تأليف : امل شانوحة
المرآة المعكوسة
نظرت الطبيبة النفسية الى ساعتها , قائلةً :
- إنتهى وقتك , سنكمل جلستك العلاجية بعد ثلاثة ايام .. الى اللقاء
وخرجت المريضة من الغرفة ..
***
بعد قليل .. دخل رجلٌ مسن , عرّف عن نفسه كمحاسب متقاعد لشركةٍ تجارية ..
فقالت الطبيبة وهي تفتح دفترها :
- إستلقي على الكنبة لوّ سمحت
- لا داعي لذلك , كل ما احتاجه كوب من القهوة ..
- كما تشاء
واثناء إرتشاف قهوته , سرد مشكلته :
- زوجتي المرحومة كانت ايضاً طبيبة نفسية
- أحقاً !
العجوز : نعم , أتدرين كيف تقابلنا ؟
- كيف ؟
- كنت احد مرضاها , وأعجبت بها منذ اللحظة الأولى
الدكتورة : هذا جميل .. وما المشكلة التي حاولت زوجتك حلّها اثناء علاجها لك ؟
- طفولتي البائسة .. لكن ليس هذا ما أحضرني اليك , بل أتيت للحديث عن حادثة وفاتها المُفجعة
- رحمها الله .. لكني أفضّل التكلّم عن مشاكل طفولتك اولاً
فتنهد العجوز بضيق , ثم قال :
- باختصار .. وجدتني الشرطة طفلاً رضيعاً قرب جثة امي المُدمنة في إحدى أزقّة المشردين بمنطقةٍ شعبية , وأرسلوني للميتم .. بقيت فيه حتى سن 18 , لعدم رغبة العائلات بتبني ولدٍ مشاغب مثلي!
- وما سبب إفتعالك المشاكل ؟
العجوز : موظفٌ لعين يحب مناداتي بإبن المدمنة , او اللقيط الذي لا يُعرف اباه ! فكنت أتعارك معه دائماً .. لكني الآن أشكره على معاملته القاسية
- لماذا ؟
- لأن إدارة الميتم ارسلتني لعيادة زوجتي لعلاج عصبيتي الزائدة
الدكتورة : لحظة ! الم تكن مراهقاً وقتها ؟
- نعم , هي تكبرني بعشرين سنة .. وهذا لم يمنعني من طلب يدها فور تخرّجي الجامعيّ , رغم تجاوزها سن الأربعين
- وهي .. الم يهمّها فارق العمر , ورأيّ المجتمع بزواجكما ؟!
العجوز : لا ابداً , كان حباً متبادلاً
- إكمل رجاءً
- عشقتها بجنون لدرجة انني أردّت دراسة علم النفس لأجلها.. لكنها رفضت إستقالتي من المحاسبة , رغم اني قضيت ساعاتٍ طويلة بتلخيص النظريات النفسية المعقدة من عدة مكتباتٍ عامة وجامعية , كما تعلمت على يد بروفيسور في الطب النفسيّ من خلال الإنترنت لكي أبهرها ..
الدكتورة مقاطعة : وهل كان هناك انترنت في شبابك ؟!
فارتبك العجوز , وحاول تغير الموضوع :
- لم تسأليني عن حادثة وفاة زوجتي ؟
- ومالذي حصل ؟
العجوز بحزن : إحترق منزلي , فماتت مع ابني المعاق
- كيف ؟
- إهمالٌ مني
- إشرح اكثر
العجوز : في ذلك اليوم , لازمت زوجتي الفراش بعد إصابتها بنزلة برد .. فتركت الشوربة على النار , وذهبت لنشر الغسيل في الحديقة , فأنا احب مساعدتها ... ولم انتبه لإبني الذي اقترب بكرسيه المتحرّك من الموقد , ويبدو انه ..
- عفواً على المقاطعة .. كم عمر ابنك ؟
- 6 سنوات
- إكمل القصة
العجوز : أظنه أدار مفتاح الموقد , مما جعل الغاز يتسرّب داخل المنزل الذي أغلقت جميع نوافذه لتدفئة زوجتي المريضة .. وحصلت الكارثة اثناء إنشغالي بالحديث مع جاري ..
- وما سبّب إندلاع الحريق ؟
- إتصالٌ على الهاتف الأرضيّ .. فالمحقّق أخبرني إن سلكه العاري أصدر شرارةً كهربائية سبّبت الحريق ..
