الخميس، 2 نوفمبر 2017

رجل الكهف الغامض

تأليف : امل شانوحة


من هناك في الداخل ؟!

كان جيم قد إعتاد على مضايقات المتنمّرين له , والتي رافقته طوال سنوات دراسته بسبب شعره الأصهب .. لكن الأمر زاد عن حدّه بعد  رحلته مع الكشّافة المدرسية (للمرحلة الثانوية) في عطلة الربيع , حيث كان من المفترض ان يخيّموا التلاميذ لثلاثة ايامٍ في البرّية .. لكن بعض المتنمّرين إستغلّوا إنشغال الأستاذة (المسؤولين عن الرحلة) بمساعدة الطلاّب في نصب خيامهم لمضايقة جيم بكافة الطرق : حيث مزّقوا خيمته التي جمع ثمنها من مصروفه طوال السنة بسبب فقر والده , كما انهم وضعوا التراب داخل طعامه الذي أعدّه بنفسه , لأن إمه توفيت منذ ان كان في العاشرة من عمره , ومن حينها يعيش وحده مع والده المنشغل دائماً بعمله .. ولم يكفيهم كل هذا , بل صاروا ينادونه باللقب الذي يكره كثيراً وهو الأصهب الفاشل مع ضحك بقيّة الطلاب عليه .. ممّا جعله يحمل حقيبته على ظهره وينسحب من المخيّم بعد ان انشغل الجميع بتناول عشائهم .. والمحزن ان لا احد منهم انتبه على غيابه , الا بعد ساعاتٍ طويلة من تلك الليلة التي غيّرت حياته للأبد !

وقد مشى جيم طويلاً متوغّلاً اكثر واكثر داخل الغابة التي أصبحت موحشة مع غياب الشمس , لكن الغضب الذي كان يشتعل في قلبه جعله  يرغب في الإبتعاد قدر المستطاع عن أولئك الحمقى المتنمّرين الذين جعلوا حياته أكثر سوءاً .. 

ولم يعيّ جيم بأنه ضلّ الطريق , الاّ بعد ان وصل قرب جبلٍ موجود بآخر الغابة .. فأضاء مصباحه وبدأ يلوّح به في الهواء , صارخاً بقلق :
- هاى !!! هل يسمعني احد ؟ انا هنا قرب الجبل !! 

وظلّ بهذا الوضع المزري لساعتين ممّا أضعف نور مصباحه , فقرّر ان يتناول شيئاً من بعض طعامه الذي سلَمَ من يدّ المتنمّرين 

وبعد ان تناول لقمتين من سندويشته , لاحظ نوراً يشعّ من فوقه .. فرفع نظره للأعلى ليشاهد شعلة من النار تدخل الى داخل الجبل , فعرف ان هناك شخص يعيش داخل كهفٍ ما موجود بأعلى الجبل  
فصرخ بعلوّ صوته :
- انت هناك , أتسمعني ؟!! ساعدني رجاءً , لقد أضعت الطريق !! 

وعندها لاحظ نوراً قويّاً يشعّ من داخل الكهف , حيث أصبحت كالمنارةً تُضيء له خطواته باتجاهها ! 
وبعد ان تسلّق بحذر الى فوق .. وقف قرب فتحة الكهف , وصار ينادي من جديد :
- هل يوجد احدٌ هنا ؟!!
فسمع صوت رجلٍ من الداخل يقول له :
- تعال اليّ !!

