كتابة : امل شانوحة
أحبّها من اول نظرة .. خجلها .. إرتباكها .. هندامها البسيط .. عيناها الحزينتان .. قلقها الغير مبرّر .. شيءٌ ما شدّه اليها حين رآها هذا اليوم بعد ان قدِمَ مع والدته , بنيّة الخطوبة .. لا لم تكن نفس الفتاة , بل كان قاصداً جارتها في الطابق العلوي .. لكن الصدفة قادته الى شقتها حينما وقف مع والدته بثيابهما الرسمية امام بابها , وفي نفس الموعد المحدّد من قِبل أهل العروس ..
وحينها فتحت الصبيّة البريئة الباب , ثم أغلقته على الفور بفزعٍ واضح !
فسألتها امه من خلف الباب : اليس هذا منزل العائلة الفلانية ؟
فقالت بصوتٍ مرتجف ومنخفض للغاية (من الداخل) :
- أظنهم جيراننا , اسألوا حارس العمارة عن شقتهم
ثم اختفى صوتها !
***
فصعد الشاب وامه الى الطابق الذي فوقه , ليجدا اهل العروس في انتظارهما ..
وفي الداخل , وبعد مرور ساعة .. لم تعجب ابنتهم الشاب كثيراً ..فقد بدت مغرورة ومدلّلة , كما ان ملابسها ومكياجها كان مبالغاً فيه .. وحتى تصرّفاتها لم تكن لائقة , فقد جلست امامهما واضعةً رجلها فوق الأخرى بتنوّرتها القصيرة دون حياءٍ او خجل , وكأنها ليست المرة الأولى التي تكلّم فيها شاباً .. ممّا أقلق العريس فهو من عائلةٍ محافظة..
وبعد انشغال العائلة بتحضير القهوة , همس لإمه قائلاً :
- لقد أعجبتني الصبيّة الثانية في الطابق السفلي
الأم بصوتٍ منخفض : وانا ايضاً
- اذاً لننهي هذه المقابلة وننزل سويّاً الى هناك
وتفاجأ اهل العروس باستعجال الشاب وامه بالذهاب , بحجّة ان جدته ليست بخير وعلى امه زيارتها في الحال
وخرجا من هناك , ليتنفّس الشاب الصعداء بعد ان ضاقت روحه من هذه الجلسة الكئيبة ..
***
وبحماس ضغط الشاب جرس الشقة في الطابق السفلي , لكن هذه المرة فتح لهما والد الفتاة ..
فقالت له الأم بابتسامة : أتينا لخطبة ابنتك
وعلى الفور !! تغيّرت ملامح وجهه , حيث بدى واضحاً بأن طلبهما أزعجه للغاية !
فردّ الرجل بعبوسٍ وتجهّم :
- ليس لديّ بنات !!
وصفق الباب في وجههما بغضب ..
وقد شلّ موقفه الغريب حركتهما , حيث تجمّدا امام الباب مدهوشين ممّا حصل !
وفي هذه اللحظات , سمعا صراخه على ابنته :
- هل فتحتي الباب لأحد يا غبيّة ؟!!
وأجابته بصوتٍ بالكاد يُسمع من خارج المنزل , لكن كان واضحاً انها تبكي بخوف :
- سامحني يا ابي , فأنا ظننت امي عادت من السوق
- امك لديها مفتاحها يا لعينة !!
(ثم وجّه كلامه لزوجته) : وانتِ !! كم مرة طلبت منك ان تقفلي الباب عليها , حين خروجك من المنزل ؟!!
وكان صوت زوجته لا يقلّ خوفاً من ابنتها :
- سامحني ابو سعيد .. لقد نسيت هذه المرة !
الأب صارخاً : سأربّيكما من جديد !!
وهنا سمع العريس وامه صوت حِزام الأب وهو يجلد به ابنته , وقد عرفا ذلك من صرختها المؤلمة !
فلم يتمالك الشاب نفسه وصار يطرق الباب بقوّة , رغم محاولة امه لإيقافه
ففتح الأب الباب بعصبية : أمازلتما هنا ؟!!
الشاب : عمي ..
الرجل مقاطعاً : انا لست عمّ أحد يا ولد !!
