الخميس، 19 ديسمبر 2024

الرحلة العلاجيّة

تأليف : امل شانوحة 

 

الغيمة السوداء


بعد فشل أشهر طبيبٍ نفسيّ بعلاج اربعة مرضى من الأثرياء (شاب ورجل ، وأمرأة وصبيّة) لديهم عُقد مستعصيّة من ماضيهم .. قرّر أخذهم برحلة طائرةٍ خفيفة يتقن قيادتها بعطله السنويّة .. لتشجيعهم على التحدّث معاً عن مشاكلهم ، اثناء تحليقهم بالطقس الربيعي الدافىء


لكن اثناء وجودهم بالجوّ ، ظهرت غيمةٌ سوداء من العدم ! فحاول الطبيب (الطيّار) تفاديها بشتّى الطرق .. لكن طائرته مرّت فيها ، كأن مغناطيساً سحبها للداخل !


وبعد خروجهم من الغيمة الرعديّة (التي عطّلت التحكّم بالمحرّك ، واطفات الأنوار  والجوّالات .. وسط صراخ الركّاب العالقين بالطائرة المظلمة) خرجوا أخيراً للنور.. ليتفاجأوا باختفاء الطيّار !

احدهم بقلق : اين الطبيب ؟! هل سقط من الطائرة ؟!


ودبّ الذعر فيهم ، بعد هبوط الطائرة بسرعة باتجاه البحر ! فحاول الراكب (الذي كان بجانب الطيّار) الإمساك بالمقوّد ورفعه للأعلى .. لكن الطائرة استمرّت بالهبوط ، الى ان سقطوا جميعاً بالبحر !

^^^


لم يكن إختفاء الطبيب هو الشيء الصادم الوحيد بهذه الرحلة ، بل استيقاظ المرضى الأربعة وسط جزيرةٍ صغيرة ، دون إبتلال ملابسهم .. مما اربكهم جميعاً ، خصوصاً بعد اختفاء الطائرة الخفيفة!


الشاب : ماذا حصل ؟! وكيف وصلنا الى هنا ؟!

الصبيّة : أهو حلم ؟

الشاب : وهل سنشاهد جميعنا الحلم ذاته ؟!

الرجل : المهم اننا سالمين .. دعونا نبحث بالجزيرة عن مكانٍ يأوينا في المساء

المرأة : ولا تنسوا إشعال النار ، كيّ ترانا فرق الإنقاذ

الصبيّة بضيق : والدي لن يسكت عن هذه المهزلة ، وسيسجّن الطبيب على مجازفته بحياتنا بمغامرته المجنونة .. فأبي محامي محترف ، وسيرفع دعوى قضائيّة على شركة الطيران لتسليمنا طائرة مُعطّلة

المرأة غاضبة : وانا مذيعةٌ مشهورة ، وسأفضحه بالإعلام ..


الرجل مقاطعاً بعصبية : وكأننا نعلم مصير الطبيب الذي تريدان مقاضاته ! ثم هذه جزيرةٌ نائية ، ولن تهمّنا عائلاتكم الراقية او ثروّاتكم الضخمة .. دعونا نجمع اوراق الشجر لإشعالها ، فالبرودة ستزداد حتماً في المساء  

المرأة : توقعت سخريّتك من ثرائنا ، فأنت حسب كلام الطبيب من حديثي النعمة 

الرجل باشمئزاز : يمكنني إسكاتك ، لكني لا استطيع تميّز معالم وجهك من عمليات التشويه في..

المرأة مقاطعة بعصبية : عمليات التجميل كلّفتني اكثر مما تملكه شركتك البسيطة

الشاب : رجاءً اهدآ !! ودعونا نتأقلم مع بعضنا ، الى أن نخرج من هذه الأزمة


وكان صعباً التفاهم بينهم ، فالشاب والمرأة والصبيّة مُتغطرسين ومُدللّين من عائلاتهم الثريّة ، لهذا قام الرجل (حديث النعمة) بمعظم العمل .. الى ان تجمّعوا مساءً حول النار التي أشعلها بولّاعته ، لتناول السمكة الكبيرة التي اصطادها وحده 

الصبيّة بضيق : السمكة لا نكهة لها من دون الملح والبهارات والحامض

الرجل بتهكّم : لم تذكري الصوصّ والمشروب الغازيّ ! ..(بصوتٍ عالي) ..أنظري حولك !! نحن في مكانٍ مجهول ، ولم تمرّ سفينةٌ واحدة منذ الصباح

المرأة : كلّه بسب الطبيب المتهوّر !! لما أخذنا برحلةٍ طويلة دون إطلاعنا على التفاصيل ؟!

