امل شانوحة
لن اسمح لأحد ان يعرف مشكلتي
صعد الى المنصة و هو يستند على احدى مشرفي الحفل ليصل الى الرئيس و يستلم منه الدرع الذهبي عن روايته الناجحة رقم خمسة عشر , وسط تصفيق حار من الجمهور المحبّ له و لإبداعه المتواصل ..
ثم اقترب الأديب ذو الرابعة و الستون خريفاً قرب الميكريفون ليلقي كلمة الشكر لمعجبيه
((احبائي .. و قرّائي المخلصون .. لقد وضعت بين ايديكم رواية اخرى من سلسلة رواياتي .. و كم سعدت لأنها لاقت استحسانكم))
و صفّق الجمهور مرة ثانية مع الصفير , و بعد كلمات الإعجاب المشجّعة من هنا و هناك.. ثم اكمل خطابه
((و في روايتي هذه , حاولت ان الخّص مسيرة البطل في كل السلسة الخمسة عشر .. و قد كان البطل .....))
ثم بدأت يد الكاتب ترتجف و جبينه يعرق بكثافة , فأخذ يرتشف بعضاً من كأس الماء الذي امامه , ثم اخرج منديلاً من جيبه ليجفّف عرقه , و الجمهور صامتٌ تماماً في انتظار ما سيقوله
فقال و هو يتلعثم :
((آسف , لقد كبرت في العمر .. و لهذا اردّت ان اودّعكم .. فهآقد انتهت رسالتي بنهاية الجزء الأخير من هذه الرواية الطويلة.. و صار لابد ان ارتاح مع عائلتي))
و هنا هاجت القاعة بعد ان جاء قرار اعتزاله صادماً للجميع , و خاصة لرئيس جمعية الكتّاب ! حيث اقترب منه و سأله :
-هل قرارك نهائي استاذ جون ؟
-نعم سيدي .. فصحّتي لم تعد تحتمل كل هذا الأرهاق الفكري
ثم رفع الكاتب المخضرم يده محيّياً جمهوره لآخر مرة , و هو يقول :
-تذكروني دائماً , لأني دائماً سأتذكركم
و رغم ان الجميع كان يرفض قراره هذا , خاصة و انه في قمة عطائه الا انهم يلاحظون تدهور حالته الصحية في الآونة الأخيرة , لذلك اكتفوا بالتصفيق الحار له
***
و بعد ساعات , عاد الأديب العجوز الى بيته .. و بعد ان جلس قليلاً مع عائلته الذين ايّدوا قرار انسحابه من اجل صحته المعتلّة ..اخبرهم بأنه سيذهب لبعض الوقت الى مكتبه الموجود في الشارع المقابل لمنزله لإحضار بعض حاجياته من هناك
فقالت زوجته :
-الا تستطيع تأجيلها للغد , فأنت مازلت متعباً من الحفل
-سأحاول ان لا اتأخر .. كما انه امامنا العمر بطوله .. و اعدك منذ الغد بأن لا شيء سيبعدني عنك و عن ابنائي.. لكن رجاءً حضّري لي سندويشاً لآخذه معي , فربما اتأخّر قليلاً في مكتبي
***
و هناك في مكتبه .. دخل بعد ان اقفل الباب خلفه .. ثم ضغط على زر على جدار مكتب , ليفتح بابٌ سرّي
و اذّ بصبية مقيدة المعصمين و مكمومة الفم , و آثار الأرهاق بادية على وجهها
و ما ان فك لثامها , حتى صرخت في وجهه :
-ايها العجوز الخرِف .. سأخبر الجميع عن ما فعلته !!
فقال بابتسامة لئيمة :
-اتدرين يا عزيزتي .. روايتك انقذتني تماماً ..فقد كنت محطماً و كانت الأفكار قد انتهت تماماً من عقلي , و لم اعد اجد خاتمة لسلسة تلك الرواية اللعينة ..و انت..
-انا كنت طالبتك !! لقد تعلمت على يديك , فلما فعلت...
-اعرف اعرف .. و عندما اعطيتك واجباً بأن تجدي لي الخاتمة , قدمتي لي اجمل قصّة و بشهرٍ واحد فقط .. يالكِ من مبدعة !
-و قمت انت بسرقتها , لتكتبها بإسمك وحدك ! .. الم تعدني سابقاً بأنك سترفق اسمي معك لكيّ أنشهر ؟!!
فقال بابتسامة ساخرة : لحظة واحدة يا صغيرتي
ثم دخل مكتبه و اخرج من حقيبته الجائزة , ثم تقدّم اليها..
-ارأيتِ يا عزيزتي , لقد نلت جائزة عن روايتك
-هذه لي !! .. بأيّ حق تسرق افكاري.. و الله سأخبر الجميع بأنك سارق..
-احقاً .. و برأيك سيصدقون بأن هذه الرواية العظيمة من تأليف طالبة في الجامعة , ام من تأليف برفسور بالأدب مثلي .. لهذا كوني فتاة طيبة و تناولي هذا السندويش .. و من بعدها نجلس بهدوء لنكتب العقد
-ايّ عقد ايها المتخلّف ؟!!
-انت تكتبين و انا انسبها لنفسي ..و لا تحزني , فأنا سأدفع لك عشرة بالمئة من ايراد مبيعات الكتاب
-انت تحلم اكيد !! فأنا سأخبر الجميع بالجامعة و على برامج التواصل الإجتماعي بأنك مجرد مدّعٍ خرِف .. و قبل ان تقول لي بأنه لا احد سيصدّقني , فأنا احتفظت بكل مسودّات الرواية , و سأعرضها على صفحتي على الفيسبوك
-اتدرين ..انت ذكية ككاتبة لكن غبية جداً كمحاورة .. و بما اني كنت اتوقع تماماً هذا الردّ المتسرّع و الغبي منك , لهذا قدّمت اعتزالي عن الكتابة بالحفلة قبل قليل .. من يدري , ربما اعود للكتابة ذات يوم في حال وجدت طالباً آخر اذكى منك يرضى بأن يعطيني قصصه مقابل المال
-لا احد يرضى ببيع مجهوده الفني لك او لغيرك , ايها الحقير !!
و هنا ! اسرع و امسك رقبتها بقبضة قوية , و هو يصرخ في وجهها :
-انا لست مدّعٍ , انا اديب ايتها التافهة !! و لن اقبل لمبتدئة مثلك ان تضيّع كل مجهودي طوال هذه السنين ..افهمتي !!
و صارت تقاومه و هو يطبق بيديه على حنجرتها , حتى توقفت عن الحراك ..فتركها جثة هامدة
ثم ذهب لمكتبه غاضباً و هو يقول :
-غبية ! كان بإمكاني ان اجعلها غنية .. لكني لن اسمح لأحد ان يعرف بأن كاتباً عظيماً مثلي سيصاب قريباً بالزهايمر !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق