الجمعة، 7 أغسطس 2020

طبيبة مع وقف التنفيذ

تأليف : امل شانوحة

المرآة المعكوسة


نظرت الطبيبة النفسية الى ساعتها , قائلةً :
- إنتهى وقتك , سنكمل جلستك العلاجية بعد ثلاثة ايام .. الى اللقاء
وخرجت المريضة من الغرفة .. 
***

بعد قليل .. دخل رجلٌ مسن , عرّف عن نفسه كمحاسب متقاعد لشركةٍ تجارية .. 
فقالت الطبيبة وهي تفتح دفترها :
- إستلقي على الكنبة لوّ سمحت
- لا داعي لذلك , كل ما احتاجه كوب من القهوة ..
- كما تشاء 

واثناء إرتشاف قهوته , سرد مشكلته :
- زوجتي المرحومة كانت ايضاً طبيبة نفسية  
- أحقاً !
العجوز : نعم , أتدرين كيف تقابلنا ؟
- كيف ؟
- كنت احد مرضاها , وأعجبت بها منذ اللحظة الأولى 
الدكتورة : هذا جميل .. وما المشكلة التي حاولت زوجتك حلّها اثناء علاجها لك ؟
- طفولتي البائسة .. لكن ليس هذا ما أحضرني اليك , بل أتيت للحديث عن حادثة وفاتها المُفجعة
- رحمها الله .. لكني أفضّل التكلّم عن مشاكل طفولتك اولاً  

فتنهد العجوز بضيق , ثم قال :
- باختصار .. وجدتني الشرطة طفلاً رضيعاً قرب جثة امي المُدمنة في إحدى أزقّة المشردين بمنطقةٍ شعبية , وأرسلوني للميتم .. بقيت فيه حتى سن 18 , لعدم رغبة العائلات بتبني ولدٍ مشاغب مثلي! 
- وما سبب إفتعالك المشاكل ؟
العجوز : موظفٌ لعين يحب مناداتي بإبن المدمنة , او اللقيط الذي لا يُعرف اباه ! فكنت أتعارك معه دائماً .. لكني الآن أشكره على معاملته القاسية 
- لماذا ؟
- لأن إدارة الميتم ارسلتني لعيادة زوجتي لعلاج عصبيتي الزائدة 

الدكتورة : لحظة ! الم تكن مراهقاً وقتها ؟
- نعم , هي تكبرني بعشرين سنة .. وهذا لم يمنعني من طلب يدها فور تخرّجي الجامعيّ , رغم تجاوزها سن الأربعين  
- وهي .. الم يهمّها فارق العمر , ورأيّ المجتمع بزواجكما ؟!
العجوز : لا ابداً , كان حباً متبادلاً
- إكمل رجاءً 
- عشقتها بجنون لدرجة انني أردّت دراسة علم النفس لأجلها.. لكنها رفضت إستقالتي من المحاسبة , رغم اني قضيت ساعاتٍ طويلة بتلخيص النظريات النفسية المعقدة من عدة مكتباتٍ عامة وجامعية , كما تعلمت على يد بروفيسور في الطب النفسيّ من خلال الإنترنت  لكي أبهرها .. 

الدكتورة مقاطعة : وهل كان هناك انترنت في شبابك ؟!
فارتبك العجوز , وحاول تغير الموضوع : 
- لم تسأليني عن حادثة وفاة زوجتي ؟ 
- ومالذي حصل ؟
العجوز بحزن : إحترق منزلي , فماتت مع ابني المعاق 
- كيف ؟
- إهمالٌ مني 
- إشرح اكثر
العجوز : في ذلك اليوم , لازمت زوجتي الفراش بعد إصابتها بنزلة برد .. فتركت الشوربة على النار , وذهبت لنشر الغسيل في الحديقة , فأنا احب مساعدتها ... ولم انتبه لإبني الذي اقترب بكرسيه المتحرّك من الموقد , ويبدو انه ..
- عفواً على المقاطعة .. كم عمر ابنك ؟
- 6 سنوات
- إكمل القصة 

العجوز : أظنه أدار مفتاح الموقد , مما جعل الغاز يتسرّب داخل المنزل الذي أغلقت جميع نوافذه لتدفئة زوجتي المريضة .. وحصلت الكارثة اثناء إنشغالي بالحديث مع جاري .. 
- وما سبّب إندلاع الحريق ؟
- إتصالٌ على الهاتف الأرضيّ .. فالمحقّق أخبرني إن سلكه العاري أصدر شرارةً كهربائية سبّبت الحريق .. 
- الم تدخل لإنقاذهما ؟
العجوز : أصبت بالذهول والصدمة بعد تحطّم جميع النوافذ بقوة إنفجار انبوبة الغاز .. (ثم خنقته العبرة) .. أذكر انني رأيت الناس تركض نحو منزلي , كأنه تصويرٌ بطيء ! 