الشاب : اساساً اين هو الآن ! ولما اختفى فور خروجنا من الغيمة السوداء؟!


الرجل : أتركونا من هذا الحديث ، فقد أمضينا النهار كلّه بتحليل ما حصل دون فائدة .. ما رأيكم لوّ نتكلّم عن مشاكلنا التي جعلتنا نذهب لنفس الطبيب المشهور ؟ 

فتنّهدت الصبيّة بحزن : انا اعاني من رهاب الطعام بسبب امي التي عاقبتني كلما زاد وزني عن وزن العارضات ، وتُجبرني على رجيمٍ قاسي ..لأننا سيدات مجتمع ، وعلينا المحافظة على اجسامنا .. وهذا أرهقني نفسيّاً لعشقي للطعام ، مما اضّطرني احياناً لسرقة الأطباق من ثلّاجتنا اثناء نومها

الشاب : لكنك تناولتِ الطعام بشهيّة هذه المرّة ! 

الصبيّة بصدمة : آه صحيح ! ولم أحسب السعرات الحراريّة ، كما أفعل دائماً منذ سن المراهقة..هذا غريبٌ فعلاً !


المرأة : لا تقلقي عزيزتي ، لن تسمني من ربع سمكة .. اما انا ، فمشكلتي هي الوسّوسة بالنظافة ..فوالدي اعتاد معاقبتي على توسيخي زيّ المدرسة .. فهو كان رئيس الخدم لرجلٍ سياسيّ قام بتوريثه امواله بعد وفاته ، لأنه عقيم .. ورغم ان والدي انتقل لإدارة شركة المرحوم إلاّ انه مازال صارماً بشأن النظاقة والترتيب ، ويعاملني كأحد الخدم المُشرف عليهم ! وبسبب اهتمامه بأدقّ التفاصيل ، استقال العديد من موظفيه 

الصبيّة باستغراب : أمازال حيّاً الى الآن ؟

المرأة : هو تجاوز السبعين .. ورغم بلوغي سن الأربعين إلاّ انه يعاملني كمراهقة غير ناضجة ، مع اني ناجحة بعملي كمذيعة 

الشاب : طالما لديك المال ، فاستأجري شقة لك 

المرأة : ابي كبير في السن ، ويرفض وجود الممرّضات في بيته .. لهذا اضطّر البقاء معه 

الرجل : قلت انك تخافين الوساخة .. لكنك تجلسين الآن فوق تراب الشاطئ ، وتتناولين الطعام بيديك دون الإكتراث لهذا الموضوع !

المرأة بدهشة : وهي المرّة الأولى التي أجرأ على فعل ذلك ! (ثم لعقت أصابعها) ..الآن تأكّدت ان تناول الطعام باليدين يجعله أكثر لذّة ، كما كانت تقول جدتي .. لا تدرون كم صعباً على طفلة تناول طعامها دون تلويث فمها ، عدا عن خوفي من الإختيار الخاطئ للملعقة المناسبة للطعام ! .. وانت ماهي مشكلتك ؟


الشاب : كرهت جميع النساء اللآتي تقرّبن مني ، طمعاً بثروّة والدي .. وكأني نكرة من دونه ! مع اني معيدٌ جامعيّ .. وكلّه بسبب اختيار اهلي الخاطئ لخطيباتي السابقات من طبقتنا الإجتماعية ، لأتفاجأ بأن جميعهن طمّاعات وسيئات السمعة .. لهذا قرّرت البقاء أعزباً .. لكن والدايّ يصرّان على تزويجي ، كوني الوريث الوحيد لهما .. لهذا ارسلاني لنفس طبيبكم 

الصبيّة : لكنك تكلّمت معي منذ الصباح دون شعوري بنفورك من النساء ، كما تدّعي ! 

