجانبه في العربة التي قادها بعيداً عن محطة القطار ..

وظلّ فريد ينظر لبقية الأولاد ، الى ان اختفوا عن انظاره ..


وفي الطريق .. قال الرجل :

- إسمي السيد جاك .. ولديّ ارضٌ كبيرة للقطن .. ستعمل مع بقية العبيد على قطف المحصول .. ورئيس عمّالي سيعلّمك الطريقة  ..هل فهمت ؟

فأومأ فريد برأسه إيجاباً..

السيد : هل انت أخرس ؟

فأجابه بحزن : لا سيدي

- جيد ، فأنا لا اريد عاملاً معاقاً ..


وأكمل فريد رحلته صامتاً .. الى ان وصلا للمزرعة ..

وكان فيها عشرات العمّال من البشرة الداكنة .. 


وبعد دخول جاك الى بيته .. اراه رئيس العمّال طريقة العمل .. وبعد انتهائه ، قال له : 

- هل فهمت يا فريد ؟ كل ما عليك فعله : هو قطفها بهدوء ، وجمعها في شوال الخيش الذي ستضعه على رأسك.. وبعد امتلائه بالكامل ، تصفّه بجانب الشوالات الأخرى فوق العربة .. الأمر سهل ، هل يمكنك البدء العمل الآن ؟

فريد بتعب : سأفعل بعد تناولي شيئاً 

 

وهنا سمعته زوجة رئيس العمّال ، فخرجت من الحقل لتسأله :

- الم يطعموك في القطار ؟ 

فريد : لا ، عاقبني المسؤول بمنعي يوماً كاملاً من الطعام

- ولماذا ؟


فأخبرهم وهو يبكي عن امه وأخيه الصغير ..

المرأة : لا تحزن يا صغير ، فمعظمنا خُطف من عائلته لاستعبادنا في المزارع والمصانع .. انها حياة الفقراء

فريد وهو يمسح دموعه : انا خائف ان يزداد مرض امي بعد علمها برحيلنا .. وقلقٌ ايضاً على مصير أخي مع العجوز الشمطاء 

المرأة : ليس امامك سوى الدعاء لهما 


فريد بحزم : لا لن أقف مكتوف الأيديّ !! سأستعيد اخي لنعود معاً الى أمي في نيويورك

رئيس العمّال : لقد ابتعدت كثيراً عن نيويورك يا بنيّ .. والأفضل ان تتقبّل واقعك يا صغير

المرأة : وانا أنصحك أن لا تخبر أحداً بما تفكر به ، فهناك جواسيس بيننا..  على كلٍ ، معي قطعة خبز يابسة .. هل تريدها ؟

فريد : نعم ارجوك


وأعطته اياه ، ليأكلها بسرعة كادت تخنقه .. فأشربته الماء لمساعدته في بلع قطعة الخبز العالقة في حلقه .. 


من بعدها .. وقف معهم ، بعد سماعه سوّاط جاك الذي عاد لمراقبة عمّاله 

فوضع فريد الشوال على رأسه ، وبدأ بقطف القطن ..محاولاً تجاهل نظرات جاك الحادة وهو يراقبه .. قبل اقترابه منه ليقول :

- أحسنت يا صغير .. 

ثم ابتعد عنه ، لمراقبة الآخرين .. 

***


ومضت شهور وفريد عالق في الحقول .. حيث انتهى فصل الصيف والخريف .. وبدأ فصل الشتاء وهو مازال يكدّ في العمل ، بأجرٍ زهيد عبارة عن صحن أرز مسلوق بلا ملح ..

وكان مجبراً على متابعة العمل ، بعد تعرّضه لعدّة جلدات مؤلمة من السيد جاك كلما حاول الإستراحة قليلاً 

عدا عن عمله الآخر في إطعام الثيران ، وقيادتها في حراثة الأرض 

***


مع مرور الأيام .. أصبح فريد مُقرّباً من رئيس العمّال وزوجته اللذان اهتما به .. وفي نفس الوقت منعاه من الهروب ، بعد إخباره بقصة العبد الشاب الذي أحرقه جاك حياً امامهم حين حاول الفرار !

ومع ذلك ظلّ فريد يخطّط للهرب لإنقاذ اخيه الذي رآه في مناماته وهو يترجّاه لتخليصه من جحيم العجوز 

*** 


ولم تكن كوابيس فريد أضغاث احلام ، فهاورد تعذّب بالفعل في منزل العجوز البخيلة التي لم ترحم سنه الصغيرة .. وكانت تضربه بالعصا دون سبب .. وتحرمه لأيام من الأكل ، او تجبره على تناول الطعام الفاسد .. وحين حاول الهرب ، حبسته في قبوٍ مظلم لعدة ليالي دون بطانية تدفئه في الجوّ البارد .. فلم يكن امامه سوى الدعاء بأن ينقذه اخوه الكبير من سجنه المرعب 

*** 


وفي الحقول ، وفي إحدى الليالي الماطرة .. إستغلّ فريد نوم جاك في غرفته العلوية بالمنزل ، للتسلّل الى مطبخه وسرقة بعض الخبز والجبن ،  وضعهما في قماشة حملها على ظهره .. 

ثم خرج بهدوء ، متوجهاً للحقول الموحلة ..

تاركاً العمّال نائمين في الحظيرة مع الحيوانات ..


وأكمل سيره ، مُستغلاً نور البرق الذي أضاء طريقه من وقتٍ لآخر .. الى ان وصل اخيراً لسكّة الحديد .. 

وكانت خطة هروبه سهلة :

((سيمشي اولاً فوق السكّة ، لحين وصوله الى المحطة التي تمّ فيها شراءه.. وسيكمل منها طريقه باتجاه المحطة الأولى التي بيع فيها اخيه .. وهناك سيسأل عن منزل العجوز المشوّهة لاستعادة هاورد للهرب معاً ، متتبعان السكّة الحديدية للعودة ثانية الى نيويورك .. ومنها الى الميناء حيث يوجد منزل والدتهما))


لكن فريد لم يدرك انه يبعد اميال كثيرة عن هدفه .. وان قطعتيّ الخبز والجبن لن تكفيه طيلة الرحلة ، خاصة مع ثيابه المبلّلة في جوٍّ ماطرٍ وبارد

لكن حماسه لملاقاة اخيه وامه جعله يمشي فوق سكّة الحديد بنشاطٍ وأمل ، غير آبه بالظلام الحالك والحيوانات البرّية المتوحشة المتواجدة هناك ..

***


لكن فرحته لم تدم ساعات .. حيث استيقظ صباحاً على يدٍ تشدّه بعنف من قميصه ! 

وحين فتح عيناه .. رأى جاك يصفعه بقوة ، وهو يقول بعد رؤيته بقايا الخبز والجبن :

- ايها السارق الصغير !! ستُعاقب لهروبك دون إذني 


فأجابه فريد برعبٍ شديد : آسف سيدي ، ارجوك لا تحرقني 

- أحرقك ! اذاً أخبرك العمّال عمّا فعلته بالعبد الأسود قبل سنوات ، ومع ذلك تجرّأت على مخالفة اوامري  

- فعلت ذلك لأنقاذ اخي وإعادته لأمي كما وعدتها

فصفعه ثانية بقوة :

- الم تفهم بعد انك لن ترى نيويورك ثانيةً ؟!!

ثم أشار لرجاله لتقيده في العربة ، وإعادته الى المزرعة 

***


وفي وسط الحقل .. شاهد عمّال جاك وهو يجلده بقسوة ، عقاباً على هروبه .. ولم يتوقف ، الى ان أغميّ على الصغير ! 

