الأحد، 22 أبريل 2018

الحرب النفسيّة

كتابة : امل شانوحة

قتلوا ألف جندي دون رصاصةٍ واحدة !

كنت من الناجين القلائل في مخيّم الأسر بعد انتهاء الحرب الكوريّة , حيث مات ألف جندي امريكي معظمهم كانوا ضمن فرقتي التي لم يحالفها الحظّ في الهروب .. وتمّ أسرنا جميعاً في مخيّمٍ لم يكن مرعباً كالسجون النازيّة الإلمانية , ولم يحصل لنا كما حصل لصينيين في المعتقلات اليابانية التي سمعنا عنها أبّان الحرب العالميّة الثانية .. فأسوار المخيّم لم تكن عالية , ولم نُحرم يوماً من الطعام والشراب .. بل حتى ان الكوريين لم يعذبونا بالضرب او الكهرباء او غيرها من وسائل التعذيب 

أعرف انكم تتساءلون : اذاً كيف مات ألف جندي شاب يتمتعون بصحةٍ جيدة بموتةٍ طبيعية ؟!
سأخبركم ما حصل معي من خلال تجربتي في ذلك الأسر , وستفهمون كل شيء

في البداية ..توقعت انا واصدقائي الأسوء بعد ان جرّدونا من سلاحنا واقتادونا نحو معتقلهم ..وكنّا نظن بأنهم سيجوعونا حتى الموت ..لكن ما ان وصلنا الى هناك , حتى قدّموا لنا وجبةً ساخنة لا بأس بها ! بينما كشَفَ طبيبهم على المصابين منّا .. 

ثم قسّمونا بين العنابر حيث وجد كل واحداً منا سريراً خاصاً به , فنحن لم ننمّ متراصّين جميعنا على ارضٍ باردة كما توقعنا , بل كان متوفراً كل شيء حتى الأغطية السميكة والمناشف !
فظننا ان التعذيب سيبدأ في اليوم التالي .. لكنه لم يحصل ذلك طوال مدة اعتقالنا هناك .. الاّ اننا لم ندرك بأننا دخلنا بالفعل في برنامجٍ تعذيبي مكثّف لكنه من نوعٍ آخر .. حيث استخدموا فيه كل الضغوطات النفسيّة المحطّمة لكل جوانب إنسانيتنا والتي إكتشفنا مع الوقت انها هشّة أكثر مما تصوّرنا !
***

ففي صباح احد الأيام .. جمعونا في ساحة السجن حيث كانت هناك منصّةً خشبية , وأجلسونا جميعاً على الأرض في مواجهتها وكأن هناك مسرحية ستقام بعد قليل .. 
ثم صعد عليها رئيس السجن الكوري وأخبرنا بمكبّر الصوت وباللغة الإنجليزية : بأن كل واحدٍ منّا سيصعد الى فوق ليتكلّم عن تجربة سيئة حصلت معه في حياته , وسنقوم بذلك جميعاً بحيث نستمع لجميع الأسرى وهم يتحدّثون عن ذكرياتهم السيئة التي مازالوا الى اليوم يشعرون بالخجل منها !

وكنت اول من تكلّم بينهم .. وصعدت الى المنصّة وانا احاول تذكّر تلك الحادثة التي علقت في ذاكرتي للأبد : وكانت حين إنضممّت الى الجيش مع صديق طفولتي جيمي ..وذكرت لهم بأننا كنّا متحمّسان جداً للذهاب الى الحرب , فلطالما أثارت المعارك وحمل السلاح وقتل الأعداء مخيّلاتنا الطفوليّة .. وكنّا محظوظين حين وضعونا في نفس الكتيبة .. لكن قبل اسبوع من وقوعي بالأسر وقعنا بفخّ للأعداء , وضعنا انا وصديقي عن بقيّة الجنود وعلقنا في الغابة .. وتعاهدنا وقتها بأن ندافع عن بعضنا حتى آخر نفسٍ لنا .. وبقينا ثلاثة ايام نمشي بحذر في غابةٍ لا نعرف أولها من آخرها .. 

وفي تلك الليلة المشؤومة أيقظت صديقي ليأخذ مكاني في الحراسة بينما انام انا بعد ان هدّني التعب ..فوافق على قيامه بجولةٍ تفقّدية من حولي , حاملاً سلاحه ومتنبّهاً لأيّ صوتٍ مفاجىء .. ثم لا ادري ما حصل بعدها ! .. فقد استيقظت على صوت أعيرةٍ نارية قريبةً مني .. وحين استفقت لم أجد صديقي بجانبي .. وكان الليل دامس ولسوء حظي انتهت بطاريات كشّافي اللعين .. وفجأة ! هجم عليّ شيءٌ خرج من بين الأحراش , فظننته دباً او نمراً او أحد الكوريين , فأغمضت عينيّ وأطلقت النار عليه ..والى اليوم مازلت اذكر نظرات جيمي بعد سقوطه بين ذراعيّ حين أصبت قلبه بالخطأ .. وكانت آخر كلماته لي قبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة : لما قتلتني يا صديقي ؟!

