الخميس، 26 نوفمبر 2020

الفحم الفاسد

 تأليف : امل شانوحة

جرائم غامضة !


في خمسينات القرن الماضي ، وفي أمسيةٍ باردة .. دخلت امرأة بزيّ ممرضة الى مكتب المحقّق وهي ترتعش خوفاً :

- سيدي ، ارجوك إقبض عليّ قبل قتلي جميع المرضى

- مالذي يحصل معك ؟

الممرضة : لا ادري .. يدي تتحرّك وحدها !.. أنظر !!


وأرته يدها بعد إزالة الرباط عنها ..

المحقق : تبدو عادية 

- كانت تتحرّك وحدها قبل قليل ، أحلف لك .. حتى اني ربطها بقوة لأتحكّم بها .. فهي تصرّ على حمل السكين ، كأنها تأمرني بذبح العجائز 

- العجائز ؟!

الممرضة : نعم انا اعمل في دار المسنين القريب من هنا .. وانا خائفة جداً سيدي ، ماذا أفعل ؟

- اعتقد انك مرهقة من العمل ، إذهبي واستريحي قليلاً 


فوقفت ، قائلةً بعصبية :

- طالما لن تعتقلني ، فلا تلومنّي على ما سيحصل لاحقاً !! 

وخرجت غاضبة من المركز.. 

فتمّتم المحقق بضيق : كان ينقصني المجانين ! الأفضل ان أعود الى منزلي

*** 


إستيقظ المحقق قبيل الفجر على اتصال من المركز يخبروه عن مذبحة حصلت في دار العجزة ، راح ضحيتها 9 عجائز ..ذُبحوا اثناء نومهم على يد ممرضة مجنونة ، تمّ اعتقالها وهي تحاول قطع يدها .. ويريدونه القدوم حالاً للتحقيق معها ، بعد قيام الطبيب بتقطيب يدها المجروحة ! 

فتذكّر على الفور تهديدات الممرضة المضّطربة ، فقال في نفسه :

- يا الهي ! ليتني اعتقلتها بالفعل 

***


في المركز .. وما ان رأته الممرضة ، حتى صرخت في وجهه :

- كلّه بسببك !! طلبت منك اعتقالي قبل ارتكابي الجريمة.. 

المحقق مقاطعاً : رجاءً اهدأي ، واخبرني بما حصل منذ البداية 


فقالت وهي تمسح دموعها : 

- القصة بدأت مع حلول المساء .. حيث نام العجائز بعد تناول ادويتهم .. فذهبت الى مكتبي لأستريح .. أشعلت المدفأة ، واستلقيت على الكنبة .. ثم اشتمّمتُ رائحة سيئة أيقظتني من النوم .. وحينها لاحظت ان يدي تشدّي للخارج ! 

المحقق بتهكّم : يدك ثانيةً ؟

- ارجوك دعني أكمل

- تفضلي


الممرضة : صرت الاحق يدي حرفياً .. وقدماي تركضان خلفها وهي تشدّني للإمام بقوة .. حتى وجدت نفسي في مطبخ الدار .. وأسرعت يدي المجنونة بتفتيش الأدراج ، الى ان أخرجت سكيناً حاداً .. ثم عادت لسحبي باتجاه غرف المرضى ، وأوقفتني قرب أحدهم .. لأراها ترتفع ! كأنها على وشك طعن العجوز النائم .. فتعاركت مع يدي اليسار لإيقافها ، الى ان أسقطت السكين منها

المحقق : إذاً يدك اليسار هي التي تحرّكت وحدها ؟

- نعم وهذا الغريب في الموضوع ! فأنا عادةً استخدم اليمين .. وقدراتي باليسار ضعيفة بسبب حادثٍ قديم ، لكن قوتها تضاعفت بشكلٍ مفاجىء ، وبالكاد أوقعت السكين منها 

- وماذا حصل بعدها ؟


الممرضة : ربطّها بالشاشّ بقوة .. ثم أتيت اليك لتعتقلني ، لكنك رفضت

المحقق : وماذا حصل بعد عودتك للدار ؟

- حاولت النوم في مكتبي .. لأستيقظ بعد قليل على صراخ زميلتي ، وأنا أقف بين عشرات الجثث المذبوحة في العنبر !

- يعني ارتكبت الجريمة وانت نائمة ؟ 

الممرّضة : يبدو ان يدي المتوحشة علمت انني سأقاومها ، فاستغلّت نومي للقيام بالجريمة .. ولا تسألني كيف وصلت الى غرفة المرضى ، فأنا لا أتذكّر شيئاً ! 