ثم تركه وعاد الى منزله ، ليقوم بعض العبيد بحمله الى الحظيرة ..

حيث قامت زوجة رئيس العمّال بتضميد جروحه باكية ، وهي تعاتبه على عدم سماع نصيحتها ..

فردّ فريد بتعبٍ وألم :

- لا تقلقي يا خالة ، سأنجح في المرة القادمة 

ثم أغميّ عليه مجدداً !

***


إنتهى فصل الشتاء بصعوبة على فريد بعد تضاعف عمله كعقوبةٍ له .. وبحلول الربيع ، عاد للتخطيط لهروبه ثانيةً !

وحانت الفرصة مع قدوم صديق جاك من نيويورك .. حيث تنصّت فريد (من خلف نافذة الصالة) على حديثهما باهتمام .. 

واستطاع حفظ إسماء المحطات التي مرّ بها الرجل قبل وصوله الى المزرعة .. فأخوه موجود في المحطة الأولى..


لكن لسوء حظه ! أمسكه خادم جاك وهو يتنصّت عليهما .. 

فضاق صدر جاك من مشاغبته ، وعرضه على صديقه بثمنٍ بخس .. ووافق الأخير بأخذه معه برحلة القطار .. مما أسعد فريد لظنه أنه سيعود اخيراً الى نيويورك ..وقام بتوديع العمّال الذين أخفوا قلقهم ، فصديق جاك اسوء اخلاقاً منه ! لكنهم لم يرغبوا بإحباطه 

***


في القطار .. جلس فريد قرب النافذة وهو ينظر للطريق بسعادةٍ وحماس.. 

لكنه بعد ساعتين ، لاحظ اماكن جديدة لم يرها من قبل !

فسأل صديق جاك بقلق :

- سيد اريك .. القطار الذي أتيت فيه ، لم يمرّ من هذا الطريق؟!

- تقصد القطار الذي جمعوا فيه اولاد الشوارع ؟

- نعم 

- هذا لأننا ذاهبون لأقصى الغرب

فريد بقلق : ماذا ! ألسنا ذاهبين الى نيويورك ؟

- لا 

- ولماذا لم تخبرني بذلك ؟ 


اريك بعصبية : ومن انت لأخبرك بخططي !! انا اشتريتك من جاك  ، وسأبيعك كعامل منجم في المدينة الحديثة لاس فيغاس .. فهناك بيع الأولاد المشاغبين بعد رفض العائلات وأصحاب المزارع شرائهم ..

فترجّاه فريد باكياً : ارجوك سيد اريك .. اريد العودة الى نيويورك لإنقاذ اخي ورؤية امي

- إنسى أمرهما ، فعائلتك تفكّكت للأبد


وبعد بكاءٍ طويل ، صمت فريد بقهر وهو ينظر بعينين دامعتين الى الطريق .. مُتمنياً لوّ بإمكانه القفز من النافذة لإكمال طريقه عكس سير القطار ، لكنه يعلم ايضاً إن حلم نيويورك أصبح صعب المنال .. وشعر بيأسٍ شديد بعد يقينه التام بخسارة عائلته

***


في صباح اليوم التالي ، وصل القطار الى لاس فيغاس .. 

وعلى الفور باعه اريك لصاحب منجم الفحم !


حيث شعر فريد بخوفٍ شديد وهو ينزل لأول مرة الى باطن الأرض الذي لا يضيء عتمته الموحشة سوى قناديل العمّال البائسين مثله.. 


وبعد قيام أحدهم بتعليمه طريقة إستخراج الفحم .. أخذ فريد يضرب مطرقته بكل قوته في الجدار ، مما أعجب رئيس العمّال بنشاط العامل الجديد ! وهو بالحقيقة يحاول إخراج حزنه وغضبه من خلال عمله الشاقّ 

*** 


مرّت ثلاثة اشهر طويلة ، وفريد عالق بعمله المرهق .. حيث اختفت معالم وجهه بسواد الفحم الذي لطّخ ثيابه الملوثة .. لكنه لم يعد يكترث لشيء بعد يأسه من الحياة ، رغم صغر سنه !


لكن كل شيء تغير بقدوم عاملٍ جديد .. الذي علم فريد منه : إنه عمل في منزل العجوز الشمطاء التي باعته لاحقاً للمنجم بسبب شقاوته 

فسأله فريد باهتمام :

- أحقاً عشت في منزل العجوز صاحبة الندبة القبيحة ، المتواجد في اول محطة قطار بعد مدينة نيويورك ؟

- نعم ، فهي تملك عشرات العبيد الصغار .. لكني لم أتحمّل قساوتها وبخلها الشديد ، فبدأت أضايقها الى ان تخلّت عني اخيراً


فريد : وهل رأيت اخي هاورد ؟

- تقصد هاورد الصغير ؟

- نعم 

- بالطبع فهو أصغرنا ، والمسكين تعذّب كثيراً معها

فريد وهو يكتم غيظه : إخبرني ما فعلته الملعونة به ؟ 


فأخبره بمعاناة هاورد ، مما زاده تصميماً على الهرب من المنجم لإنقاذ اخيه 

***


وسنحت له الفرصة بعد ايام ، بقدوم موظف الدولة لمعاينة سكّة الحديد في المنطقة .. 

حيث استطاع فريد سرقة حقيبة عمله التي وجد فيها : مخطّط سكّة الحديد بجميع محطّاته ، وصولاً الى نيويورك .. بالإضافة الى بوصلة صغيرة وبعض المال ..وسكينٌ حادّ صغير ، وعلبة كبريت .. وقِربة من الجلد لحفظ الماء ..وقنديلٌ صغير


كما سرق فريد بعض الطعام المخصّص للعمّال ووضعه في حقيبة الموظف التي حملها مُتوجهاً لسكّة الحديد في منتصف الليل ، مُستعيناً بنور القنديل


وبدأ السير فوق السكّة بطريقٍ عكسي ، عائداً الى نيويورك .. رغم علمه انه سيحتاج شهوراً طويلة للوصول الى هناك .. لكنه مستعد للموت في محاولته لاستعادة عائلته من جديد 

***


ولم يكن الموضوع سهلاً بعد ابتعاده عن المنازل السكنية ، ووصوله لأرضٍ قاحلة مع القليل من الطعام المعلّب .. 

اما الماء ، فكان يحاول تعبة القربة كلما هطل المطر او صادف بئراً او جدولاً صغيراً في الطريق 

كما استخدم السكين في قتل ارنبٍ صغير ، وشوائه مستخدماً علبة الكبريت 


وفي حال تعب من المشي .. كان ينام ورأسه فوق السكّة ، لسماع القطار قبل قدومه 

وهذا ما حصل بعد اسابيع ، حين مرّ قطار متوجهاً للشرق .. فأسرع فريد للحاق به ، فهذا سيوفر عليه الكثير من الوقت .. 


وبعد عدة محاولات فاشلة ، أوشكت الفرصة على الضياع .. مما أجبره على التخلّي عن حقيبته ومعطفه القذر للقفز بكل قوته اتجاه المقطورة الأخيرة التي من حسن حظه انه أمسك بها ..

فصعد اليها وهو يتنفّس الصعداء لركوبه القطار اخيراً ..


لكنه علم ايضاً إنه فور دخوله القطار ، سيُرمى خارجاً ما ان يراه موظف القطار بملابسه القذرة ، خاصة انه لا يملك تذكرة الركوب 

لهذا تسلّل بهدوء بين الممرّات ، اثناء نوم المسافرين في مقطوراتهم الخاصة ..