فدخل جيم بخطواتٍ حذرة , ليجد رجلاً عجوز يجلس قرب موقد النار ..
وقد لاحظ العجوز على الفور نظرات جيم الخائفة والمرتبكة , فرفع اليه كوباً وهو يقول له :
- إشرب هذه كيّ تُدفئك بهذا الجوّ البارد
فاستلم منه الكوب الفخاري وجلس قرب النار .. وبعد ان رشف جيم قليلاً قال له :
- يا الهي ! هذا أطيب شايّ ذقته في حياتي
- هذا ليس شايّاً بل اعشابٍ غليّتها لتُعطي مذاقاً أشبه بالشايّ , لكنها صحيّة أكثر

وبعد ان أنهى كوبه , سأله بتردّد : 
- هل يمكنني سؤالك يا عم , فهناك شيءٌ يُحيّرني ؟
- أتريد ان تسألني عن سبب وجودي هنا بمفردي ؟
- نعم بالضبط
- لقد أتيت الى هنا لأرى امي
وقد فاجأه جوابه ! فالعجوز يبدو وكأنه في التسعين من عمره , فهل معقول ان امه مازالت حيّة !
وبعد ان لاحظ العجوز نظرات الدهشة في عينيّ جيم , قال مبتسماً: 
- لقد اتيت الى هنا اول مرة عندما كنت في مثل عمرك
- يا الهي ! وهل عشت هنا وحدك طوال هذه السنوات ؟!
- ليس تماماً , فأنا آتي الى هنا من فترةٍ لأخرى .. وبالرغم من مشقّة الطريق الا انني مستعد لفعل المستحيل لأجل امي .. وأظنك ستفعل الشيء ذاته لرؤية امك المتوفاة , اليس كذلك ؟

فسرت قشعريرة الخوف في جسد جيم , فكيف للعجوز أن يعرف بأن امه متوفاة ! 
وقبل ان يقف جيم ليهرب من هذا المكان المخيف , أوقفه العجوز قائلاً : 
- أعرف ان كلامي أخافك .. (ثم تنهّد قليلاً) .. وأظنني مستعد  لأخبرك بسرّي الذي أخفيته عن الجميع ولسنواتٍ طويلة , لكن عندي شرط !! هو ان تعدني بأن لا يعرف أحد بالأمر , والاّ سيختفي سحر هذا الكهف للأبد .. وقبل ان تسألني عن قصدي , سأخبرك بقصتي منذ البداية 

ثم عدّل العجوز جلسته .. وسكت قليلاً وكأنه يحاول تذكّر الماضي , ثم قال: 
- اولاً أعرّفك بنفسي .. اسمي جيم
فقاطعه الشاب : وانا إسمي جيم ايضاً !  
العجوز مبتسماً : أعرف هذا .. وارجوك لا تقاطعني ثانيةً .. (ثم سكت قليلاً) ..كنت قد عانيت طيلة حياتي من أذى المتنمّرين ..وقبل ان تقول شيئاً , أعرف انها نفس معاناتك , ويبدو ان شعرنا الأحمر يجلب الينا المتاعب ! ..(ثم يتنهد بضيق)..او بالأصح نحن من تسبّبنا بذلك لأنفسنا , لأنه في نهاية الأمر , الناس ستتعامل معك كما سمحت لهم أن يعاملوك 
فطأطأ الشاب رأسه بحزن : كلامك صحيح يا عمّ

ثم اكمل العجوز قصته قائلاً :
- وفي أحد الأيام .. لم أعدّ قادراً على تحمّل مضايقاتهم لي , ومشيت غاضباً وشارد الذهن في هذه الغابة , حتى وصلت الى هنا .. ووجدت بداخل الكهف إمراة عجوز , أخبرتني عن ممرّ الكهف السحري ..
الشاب مقاطعاً وبحماس : وأين هو ؟!

- سأدلّك عليه بعد قليل .. المهم انها قالت لي : بأن من يمرّ من خلاله يمكنه ملاقاة أقاربه المتوفيين 
بدهشة : وكيف هذا ؟!
- الم تسمع من قبل بالبعد الزماني ؟
- نعم فقد قال بعض علماء الطاقة : بأن هناك اماكنٌ على الأرض تأخذك الى بعدٍ زماني مختلف , سواءً نحو الماضي او المستقبل
- وكلامهم صحيحٌ تماماً 
بحماس : أحقاً !