وحين أخبرت الجميع بهذه القصة , إنهارت قوايّ وبكيت بشدّة كطفلٍ صغير ! بحيث إضّطر جنديان كوريان لإنزالي من فوق المنصّة وإعادتي الى قسم العنابر ..حيث أكملت بكائي المرير وانا فوق سريري , بينما كان يتناهى الى سمعي صوت الجندي الأمريكي الذي صعد مكاني ليخبر الجميع بقصته عن خذلانه لشخصٍ يعزّه في حياته ..

وهكذا توالت قصصّ الإعترافات المذلّة على مدار إسبوعٍ كامل , ويبدو ان الجنود جميعاً كانوا يخفون بداخلهم قصة يخجلون من البوح بها !
  
وفي البداية ظننّا ان هذا جيدٌ لنفسيّتنا بعد أن تخلّصنا من تلك الذكرى السيئة العالقة في ذهننا وأرواحنا , وتساءلنا : اليس هذا ما يفعله الطبيب النفسي بالعادة لعلاج المرضى ؟!

لكن لاحقاً .. لاحظت بأننا لم نعدّ نتواصل بأعيننا فيما بيننا , بل كل واحداً منّا كان يسارع بخفض بصره حين يقترب منه أسيرٌ آخر.. 
فقد كان من ضمن تلك الإعترافات : جنودٌ اعتدوا في سنوات مراهقتهم على نساءٍ واطفال , كما كان منهم من ارتكب السرقات او عصياناً مؤذياً  لأهلهم ومدرسيهم , وصولاً الى القتل الخطأ او حتى العمد ..وغيرها من الأفعال والجرائم التي يندى لها الجبين ! 
***

وبعد مضيّ الشهر الأول في المعتقل بدأت تصلنا رسائل من اهلنا .. لكنهم لم يسمحوا لنا بقراءتها , بل كانوا هم يقرأونها لنا .. 
وعادة ما كان يحصل الشيء ذاته في اليوم الوحيد بالأسبوع المسموح به قراءة البريد , حيث كنّا نسمع بكاء الجنود وانهيارهم ما ان يسمعوا مضمون الرسائل : فمنهم من يصله خبر موت إحدى والديه او كلاهما , ومنهم من يخبرونه بانحراق محله التجاريّ الذي كان يحلم دوماً بالعودة للعمل فيه , ومنهم من يعرف بأن ابنته الصغيرة اغتصبت , وغيرها من القصص المدمّرة ..

حتى انا وصلني نبأ : بأن ابني الوحيد أصابته شظيّة زجاج اثناء لعبه الكرة مع اصدقائه , أدّت الى خسارته إحدى عينيه الزرقاوين الجميلتين .. 
واصابني ما اصاب الجنود من اكتئابٍ شديد .. لكني بعدها فكّرت بالأمر مطوّلاً , وقلت انه من المستحيل ان يرسلوا جميع اهالينا قصصاً سيئة لنا وهم يعرفون بأن مصيبتنا بالأسر تكفينا , فمن الغير معقول ان يزيدوا همّنا همّاً ! 

وبدأت أتساءل في نفسي : هل يقوم الجنود الكوريون المترجمون بقراءة الأخبار السيئة فقط وحذف الجيدة من الرسائل ؟ ام هل كانوا يختلقون تلك الحوادث عن اهلنا لتدمير نفسيتنا المحطّمة ؟ 
وظل هذا السؤال يراودني طوال فترة اعتقالي , لكنه لم يكن يتواجد عندي ايّ دليلٌ على ذلك
***

ثم بدأت الاحظ أفعالاً أخرى مُقلقّة من الكوريين .. 
ففي يوم أصابني صداعٌ شديد وطلبت من حارس السجن ان يحضر لي شيئاً يخفّف الألم سواءً شاي او قهوة او ايّ دواء.. واذا به يفتح باب الزنزانة ويأخذني الى مدير السجن الذي وضع بجانبه قدح قهوة وحبة اسبرين وسيجارة ايضاً , وقال لي : ماذا تختار ؟
فقلت : الدواء .. 
فقال : يمكنك أخذ الثلاثة , لكن كل واحداً بثمن 
فقلت له : معي بعض المال ..
فأجابني مبتسماً ابتسامةٍ ماكرة : لا , ثمنها شيءٌ آخر ..