الشاب : بالفعل ! حتى انني منجذبٌ اليك دون ارادةٍ مني

فابتسمت الصبيّة بخجل ..


المرأة : ماذا عنك يا حديث النعمة ؟

الرجل بعصبية : أمازلتم تتحدثون معي باستعلاء ، رغم توفيري الطعام لكم هذه الليلة ! يالكم من اولاد مُدلّلين ، وعديمي المسؤوليّة ..

المرأة مقاطعة : يبدو ان مشكلتك هي العصبية الزائدة 

فتنهّد الرجل بضيق : بل الإنطوائيّة .. فأنا أتجنّب الناس رغم نجاحي بالعمل ، بسبب صدماتي المتكرّرة بالمحيطين بي ! فبعد نجاحي بالبورصة ، أصرّ اهلي على مساعدة اقاربي الفقراء .. لكن معظمهم سرقوني ونشروا الشائعات القذرة عني ، التي أضرّت بعملي ! ومن يومها قرّرت تجاهلهم ، وعدم الإكتراث لمشاكلهم .. ليس فقط الأقارب ، بل بعدي عن جميع الناس  

المرأة : لكنك قمت بمعظم الأعمال على الجزيرة : حفرت كلمة (HELP) على الشاطئ ، لكيّ تراها طائرات الإنقاذ .. وجمعت اوراق الشجر التي أوقدتها بنفسك لتدفأتنا .. بالإضافة لصنع رمح من غصنٍ طويل ، لاصطياد السمكة الكبيرة التي أشبعتنا هذه الليلة .. فكيف تدّعي عدم اكتراثك بمن حولك ؟! 


الصبيّة : يبدو ان جميع مشاكلنا حُلّت على الجزيرة ! 

الشاب : صحيح ! وكأنه مكانٌ سحريّ لفكّ العقد النفسيّة

الرجل : سنعرف صحّة هذا الكلام في الأيام التالية

وناموا تلك الليلة ، وهم يحاولون حلّ لغز الجزيرة الغامضة ! 

***


وبمرور الأيام .. إختفت معظم عقدهم ومشاكلهم مع تكرار الأعمال اليوميّة على الجزيرة : كتوفير مياه الشرب من الأمطار المتقطّعة ، وصيد السمك وقطف الثمار البرّية ..وبناء خيمة من الأغصان واوراق الشجر للإحتماء فيها .. ومهمّة إيقاد النار بعد نفاذ وقود الولّاعة .. 

عدا أن الشاب الذي يكره النساء ، تعمّقت علاقته بالصبيّة التي لاحظت إختفاء مشكلتها مع الطعام .. وصارت تأكل كل ما تجده في الجزيرة من فواكة وزهور ، وجميع انواع السمك دون اعتراض 


بينما المرأة : فلم تعد تكترث كثيراً للنظافة والترتيب ، بل اصبحت تتصرّف بعفويّة مطلقة.. خاصة بعد تعلّقها بالرجل (حديث النعمة) بسبب خبرته الواسعة بالحياة (قبل بناء ثروّته) .. وهو أعجب بمدحها لعصاميّته ، واهتمامه بأصدقائه على الجزيرة .. 


وبذلك تكوّنت علاقتان جميلتان بين الناجين الأربعة الذين لم يعودوا يحسبون الوقت ، كما فعلوا بأيامهم الأولى على الجزيرة

***


وذات يوم ..إستيقظوا على صوت الطبيب وهو يسألهم :

- هل فقدتم الوعيّ جميعاً ، خوفاً من الغيمة الرعديّة ؟! 

فنظروا لبعضهم بدهشة ، بعد ان وجدوا أنفسهم داخل الطائرة الخفيفة!

فنظر الرجل بساعته الذهبيّة ، وهو يقول بصدمة :

- مرّت دقيقتان فقط !

الطبيب : نعم ، مرّرنا بسلام من الغيمة السوداء

الصبيّة : لكننا عشنا على الجزيرة قرابة شهر !