ودخل الحمام الذي وجد فيه صابونة صغيرة .. ليقوم بغسل وجهه ويديه جيداً التي لم يغسلهما منذ شهور .. لكن ظلّت امامه مشكلة الملابس 


وقبل خروجه من الحمام ، سمع صوت ولدين في الخارج 

فأطلّ برأسه .. ليرى عائلة تترك مقصورتها ، بعد إلحاح الصبيين لتناول الطعام في مطعم القطار .. 

فاستغلّ رحيلهم لدخول مقصورتهم والبحث في حقائب الولدين الى ان وجد ملابس تناسبه .. فلبسهم على الفور ، وأعاد كل شيء مكانه 

..وبذلك لم يعد يلفت أنظار موظفيّ القطار والمسافرين اثناء مروره بجانبهم 


وحين رأى عجوزاً تجلس وحدها في مقطورتها ، دخل للسلام عليها .. فردّت السلام بابتسامةٍ حنونة تدلّ على طيبتها .. فسألها إن كان بإمكانه البقاء معها ، بحجة ان مقصورة عائلته مكتظّة .. فقبلت ذلك برحابة صدر

وأخبرته ان القطار متوجهاً بالفعل الى نيويورك ، مما اسعده كثيراً 


ثم بدأت تحدّثه عن ذكريات طفولتها ، وكأنها تتوق للفضفضة لأحدهم .. واستمع فريد اليها وهو منشغل بتناول الحلوى اللذيذة التي قدمتها له ، والتي لم يتذوق مثلها في حياته

*** 


وتوقف القطار في عدة محطات .. لكن فريد في انتظار المحطة الأولى التي بيع فيه اخيه ..والتي ما ان نادى عليها الموظف ، حتى أسرع بالنزول اليها بعد توديعه العجوز الطيبة .. 


ولأنه يلبس ملابس راقية ، لم يتضايق منه الشرطي حين سأله عن العجوز الثرية صاحبة الندبة القبيحة في وجهها ، المعروفة في المدينة ببخلها وقساوتها على العبيد .. لهذا دلّه على عنوان منزلها ..

***


إنتظر فريد بفارغ الصبر حلول المساء لاقتحام بيتها الضخم ، مستخدماً السكين الحاد الصغير الذي مازال يحتفظ به ..


وفي غرفة نوم العبيد .. أطبق يده على فم اخيه النائم كي لا يصرخ .. والذي ما ان رآه ، حتى نهض لاحتضانه باكياً وهو يهمس له :

- كنت متأكداً انك ستنقذني يا اخي

فريد : وعدت امي ان أعيدك اليها سالماً ، وسأفعل مهما كلفني الأمر

- وكيف سنعود الى نيويورك ؟

- دعنا نخرج بهدوء من هذا البيت الكئيب ، ثم نفكّر بالأمر ..


واثناء تسلّلهما من الغرفة ، إستفاق ولدٌ آخر ليسأل فريد باستغراب :

- من انت ؟!

وكاد هاورد يخبره بكل شيء ، قبل إسراع فريد بالإجابة :

- انا موظفٌ جديد .. أتيت لإدخال الصغير الى الحمام ، عدّ فوراً الى النوم

- حاضر


وخرج الولدان من الغرفة الكبيرة باتجاه الردهة .. حيث رأيا نور المطبخ مضاءً ، والعجوز تشرب الماء هناك .. 

فاضّطرا للنزول من النافذة ، مستعينان بأغصان الشجرة القريبة للهروب من المنزل ..


ثم قطعا الشارع الخالي من المارّة بعد تأخر الوقت ، باتجاه محطة القطار 

وهناك حضن فريد اخاه بشوقٍ كبير ، ليغرقا بالدموع والبكاء المرير 


وبعد ان هدِئا .. قال له فريد :

- سنتبع سكّة الحديد بهذا الإتجاه ، للوصول الى نيويورك ..

- سنحتاج اسابيع للوصول الى بيتنا

- أعرف هذا

هاورد بقلق : وماذا سنأكل ؟

فريد : معي سكين ، سأصطاد أيّ شيء في طريقنا.. لا تقلق ، سيساعدنا الرب .. والآن لنسرع قبل بزوغ الفجر وإبلاغ العجوز عن إختفائك 

***  


وبالفعل مشيا مسافة طويلة ، مستعينان بنور القمر .. الى ان ابتعدا عن المدينة ..


وناما ظهر اليوم التالي .. ورأس فريد فوق سكّة الحديد الذي ما ان ارتجّ ، حتى استفاق من نومه .. وأيقظ اخاه فور رؤيته دخان القطار من بعيد ..

- إسمع يا هاورد .. اريدك ان تركض بأسرع ما يمكنك لركوب القطار 

- انا خائف يا أخي ، وجائعٌ ايضاً

فريد : تخيّل ان امي تنتظرنا في المحطة القادمة ، وهذا سيعطيك القوة للإسراع بالركض ..هيا !! القطار يقترب منا .. إستعد !!


وبعد محاولاتٍ جاهدة من الولدين ..إستطاع فريد القفز اولاً لإحدى عربات قطار البضائع ، والإمساك بذراع اخيه وشدّه بقوة ناحية عربة ..


وبعد تنفّسهما الصعداء .. تسلّقا السلم الصغير للوصول الى بضاعة العربة التي وجداها مليئة بالطماطم .. فأخذا يتناولان الواحدة تلوّ الأخرى بنهمٍ شديد الى ان شبعا .. 

وناما فوقهم بتعبٍ شديد ، بانتظار توقف القطار في نيويورك .. محطتهم الأخيرة 

*** 


وبالفعل .. أسرعا بنزول القطار قبل لحظات من توقفه في المحطة ، خوفاً من القبض عليهم بتهمة أكل جزءاً من البضاعة .. 

وكان فريد سعيداً جداً برؤية ميناء نيويورك في الجهة المقابلة ، التي فيها منزل امه .. 


فأمسك يد اخيه ، وأخذا يتنقلا من شارعٍ لآخر وقلبهما يخفق بحماسٍ شديد ..الى ان وصلا اخيراً لمنزلهم القديم مع حلول المساء .. 

لكن للأسف وجداه فارغاً !

فانهارا بالبكاء لاختفاء امهما .. ولشدة تعبهما ، ناما فوق فراشهم القديم بحزنٍ شديد ..

***


في الصباح الباكر .. خرج فريد مع اخيه للبحث عن امه .. وسأل الجيران  دون علمهم بمصيرها ! 


الى ان وجدا صديقة امهما التي اخبرتهما بأن والدتهما حاولت الإنتحار بعد معرفتها ببيعهما كعبيد .. 

لكن من حسن حظها ان رجلاً ثرياً أمسكها قبل قفزها من الجسر .. وهي تعمل الآن طباخة في قصره .. ثم دلّتهما على مكان القصر الذي يتواجد في الجهة المقابلة للميناء ..


ووصلا الى هناك في اليوم التالي ، بعد ان تسوّلا الطعام من المارّة 

***


وحين وصلا .. سألا حارس القصر عن امهما ..

فطلب منهما الإنتظار في الخارج لحين منادتها .. والتي ما ان رأتهما ، حتى حضنتهما بشوقٍ كبير .. لينهاروا جميعاً في بكاءٍ مرير بعد فراقهم عن بعضهم لسنةٍ ونصف ! 


وبالصدفة وصلت عربة الرجل الثري الذي رأى المشهد المؤثر .. فطلب من خدمه الإهتمام بالصبيين .. 