- هل عادةً تمشين وانت نائمة ؟

- لا ابداً ، وهذا ما يفقدني عقلي ! لهذا حاولت بتر يدي .. قبل ان يوقفوني حرس المشفى الذين اتصلوا بالشرطة.. 

- وكيف تشعرين بيدك اليسار الآن ؟


الممرضة وهي تنظر الى يدها المجروحة : 

- هدأت اخيراً ، لكني مازلت قلقة منها .. فهناك روحٌ شريرة تلبّستها بالفعل !

- سنكمل التحقيق لاحقاً

وطلب من الحرس أخذها الى زنزانة التوقيف ..

***  


كانت هذه أغرب قضية مرّت في حياة المحقق (فهو في سنته الأخيرة قبل التقاعد) لكنه لم يعلم انها بداية لسلسة من الجرائم الغريبة المتلاحقة ! 


ففي أمسيةٍ ماطرة .. قُبض على صبية تعمّدت القيام بحادثٍ مروريّ لقتل خطيبها .. وقد اعترفت بذلك لشرطي المرور الذي نقلها الى المركز .. 


وحين استجوبها المحقق .. قالت وهي مازالت في حالة من الإنكار والذهول :

- كل شيء كان رومنسياً وحالماً ، بعد قدوم خطيبي الى منزلي مساءً للإحتفال بعيد ميلادي .. وفتحنا الهدايا بسعادة ، وأكلنا الكيك والشاي الساخن 

المحقق : ثم ماذا ؟

- لا ادري .. شعرت بالبرد ، فأشعل لي المدفأة .. وبعد قليل طلبت منه اطفاءها بعد خروج رائحة سيئة منها .. وحينها شعرت بيدي تتحرّك وحدها ..

المحقق مقاطعاً : لحظة ! يدك تحرّكت وحدها ؟

- نعم 

- هل قرأت حادثة الممرضة التي نُشرت بالجرائد قبل اسبوعين؟

- من تقصد ؟ فأنا لا احب قراءة الأخبار  

- حسناً إكملي 


الصبية : كنت مذهولة وانا ارى يدي تسحب السكين ببطء من الكيك ، دون تحكّمٍ مني ! 

- هل كانت يدك اليسار ؟

- نعم ! كيف عرفت ؟

- ثم ماذا حصل ؟ 

الصبية : حاولت طعن خطيبي ، لكنه أمسك يدي في اللحظة الأخيرة .. فانهرت باكية ، وطلبت منه الخروج من منزلي .. لكنه لم يقبل ان يتركني بهذه الحالة المضّطربة ، وأصرّ على أخذي في نزهةٍ قصيرة .. وطوال وجودي معه بالسيارة ، كنت أمسك يدي اليسار بقوة كيّ لا تؤذيه .. لكن فجأة خرجت الأمور عن سيطرتي ، ووجدت يدي تقبض على المقود بقوة ، لتوجيه السيارة الى خارج الطريق .. فانحرفنا بسرعة ، مصطدميّن بشجرةٍ ضخمة كانت في مواجهة السائق .. فمات خطيبي على الفور ، وخرجت من السيارة مصابة ببعض الخدوش والرضوض البسيطة .. 

وحين رأيت جثة حبيبي ، أصبت بانهيارٍ عصبي .. وصرت أصرخ بهستيريا ، الى أن مرّ شرطي المرور .. فاعترفت له بكل شيء ، واقتادني الى هنا .. هذا كل ما أتذكّره عن الحادث 


ثم بكت الصبية ، وأخذت تضرب يدها اليسار بالطاولة بعنف :

- لما قتلتي حبيبي ايتها اليد الملعونة ؟!!

وكادت تكسرها ، لولا ان أوقفها المحقق الذي نادى طبيب المركز لإعطائها حقنة مخدر ، قبل نقلها الى سجن التوقيف !

***  


ثم توالت القضايا الغريبة ! حيث قام رجلٌ بإطلاق النار على كلبه المفضّل بعد هجومه المفاجىء على أطفاله ، مما اضّطره لقتله 

كما قامت أم بخنق رضيعها دون سببٍ مقنع ! 

وتعارك طلاّب مدرسةٍ داخلية بعنف ، قبل قيام المدير والأساتذة بإيقافهم بصعوبةٍ بالغة 

والكثير من هذه القصص التي تزايدت في الآونة الأخيرة !