- نعم والممرّ السرّي داخل هذا الكهف هو إحدى المعابر باتجاه الماضي ..وحين تدخل به , تعود ولداً صغيراً .. يعني ستعيش في الزمان الذي كانت ماتزال فيه امك حيّة .. وقبل ان تتحمّس اريد إخبارك بأن هذا المعبر يُفتح ليومٍ واحدٍ كل عشر سنوات .. وانا أتيت البارحة الى هنا لأرى امي التي لم أرها مند السنوات العشر الأخيرة , لأنني جرّبت هذا الممرّ لسبع مراتٍ حتى الآن .. يعني عشت سبعة ايامٍ فقط مع المرحومة امي 
- طيب ومتى سيُفتح هذا الممرّ ؟
فنظر العجوز الى ساعته القديمة ثم قال :
- بعد قليل

بحماس : أحقاً يا عمّ !! .. اذاً اريد ان أدخل معك لأرى امي , فقد اشتقت اليها كثيراً
- حسناً ستراها .. لكن عليك الخروج ثانيةً من نفس الممرّ بعد انتهاء الليلة , والاّ علقت في زمن الماضي للأبد
- وما المشكلة اذا علقتُ مع امي , على الأقل يبقى أفضل من حاضري المُتعب
- وهذا ما فعلته المرأة العجوز بآخر مرة رأيتها فيها , حيث قالت لي : بأن عمرها تجاوز المئة ولم تعدّ ترغب بالمعاناة من أمراضها , لهذا قرّرت ان تعيش مع اهلها في زمن الماضي للأبد
الشاب : وهذا ما سأفعله انا ايضاً !!
العجوز بحزم : ايّاك يا بنيّ !! لأن الأحداث ستتكرّر هي نفسها دون ايّ تغير 
- أتقصد انني سأعيش مع امي نفس الأحداث التي مرّت في حياتي ! الا استطيع تغيرها ؟

- لا احد يستطيع تغير ذكرياته القديمة .. والأسوء من ذلك انك ستعيش تلك اللحظات بعقلك الحالي , لكن تصرّفاتك ستبقى تصرّفات ولدٍ صغير .. سأعطيك مثالاً كيّ تفهمني أكثر : عندما تنتقل الى الماضي سيتكرّر يوماً واحداً كنت عشته مُسبقاً مع امك سواءً كان حادثةً سعيدة او تعيسة , يعني انت وحظك ..فمثلاً انا عشت في محاولاتي السبع الماضية , اليوم اللعين ذاته .. وهو يوم عيد ميلادي الذي أقامته لي والدتي .. ففي بدايته كان يوماً جميلاً .. لكن في المساء , يأتي والدي غاضباً من السفر بسبب المصاريف التي دفعتها امي ثمناً للزينة والهدايا .. وحين أدافع عنها , أنالُ منه عقاباً قاسياً ! ودائماً ما ينتهي ذلك اليوم ببكائي وحيداً في فراشي .. وبآخر الليل يظهر نورٌ من جدار غرفتي , فأدخل فيه لأعود رجلاً كبيراً داخل هذا الكهف 

- طيب طالما تتكرّر معك نفس الحادثة المؤلمة , فلما تصرّ على العودة للماضي من جديد ؟
- لأنه يكفيني ان أحتفل مع امي ثلاثة ساعاتٍ متواصلة , وبأن أتذوق كعكتها اللذيذة , والعب معها بالدمى التي أحضرتها لي .. ولأجل هذه اللحظات الجميلة , مُستعد لأن أكرّر هذه التجربة آلاف المرات 
- طيب وماذا كنت تفعل بعد عودتك من الماضي ؟
فأجابه العجوز بحزن : أخرج من الكهف لأعود الى بيتي الكئيب , لكن الأسوء هو ما كان يحصل في غيابي 
الشاب باهتمام : وماذا كان يحدث لك ؟! 
- كانت تضيع سنة كاملة من عمري في عملية التنقّل بين الماضي والحاضر 
- كيف ! الم تقلّ انها ليلةٌ واحدة فقط ؟