وبعد الاستحمام ولبس ملابس نظيفة وتناولهما غداءً لذيذاً .. جلس الثريّ يستمع لقصة فريد المثيرة عن كفاحه في إنقاذ اخيه ، وعودته الى نيويورك بعد مروره بعدة ولايات أمريكية..


ولشدة إعجابه بإصرار فريد وشجاعته وشفقته على معاناة الأخوين قرّر بقائهما في قصره ، ووعد امهما التكفّل بتعليمهما .. 

***


بعد سنوات .. أصبح فريد قائداً مهماً في الجيش ، وهاورد مهندساً معمارياً مشهوراً .. وصارا من رجال نيويورك المحترمين 


ونُشرت قصتهما في كتاب أثّر على الرأيّ العام وغيرت نظرتهم بالطبقة الكادحة ، وتداوله الناس لأعوام بطبعاتٍ متكرّرة تحت عنوان : (قطار اولاد الشوارع) !


******

ملاحظة :

هذه القصة مستوحاة من احداثٍ حقيقية تاريخية ، ذُكرت في مقال نُشر بموقع كابوس بعنوان : (قطار الأيتام)

الرابط :

https://www.kabbos.com/index.php?darck=9615


الثلاثاء، 17 نوفمبر 2020

عودة الأموات الى الحياة

 تأليف : امل شانوحة

 

هل الأرض تكفينا جميعاً ؟!


إنتهى العزاء .. وعاد الشاب مروان الى حياته المملّة بعد موت والده الذي ربّاه وحده ، منذ وفاة امه في طفولته .. 

وازداد حنينه وشوقه لأبيه الحنون مع مرور الأيام .. الى ان قرّر الذهاب لأمهر مشعوذٍ في منطقته ، وسؤاله عن إمكانية إعادة والده للحياة من جديد 


فأجابه المشعوذ :

- هناك تعويذة سحريّة لإعادة الموتى ، لكنه لم يجرأ احد على استخدامها 

- ولماذا ؟

- لأن نتائجها غير مضمونة ، فنحن لا نعلم من سيعود الينا .. هل هو والدك بالفعل ، ام قرينه او روحٌ شريرة إستحوذت على جسده ؟

مروان : وهل تملك تلك التعويذة ؟ 

- هي موجودة منذ مئات السنين ، في كتابٍ طُبع مراراً بعنوان ((اسرار الحياة))


فسأله مروان وهو ينظر الى مكتبة المشعوذ : 

- وهل تملك الكتاب ؟ 

- نعم .. لكني لن أعطي تعويذة خطيرة كهذه لشخصٍ ليس خبيراً بهذه الأمور

- رجاءً ، سأدفع لك ما تشاء 

المشعوذ : الأمر ليس ماديّاً ، بل لتجنّب كوارث نتائجها غير معروفة .. وأنصحك بالتعوّد على رحيل والدك ، فالموت علينا حقّ..

فخرج مروان من عنده وهو يضمر نيته بسرقة الكتاب ..

*** 


وسنحت له الفرصة في الإسبوع التالي ، بعد سفر المشعوذ للقرية المجاورة لزيارة أقاربه .. 

وانتظر مروان حلول المساء لاقتحام بيته .. وبحث جاهداً في مكتبته الكبيرة ، الى ان وجده .. 

ثم تسلّل بهدوء للخارج ، مُتوجهاً لشقته ..

***


وسهر مروان طيلة الليل ، بحثاً عن التعويذة السحرّية في الكتاب الضخم .. الى أن وجدها ، تحت عنوان : (عودة الميت الى الحياة)  

وكانت عبارة عن كلماتٍ غير مفهومة ! تلاها بشكلٍ متتابع ، وهو ينفث في قنينة ماء ..

ورغم تأخر الوقت ، الا انه خشي أن تفقد التعويذة سحرها إن لم يتمّ العمل في الحال

***


فقاد سيارته نحو المقبرة ، رغم برودة الجوّ الذي ينذر بعاصفةٍ رعدية 

وحين وصل ، وجد ابوابها مقفلة بإحكام .. فقفز فوق السور ، متجهاً لقبر عائلة والده .. 


ووقف بجانب قبر ابيه ، وهو يرتجف من رهبة المكان الذي ازداد رعباً مع هدير الرعد والبرق الذي اضاء المكان الموحش من حوله! 

وأخذ يسكب الماء ببطء فوق القبر المبلول برذاذ المطر الذي سرعان ما ازداد هطوله .. 

وبعد إنهاء عمله .. أسرع عائداً الى منزله ، وهو يأمل بنجاح التعويذة لإعادة والده للحياة 

***


إستيقظ مروان عصراً ، دون حدوث تغيرات في منزله او حياته ! 

فأمضى النهار باللعب على حاسوبه بمللٍ ويأس ، الى أن حلّ المساء  


وقبل ذهابه الى فراشه ، تفاجأ بطرقٍ متواصل على بابه !

وحين فتحه .. وجد والده مبتسماً ، برداء الكفن الملوّث بالطين وهو يقول :

- المطر سهّل نبش القبر 

ولم يشعر مروان بنفسه الا وهو يسقط مغمياً عليه ! 

***


إستيقظ بعد ساعة .. ليرى والده يجلس على طرف سريره ، وهو يلبس بيجامته المعتادة ويقول :

- أخيراً استيقظت بنيّ .. لقد استحمّيت وأكلت ، وأخرجت أغراضي من الصناديق ورتّبتها ثانيةً في غرفتي .. كل هذا وأنت ما زلت نائماً !.. هيا استيقظ لنشرب القهوة معاً ، فالشمس على وشك الشروق  

- ابي ! كيف حصل هذا ؟

- ألم تسكب ماء التعويذة فوق قبري ؟

مروان : نعم ، لكني لم أتصوّر ان تنجح بهذه السرعة ! 

- بل نجحت اكثر مما توقعت

- ماذا تقصد ؟!


فنادى الأب بصوتٍ عالي : 

- ابي !! تعال الى هنا ، حفيدك يريد التعرّف بك

مروان بصدمة : جدي !


فدخل شاب الى غرفته ، وهو يسلّم عليه :

- كيف حالك يا صغيري ؟

فسأل مروان والده : من هذا الشاب ؟!

الأب : الم اخبرك سابقاً ان والدي توفيّ شاباً بحادث سير ، لذلك عاد الى الدنيا بالعمر الذي مات فيه .. بينما بقيت انا عجوزاً هزيلاً لموتي بالسرطان

الجد : وهذا الغريب في الموضوع ! فأنا أصغر من ابني ، وأكبر من حفيدي بقليل 


مروان : لم أفهم ! انا ألقيت التعويذة على قبرك يا ابي ، فكيف عاد جدي للحياة ؟!

الأب : هو لم يكن قبري وحدي بل قبر العائلة ، ودُفنّا فوق بعضنا .. لهذا عدّت انا ووالدي واخوتي الثلاثة

مروان بصدمة : اعمامي ايضاً !

الجد : نعم ، هم يتناولون الطعام في المطبخ  


وفجأة ! سمعوا صراخاً قادم من المبنى المقابل ..

فأسرع مروان واقاربه الى الشرفة ، لمشاهدة الجارة وهي تطلّ من نافذتها وتصرخ بخوف :

- والدي عاد للحياة ثانيةً !! أنقذوني يا ناس قبل ان أجنّ !!!

الجد : والدها ! الم يكن مدفوناً بجانب قبرنا ؟!

والد مروان : نعم .. (ثم سأل ابنه) :  

- مروان .. إخبرنا ما فعلته بالتعويذة بالتفصيل ؟

فأخبرهم بكل شيء .. 