الشاب : ارجوك دعني أدخل لأخبرك بشيءٍ هام .. ورجاءً إترك الحزام من يدك , فأنت تخيف امي !
فأدخلهما مُرغماً..
***
في الداخل .. إنتبه الشاب على عفش بيتهم المتواضع , فقال للوالد بعد ان هدأ غضبه قليلاً :
- دعني أعرّفك بنفسي .. إسمي احمد العليّ .. تاجر استيراد وتصدير ولديّ مكتباً تجاريّاً.. وأملك فيلا , أنهيت بنائها منذ شهرين .. وأثّثتها بما يلزم من ادواتٍ كهربائية و ..
الأب مقاطعاً بعصبية : وما دخلي انا بقصرك ؟ ..هل تعايرني بفقري ؟!
- لا ابداً .. أردّت ان اقول بأنني مستعد لأن أكتب فيلتي بإسم ابنتك في حال قبلت زواجي منها
وتفاجأت ام العريس بعرض ابنها الغير متوقع :
- ابني , ماذا تقول ؟!
- امي رجاءً , دعيني أتحدّث مع الرجل
فقال الأب : وماذا أستفيد انا من كل الموضوع ؟
الشاب بتهكّم : ترتاح من همّ ابنتك التي تمنعها حتى من فتح باب بيتك !
الأب بحزم : لم تجيبني على سؤالي .. ماذا أستفيد انا من زواجكما؟
ففهم الشاب بأن الأب مادّي , وهذا شيءٌ جيد لأنه من السهل التحكّم به
فأجابه الشاب بعد تفكير : راتبٌ شهريٌ , لك ولزوجتك
الأب : كم يعني ؟
الشاب : سأجيبك بعد ان تخبرني بنوعيّة عملك ؟
- انا سائق أجرة
ثم أخبره الرجل بما يحصل عليه في الشهر بأفضل الأحوال ..
فعرض الشاب عليه ضعف ذلك المبلغ , كراتبٍ شهريّ .. ممّا جعل الأب يفكّر جدّياً في طلبه
الأب : على فكرة .. إبنتي غير متعلمة , فأنا لم اسمح لها بالخروج من البيت طوال حياتها
ام العريس بدهشة : الم تعلّمها على الأقل الحروف الأبجدية ؟
الأب بعصبية : قلت لك انها لم تخرج يوماً من البيت , حتى وقوفها على الشرفة ممنوع !!
ام العريس بدهشة : يا الهي ! ما هذا الظلم يا رجل ؟!
ابنها محاولاً تهدأتها , فهو لا يريد إغضاب الرجل :
- امي .. إهدئي رجاءً
لكن الأم إستمرّت بأسئلتها للعمّ :
- وماذا عن أعمامها وأخوالها , الم يكلّموك بأن ترحم ابنتك قليلاً ؟!
فأجاب الأب بقسوة : لقد أخبرت الجميع بأنها توفيت عند ولادتها ..ثم ما دخلك انتِ بالموضوع ؟ هذه ابنتي وانا حرٌّ بها
الأم : وهل هي ابنتك الوحيدة ؟
الأب : نعم , بلاءٌ واحد يكفيني ..لكن عندي خمسة شباب
الأم : واين هم الآن ؟
الأب : تزوجوا جميعهم , ويعيشون بعيداً من هنا
الأم : اذاً هي الوحيدة التي تخدمك من بينهم
الأب بلؤم : انا لا اريد لأحد ان يخدمني
العريس محاولاً تهدئة الوضع المتوتّر بينهما :
- عمي , دعنا لا نبتعد كثيراً عن موضوعنا .. فكما قلت لك : مهرها هو فيلتي .. كما لك راتبٌ شهري طوال حياتك انت وحماتي .. فماذا قلت ؟
فيفكّر الأب قليلاً , ثم يقول مُحتاراً :
- وكيف سأخبر الناس بالموضوع , فهم لا يعرفون اصلاً بأن لديّ ابنة ؟!
الشاب : لا داعي ان يعرفوا لأننا سنتزوج بحفلٍ صغير , يعني عائلتك وعائلتي فقط
امه مُعترضة : لكني أريد ان أفرح بك , فأنت إبني الوحيد !