- نعم , لكن فارق الزمن يجعلك تخسر اياماً كثيرة من حياتك .. وعندما كنت اعود الى عائلتي بعد انتهاء التجربة , أجد بأن ابنائي الصغار كبروا سنة من دوني .. وفي المرة الرابعة لغيابي , قامت زوجتي بتطليقي في المحكمة .. وفي المرة الخامسة , قامت الملعونة بحرماني من رؤية ابنائي للأبد بعد انتقالها معهم الى منطقةٍ اخرى , والى اليوم لا اعرف الى اين ذهبوا ! 
- طيب لما لم تُخبر زوجتك بسرّك , بدل ان تخسر كل عائلتك؟ 
العجوز بحزم : قلت لك في بداية حديثنا : بأنه ممنوع ان يعرف احد بهذا الأمر !! والاّ تغير مكان الممرّ السرّي الى مكانٍ آخر مجهول .. هل تفهمني ؟
فأومأ الشاب برأسه موافقاً ..

ثم تنّهد العجوز بضيق قائلاً :
- لقد قمت بحفظ هذا السرّ كما وعدت المرأة العجوز لسبعين سنة .. لكن الأمر لم يعدّ يهمّني كثيراً الآن 
- ماذا تقصد ؟!
- أقصد بما انني نقلت السرّ اليك , فيمكنني العيش بالماضي للأبد .. فجسمي لم يعدّ قادراً على تسلّق الجبل , لهذا ستكون هذه تجربتي الأخيرة , ولوّ إضّطررت لإكمال حياتي وانا اضرب يومياً من والدي  
- وما يدريك يا عمّ ..لربما حين تقرّر البقاء في الماضي , تعيش أياماً مختلفة عن تلك الذكرى التي عشتها مراراً وتكراراً 
- أتمنى ذلك حقاً ... (ثم قال بحماس) .. آها !! أنظر هناك  

وهنا شاهد جيم نوراً قادماً من داخل الكهف المظلم .. 
فقال بدهشة : هل حان الوقت يا عمّ ؟! 
العجوز بسعادة : نعم لقد فُتح الممرّ السرّي أخيراً .. هل ستأتي معي ؟
فأجابه الشاب بحماس : بالطبع !! فأنا أتلهّف لرؤية امي 
- اذاً هيا بنا
ثم اتكأ العجوز على الشاب , وعبرا سويّاً النفق السرّي ..

لكن ما ان فتح جيم عيناه , حتى وجد نفسه داخل صالة بيته وامامه كعكة عيد ميلاده الخامس , وبيته مزيناً بالبالونات !
فقال في نفسه بقلق : ما هذا ! لما أعيش ماضي العجوز ؟!
وهنا قدمت سيدة من المطبخ , تحمل اكواب العصير .. وهي تقول له : 
- لا تحزن يا جيم .. صحيح ان طائرة والدك تأخرت قليلاً , لكنه أخبرني بأنه سيحاول الحضور في أقرب وقتٍ ممكن .. والى ذلك الحين , سنحتفل انا وانت طوال اليوم يا صغيري الغالي  
وقد صُعق جيم كثيراً حين تعرّف على تلك السيدة , التي لم تكن سوى امه المتوفاة ! 

وعلى الفور !! ركض اليها , ليحضنها بشوقٍ كبير وهو منهارٌ بالبكاء.. 
- جيم عزيزي ! كنت تُسقط العصير من يدي .. ارجوك لا تبكي , هيا دعني أُضيء لك شموع كعكتك 

وبعد ثلاث ساعاتٍ من الإحتفال الرائع مع امه , وبينما هو في قمّة سعادته دخل والده الى البيت يجرّ حقيبة سفره .. وقد تفاجأ جيم كثيراً برؤية والده في سن الشباب , فهو بالكاد يبلغ الثلاثين من عمره ! 