فشردت الطبيبة قليلاً , ثم قالت : تماماً كالأفلام !
العجوز بحماس : بالضبط !! هل تذكّرتي شيئاً ؟
الطبيبة باستغراب : عفواً ! 
العجوز : هل قصتي ذكّرتك بحادثة حصلت مع عائلتك ؟
- لا ! انا عزباء 
- أمتأكدة ؟
الدكتورة بعصبية : لما تتكلّم معي هكذا ؟! .. رجاءً ركّز على مشاكلك , ودعك مني

فاقترب منها ليعطيها ورقة بها مسألة رياضية معقدة , قائلاً : 
- أتحدّاك ان تحلّيها 
وقبل ان تستوعب الطبيبة ما يحصل ! أخذت قلمها وحلّت المسألة بكل سهولة.. 
فقال لها :
- مازلتي بارعة , ليتك بقيتي محاسبة
- انا طبيبةٌ نفسيّة , وبارعة بعملي فقط  
العجوز باستغراب : معقول لم تتذكّري شيئاً بعد ؟!
الدكتورة بغضب : ما مشكلتك يا رجل ؟!! تتكلّم معي وكأنك تعرف قصة حياتي !
- قلتِ قبل قليل شيئاً صحيحاً , ففي شبابي لم نحظى بالإنترنت مثلكم
- ماذا تقصد ؟!

فأخرج من حقيبته اوراقاً مصوّرة عن صفحته في الإنترنت ، حين درّسها نظريات علم النفس : 
- كنت تراسليني كل مساء ، لأعلّمك كيفية حلّ مشاكل المرضى النفسية
فقالت الدكتورة باستغراب ، وهي تنظر لمحادثات الفيسبوك المصوّرة : 
- هذه صفحتي بالفعل ! لكن لماذا أناقش محاسباً بمشاكل مرضايّ النفسية السرّية ؟!

فتنهّد العجوز بضيق : يا الهي ! حالتك أسوء مما ظننت .. 
ثم أراها بطاقته المهنيّة , وصورةٌ قديمة :
- انا بروفيسور في الطبّ النفسي .. وهذه صورة الخرّيجين الأوائل في جامعتي ..(وأشار الى أحد الطلاب)..هل تذكرين هذا الشاب ؟

فتمعنت بالصورة جيداً , قبل أن تقول باستغراب :
- أظني أعرفه ! وكأني تكلّمت معه سابقاً .. في أيّ جامعة تعمل ؟ ولما أخبرتني انك محاسب ؟ هل لديك شهادتين ؟
العجوز بحزم : ضقت ذرعاً من نكرانك الماضي .. لهذا قرّرت إخبارك الحقيقة كاملةً .. بشرط !! أن لا تقاطعيني حتى إنهاء القصة , مفهوم ؟ 
فأومأت برأسها إيجاباً ..

وأضاء حاسوبه للدخول الى الفيسبوك .. ثم فتح الصور في صفحة طالبه : لترى الدكتورة صوراً تجمعها بذلك الشاب ! من بينها صورة زفافهما , وصورتها مع ابنها المعاق ..
الدكتورة بصدمة : لا أفهم شيئاً !
العجوز : ما أخبرتك به قبل قليل كانت قصتك انت .. فأنت خرّيجة محاسبة .. وتعالجتي نفسيّاً منذ مراهقتك حتى تخرّجك الجامعيّ , قبل زواجك بطبيبك الذي كان أحد تلاميذي المتفوقين ..
- لا ! لست مريضة ..
- لا تقاطعيني !! .. كنت بحثتي عني جاهداً الى أن وجدت إيميلي , فأنا استاذ زوجك المفضّل .. وأصرّيتي على تعلّم أصول المهنة , لتبهري زوجك المهووسة به .. رغم انني كنت نصحته بعدم الزواج من مريضته , فذلك يخالف اصول المهنة .. لكنه أخبرني انه يشفق على ماضيك الأليم  
الدكتورة بعصبية : قلت لك !! لست مريضة 
- يبدو حياتك في الميتم أثرّ كثيراً على اسلوب تفكيرك ! 
الدكتورة مقاطعة : لماذا تقلب الموازين , وتنسب مشاكلك اليّ ؟! 

فأكمل غير مبالي بعصبيتها :
- هل خطّطت لقتل ابنك المعاق بعد تهديد زوجك بالطلاق والزواج بأخرى تنجب له اولاداً أصحّاء , بعد غضبه من علاجك مرضاه دون إذنه ؟.. ألهذا بقيتي في حديقة منزلك بحجّة نشر الغسيل , بعد فتحك أنبوبة الموقد ؟ .. ويبدو أن الإتصال المفاجىء الذي سبّب الحريق أفسد خطتك بقتل ابنك بالغاز , بعد ان جررتِ كرسيه المتحرّك الى المطبخ وهو نائم .. فالشرطة وجدت باب المطبخ مقفلاً بالمفتاح , ومسدود اسفله بقماشةٍ سميكة كي لا يتسرّب الغاز الى زوجك المريض النائم في الطابق العلويّ ! والذي نزل فزعاً لإنقاذ ابنه , ليموت معه في الحريق .. وهو ما أفقدك عقلك , اليس كذلك ؟ 
الطبيبة بغضب : ماهذا الهراء !! قلت لك انني عزباء .. (ووقفت مُشيرةً للباب) .. أخرج فوراً من عيادتي !!
- عزيزتي جاكلين .. هذه ليست عيادتك , بل غرفتك بمشفى المجانين .. ولولا شهادتي بالمحكمة وإخبارهم عن مشاكلك النفسيّة التي جعلتك مهووسة بزوجك الذي يكبرك بعشرين سنة , لأكملتِ حياتك في السجن .. فأنا بصعوبة أقنعت القاضي بفقدان ذاكرتك بعد موت عائلتك بإهمالٍ منك , رغم أن كل الأدلة تشير الى تخطيطك المُسبق لتخلّص من ابنك المعاق 
- قلت أخرج فوراً من مكتبي !! 

العجوز : للأسف , كنت ستكونين محاسبة مميزة لبراعتك في الحساب , لكن رغبتك الجامحة للحصول على زواجٍ مثاليّ أفسد كل شيء .. وانا زرتك اليوم على أمل ان تكوني إستعدّتِ جزءاً من ذاكرتك المفقودة , بعد شهرين من علاجك المكثّف هنا .. على كلٍ , أتمنى لك الشفاء العاجل

وبعد خروجه .. دخلت ممرّضة اليها , وهي تصرخ بعصبية :
- أسرقتي ردائي الأبيض ثانيةً !.. إخلعيه حالاً ايتها القاتلة !! الى متى ستتوهّمين انك طبيبة ؟.. وأكثر ما يغيظني !! إعطائك علاجات وحلول لمشاكل زميلاتك المجانين , كأنك خبيرة بهذا المجال ! 
فنظرت جاكلين اليها بلؤم :
- لن أغضب من مطلّقة , تعمل هنا طوال الوقت لنسيان اولادها الذين فضّلوا العيش مع والدهم .. لهذا حدّدت لك موعداً الثلاثاء القادم , للإستماع الى عقدك النفسيّة  
فهجمت الممرّضة عليها بغضب : والله سأضربك ، أيتها المختلّة عقلياً !!
فأوقفتها الممرّضة الأخرى :
- أتركيها تعيش الدور , أعانها الله على ذاكرتها المشوّشة ..

وبعد خروجهما من الغرفة , نادت جاكلين بصوتٍ عالي :
- المريضة التالية !! 

هناك 7 تعليقات:

  1. أستاذة أمل متى القصة الأخرى لقد تأخرتي على غير عادتك...وبالتوفيق

    ردحذف
    الردود
    1. سأحاول غداً بإذن الله نشر قصة جديدة , آسفة على التأخير

      حذف
  2. النهاية لم اتوقعها هكذا ... الحياة بها مفارقات مؤلمه ... بانتظار المزيد

    ردحذف
  3. مٕـن رأيي يــجب أنـت تـستفــيدي مـن موهبتك الرائــعة..وبالتـوفـيق لک..تحيـاتي لـكي مــنن ليبيا.⁦(◍•ᴗ•◍)✧*。⁩

    ردحذف
  4. مصدومه من كمية الروعه

    ردحذف
    الردود
    1. بالحقيقة صورة القصة وكيفية نظر العجوز باشمئزاز للطبيبة ، هي التي جعلتني اكتب هذه القصة .. سعيدة انها اعجبتك

      حذف

الأدلة الجرمية

كتابة : امل شانوحة    مستودع الشرطة في مستودع مركز الشرطة بالعاصمة ، رُصّت صناديق بلاستيكيّة فيها ادوات استخدمت بجرائم قتل منذ بداية العام.....