- سعادتي لن تكون الا معها , يا امي
الأم : لكنك لم ترها سوى للحظة !
العريس : والآن سأراها ايضاً
الأب بدهشة : ماذا قلت ؟!
العريس : الم نتفق الآن , ام انك لا ترغب بالراتب الشهريّ ؟
فيفكّر الأب قليلاً , ثم يقول بضيق : حسناً , كما تشاء
وينادي على زوجته كيّ تحضر الفتاة..
***
ودخلت العروس الى الصالة بثيابٍ فضفاضة وبمقاسٍ لا يناسبها , لكن يبدو ان امها ألبستها من ثيابها لأنها لم تجد شيئاً آخر تلبسه إيّاها بهذه المناسبة الغير متوقعة !
وحين جلست قرب العريس كانت ترتجف بشدّة..
فطلب الشاب من حماته ان تأخذ امه لتجلسا في المطبخ .. كما طلب من عمّه ان يتركهما لوحدهما ..
فقبل ابوها على مضضّ , لكن بشرط : ان يجلس في الشرفة ليراقب الوضع من خلال الزجاج الفاصل بينهم ..
العريس : عمّي لو سمحت ..إغلق باب الشرفة بإحكام
فأغلقه الأب بغضب , فهو ليس معتاداً أن يرى ابنته تكلّم شاباً ..
وبعد ان تركوهما أخيراً لوحدهما .. إقترب الشاب منها قائلاً بصوتٍ منخفض كيّ لا يسمعهما احد ..
- كيف حالكِ ؟
لكنها ظلّت صامتة , وهي تفرك يديها بتوتر وارتباك ..
العريس : أعرف ان حياتك كانت صعبة وانكِ..
مقاطعة : انا بخير
- لا لست بخير
- هم يطعمونني جيداً
- الأهل ليس واجبهم فقط إطعام اولادهم , بل تعليمهم ايضاً وإحضار الملابس الجميلة التي تليق بهم
فحاولت الصبيّة ترتيب تنوّرتها التي كانت فضفاضة على جسمها النحيل
العريس : ما اسمك ؟
- سميرة
- سميرة .. أعدك ان تعيشين معي حياةً جميلة للغاية , سأنسيك فيها كل ما عانيته هنا .. فأنا لا اريدك ان تعملي ايّ شيء في بيتنا , لأنني سأحضر لك خادمة وطبّاخة ..وستعيشين معي في قصرٍ جميل.. وسنسافر للخارج بين فترةٍ وأخرى لأريك العالم
الصبيّة بحماس : وهل ستأخذني الى البحر ؟ لأني رأيته بالتلفاز ويبدو مريحاً وجميلاً
بابتسامة شفقة أجابها : نعم .. البحر والجبل , والنجوم ان أردّتِ ..كما سأحضر لك معلمة لتعليمك كل ما فاتك من دروس
سميرة بدهشة وفرح : أحقاً ! فأنا أحب التعليم كثيراً .. حيث كنت أستمع من داخل غرفتي على صوت المدرّس وهو يعلّم اخواني .. وأذكر عندما كنت صغيرة , كنت أردّد خلفه الأحرف العربية والأجنبية ايضاً , لكني لا أعرف كيف أكتبهم !
- ستتعلمين كل شيء , الى ان تحصلي على شهادتك الجامعية
- الجامعة ! هذه كانت إحدى أحلامي المستحيلة
وسكتت قليلاً , ثم قالت : استاذ
- ناديني احمد
- سيد احمد
بابتسامة : أحمد فقط يا سميرة
فقالت بارتباك :
- احمد ..لما اخترتني انا ؟ فأنت شابٌ جميل ..أقصد ..غنيّ ومتعلّم , ويمكنك إيجاد أفضل منّي ؟!
- إخترتك لأنك مميزة يا سميرة
- بماذا ؟!
- ببراءتكِ ..الا تدرين كم هي صفة نادرة هذه الأيام ؟!
- أحقاً !
- نعم ..فالبنات أصبحنّ جريئات بشكلٍ مقزّز ..وانا أحب الفتاة الطبيعية التي أربّيها على يديّ ..وانت طلبي يا سميرة , وأحتاجك في حياتي
- لكني خائفة
- ممّا ؟!