وقبل ان يتوجّه جيم ناحيته , تفاجأ به يصرخ على زوجته بعد رؤيته لمصاريف الحفلة , قائلاً باستياء : 
- ما كل هذه المصاريف يا امراة !! الم أخبرك قبل ايام بأن الشركة التي أعمل بها على وشك الإفلاس .. يعني سيطردون كل العمّال قريباً , ونحن بحاجة الى كل فلس .. 
زوجته مقاطعة وبصوتٍ منخفض : ارجوك إخفض صوتك , فاليوم عيد ميلاد ابنك .. لهذا دعنا نحتفل سويّاً دون مشاكل , رجاءً

فقال جيم : ابي تعال وذقّ كعكة امي , انها لذيذة جداً
فصرخ الأب في وجهه قائلاً : لقد انتهت الحفلة !! هيا ادخل غرفتك حالاً , لأنني اريد التحدث مع والدتك 
- لكني لا اريد النوم الآن يا ابي , فالوقت مازال مُبكراً
الأب وهو يفكّ حزام بنطاله بغضب : جيم !! لا تجعلني أضربك بالحزام 
فأسرعت الأم لتمسك يد زوجها : ارجوك توقف !! على الأقل لا تضربه في عيد ميلاده !

وهنا صرخ جيم مُعترضاً : لن اسمح لك بأن تضربني بعد اليوم , فقد أصبحت كبيراً
فتمّتم الأب بعصبية : اللعنة على هذا الأصهب الفاشل !!
فنزلت الكلمة على جيم كالصاعقة ! فهي نفس اللقب الذي رافقه طيلة فترة دراسته .. وحينها إنفجر في وجه والده غاضباً :
- الآن تذكّرت !! انت ناديتني بهذا اللقب حينما تأخرت بالخروج اليك من مدرستي المتوسطة , وقلتها امام جميع اصدقائي ..ومن حينها واللقب يطاردني .. انت السبب !! 
وقد تفاجأ كلا والديه بطريقة كلامه التي تكبر سنواته الخمس ! كما انه لم يدخل المدرسة بعد 

لكن جيم لم يكترث بأن كلامه يفوق عمره , وأكمل قائلاً بغضب : 
- انت كنت دائماً والداً سيئاً لي , ولم يهمّك سوى عملك .. ليتك متّ انت بدل امي !!
الأم بصدمة : لكني لم امتّ بعد يا جيم !
وهنا لوّح الأب بحزامه مهدّداً :
- جيم !! انا لا اعرف من أفسد اخلاقك , لكني سأربّيك اليوم من جديد

ولم تستطع الأم إيقاف الوالد الغاضب , فعُوقب جيم بقسوة تلك الليلة التي انتهت ببكائه مقهوراً في سريره ..

وبعد ساعتين من انتهاء تلك المشاجرة , نام والداه في غرفتهما .. 
اما جيم وبعد ان خفّت آلام ضربات الحزام التي تركت أثراً على جسده ونفسيته , بدأ يُفكّر بكل ما حصل له خلال هذه التجربة الغريبة ..

فقال في نفسه مُحتاراً : 
- تُرى لما عشتُ ذكريات العجوز ؟! او بالأصح , لما عاش العجوز أحداثاً من ماضيّ ؟! فهو حين أخبرني بهذه الحادثة , لم أتذكر بأنها حصلت لي لصغر سني ! لكنها تبقى ذكرياتي انا !! فما دخل العجوز بها ؟!

وقبل ان يعيّ ما حصل معه , خرج نورٌ من جدار غرفته .. 
فعرف جيم ان تجربة الإنتقال انتهت , وعليه عبور النفق السرّي مجدّداً قبل ان يعلق في زمن الماضي 

وبعد ان عبره , عاد الى الكهف من جديد .. لكن هذه المرّة كان لوحده , ففهم بأن العجوز فضّل البقاء في الداخل 
الاّ ان هناك شيئاً جديداً ظهر على جدار الكهف , وهي رسمة لطفلٍ صغير يطير في السماء , وكأنه رجلٌ خارق .. 
فتذكّر جيم على الفور انه كان دائماً يرسم نفسه كسوبرمان في صغره !