- الم تدخل لإنقاذهما ؟
العجوز : أصبت بالذهول والصدمة بعد تحطّم جميع النوافذ بقوة إنفجار انبوبة الغاز .. (ثم خنقته العبرة) .. أذكر انني رأيت الناس تركض نحو منزلي , كأنه تصويرٌ بطيء !
فشردت الطبيبة قليلاً , ثم قالت : تماماً كالأفلام !
العجوز بحماس : بالضبط !! هل تذكّرتي شيئاً ؟
الطبيبة باستغراب : عفواً !
العجوز : هل قصتي ذكّرتك بحادثة حصلت مع عائلتك ؟
- لا ! انا عزباء
- أمتأكدة ؟
الدكتورة بعصبية : لما تتكلّم معي هكذا ؟! .. رجاءً ركّز على مشاكلك , ودعك مني
فاقترب منها ليعطيها ورقة بها مسألة رياضية معقدة , قائلاً :
- أتحدّاك ان تحلّيها
وقبل ان تستوعب الطبيبة ما يحصل ! أخذت قلمها وحلّت المسألة بكل سهولة..
فقال لها :
- مازلتي بارعة , ليتك بقيتي محاسبة
- انا طبيبةٌ نفسيّة , وبارعة بعملي فقط
العجوز باستغراب : معقول لم تتذكّري شيئاً بعد ؟!
الدكتورة بغضب : ما مشكلتك يا رجل ؟!! تتكلّم معي وكأنك تعرف قصة حياتي !
- قلتِ قبل قليل شيئاً صحيحاً , ففي شبابي لم نحظى بالإنترنت مثلكم
- ماذا تقصد ؟!
فأخرج من حقيبته اوراقاً مصوّرة عن صفحته في الإنترنت ، حين درّسها نظريات علم النفس :
- كنت تراسليني كل مساء ، لأعلّمك كيفية حلّ مشاكل المرضى النفسية
فقالت الدكتورة باستغراب ، وهي تنظر لمحادثات الفيسبوك المصوّرة :
- هذه صفحتي بالفعل ! لكن لماذا أناقش محاسباً بمشاكل مرضايّ النفسية السرّية ؟!
فتنهّد العجوز بضيق : يا الهي ! حالتك أسوء مما ظننت ..
ثم أراها بطاقته المهنيّة , وصورةٌ قديمة :
- انا بروفيسور في الطبّ النفسي .. وهذه صورة الخرّيجين الأوائل في جامعتي ..(وأشار الى أحد الطلاب)..هل تذكرين هذا الشاب ؟
فتمعنت بالصورة جيداً , قبل أن تقول باستغراب :
- أظني أعرفه ! وكأني تكلّمت معه سابقاً .. في أيّ جامعة تعمل ؟ ولما أخبرتني انك محاسب ؟ هل لديك شهادتين ؟
العجوز بحزم : ضقت ذرعاً من نكرانك الماضي .. لهذا قرّرت إخبارك الحقيقة كاملةً .. بشرط !! أن لا تقاطعيني حتى إنهاء القصة , مفهوم ؟
فأومأت برأسها إيجاباً ..
وأضاء حاسوبه للدخول الى الفيسبوك .. ثم فتح الصور في صفحة طالبه : لترى الدكتورة صوراً تجمعها بذلك الشاب ! من بينها صورة زفافهما , وصورتها مع ابنها المعاق ..
الدكتورة بصدمة : لا أفهم شيئاً !
العجوز : ما أخبرتك به قبل قليل كانت قصتك انت .. فأنت خرّيجة محاسبة .. وتعالجتي نفسيّاً منذ مراهقتك حتى تخرّجك الجامعيّ , قبل زواجك بطبيبك الذي كان أحد تلاميذي المتفوقين ..
- لا ! لست مريضة ..
- لا تقاطعيني !! .. كنت بحثتي عني جاهداً الى أن وجدت إيميلي , فأنا استاذ زوجك المفضّل .. وأصرّيتي على تعلّم أصول المهنة , لتبهري زوجك المهووسة به .. رغم انني كنت نصحته بعدم الزواج من مريضته , فذلك يخالف اصول المهنة .. لكنه أخبرني انه يشفق على ماضيك الأليم
الدكتورة بعصبية : قلت لك !! لست مريضة
- يبدو حياتك في الميتم أثرّ كثيراً على اسلوب تفكيرك !
الدكتورة مقاطعة : لماذا تقلب الموازين , وتنسب مشاكلك اليّ ؟!
فأكمل غير مبالي بعصبيتها :
- هل خطّطت لقتل ابنك المعاق بعد تهديد زوجك بالطلاق والزواج بأخرى تنجب له اولاداً أصحّاء , بعد غضبه من علاجك مرضاه دون إذنه ؟.. ألهذا بقيتي في حديقة منزلك بحجّة نشر الغسيل , بعد فتحك أنبوبة الموقد ؟ .. ويبدو أن الإتصال المفاجىء الذي سبّب الحريق أفسد خطتك بقتل ابنك بالغاز , بعد ان جررتِ كرسيه المتحرّك الى المطبخ وهو نائم .. فالشرطة وجدت باب المطبخ مقفلاً بالمفتاح , ومسدود اسفله بقماشةٍ سميكة كي لا يتسرّب الغاز الى زوجك المريض النائم في الطابق العلويّ ! والذي نزل فزعاً لإنقاذ ابنه , ليموت معه في الحريق .. وهو ما أفقدك عقلك , اليس كذلك ؟
الطبيبة بغضب : ماهذا الهراء !! قلت لك انني عزباء .. (ووقفت مُشيرةً للباب) .. أخرج فوراً من عيادتي !!
- عزيزتي جاكلين .. هذه ليست عيادتك , بل غرفتك بمشفى المجانين .. ولولا شهادتي بالمحكمة وإخبارهم عن مشاكلك النفسيّة التي جعلتك مهووسة بزوجك الذي يكبرك بعشرين سنة , لأكملتِ حياتك في السجن .. فأنا بصعوبة أقنعت القاضي بفقدان ذاكرتك بعد موت عائلتك بإهمالٍ منك , رغم أن كل الأدلة تشير الى تخطيطك المُسبق لتخلّص من ابنك المعاق
- قلت أخرج فوراً من مكتبي !!
العجوز : للأسف , كنت ستكونين محاسبة مميزة لبراعتك في الحساب , لكن رغبتك الجامحة للحصول على زواجٍ مثاليّ أفسد كل شيء .. وانا زرتك اليوم على أمل ان تكوني إستعدّتِ جزءاً من ذاكرتك المفقودة , بعد شهرين من علاجك المكثّف هنا .. على كلٍ , أتمنى لك الشفاء العاجل
وبعد خروجه .. دخلت ممرّضة اليها , وهي تصرخ بعصبية :
- أسرقتي ردائي الأبيض ثانيةً !.. إخلعيه حالاً ايتها القاتلة !! الى متى ستتوهّمين انك طبيبة ؟.. وأكثر ما يغيظني !! إعطائك علاجات وحلول لمشاكل زميلاتك المجانين , كأنك خبيرة بهذا المجال !
فنظرت جاكلين اليها بلؤم :
- لن أغضب من مطلّقة , تعمل هنا طوال الوقت لنسيان اولادها الذين فضّلوا العيش مع والدهم .. لهذا حدّدت لك موعداً الثلاثاء القادم , للإستماع الى عقدك النفسيّة
فهجمت الممرّضة عليها بغضب : والله سأضربك ، أيتها المختلّة عقلياً !!
فأوقفتها الممرّضة الأخرى :
- أتركيها تعيش الدور , أعانها الله على ذاكرتها المشوّشة ..
وبعد خروجهما من الغرفة , نادت جاكلين بصوتٍ عالي :
- المريضة التالية !!
أستاذة أمل متى القصة الأخرى لقد تأخرتي على غير عادتك...وبالتوفيق
ردحذفسأحاول غداً بإذن الله نشر قصة جديدة , آسفة على التأخير
حذفالنهاية لم اتوقعها هكذا ... الحياة بها مفارقات مؤلمه ... بانتظار المزيد
ردحذفإبداع.
ردحذفمٕـن رأيي يــجب أنـت تـستفــيدي مـن موهبتك الرائــعة..وبالتـوفـيق لک..تحيـاتي لـكي مــنن ليبيا.(◍•ᴗ•◍)✧*。
ردحذفمصدومه من كمية الروعه
ردحذفبالحقيقة صورة القصة وكيفية نظر العجوز باشمئزاز للطبيبة ، هي التي جعلتني اكتب هذه القصة .. سعيدة انها اعجبتك
حذف