فقالت بتردّد : من الزواج .. فأنا لا اعرف شيئاً عنه , ومع هذا أشعر انه شيءٌ كبير لا أستطيع تحمّله !
- سنتقدّم معاً خطوة بخطوة , فأنا لستُ مستعجلاً على شيء ..إطمئني , فأنا لن أرغمك على شيء لا تريدينه
سميرة بقلق : احمد ... هل سيأتي يوم وتضربني كوالدي ؟
أحمد : مستحيل .. فخدودك الحمراء لا تستحق سوى القبلات
وقد أفزعها سماع أول كلمات غزل في حياتها , ممّا جعلها ترتبك وتركض مُسرعة الى غرفتها .. وحين رآى والدها ردّة فعلها (من خلف الزجاج) دخل الى الصالة كالمجنون , وهو يصرخ على العريس مُعاتباً :
- ماذا قلت لها ؟!!
وخرجت الوالدتان من المطبخ بعد ان أفزعهما صراخه !
لكن العريس تجاهل إتهامه , قائلاً بثقة :
- ما رأيك ان نجعل الجمعة القادمة هو يوم كتب الكتاب ؟
فقال العمّ بلؤم : لقد أعدّت التفكير بالموضوع واريد سيارة جديدة لي , والاّ لن أكتب الكتاب
زوجته : لكن يا ابا سعيد..
يصرخ عليها : إسكتي انت !! انا احتاج لسيارة أجرة جديدة بدل سيارتي المهترئة
العريس : ولك ذلك
امه بقلق : بنيّ !
ابنها بثقة : لا تقلقي امي , فالهة سيرزقني بإحساني اليها
ثم قال لعمه : الجمعة سآتي انا وامي والمأذون الى هنا , وسنقوم ..
والد العروس مُقاطعاً : لا تنسى ان تخبر المأذون ان يأتي بملابس عادية , فأنا لا اريد ان يشعر الجيران بشيء
العريس : حسناً لا تقلق , سأخبره بظروفنا
ام الشاب بعصبية : ان كنت تخجل كثيراً بإبنتك , فاخبرني كيف سنخرجها من بيتك ؟
ابنها : امي .. سألبسها عباءة ونقاب , وعكاز ايضاً لتبدو وكأنها جدتي
الأب : فكرة جيدة .. المهم ان لا يروك جيراننا في الطابق العلوي ..الم تخبرني قبل قليل بأنك كنت قادماً لخطبة ابنتهم ؟
العريس بثقة : انا لا يهمّني رأيّ أحد , وسأتزوج ممّن أشاء
ابو العروس مبتسماً وبفخر : يالك من رجل ! أعجبتني يا صهر
ام العروس بدهشة : صهر ! أيعني انك وافقت اخيراً ؟
زوجها : نعم , لكن إيّاك ان تزغردي
زوجته بفرح : لا إطمئن , لن أفعل
الشاب بسعادة : اذاً , على بركة الله
***
وبالفعل تمّ الزواج بسرّيةٍ تامة .. وعاشت سميرة مع زوجها بسعادة في قصرهم الجميل , وأنجبا ثلاثة أبناء ..
والغريب في الموضوع ان والدها بعد سنوات من زواجها أصبح يفتخر بها وبصهره وبأحفاده , غير مبالي بنقد الناس له لاستنكاره لابنته طوال عشرين سنة !
لهذا إحسنوا الى بناتكنّ فربما يكون الخير فيهنّ !
*******
ملاحظة :
هذه قصة حقيقية حصلت في لبنان في زمن السبعينيات ..اما اليوم فقد أصبحت هذه الفتاة مُعيلة أهلها , بعد استلامها لأحد فروع شركة زوجها بعد تخرّجها الجامعي , قسم ادارة اعمال ..
فسبحان من هيّأ لها تلك الفرصة لتخرج من سجنها وتصبح امرأة ناجحة يفتخر بها جميع أفراد عائلتها , بما فيهم والدها الذي طلب منها السماح قبل ايام من وفاته .. فسبحان مغيّر الأحوال !