وعندما وضع يده فوق الرسمة : مرّت أمام عينيه شريط حياة العجوز , منذ ان كان صبياً في المدرسة يُعاني من معاملة المتنمّرين السيئة له بسبب شعره الأصهب , الى يوم تخرّجه .. 
ثم شاهد العجوز عندما كان شاباً .. وكيف عمِلَ في وظيفةٍ روتينية لم يحبها على الأطلاق , وكل هذا بسبب والده الذي أجبره عليها .. 
ثم شاهده بعد ان تزوج من تلك السيدة التي لم تهتم به كثيراً .. 
ثم كيف تحوّل العجوز الى أبٍ غير مبالي , تماماً كوالد جيم ! 
ثم شاهد لحظة خسارة العجوز لعائلته , بعد إبتعادهم عنه .. 
وانتهى هنا شريط ذكريات العجوز , ليعود جيم الى الواقع وهو يقف مندهشاً قرب جدار الكهف ! 

وبهذه اللحظة بالذات !! فهِمَ بأنه هو نفسه العجوز , فحياتهما تتشابه كثيراً !
جيم وهو يكلّم نفسه بصدمة : أهذا يعني انني التقيت بنفسي في زمن المستقبل ؟! وهل ستصبح حياتي فاشلة كهذا العجوز ؟! 

وقبل ان يستوعب ما يحصل له , سمع بعض اصدقائه ينادونه من اسفل الجبل , وكان الوقت قارب على شروق الشمس ..
فنزل اليهم بسرعة , قبل ان يبتعدوا عن المكان ..
وكانوا ثلاثة بنات برفقة رئيس المتنمّرين , الذي قال له بغضب ما ان رآه :
- اللعنة عليك يا جيم !! 
جيم باستغراب : ماذا حصل ؟!

فأجابته إحدى صديقاته : لقد أخفت الأساتذة المسؤولين عن الرحلة , ولهذا قاموا بتقسيمنا الى مجموعات للبحث عنك 
فقال المتنمّر بعصبية : لقد أضعت علينا سهرةً جميلة .. أصلاً لما تركت المخيّم , وأتيت الى هنا يا غبي ؟
وكان جيم على وشك ان يجيبه : تركت المخيم بسبب مضايقتك لي انت واصحابك , ايها اللعين !!

لكنه فضّل السكوت لأن شيئاً آخر كان يشغل تفكيره , حيث قال في نفسه مُحتاراً : 
((هل يا ترى أُخبرهم بشأن الجبل والفاصل الزماني الموجود بداخله , ام ان هذا سيجعل المعبر السرّي يختفي تماماً كما حذّرني العجوز ؟))
لكن قطع تفكيره , سؤال المتنمّر الذي قال بغضب : 
- لما لا تجيبنا ايّها الأحمق , وتُخبرنا بما كنت تفعله بأعلى الجبل ؟!!

وهنا لم يستطع جيم كتمان السرّ أكثر من ذلك , وأخبرهم بكل شيء  
وبالطبع لم يصدقوه , بل نعتوه بالمجنون .. لكن رغم ذلك , صعدوا معه الى الكهف ليتأكّدوا من كلامه ..