***


وفي إحدى الأيام .. تناقش المحقق وافراد الشرطة عن تلك الحوادث ، فأخبره كبيرهم :

- جميعهم كاذبون ، يحاولون تقليد السفّاح المنتحر

المحقق باهتمام : من تقصد ؟

- القصة حصلت قبل قدومك الى مدينتنا بسنة 

- وماهي قصته ؟ 


فأخبره الشرطي العجوز عن شاب كان من عبّاد الشياطين ، هرب بعد قتله عائلته واصدقائه بحفلة رأس السنة .. 

فقامت دوريات الشرطة بملاحقته .. الى ان اختبأ في معمل الفحم ..

وحين حاصروه .. وقف فوق محرقة الخشب ، وهو يصرخ قائلاً :

- لست القاتل !! يدي تحرّكت وحدها .. الشيطان تلبّسها !! هو من جعلني أسرق السلاح لقتل المعازيم .. أحلف لكم !!

المحقق باهتمام : وماذا حصل بعدها ؟


فأكمل العجوز قائلاً : طلبنا منه النزول من فوق المحرقة بعد تصاعد الدخان من حذائه ، فهي مليئة بالأخشاب التي كانت تُحرق لتحويلها الى فحم .. ولا ادري كيف تحمّل حرارتها !.. وحين حاول أحدنا إنزاله بالقوة ، قال كلمته الشهيرة : ((سأنقل لعنتي اليكم)) ..ثم رمى نفسه داخل المحرقة 

المحقق : أحقاً ! وهل أخرجتم جثته من هناك ؟

- هل تمزح سيدي ؟ الحرارة حوّلته الى رماد في دقائق ، ليختلط عظامه بالفحم

المحقق : وهل تخلّص صاحب المعمل من الفحم الملوّث ؟ 

- لا اظن ! فهو معروف ببخله ، ولن يجازف بخسارة كميةٍ هائلة من الفحم .. وأظنه باعه دون إخبار الناس بأنه مخلوط بدم السفّاح .. مع إن قصته نُشرت في كل الجرائد المحلّية .. لذلك أعتقد إن القتلى الذين قبضنا عليهم في الآونة الأخيرة يقلدونه (بأن يدهم تتحرّك وحدها) لإخفاء جرائمهم  

فعلقت القصة في ذهن المحقق ، وإن كان لم يصدقها بالكامل .. 

***


بعد اسبوع .. وبينما كان المحقق منشغلاً في مكتبه بالمركز لحلّ اللغز .. سمع الموظف يعاتب العامل لإحضاره فحماً متعفّناً ، قائلاً له : 

- الا تراه مُخضرّ اللون ؟

العامل : إشتريته بثمنٍ زهيد ، سأشعله في غرفة العمّال اولاً .. وإن لم يكن منتهي الصلاحية ، أشعل الكمية الباقية في مدفأة المكاتب 

***


لم تمضي ساعة .. حتى علا الصراخ في الطابق السفليّ للمركز !

فنزل المحقق مع بقية الشرطة الى هناك .. ليجدوا العامل يضرب رفاقه بحديدة المدفأة ، صارخاً بفزع :

- أهربوا مني !! فأنا لا أتحكّم بيدي اليسار 


ثم هجم فجأة على المحقق ! فأطلق الشرطي النار عليه ، وقتله على الفور .. ونقلوا جثته للمشرحة لمعرفة سبب جنونه المفاجىء ..


حينها اشتمّ المحقق رائحة سيئة تنبعث من مدفأة الطابق السفلي (التي مازال فحمها الأخضر ساخناً ، رغم انطفائه) فتذكّر تفاصيل الحوادث السابقة : فجميعهم أكّدوا ان يدهم اليسار تحرّكت وحدها بعد إشعالهم المدفأة التي خرج منها رائحة سيئة ! 

لذلك استدعى الموظف ليسأله عن المكان الذي اشترى منه العامل المقتول الفحم الفاسد ؟ .. فأخبره بإسم المحل .. 

فأسرع المحقق الى هناك .. 

***


في المحل .. سأل المحقق البائع : 

- كيف سمحت لك البلدية ببيع فحمٍ أخضر متعفّن للناس ؟

فأجاب بارتباك : سيدي .. انا أبيعه بثمنٍ بخس ، فهو تعفّن بعد تعرّضه لماء المطر 

- لا أظن المطر هو السبب .. هل وصلتك شكاوي من الزبائن بخصوصه ؟

- نعم .. قالوا ان رائحته كريهة عند الحرق ، والبعض الآخر ..