لن يعرف أحد بوجودها
أحبّها من اول نظرة .. خجلها .. إرتباكها .. هندامها البسيط .. عيناها الحزينتان .. قلقها الغير مبرّر .. شيءٌ ما شدّه اليها حين رآها هذا اليوم بعد ان قدِمَ مع والدته , بنيّة الخطوبة .. لا لم تكن نفس الفتاة , بل كان قاصداً جارتها في الطابق العلوي .. لكن الصدفة قادته الى شقتها حينما وقف مع والدته بثيابهما الرسمية امام بابها , وفي نفس الموعد المحدّد من قِبل أهل العروس ..
وحينها فتحت الصبيّة البريئة الباب , ثم أغلقته على الفور بفزعٍ واضح !
فسألتها امه من خلف الباب : اليس هذا منزل العائلة الفلانية ؟
فقالت بصوتٍ مرتجف ومنخفض للغاية (من الداخل) :
- أظنهم جيراننا , اسألوا حارس العمارة عن شقتهم
ثم اختفى صوتها !
***
فصعد الشاب وامه الى الطابق الذي فوقه , ليجدا اهل العروس في انتظارهما ..
وفي الداخل , وبعد مرور ساعة .. لم تعجب ابنتهم الشاب كثيراً ..فقد بدت مغرورة ومدلّلة , كما ان ملابسها ومكياجها كان مبالغاً فيه .. وحتى تصرّفاتها لم تكن لائقة , فقد جلست امامهما واضعةً رجلها فوق الأخرى بتنوّرتها القصيرة دون حياءٍ او خجل , وكأنها ليست المرة الأولى التي تكلّم فيها شاباً .. ممّا أقلق العريس فهو من عائلةٍ محافظة..
وبعد انشغال العائلة بتحضير القهوة , همس لإمه قائلاً :
- لقد أعجبتني الصبيّة الثانية في الطابق السفلي
الأم بصوتٍ منخفض : وانا ايضاً
- اذاً لننهي هذه المقابلة وننزل سويّاً الى هناك
وتفاجأ اهل العروس باستعجال الشاب وامه بالذهاب , بحجّة ان جدته ليست بخير وعلى امه زيارتها في الحال
وخرجا من هناك , ليتنفّس الشاب الصعداء بعد ان ضاقت روحه من هذه الجلسة الكئيبة ..
***
وبحماس ضغط الشاب جرس الشقة في الطابق السفلي , لكن هذه المرة فتح لهما والد الفتاة ..
فقالت له الأم بابتسامة : أتينا لخطبة ابنتك
وعلى الفور !! تغيّرت ملامح وجهه , حيث بدى واضحاً بأن طلبهما أزعجه للغاية !
فردّ الرجل بعبوسٍ وتجهّم :
- ليس لديّ بنات !!
وصفق الباب في وجههما بغضب ..
وقد شلّ موقفه الغريب حركتهما , حيث تجمّدا امام الباب مدهوشين ممّا حصل !
وفي هذه اللحظات , سمعا صراخه على ابنته :
- هل فتحتي الباب لأحد يا غبيّة ؟!!
وأجابته بصوتٍ بالكاد يُسمع من خارج المنزل , لكن كان واضحاً انها تبكي بخوف :
- سامحني يا ابي , فأنا ظننت امي عادت من السوق
- امك لديها مفتاحها يا لعينة !!
(ثم وجّه كلامه لزوجته) : وانتِ !! كم مرة طلبت منك ان تقفلي الباب عليها , حين خروجك من المنزل ؟!!
وكان صوت زوجته لا يقلّ خوفاً من ابنتها :
- سامحني ابو سعيد .. لقد نسيت هذه المرة !
الأب صارخاً : سأربّيكما من جديد !!
وهنا سمع العريس وامه صوت حِزام الأب وهو يجلد به ابنته , وقد عرفا ذلك من صرختها المؤلمة !
فلم يتمالك الشاب نفسه وصار يطرق الباب بقوّة , رغم محاولة امه لإيقافه
ففتح الأب الباب بعصبية : أمازلتما هنا ؟!!
الشاب : عمي ..
الرجل مقاطعاً : انا لست عمّ أحد يا ولد !!