وطلب مني ان أخبره بما يفعله اصدقائي قبل خلودهم للنوم , وعن  احاديثهم الجانبية , وهل يخطّطون للهرب ام لا ؟
فسألته بقلق : هل تريدني ان أتجسّس على اصدقائي ؟!
فأجابني بشيءٍ أرعبني : 
- الم تلاحظ ان بعض الجنود حصلوا على السجائر بعكسكم ؟ 
فعرفت انهم زرعوا جواسيس بيننا , وان منهم من قبل بهذه المهمّة الخبيثة , لكني رفضت بقوة .. 
فابتسم لي قائلاً : اذاً عدّ الى زنزانتك , وعالج صداعك بنفسك 
***

وبعد ثلاثة شهور ..لاحظت ان الف جندي امريكي على الأقل حصلوا على بعض المميزات التي انفردوا بها عنا , وذلك من وقتٍ لآخر ..فعرفت انهم خانوا أصدقائهم على الأقل لمرةٍ واحدة ! 
لكن الغريب في الموضوع ان المُوشى به لم يتم معاقبته ! فأدّى ذلك لعدم شعور الواشي بتأنيب الضمير .. وهذا شجّع الباقون على الوشاية بالآخرين للحصول على المكافآت , مما أدّى لتدمير الثقة فيما بيننا ! 

وقد لاحظت لاحقاً أثر ذلك على نفسيّة الواشون , حيث ازدادوا بؤساً بشكلٍ ملحوظ بعد ان تخلّى عنهم معظم اصدقائهم بحيث اصبحوا وحيدون داخل جدران هذا المعتقل ! ففهمت بأنها حركة مقصودة من الكوريين لتحطيمهم ! وحمدت ربي بأنني حميت نفسيّتي من إختبارهم الخبيث 
***

ربما تظنون ان وسائلهم الثلاثة كان أمراً سهلاً مقارنةً بوسائل التعذيب الآخرى , لكنكم مخطئون 
لأن هذه الوسائل النفسيّة أدّت لاحقاً لموت ألف جندي بالموت البطيء , حيث كنّا ندفن جندي او ثلاثة كل صباح , بعد ان نستيقظ لنجدهم ميتون في فراشهم ! 
***

وقد فهمت بعد إطلاق سراحنا وعودتي مع القلائل الناجون الى بلادنا : 
1- بأن إجبارنا على قول الذكريات السيئة وفضائحنا امام الملأ : أدّى لاحقاً لخسارة إحترامنا لأنفسنا واحترام الآخرين لنا
2- اما رسائل الأخبار السيئة : فافقدتنا الأمل بالنجاة والتحرّر
3- واما التجسسّ على زملائنا : فأشعترنا بأننا حقراء وعملاء , ممّا قضى على عزّة نفسِنا ! 
***

واليوم لا ادري ماهو شعوري بالضبط ناحية الضبّاط الكوريين : هل كانوا شرفاء بأنهم لم يستخدموا وسائل التعذيب المعروفة من حرقٍ وتقطيع وتجويع , ام انهم ماكرون جداً لأن ما فعلوه بنا أدّى الى ضررٍ نفسيٍّ دائم , حيث ان من نجى منّا لم يتواصل مع الآخر بعد عودتنا الى الوطن بعد ان تحطّمت الثقة بين رفقاء السلاح للأبد!  
***

واليوم ورغم انني هرمت في العمر الا انني مازلت أشعر وكأنني مسجون داخل بيتي , لأنني وضعت حاجزاً بيني وبين الجميع بعد ان اصبحت انطوائياً بسبب ما تعرّضت له هناك .. 
لكني بصراحة لا الوم الكوريين , فبالنهاية : الحرب خدعة .. وهم اذكياء باستخدامهم لهذا السلاح الخفيّ الغير مُعاقب عليه دوليّاً .. 

وبالنهاية تبقى الحرب النفسيّة أقوى وأسوء الحروب على الإطلاق .. وكم كانت تلك التجربة مدمّرة بحقّ !
*****

ملاحظة :
هذه قصة حقيقية : حيث قام الجنرال (وليام ماير) المحلّل النفسي في الجيش الأمريكي بحلّ لغز موت 38% من الأسرى الجنود الأمريكان في المعتقل كوريا الشمالية بعد انتهاء الحرب بينهما (من عام 1950 - 1953) بالرغم من ان مخيّم الإعتقال كان يتوفّر فيه كل المواصفات الدولية الإنسانية للسجون , كما إنها لم تكن محاطة بالأسلاك الشائكة ولا بحراسات مشدّدة ، ومع ذلك لم يحاول أي جندي أسير الهرب من هناك ! ورغم عدم ارتكاب الكوريون لأيّ مخالفة إنسانية , مع هذا كان أعداد الموتى من الأسرى داخل هذا المخيم أكثر بكثير من أيّ سجنٍ آخر ! 

وتوصّل الجنرال لاحقاً الى تحليلٍ مفصّل لوسائل التعذيب النفسية الثلاثة التي استخدمت هناك , والتي أدّت لوفاة الجنود بصورة طبيعية دون الحاجة لاستخدام أيٍّ من أدوات التعذيب الأخرى ! 

رابط القصة :
https://arabic.rt.com/news/828702-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%82%D8%AA%D9%84%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D9%89-%D8%A8%D8%A8%D8%B7%D8%A1/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...