الشاب : تحديداً شهر وثلاثة ايام !  

الطبيب : عن أيّةِ جزيرة تتحدثون ؟!


فالتفت الرجل حديث النعمة (الذي يجلس بجانب الطبيب الطيّار) للشباب الثلاثة في المقعد الخلفي ، بنظرة تعني : كتمان السرّ .. 

فالتزم الجميع الصمت ، فهم لا يريدون من الطبيب إخبار اهاليهم بانتكاسة حالتهم النفسيّة بعد الرحلة الجويّة 


الطبيب : لما انتم صامتون هكذا ؟! الن تخبروني عن تلك الجزيرة ؟

الرجل : رجاءً أعدنا الى مدرّج الطيران

الطبيب : لكن رحلتنا لم تنتهي بعد ، علينا التحدّث سويّاً عن عقدكم النفسيّة

المرأة : لا داعي لذلك ، فقد حُلّت جميع مشاكلنا 

الطبيب باستغراب : ومن حلّها ؟

الصبيّة : الغيمة السوداء


وابتسموا بارتياح بعد إيجاد نصيبهم على تلك الجزيرة ، الذين سيكملون حياتهم معهم بعيداً عن عائلاتهم التي تسبّبت بعقدهم النفسيّة ..تاركين الطيّار بصدمة بعد قرارهم الجماعي بترك العلاج في عيادته ، دون إخباره : بأن الغيمة السوداء نقلت ارواحهم الى جزيرةٍ سحريّة تمكّنت من فكّ جميع عقدهم النفسيّة التي عجز عن علاجها لشهورٍ طويلة .. بينما تعاهد الشباب الأربعة على إكمال حياتهم بعقليّةٍ سليمة ونسيان ماضيهم الأليم ، وكلّهم امل بمستقبلٍ مليء بالمحبّة والسلام !


هناك 4 تعليقات:

  1. يعني حللنا عقدهم بالريليشين شيب ..عظيم جدا ..فاز الصبي بالبندقه ..وفاز الرجل بالثمرۃ الناضجه 😍..انا ايضا طرحت هذه النظريه في موءتمر ديك النهار ..
    اعتقد حقا بلا مزح ان العوده للطبيعه البريه كما خلقت هو علاج جل الامراض العضويه والنفسيه ..
    فكره جديده من جديد ..
    احسنتم ..

    ردحذف
    الردود
    1. هناك برنامج اجنبي يأخذ المراهقين المشاغبين برحلةٍ كشفيّة الى الجبال ، وبنهاية الإسبوعين تتغيّر طباعهم الصعبة
      وبرنامج آخر يأخذ المُسرّحين حديثاً من السجن بجرائم بسيطة : كالإدمان والسرقة الى مزرعة فيها زريبة حيوانات .. وخلال الشهر ، تتحسّن اخلاقهم ايضاً
      نعم الطبيعة هو العلاج الأول للإنسان

      حذف
  2. عدنان كردستان20 ديسمبر 2024 في 9:18 ص

    العلاج النفسي هو تعود النفس البشرية على نمط سلوك جديد لفترة لتشعر بطعم ذلك السلوك وثم تستمر عليه بسعادة ويظل الرماد منثور على عقد الماضي فيعيش بسعادة .

    اليوم الطب النفسي للاسف يعطي عقاقير كيماوية للشعور بالبهجة ثم يبداء يقلل العقاقير بالتدريج لكي يتعود على السعادة بدون عقاقير لكن عندما تزيد الفترة الزمنية لاستخدام العقاقير فانها تاثر على المخ بشكل سلبي

    جميل العلاج بالغيمة السودا (التنويم المغناطيسي) فهو يناقش مع الانسان من اعماق نفسه ثم يبداء ببناء روح جديدة
    للاسف لايمكن ان نجد هذا اليوم بعيادات الطب النفسي

    ردحذف

الرصاصة الطائشة

فكرة : الأستاذ احمد السيد كتابة : امل شانوحة  الطلقات المُميتة عُيّن رئيس بلديّة جديد (قادم من المدينة) في قريةٍ شعبيّة.. ولم يمضي شهر على ت...