الشاب : ارجوك دعني أدخل لأخبرك بشيءٍ هام .. ورجاءً إترك الحزام من يدك , فأنت تخيف امي !
فأدخلهما مُرغماً..
***
في الداخل .. إنتبه الشاب على عفش بيتهم المتواضع , فقال للوالد بعد ان هدأ غضبه قليلاً :
- دعني أعرّفك بنفسي .. إسمي احمد العليّ .. تاجر استيراد وتصدير ولديّ مكتباً تجاريّاً.. وأملك فيلا , أنهيت بنائها منذ شهرين .. وأثّثتها بما يلزم من ادواتٍ كهربائية و ..
الأب مقاطعاً بعصبية : وما دخلي انا بقصرك ؟ ..هل تعايرني بفقري ؟!
- لا ابداً .. أردّت ان اقول بأنني مستعد لأن أكتب فيلتي بإسم ابنتك في حال قبلت زواجي منها
وتفاجأت ام العريس بعرض ابنها الغير متوقع :
- ابني , ماذا تقول ؟!
- امي رجاءً , دعيني أتحدّث مع الرجل
فقال الأب : وماذا أستفيد انا من كل الموضوع ؟
الشاب بتهكّم : ترتاح من همّ ابنتك التي تمنعها حتى من فتح باب بيتك !
الأب بحزم : لم تجيبني على سؤالي .. ماذا أستفيد انا من زواجكما؟
ففهم الشاب بأن الأب مادّي , وهذا شيءٌ جيد لأنه من السهل التحكّم به
فأجابه الشاب بعد تفكير : راتبٌ شهريٌ , لك ولزوجتك
الأب : كم يعني ؟
الشاب : سأجيبك بعد ان تخبرني بنوعيّة عملك ؟
- انا سائق أجرة
ثم أخبره الرجل بما يحصل عليه في الشهر بأفضل الأحوال ..
فعرض الشاب عليه ضعف ذلك المبلغ , كراتبٍ شهريّ .. ممّا جعل الأب يفكّر جدّياً في طلبه
الأب : على فكرة .. إبنتي غير متعلمة , فأنا لم اسمح لها بالخروج من البيت طوال حياتها
ام العريس بدهشة : الم تعلّمها على الأقل الحروف الأبجدية ؟
الأب بعصبية : قلت لك انها لم تخرج يوماً من البيت , حتى وقوفها على الشرفة ممنوع !!
ام العريس بدهشة : يا الهي ! ما هذا الظلم يا رجل ؟!
ابنها محاولاً تهدأتها , فهو لا يريد إغضاب الرجل :
- امي .. إهدئي رجاءً
لكن الأم إستمرّت بأسئلتها للعمّ :
- وماذا عن أعمامها وأخوالها , الم يكلّموك بأن ترحم ابنتك قليلاً ؟!
فأجاب الأب بقسوة : لقد أخبرت الجميع بأنها توفيت عند ولادتها ..ثم ما دخلك انتِ بالموضوع ؟ هذه ابنتي وانا حرٌّ بها
الأم : وهل هي ابنتك الوحيدة ؟
الأب : نعم , بلاءٌ واحد يكفيني ..لكن عندي خمسة شباب
الأم : واين هم الآن ؟
الأب : تزوجوا جميعهم , ويعيشون بعيداً من هنا
الأم : اذاً هي الوحيدة التي تخدمك من بينهم
الأب بلؤم : انا لا اريد لأحد ان يخدمني
العريس محاولاً تهدئة الوضع المتوتّر بينهما :
- عمي , دعنا لا نبتعد كثيراً عن موضوعنا .. فكما قلت لك : مهرها هو فيلتي .. كما لك راتبٌ شهري طوال حياتك انت وحماتي .. فماذا قلت ؟
فيفكّر الأب قليلاً , ثم يقول مُحتاراً :
- وكيف سأخبر الناس بالموضوع , فهم لا يعرفون اصلاً بأن لديّ ابنة ؟!
الشاب : لا داعي ان يعرفوا لأننا سنتزوج بحفلٍ صغير , يعني عائلتك وعائلتي فقط
امه مُعترضة : لكني أريد ان أفرح بك , فأنت إبني الوحيد !