ثم قال الجد :

- يبدو ان ماء التعويذة إختلطت بماء المطر !

مروان بقلق : ماذا يعني هذا ؟!

والده : يعني ان تعويذتك أيقظت جميع الميتين في تلك المقبرة


وسرعان ما علا صراخ الجيران الواحد تلوّ الآخر ، بعد عودة موتاهم الى بيوتهم ..

***


ليس هذا فحسب ! فالمقبرة متواجدة قرب الشاطىء .. لهذا انتقلت التعويذة مع مياه المجاري الى البحر ، ومنها الى الدول المجاورة .. لتضجّ الصحافة العالمية بالخبر المفزع ! 


ولم يجد مروان في الكتاب السحريّ أيّةِ طريقة لإبطال التعويذة السابقة ، خاصة بعد هرب المشعوذ لمكانٍ مجهول (بعد معرفته بسرقة كتابه) خوفاً من تحقيقات الشرطة .. وبذلك استمرّ مفعول التعويذة المرعبة التي وصلت لعدة مقابر دولية ! 

***


وماهي الا شهور قليلة ، حتى صُعق العالم بعودة ملايين الموتى للحياة .. جيلاً قبل جيل ، وصولاً للعصور القديمة وبداية البشريّة !


حتى وصل عدد سكّان الأرض الى 108.2 مليار نسمة ، منذ تواجدهم على الأرض قبل 50 الف سنة .. حيث تفوقت نسبة الذكور 51% على الإناث .. وكان معظمهم من الأطفال دون سن العاشرة (الذين ماتوا بالأمراض) والشباب دون سن 33 (ممن ماتوا بالحروب القديمة).. تمركز أكثريتهم في المناطق الريفية ، بعد ان أخافتهم مظاهر التطور في المدن التي لم يعتادوا عليها .. وكل هذا بموارد تكفي 10 مليار نسمة فقط ! مما جعلهم يتقاتلون للحصول على المياه العذبة ومحصولات الأراضي الزراعية..

***


ولم تنتهي السنة الأولى للكارثة .. الا وقد جفّت الأنهار ويبست الأراضي ، وسُرقت جميع المواد الغذائية من الأسواق المحلّية والعالمية .. 

وهاج البشر الذين انقسموا بين العصر القديم والحاضر ، كلاً يدافع عن عاداته وتقاليده بعد تضارب الحضارات بينهم ..

***


ولاحقاً إتفقت الدول الحديثة على محاربة ما سمّوه ب(جيل الأموات) الذين استخدموا في حروبهم الأسلحة القديمة : كالرماح والسيوف والمجانيق ، في مقابل الطيران الحربي وأسلحة الدمار الشامل الذي أباد عدداً كبيراً منهم.. 


بينما هرب جزءاً منهم لأعالي الجبال والكهوف والوديان والغابات الكثيفة بنيّة إعمار حضاراتهم من جديد ، سواءً : الفرعونية والرومانية والآرامية والسومرية وغيرها 

***


وقد شعر مروان بالذنب الشديد بعد رؤيته بالأخبار : ملايين القتلى من الجيل القديم ، الذين ماتوا سابقاً بالحربين العالميتين والأمراض المعدية كالطاعون والسلّ ، والمجاعات .. وهاهم يُقتلون ثانية برداً وجوعاً بحرمانهم من المياه والغذاء والملابس ، بحجّة ان ليس لهم الحق بمشاركة حاضرنا !

***


في المقابل .. إستحوذت الدول العظمى على الفنانين القدامى والمخترعين التي جمعتهم مع علماء الحاضر للتفكير سوياً بحلول للمشاكل الراهنة التي يعيشها سكّان الأرض .. مما نتج عنه اختراعات جديدة : مثل جهاز صغير لتحويل مياه البحر الى مياه عذبة ، وأسمدة تُسرّع نضوج الثمار .. والتي إستفاد منها سكّان الأحياء فقط ، دون جيل الأموات الذين لقّبهم رجال الدين والصحافة : بالقرائن الشيطانية او الزومبي والجن الخبيث ، لذلك حوربوا بشدة .. حتى بات كل شخص يقتل قريبه ، الذي كان يوماً يبكيه عند موته!

***


الا انه بعد سنوات ، إنقلبت الأمور رأساً على عقب بعد توحيد الأموات لصفوفهم بزعامة قابيل (ابن آدم) الذي شنّ مع جيشه حرباً مُنظّمة على سكّان البلاد المتطوّرة .. 

وسرعان ما احتلوا مراكز مهمّة بالبلد ، وأسقطوا الحكومات الواحدة تلوّ الأخرى !

وبثيابهم المُهلّهلة وأسلحتهم البدائية وهتافاتهم الثائرة المتمرّدة أعلنوا سيطرتهم على العالم 


حيث قال قابيل في خطبته الجماهريّة التي حضرها ملايين البشر : 

- قتلت اخي هابيل ، في الوقت الذي كان العالم كله ملكاً لعائلتي .. ولن أتوانى عن قتل كل من يعترض طريقي .. ولهذا قرّرت ان يحكم الموتى القدامى الأرض  

فصرخ أحدهم بغضب : هذا ليس عدلاً !! انتم عشتم حياتكم ، وهذه الأرض ملكاً لنا

قابيل : عشناها سابقاً وسنعيشها من جديد ، وسنكمل نهضتها من حيث وقفتم .. لذا لسنا بحاجة لجيلكم التافه بعد اليوم


ثم أشار لجنوده الذين قاموا بصفّ الأحياء في طوابير الإعدام : بعضهم يُشنق والبعض الآخر يُقطع رأسه بالسيف .. والآخرون يرمون بالسهام ..


وتفاجأ مروان بوالده يُوقفه بالقوة في صفوف الإعدام ..

- ابي ! ماذا تفعل ؟

الوالد : قابيل هو قائدنا الآن ، وعلينا تنفيذ اوامره 

مروان : انا ألقيت التعويذة لأجلك ، وانت تردّ الجميل بإعدامي ؟!

- نحن جرّبنا ألم الموت ، وحان الوقت لتجرّبه انت وبقية الأحياء .. ومن يدري ، ربما يوماً ما نُلقي التعويذة عليكم لتشاركونا الحياة من جديد 

مروان وهو يبكي بخوف : ابي رجاءً ، لا تتخلّى عني


ثم وقف الأب مع الجد لمشاهدة عمليات الإعدام الجماعية للأحياء ، الذي راح ضحيتها 7 مليار بشري (من السكّان الحاليين) .. من ضمنهم ابنه مروان الذي كان نادماً لعدم رضائه بالقدر ، والذي بسببه دمّر الأرض بمن فيها !

******


ملاحظة :

الفكرة مستوحاة من هذا الفيديو :



الجمعة، 13 نوفمبر 2020

الكرت المُحترِق

 تأليف : امل شانوحة

إنتهى دورك !


داخل مطارٍ مزدحم ، إنشغلت جاكلين بجوالها لتمضية الوقت الى حين صعودها الطائرة .. 

وإذّ برجلٍ عجوز (يلبس كمّامة تخفي معظم وجهه) يجلس بجانبها ، وهو يتلفّت حوله بقلقٍ شديد !

ثم نظر إليها بعينين دامعتين ، وكأنه متردّد للحديث معها ..

فعرفته جاكلين فور رؤيتها لوحمة يده المشهورة ، فسألته باستغراب:

- سيدي الرئيس !

فطلب منها إخفاض صوتها .. فعادت لتسأله بصوتٍ منخفض :

- أين حرّاسك سيدي ؟

الرئيس وهو يتلفّت حوله : هربت منهم 

جاكلين بدهشة : هربت ؟!