وعندما دخلوا سويّاً الى الداخل .. تفاجأ جيم بتغير المكان ! فقد إختفى موقد النار وحاجيات العجوز التي تركها هناك , حتى ان رسمة السوبرمان التي كانت على الحائط إختفت تماماً ! كما انه سُدّ مكان المعبر السرّي بالصخور! 
فعرف جيم على الفور بأن الفاصل الزماني إنتقل الى مكانٍ آخر .. 
فتمتمّ بقهر : يالي من غبي ! لقد أفسدّت كل شيء , ولم يعدّ باستطاعتي رؤية امي بعد عشرة سنواتٍ من الآن 

لكن أفكاره تلاشت بسبب ضحكة المتنمّر الساخرة , حيث قال للبنات الثلاثة: 
- يبدو ان جيم الأحمق فقد عقله من الخوف , بعد مبيته لوحده هنا .. (ثم قال لهم) : المهم الآن !! علينا العودة سريعاً الى المخيّم , فالجميع في انتظارنا

وقبل ان يلحقهم جيم , نظر نظرةً أخيرة الى الكهف .. ليتفاجأ برؤية عبارة ظهرت فجأة (مكان الرسمة التي كانت موجودة على جدار الكهف) ! وقد كتب فيها :
((لا يمكنك تغير الماضي , لكن قرار المستقبل بين يديك))

وما ان قرأها جيم , حتى إختفت العبارة من جديد ! 
فعرف انها كانت نصيحة أخيرة من العجوز , او بالأصح نصيحته هو لنفسه بعد ان يُصبح عجوزاً (وكأنها قادمة من زمن المستقبل)
فأومأ جيم برأسه موافقاً , وهو يقول بصوتٍ منخفض : سأعمل بنصيحتك ايّها العجوز .. سأفعل حتماً !!

وعندما نزل الى اصدقائه (اسفل الجبل) .. قال له المتنمّر بسخرية: 
- والآن ايها الأصهب الفاشل , إخبرنا كيف سنعود الى المخيّم من هنا  

لكنهم تفاجأوا جميعاً ! حين لكمهُ جيم على وجهه بقوّة , ممّا أدمى أنفه .. ثم صرخ في وجهه قائلاً :
- ايّاك ان تناديني بهذا اللقب ثانيةً , والاّ والله سأجعل حياتك جحيماً .. أسمعت أيّها التافه !!!
فصُعق المتنمّر الذي أخافته تعابير جيم الغاضبة !
ثم تابع جيم كلامه بعصبية : منذ اليوم سيحترمني الجميع , وأولهم انت !!
وأشار للمتنمّر الذي مازال واقعاً على الأرض ..

ثم قال جيم بنبرةٍ واثقة وقوية : انا قائدكم منذ اللحظة !! لأنني الوحيد الذي يعرف كيف يتجاوز هذه الغابة للوصول الى المخيّم .. ومن لا يسمع كلامي فسأتركه خلفي ليتوه وحده في البراري .. فهل هناك معترض على كلامي ؟!!!
فأومأت البنات الثلاثة برأسهنّ موافقات , وهنّ مازلنّ مُندهشات من  التغير المفاجىء الذي حصل في شخصيّة جيم ! 

ثم اقترب جيم من المتنمّر (الواقع على الأرض) ومدّ له يده , ليوقفه على قدميه .. ثم قال :
- هيا بنا نعود الى المخيّم يا اصدقاء 

وبالفعل !! مشوا جميعاً خلف جيم بكل طواعية وهدوء , وهم يتابعون قيادته لهم بنظرات الإعجاب والدهشة ! 
بينما كان جيم غارقاً في التفكير بتجربته الفريدة مع رجل الكهف الذي غيّر شخصيته الى الأبد , بعد ان جعله يشعر بقوته لأول مرة في حياته .. 

ثم قال في نفسه مُبتسماً :
((صدقت ايّها الرجل الغامض .. لربما لا استطيع تغير ماضينا الكئيب , لكني حتماً سأغيّر مستقبلنا (انا وانت) نحو الأفضل !! أعدك بذلك يا جيم العجوز)) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مسابقة الجدارة

تأليف : امل شانوحة منصبٌ رفيع إستوفى خمسة شباب شروط الوظيفة في شركةٍ مرموقة .. واجتمعوا في مكتب المدير العام (أغنى تجّار البلد) الذي قال لهم...