- سعادتي لن تكون الا معها , يا امي
الأم : لكنك لم ترها سوى للحظة !
العريس : والآن سأراها ايضاً
الأب بدهشة : ماذا قلت ؟!
العريس : الم نتفق الآن , ام انك لا ترغب بالراتب الشهريّ ؟
فيفكّر الأب قليلاً , ثم يقول بضيق : حسناً , كما تشاء
وينادي على زوجته كيّ تحضر الفتاة..
***
ودخلت العروس الى الصالة بثيابٍ فضفاضة وبمقاسٍ لا يناسبها , لكن يبدو ان امها ألبستها من ثيابها لأنها لم تجد شيئاً آخر تلبسه إيّاها بهذه المناسبة الغير متوقعة !
وحين جلست قرب العريس كانت ترتجف بشدّة..
فطلب الشاب من حماته ان تأخذ امه لتجلسا في المطبخ .. كما طلب من عمّه ان يتركهما لوحدهما ..
فقبل ابوها على مضضّ , لكن بشرط : ان يجلس في الشرفة ليراقب الوضع من خلال الزجاج الفاصل بينهم ..
العريس : عمّي لو سمحت ..إغلق باب الشرفة بإحكام
فأغلقه الأب بغضب , فهو ليس معتاداً أن يرى ابنته تكلّم شاباً ..
وبعد ان تركوهما أخيراً لوحدهما .. إقترب الشاب منها قائلاً بصوتٍ منخفض كيّ لا يسمعهما احد ..
- كيف حالكِ ؟
لكنها ظلّت صامتة , وهي تفرك يديها بتوتر وارتباك ..
العريس : أعرف ان حياتك كانت صعبة وانكِ..
مقاطعة : انا بخير
- لا لست بخير
- هم يطعمونني جيداً
- الأهل ليس واجبهم فقط إطعام اولادهم , بل تعليمهم ايضاً وإحضار الملابس الجميلة التي تليق بهم
فحاولت الصبيّة ترتيب تنوّرتها التي كانت فضفاضة على جسمها النحيل
العريس : ما اسمك ؟
- سميرة
- سميرة .. أعدك ان تعيشين معي حياةً جميلة للغاية , سأنسيك فيها كل ما عانيته هنا .. فأنا لا اريدك ان تعملي ايّ شيء في بيتنا , لأنني سأحضر لك خادمة وطبّاخة ..وستعيشين معي في قصرٍ جميل.. وسنسافر للخارج بين فترةٍ وأخرى لأريك العالم
الصبيّة بحماس : وهل ستأخذني الى البحر ؟ لأني رأيته بالتلفاز ويبدو مريحاً وجميلاً
بابتسامة شفقة أجابها : نعم .. البحر والجبل , والنجوم ان أردّتِ ..كما سأحضر لك معلمة لتعليمك كل ما فاتك من دروس
سميرة بدهشة وفرح : أحقاً ! فأنا أحب التعليم كثيراً .. حيث كنت أستمع من داخل غرفتي على صوت المدرّس وهو يعلّم اخواني .. وأذكر عندما كنت صغيرة , كنت أردّد خلفه الأحرف العربية والأجنبية ايضاً , لكني لا أعرف كيف أكتبهم !
- ستتعلمين كل شيء , الى ان تحصلي على شهادتك الجامعية
- الجامعة ! هذه كانت إحدى أحلامي المستحيلة
وسكتت قليلاً , ثم قالت : استاذ
- ناديني احمد
- سيد احمد
بابتسامة : أحمد فقط يا سميرة
فقالت بارتباك :
- احمد ..لما اخترتني انا ؟ فأنت شابٌ جميل ..أقصد ..غنيّ ومتعلّم , ويمكنك إيجاد أفضل منّي ؟!
- إخترتك لأنك مميزة يا سميرة
- بماذا ؟!
- ببراءتكِ ..الا تدرين كم هي صفة نادرة هذه الأيام ؟!
- أحقاً !
- نعم ..فالبنات أصبحنّ جريئات بشكلٍ مقزّز ..وانا أحب الفتاة الطبيعية التي أربّيها على يديّ ..وانت طلبي يا سميرة , وأحتاجك في حياتي
- لكني خائفة
- ممّا ؟!