المحقق : إكمل ، لما توقفت ؟

البائع بقلق : بعض زبائني قُبض عليهم لارتكابهم جرائم عنيفة ، لكن لا دخل لفحمي بالموضوع .. مجرّد صدفة 

المحقق : فهمت .. أعطني اسم المعمل الذي اشتريت منه الفحم ؟


فأعطاه العنوان .. وذهب المحقق الى هناك ، لسؤال رئيس المعمل عن مصدر الفحم الفاسد 

***


وكان الإرتباك واضحاً على رئيس المعمل الذي أكّد أن الأمطار أفسدت جزءاً من فحمه الخشبيّ ، لذا اضّطر لبيعه بسعرٍ رخيص .. 

فأصرّ المحقق على رؤية البضاعة الفاسدة .. 

فأراه المخزن الذي تبقى فيه شوال واحد من الفحم الأخضر ، موضوعاً بجانب جبلٍ من الفحم الجيد المستورد حديثاً ..

فطلب المحقق من رئيس المعمل إتلاف الفاسد فوراً ، والا سيحاكم ببيع بضاعةٍ ضارّة بصحة الناس .. 

فأمر الرئيس عامله برمي الشوال في البحر .. 


وحين رأى المحقق الشوال مربوطاً بالرافعة ، شكر رئيس المعمل وعاد الى مركزه ..

لكنه لم يعلم انهم قبل رميه في البحر ، تمزّق كيس الخيش من الأسفل ! ليسقط الفحم الفاسد فوق جبلٍ من الفحم الجيد .. 

وعلى الفور تحوّلت كل الكمية لفحمٍ مُخضرٍ برائحة قذرة .. 

وذهل العمّال بما حصل !


فسأل أحدهم الرئيس : سيدي ، هل نرميهم جميعاً بالبحر ؟

- هل جننت ؟!! أتدري كم ثمن البضاعة ؟

- الم تسمع المحقق يقول ان الفحم الفاسد يسبب هلوسة للناس عند حرقه ، فيرتكبون الجرائم الفظيعة ؟

المدير : كلامٌ فارغ 

- وماذا سنفعل ؟

المدير بضيق : يبدو انني سأضّطر لبيعه ايضاً بثمنٍ بخس ، لكن للمدن المجاورة كي لا نقع بمشاكل مع المحقق الطفيليّ 

***


وبالفعل بيع الفحم الفاسد للمدن البعيدة ، ليزداد عدد الجرائم هناك بشكلٍ تصاعديّ ! 

وقد حاول المحقق إطلاع مراكز الشرطة الأخرى بنتيجة تحقيقاته ، لكنهم لم يصدّقوا خرافة : (إن روح السفّاح اختلطت بالفحم الفاسد).. خاصة بعد تقاعد المحقق الذي تأمّل إنتهاء الكابوس مع نفاذ الفحم الفاسد .. لكنه لا يعلم إن تجّار الفحم في المدن الأخرى قاموا بخلط الفحم الأخضر بالفحم الجيد لإخفاء العفن .. وبذلك ضاعفوا الكمية ، مُعرّضين البلاد بأكملها لإنفلاتٍ أمني خطير ستدوم نتائجه لسنواتٍ طويلة !  

هناك تعليقان (2):

  1. فكرة القصة رائعة أحييكِ عليها عزيزتي أمل ، ولكن عندي ملاحظة صغيرة وهي العنوان . فالعنوان والكلام الموضوع أسفل الصورة أفسدا علي عنصر الإثارة والتشويق منذ البداية ، فأرجو أن تختاري عناوين لا تفسد الحبكة على القارئ
    ودي واحترامي🌷

    ردحذف
    الردود
    1. معك حق ، بالعادة أنتبه على هذه التفاصيل .. لكن لي يومين ضغطي مرتفع وعيوني تألمني ، لذلك نشرتها على عجل ، سأنتبه المرة القادمة إن شاء الله .. وشكراً لإعطاء مدونتي جزءاً من وقتك ، وأتمنى أن تعجبك قصصي دائماً .. تحياتي لك

      حذف

مسابقة الفيلم الدموي

تأليف : امل شانوحة  الزومبي الكومبارس  فور دخول الشباب 12 الى المسرح (الذي سيقام فيه احداث الفيلم المرعب ، والذي بُنيّ على شكل قبّةٍ زجاجيّة...