وهنا أخرج USB صغير من جيبه .. وأعطاها إيّاها بالخفاء ، وهو يهمس لها :

- سيقتلونني قريباً .. رجاءً إنشري محتواه سريعاً 


وقبل ان تفهم ما يقصده ! إنتفض مرتعباً ، فور إقتراب حارسيه الشخصيين وهما يسألانه :

- أنت هنا سيدي ! بحثنا عنك في كل مكان

فحاول الرئيس إخفاء رعبه قائلاً : 

- بعد خروجي من الحمام ، أردّت السير وحدي لبعض الوقت

الحارس : لكن سيدي .. طائرتك الخاصة جاهزة ، والطيّار مُستعد للإقلاع

فتنهّد الرئيس تنهيدةً طويلة وحزينة ، ثم قال : 

- حسناً لنذهب

وقبل ذهابه ، إلتفت لجاكلين بنظرةٍ تعني : 

((رجاءً إفعلي ما طلبته منك)) 


لكن لم يكن لديها وقت للتفكير ، بعد سماعها إعلان فتح باب الطائرة للمسافرين .. 

وجرّت حقيبتها الحمراء الصغيرة ، مُتوجهةً للباب الرئيسيّ .. قبل ان توقفها المضيفة بحزم :

- الكمّامة إلزامية يا آنسة

جاكلين : آه عفواً .. أعاني من الربو ، والكمّامة تكتم أنفاسي .. سأضعها في الحال 

وبعد صعودها الطائرة ، جلست قرب النافذة .. 

***


وفور إقلاع الطائرة .. تفاجأ المسافرون بصوت إنفجارٍ مدويّ في الخارج!

فنظروا من نوافذهم ، ليروا طائرةً صغيرة خاصة تحترق في مدرّج المطار !

فسرت قشعريرة في جسد جاكلين المرتجف لمعرفتها (قبل الجميع) بمقتل رئيس البلاد ..

***


لكنها لم تتأكّد من الخبر الا بعد مشاهدة الأخبار ، عقب وصولها من المطار الى منزلها المتواجد في وسط المدينة ..

فقالت بخوف : 

- يا الهي ! كان يعلم أنهم سيقتلوه .. ترى ماذا يوجد في USB الخاص به ؟ 


وأدخلته حاسوبها لتجد فيه : ملفات سياسية معقدة ، تبدو كأنها فضائح لكبار السياسيين في البلد .. كما وجدت فيديو لاغتيال نائبه الذي حصل في السنة الفائتة !


فأخذت تفكّر :

- ترى هل أنشر الفيديو بالإنترنت ، كما طلب مني الرئيس ؟ لكن أخاف أن يقتلوني أنا ايضاً !.. وفي حال أتلفت USB ، إضيّع كل الملفات المهمّة التي دفع الرئيس حياته ثمناً لها ؟ .. إذاً لمن أوصلها ؟ أألى عائلته ؟ ام حزبه ، او الصحافة ؟ .. يا الهي ! لما اختارني لتحمّل هذه المسؤولية الضخمة والخطيرة ؟ 


وفجأة ! سمعت صوتاً خارج منزلها ، جعل جسمها ينتفض من مكانه .. فأخذت تراقب حديقتها من زجاج الصالة ، وهي تصرخ بعلوّ صوتها :

- من هناك ؟!! أنا أحذّرك ، معي مسدس .. إظهر نفسك حالاً!!


لكنها لم ترى احداً .. فأسرعت لتأكّد بأن جميع ابوابها ونوافذها مغلقة بأحكام .. 

ثم اختبأت في غرفتها ، بعد إقفال الباب عليها (فهي تعيش بعيداً عن اهلها بسبب دراستها الجامعية) 


ونامت تلك الليلة بصعوبة بعد أن أرهقها التفكير بما ستفعله بالمعلومات الخطيرة التي بحوذتها ، والتي ستقلب البلاد رأساً على عقب !

***


وفي الأيام التالية .. حاولت جاكلين مراراً توصيل USB الى مركز الحزب السياسي التابع للرئيس الراحل ، لكنها تغاضت عن الأمر في آخر لحظة  


وبالنهاية خطرت ببالها فكرة جريئة : وهي استخدام حاسوبها القديم لإرسال فيديو الإغتيال لأهم محطّة إخبارية ، ثم إتلاف جهازها كي لا تلاحقها المخابرات من خلاله ..


وبالفعل ذهبت الى وسط البلد ، مُخفية نفسها بقبعةٍ عريضة وكمّامة وشال وملابس سوداء فضّفاضة.. واختارت الجلوس في مقهى إنترنت مشهور .. 

وبعد إرسال المقطع لبريد الصحافة ، توجّهت الى محطة مترو الأنفاق .. ورمت حاسوبها فوق سكّة الحديد ، قبل لحظات من وصول القطار لإتلافه بالكامل ..


ثم عادت الى بيتها بعد تنقّلها بين عدّة سيارات اجرة ، خوفاً من إلتقاط كاميرات الطريق لرقم السيارة ..وكل هذا تخوّفاً من الجهة المجهولة التي قامت بتصفية الرئيس ..


وقد شعرت بتحسّنٍ ملحوظ بعد تنفيذها جزءاً من مهمّتها الصعبة ، رغم انها لم تتخلّص بعد من USB الذي يحوي ملفات وفضائح سياسية خطيرة .. لكنها لن تخاطر بإرساله لأحد ، قبل معرفتها بتصرّف الصحافة حيال الفيديو الخطير 

***


لم تمضي ساعات قليلة .. حتى انتشر المقطع بجميع وسائل التواصل الإجتماعي ، مُحدثاً بلبلة وضجّة سياسية ضخمة .. خاصة لتورّط المرشّح الجديد للرئاسة بعملية قتل نائب الرئيس السابق !


وتنفّست الصعداء بعد سماعها بالأخبار : أن الفيديو وصلهم من جهةٍ مجهولة .. فعلمت انهم لم يقتفوا أثرها .. 

***


الا ان راحتها تبدّدت بعد أيام عقب شعورها بملاحقة ومراقبة من أشخاصٍ غامضين ، اثناء ذهابها وعودتها من الجامعة .. 

لهذا هربت مساءً الى كوخ جدها في الغابة الذي يستخدمه للصيد ، والذي فيه الكثير من المعلّبات التي تكفيها لحين انتهاء الأزمة 

***


بعد اسبوعين .. أحسّت بالضيق والضجر بعد تركها الدراسة والإمتناع عن الإتصال بأهلها التي تعلم بقلقهم عليها ، لهذا أرادت التخلّص سريعاً من USB اللعين لكيّ تعود لحياتها السابقة 


وسنحت لها الفرصة بعد سماعها بالأخبار : عن عزاءٍ جماهريّ يُقيمه ابن الرئيس الراحل ، بمناسبة مرور شهر على وفاة والده 

فتجهّزت للذهاب اليه ، وهي تخفي وجهها بالكمّامة ..

***


وحين جاء دورها للسلام على ابن الرئيس السابق ، إقتربت منه بحذر .. ووضعت بالخفاء USB في يده ، وهي تهمس في اذنه :

- والدك أعطاني إيّاه قبل مقتله 


وما ان أصبح في حوزته ، حتى أشار لحارسيه بالقبض عليها ! واللذان أدخالها عنوةً الى مكتبه (خلف صالة العزاء) ..


فانصدمت جاكلين كثيراً من تصرّفه الوقح ! وصرخت بخوف :

- انا لم أفعل شيئاً !!

الحارس مُهدّداً : إخفضي صوتك ، فنحن لا نريد فضائح

جاكلين بغضب : لا تريدان فضائح ! لقد سحبتماني كالمجرمة امام الناس والصحافة !! 

 

وهنا دخل ابن الرئيس مع رجلٍ آخر ، عرفته جاكلين على الفور :

- ألست الحارس الشخصيّ للرئيس ؟!

فأجابها بابتسامةٍ صفراء : نعم

جاكلين باستغراب : وكيف لم تمت معه ؟! 

الرجل : لأني لست غبياً لركوب طائرةٍ ملغومة 

جاكلين : اذاً كنت تعرف بخطّتهم لقتل الرئيس ؟!

- طبعاً .. والرئيس ايضاً يعلم بذلك ، بعد إبلاغه بأنهم أحرقوا ورقته 

- من أخبره بذلك ؟

- الماسون

جاكلين : هل أنت من رجالهم ؟


الرجل : نعم .. وقد بحثنا عن هذا USB الخطير في كل مكان .. وكنا على وشك الإمساك بك ، لولا هروبك من منزلك الى جهةٍ مجهولة !

جاكلين بدهشة : وكيف عرفتم بشأني ؟!

- أنت لم تضعي الكمّامة في قاعة الإنتظار اثناء حديثك مع الرئيس ، لهذا ظهر وجهك بوضوح في كاميرات المطار .. تماماً كحقيبتك الحمراء المميزة التي استطعنا من خلال رقمها التسلّسلي في قسم الأمتعة ، للوصول لعنوان منزلك  


جاكلين : وهل موظفيّ المطار يعملون ايضاً لحسابكم ؟! 

الرجل : كل الدولة تعمل لحسابنا .. ولا أبالغ ان قلت إن معظم رؤساء العالم من رجالنا المخلصين ، والذين مهما علت مراتبهم يبقون لدى منظمتنا كأوراق البوكر .. لهذا حين احترق كرت رئيسكم وانتهى دوره ، تخلّصنا منه .. وظننا إن مشكلته انتهت ، لنعلم لاحقاً من سكرتيرته انه نسخ ملفات مهمة لفضح بقية عملائنا .. لكنه أخطأ بتسليم USB خطير كهذا ، لفتاةٍ جامعية بسيطة مثلك .. (ثم جلس بقرب الحاسوب وهو يقول) .. والآن لنرى الوثائق التي احتفظ بها ذلك الماكر ؟ 


وأخذ يتصفّح الملفّات الموجودة بداخل USB.. ليقول بعد دقائق :

- انها ملفات خطيرة بالفعل ! .. سأعمل على إتلافها لاحقاً 


فاقترب منه ابن الرئيس ، وهو يقول بتذلّلٍ وخضوع : 

- سيدي ، لا تنسى وعدكم لي

فأجابه : بالطبع ، مكافأتك محفوظة

جاكلين باستحقار : لا أصدّق انك بعت دم والدك !

فأجابها الإبن العاق : 

- هم وعدوني بتعيني مكان والدي بعد تزويرهم نتيجة الإنتخابات القادمة ، في مقابل تسليمكِ لهم .. وقد نجحت فكرة العزاء الجماهريّ لاجتذابك إليّ 


جاكلين بعصبية : أخُنت والدك لأجل السلطة ؟!!

فقال الإبن بطمع : 

- السلطة والشهرة والمال الوفير ، كل هذا يكفي لبيع عائلتي وكل معارفي لأجله

جاكلين باشمئزاز : حقير !

ثم سأل الإبن ، رجل الماسون : ماذا ستفعلون بها ؟ 

الرجل : هي فتاة جميلة .. سندع رئيسنا يتسلّى بها قليلاً قبل إعدامها ، كما فعلنا مع الكثير من شرفاء البلد .. والآن إمسكاها !!


فقام الحارسان بتقيدها ، وهي تحاول مقاومتهما بكل قوتها : 

- انا لا ذنب لي !! دعوني وشأني !!

الرجل : أحقنوها بالمخدّر قبل سماع أحد لصراخها  


ثم حملاها وهي غائبة عن الوعيّ الى خارج المقرّ (من بابٍ سرّي) ووضعاها في سيارةٍ سوداء مظلّلة ، بقيادة الرجل الماسوني.. 


وفي الوقت الذي كان فيه ابن الرئيس يحتفل مع رجاله بمنصبه الجديد ، كانت جاكلين في طريقها لمصيرها المجهول !


الثلاثاء، 10 نوفمبر 2020

جاك الخفيّ

 تأليف : امل شانوحة

زعيم المنحرفين الصغار


إستلم الشرطي بلاغاً من الجيران عن صرخاتٍ وطلقات رصاص في المنزل المجاور ..

وحين اقتحمه .. وجد ولداً في العاشرة يقف بالصالة قرب جثة والديه واخته الصغيرة ، والمسدس مازال في يده !

فوجّه الشرطي سلاحه نحوه ، آمراً إيّاه برميّ المسدس جانباً ..

وما ان فعل ، حتى قبض عليه .. ثم اقتاده لسيارة الشرطة ، على مرأى جيرانه المندهشين من الحادثة ! 

وانطلق به الى المركز فور وصول المحقّقين وسيارة الإسعاف لمكان الجريمة 

***


في الطريق .. سأله الشرطي عن سبب قتله عائلته ، فأجابه بلا مبالاة:

- تنفيذاً لأوامر جاك

- ومن هو جاك ؟

الولد : الشخص الذي بجانبك 

فالتفت الشرطي للكرسي الأماميّ الفارغ ، قبل إطلاقه صرخةً مفزعة ! 


بهذه الأثناء ، سمع الجيران صوت الحادثة من بعيد ..

فانطلق بعضهم الى هناك .. ليجدوا سيارة الشرطي محطّمة بالكامل ، وجثته عالقة بالداخل .. ولا أثر للولد الصغير !

***


في مكانٍ آخر .. راقب سائق الأجرة الولد ذاته يمشي وحده فوق الجسر ، وثيابه مُلطخة بالدماء .. فناداه قائلاً : 

- يا ولد !! مالذي أتى بك الى هنا في هذا الوقت المتأخر ؟ تعال أوصلك الى منزلك 


وما ان جلس الولد في المقعد الخلفيّ ، حتى انطلق السائق مسرعاً الى جهةٍ مجهولة .. والذي كان من وقتٍ لآخر يعدّل مرآته الأمامية لمعاينة الصغير ، وهو شارد بأفكاره الشهوانية .. 


ثم عاد لسؤاله :

- لما لطّخت ثيابك بالألوان ، ايها المشاغب ؟

فأجابه الولد : هذه دماء عائلتي التي قتلتها قبل قليل  

السائق بصدمة : أأنت مرتكب الجريمة المروّعة التي أذاعوها قبل ساعة؟!

فأومأ الولد برأسه إيجاباً ..


السائق : ولماذا قتلتهم ؟

الولد : تنفيذاً لأوامر جاك 

- ومن جاك ؟ 

- الذي يبتسم في مرآتك الآن ، الا تراه ؟ 


وحين نظر السائق في مرآته الأمامية : رأى رجلاً أربعينيّ بلباسٍ اسود ، ووجهاً مخفياً بصباغٍ أبيض كزينة المهرّجين ، وبيده ساطوراً حادّ .. قبل هجومه المفاجئ عليه !


ليشاهد المارّة إرتطام سيارة الأجرة بحافّة الجسر وسقوطها بالنهر !

حيث صرخ احدهم بفزع :

- هناك ولد يغرق بالنهر ، أنقذوه حالاً !!


فأخرج احدهم من سيارته حبلاً طويلاً ورماه للأسفل ، ليقوم الولد بالتقاطه بصعوبة .. ويتساعد الجميع في سحبه الى الجسر من جديد

وبعد التقاط انفاسه ، سأله أحدهم : 

- هل انت بخير ؟ الإسعاف في طريقها اليك

الولد : لا اريد الذهاب للمستشفى ، انا بخير 

- وماذا عن سائق الأجرة ؟ هل تعرفه ؟

الولد : لا هو شخص حاول إختطافي ، فعاقبه جاك 

- ومن جاك ؟

الولد وهو يشير لشيءٍ خلفهم : الرجل الواقف خلفكم 

فالتفت الرجال العشرة للوراء ! قبل صراخهم جميعاً ، وسقوطهم الواحد تلوّ الآخر في النهر ..


وتابع الصبي سيره مُبتسماً بخبث ، برفقة قائده جاك الذي لا يراه سوى الأولاد المشاغبين .. وأكملا سيرهما لتنفيذ جريمة أخرى !

***


في الشهر التالي حصلت ثلاثة جرائم غامضة ، وتمّ القبض أخيراً على المجرم الصغير بعد الإثبات بالأدلة تواجده في أماكن الحوادث ! وحُوكم اربع سنوات في سجن الأحداث ..


وفي عنبر السجن .. مشى حاملاً وسادته ولحافه بثباتٍ إنفعاليّ ، اثناء اقتياده الى زنزانته ! وهو يردّد بثقةٍ وارتياح :

- سيُخرجني جاك عاجلاً ام آجلاً ، فأنا هنا بناءً على أوامره


لكن الحارس لم يكترث لكلامه الذي ردّده سابقاً في جلسات محاكمته ، دون إثبات على وجود شخصٍ خفيّ يأمره بارتكاب الجرائم 

***


ولم تمضي اسابيع ..حتى أصبح هذا الولد زعيماً لمجموعة من صغار المنحرفين ، فهو أقربهم الى جاك الذي رأوه جميعاً في وقتٍ لاحق ! والذي أعطائهم التعليمات اللازمة لخطة هروبهم من السجن


حيث عملوا سرّاً على حفر نفقٍ تحت الحمام المشترك دون علم الحرّاس ، بعد قيام جاك بتشويش الكاميرات كلما شرعوا في إتمام الخطة !

وأنهوا نفقهم الطويل خلال 3 شهور من العمل المتواصل والشاقّ  

***


وفي أمسيةٍ ماطرة .. إرتفع جرس الإنذار داخل سجن الأحداث ، بعد هروب ثلاثين من أخطر السجناء الصغار ..

وصُعق مدير السجن باكتشاف النفق السرّي الذي يصل لما بعد اسوار السجن الحصينة ..


فقامت طائرة الهليكوبتر بتفتيش المكان ، وأُطلقت عشرات الكلاب المدرّبة لاقتفاء أثرهم .. كما قامت فرق الشرطة بتمشيط الغابة القريبة من السجن ..ونشرت الأخبار المحلّية صور الهاربين على مدار اسابيع متواصلة .. لكن اختفاء الأولاد المشاغبين ظلّ لغزاً محيراً للشرطة ! 

***


بعد سنة ، وفي مكانٍ سرّي تحت الأرض .. إجتمع 30 مجرماً مع زعيمهم جاك الذي كان أمهر مشعوذيّ روسيا ، والذي هرب الى اميركا بعد تزوير هويته..


فسأله أحد الأولاد باهتمام : 

- سيدي .. طالما إن الشياطين علّمتك تعويذة الإختفاء ، فلما أمضيت شهوراً بالبحر للوصول الى دولتنا ؟ الم يكن بإمكانك ركوب الطائرة دون ان يراك أحد ؟

وقال الآخر : أو ان تستخدم تعويذة الجن للطيران بدل رحلتك الشاقة؟

فأجابهما جاك : تلك التعويذتين تعلّمتهما هنا ، على يد مشعوذة غجريّة عجوز .. اما في روسيا ، فتعلّمت كيفية اصطياد الأولاد الذين لديهم نفس ميولي الإجرامية وتجنيدهم لحسابي .. 


فسأله رئيس الأولاد : 

- والآن بعد ان أصبحنا ثلاثين جندياً ، ماهي خطتك القادمة ؟ 

جاك : بعد تدريبكم الشهور الماضية على استخدام أخطر الأسلحة وطرق الدفاع عن النفس ، أصبحتم جاهزين لقلب المدينة رأساً على عقب : كسرقة البنوك وإثارة الذعر في المدارس ، وقتل أهم شخصيات البلد

فسأله أحدهم : ولماذا ؟

جاك بعصبية : لا اريد إعتراض !! ستنفّذ اوامري بصمت ، والا سلّمتك بنفسي للشرطة

فأسرع الولد قائلاً بخوف : لم أقصد سيدي .. أردّت سؤالك إن كانت تلك خطتك انت ، ام هي أوامر قائدك ابليس ؟  

جاك : ابليس قائدنا جميعاً !! وانا مدينٌ له لتعليمي سرّ الوسوسة التي استخدمتها لتجنيدكم 


ولدٌ آخر : انت محظوظ سيدي لرؤيتك ابليس والتحدّث معه ، أتمنى ان أصبح يوماً في رفعة مقامك 

جاك : هذا يتوقف على تنفيذك اوامري

- وأنا طوّع امرك سيدي

جاك : والآن لنبدأ الخطة الأولى .. غداً سيتم إعلان نتيجة إنتخبات الرئاسة .. والرئيس الفائز سيقوم بجولة في الشوارع بسيارةٍ مكشوفة.. واريدك ان تقتله ، فأنت قناصٌ بارع

فأجابه الولد : تقصد بذات الطريقة التي قُتل بها الرئيس كينيدي ؟

جاك : نعم ، فموته سيُحدث بلبلة عظيمة في البلاد .. وسألفّق التهمة بعسكريّ هارب من كوريا الشمالية .. فأنا اراقبه منذ مدة لتوريطه بالحادثة

- هل تخطّط لحربٍ عالمية ثالثة ؟

جاك : بل حربٍ نووّية .. فهل ستنفّذ المهمّة ؟


الولد بقلق : ماذا لوّ اعتقلوني ؟ 

جاك : كما هرّبتك من السجن سابقاً ، أستطيع فعلها ثانيةً .. (ثم قال لبقية الأولاد) .. في حال نجحتم بمهمّاتكم الصعبة ، سأستأذن ابليس لتعليمكم تعويذتا الوسوسة والإختفاء ، وبذلك تجنّدون المزيد من الأولاد الفاسدين للإنضمام الى جيشنا لنشر الفساد في الأرض ، تسهيلاً لخروج الدجّال المنتظر 

- أتقصد الدجّال المذكور في الكتب السماوية ؟!

جاك : نعم ، فمهمّتنا هي تعجيل خروجه المهيب .. والآن لنتعاهد سوياً على ذلك


ومدّ يده نحوهم ، ليقوموا جميعاً بوضع أيديهم فوقها وهم يردّدون :

- شياطين الإنس والجن معاً للأبد !! يحيا ابليس قائدنا المبجّل !! ويحيا مسيح الدجّال القادم !! الفساد الفساد ، ولا شيء سوى الفساد !!! 


ثم انطلقوا لجهاتٍ مختلفة مُدجّجين بالسلاح تنفيذاً لخطط جاك الشيطانية ، والتي قريباً ستثير الرعب في العالم أجمع !  


التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...