فقالت بتردّد : من الزواج .. فأنا لا اعرف شيئاً عنه , ومع هذا أشعر انه شيءٌ كبير لا أستطيع تحمّله !
- سنتقدّم معاً خطوة بخطوة , فأنا لستُ مستعجلاً على شيء ..إطمئني , فأنا لن أرغمك على شيء لا تريدينه
سميرة بقلق : احمد ... هل سيأتي يوم وتضربني كوالدي ؟
أحمد : مستحيل .. فخدودك الحمراء لا تستحق سوى القبلات
وقد أفزعها سماع أول كلمات غزل في حياتها , ممّا جعلها ترتبك وتركض مُسرعة الى غرفتها .. وحين رآى والدها ردّة فعلها (من خلف الزجاج) دخل الى الصالة كالمجنون , وهو يصرخ على العريس مُعاتباً :
- ماذا قلت لها ؟!!
وخرجت الوالدتان من المطبخ بعد ان أفزعهما صراخه !
لكن العريس تجاهل إتهامه , قائلاً بثقة :
- ما رأيك ان نجعل الجمعة القادمة هو يوم كتب الكتاب ؟
فقال العمّ بلؤم : لقد أعدّت التفكير بالموضوع واريد سيارة جديدة لي , والاّ لن أكتب الكتاب
زوجته : لكن يا ابا سعيد..
يصرخ عليها : إسكتي انت !! انا احتاج لسيارة أجرة جديدة بدل سيارتي المهترئة
العريس : ولك ذلك
امه بقلق : بنيّ !
ابنها بثقة : لا تقلقي امي , فالهة سيرزقني بإحساني اليها
ثم قال لعمه : الجمعة سآتي انا وامي والمأذون الى هنا , وسنقوم ..
والد العروس مُقاطعاً : لا تنسى ان تخبر المأذون ان يأتي بملابس عادية , فأنا لا اريد ان يشعر الجيران بشيء
العريس : حسناً لا تقلق , سأخبره بظروفنا
ام الشاب بعصبية : ان كنت تخجل كثيراً بإبنتك , فاخبرني كيف سنخرجها من بيتك ؟
ابنها : امي .. سألبسها عباءة ونقاب , وعكاز ايضاً لتبدو وكأنها جدتي
الأب : فكرة جيدة .. المهم ان لا يروك جيراننا في الطابق العلوي ..الم تخبرني قبل قليل بأنك كنت قادماً لخطبة ابنتهم ؟
العريس بثقة : انا لا يهمّني رأيّ أحد , وسأتزوج ممّن أشاء
ابو العروس مبتسماً وبفخر : يالك من رجل ! أعجبتني يا صهر
ام العروس بدهشة : صهر ! أيعني انك وافقت اخيراً ؟
زوجها : نعم , لكن إيّاك ان تزغردي
زوجته بفرح : لا إطمئن , لن أفعل
الشاب بسعادة : اذاً , على بركة الله
***
وبالفعل تمّ الزواج بسرّيةٍ تامة .. وعاشت سميرة مع زوجها بسعادة في قصرهم الجميل , وأنجبا ثلاثة أبناء ..
والغريب في الموضوع ان والدها بعد سنوات من زواجها أصبح يفتخر بها وبصهره وبأحفاده , غير مبالي بنقد الناس له لاستنكاره لابنته طوال عشرين سنة !
لهذا إحسنوا الى بناتكنّ فربما يكون الخير فيهنّ !
*******
ملاحظة :
هذه قصة حقيقية حصلت في لبنان في زمن السبعينيات ..اما اليوم فقد أصبحت هذه الفتاة مُعيلة أهلها , بعد استلامها لأحد فروع شركة زوجها بعد تخرّجها الجامعي , قسم ادارة اعمال ..
فسبحان من هيّأ لها تلك الفرصة لتخرج من سجنها وتصبح امرأة ناجحة يفتخر بها جميع أفراد عائلتها , بما فيهم والدها الذي طلب منها السماح قبل ايام من وفاته .. فسبحان مغيّر الأحوال !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق