تأليف : امل شانوحة
أسير الروح
في آخر الليل .. عاد مايكل الى منزله ، لتستقبله امه مُعاتبة :
- لما تأخّرت كل هذا الوقت ؟! أقلقتني عليك .. ولما لا تردّ على جوالك ؟
- امي .. هذا هو اليوم الوحيد بالسنة أستطيع الخروج فيه من المنزل ، دون إخفاء وجهي بالقناع القماشيّ الذي صنعته لي
- ولما انت حزينٌ هكذا ؟!
مايكل بقهر : لأن جارنا العجوز قال لي امام الأطفال : ألا تملك سوى هذا التنكّر المخيف ؟ إشتري زيّاً آخر غير وجه المسخ المقرف !!
- ارجوك لا تبكي يا بنيّ
فمسح دموعه بعصبية :
- هذه غلطتك امي !! كان عليك إجهاضي بعد أن أخبرك الطبيب إنني جنينٌ مشوّه ، لكنك أصرّيت على إنجابي .. وبسبب تمدّد جلد وجهي ، أصبحت أشبه الآيس كريم الذائب ! وطلقّك ابي ، وهجرتك عائلتك .. وانتقلنا الى هنا ، لأعيش طوال عمري مختبأً في المنزل .. وفي حال اضّطرت للخروج ، فأنا مُجبر على وضع قناعي السخيف الذي أخبرتِهم عنه : بأنه يحمي جلدي الرقيق من نور الشمس .. ولا يمكنني الظهور بشكلي الحقيقي الا في عيد الهالووين ، لدرجة إن الأطفال اعتادوا وجهيّ القبيح الذي يرونه مرةً كل سنة !
الأم بحماس : هذا جيد !! أصبح لديك اصدقاء جدّد
- كفى يا امي !! لا تحاولي مواساتي .. فأنت درّستني في المنزل ، حتى لا أعاني من تنمّر التلاميذ .. وهآ انا حصلت على شهادة الماجستير في الآداب من الحاسوب ، دون أملٍ في توظفي في أيّ مكان .. حتى انت تعلّمتي التمريض ، كي لا نذهب للمستشفى .. أتذكرين كم مرة قطّبت جروحي ، وحقنتني بالإبر .. إن كنت أنتِ تشعرين بالعار بالخروج معي ، فكيف ألوم الناس ؟!
الأم بحزن : مايكل ارجوك ، لا تقسو على نفسك
- الم تفكّري كيف سأعيش إن حصل لك مكروه ؟
- لا تقلق بهذا الشأن ، فكل معاشي التقاعديّ وضعته بحسابٍ بأسمك في البنك ..
مايكل مقاطعاً : وما الفائدة إن كنت لا أجرأ على الذهاب الى هناك ! أتمنى حقاً أن أموت قبلك ، لربما تعودين الى قريتك وعائلتك الذين هجرتِهم بسببي
وصعد السلّم متثاقلاً باتجاه غرفته ، فنادته :
- ألن تتعشّى معي ؟!!
مايكل بإحباط : جمعت الكثير من الحلوى .. سآكلها كلّها ، لربما رفعت معنوياتي المنخفضة ..
***
قبيل الفجر .. إستيقظت الأم بعد سماعها لشيءٍ يقع في الغرفة المجاورة ! فأسرعت الى هناك .. لتجد مايكل ينتفض بقوة ، بعد شنق نفسه بحلقة السقف
فصعدت الى سريره ومعها المقصّ .. واستطاعت قصّ الحبل ، قبل ثوانيٍ من تسليمه الروح !
وقامت بالتنفّس الإصطناعي ، وهي تصرخ عليه باكية :
- ماذا فعلت يا مجنون ؟! أتريد أن تقتلني ؟!!
ورغم انه ظلّ فاقداً للوعيّ ساعتين ، الا انها لم تستطعّ أخذه على المستشفى .. وسهرت بجانبه طوال اليوم ، لحين إسترداد وعيه .. فهي المرة الثانية التي يحاول فيها الإنتحار ، بعد قصّ شراين يده بعمر المراهقة .. حينها قطّبت جروحه ، لكنه تسبّب بعطب أعصاب إصبعيه الصغيرين الذي لم يعدّ باستطاعته تحريكهما بعد تلك الحادثة !
اما محاولة الشنق ، فأدّت لفقده النطق عدة ايام !
وبعد دراسة امه حالته الصحيّة على الإنترنت وإحضارها الأدوية المناسبة له ، إستطاع تخطّى المرحلة الصعبة بإعجوبة !
ووعدها بعدم تكرار الأمر ثانيةً ..
***
واستمرّت حياته بروتينٍ مملّ بضعة سنوات ، كان قليلاً ما يخرج فيها من منزله ، مع إلتزامه التامّ بوضع قناعه القماشيّ (بخياطته الرديئة) المعروف لدى اهل منطقته : أنه ضروري لوقايته من حروق الشمس !
وقد حاول الناس التقرّب منه .. لكنه قليل الكلام ، وعادةً ما يهرب منهم سريعاً !
***
في الآونة الأخيرة .. إزداد خروجه من المنزل لإحضار الأدوية والتسوّق من السوبرماركت ، بعد مرض امه المفاجىء ..
ليأتي اليوم الذي تحقّق فيه اسوء مخاوفه ، حين وجدها في فراشها دون حراك !
***
في جنازتها ..وقف مايكل المقنّع بعيداً عن الناس اثناء دفنها ..
وبدورهم قدّموا التعازي من بعيد : برفع اصواتهم كيّ لا يضايقوه
وهو شكرهم بهزّ رأسه ، إمتناناً على وقوفهم معه في هذه المحنة .
***
مضت اسابيع بعدها ، إنتهت فيها مؤونة منزله .. فبحث مايكل عن المال في غرفة امه ، لكنها لم يجد شيئاً في حقيبتها وأدراجها ..
فعلم إن عليه الذهاب للبنك لسحب المال .. ولأنه لا يوجد بنك في منطقته الفقيرة ، كان عليه الذهاب الى وسط البلد ..وهو لم يخرج من الحيّ الذي يسكنه من قبل ، مما أخافه جداً .. فالناس هناك لا تعلم شيئاً عن حالته المرضيّة ، وعن قناعه القماشيّ الذي سيخيفهم حتماً .. لكن لابد من المجازفة ..
فركب سيارة امه (التي علّمته على قيادتها امام شاطى ، في لياليٍ متتالية بعمر المراهقة) ليقودها أول مرة وحده ، والى مكانٍ خارج منطقته الشعبيّة
***
وخرج من بيته فجراً ، ليصل ظهراً الى وسط البلد .. وكما توقع ! تجمّد ناس في الطرقات ، فور خروجه من السيارة بقناعه الغريب (الذي يغطي معظم وجهه : ماعدا عينيه ، وفتحتين صغيرتين للتنفّس)
وفور دخوله البنك ، أوقفه الحارس .. فأخبره انه قادم لسحب المال فقط .. لكن الحارس رفع مسدسه في وجهه ، وسط ترقّب وخوف العملاء والموظفين ..وأمره بإزالة قناعه فوراً !!
فحاول مايكل التبرير له :
- أعاني من مشكلةٍ جلديّة ، وأتأذّى كثيراً من نور الشمس
الحارس : لا يوجد شمسٌ داخل البنك .. هيا إخلع القناع !!
وبعد إصراره على طلبه ، لم يجد مايكل حلاً : الا بأخذ العجوز التي بجانبه رهينة ، بعد دسّ يده في جيبه ..وغرز أصبعه في ظهرها ، لإيهام الجميع إنه يحمل مسدساً ! طالباً منهم الإنبطاح أرضاً ، فامتثلوا لأوامره وهم يرتجفون خوفاً .. بينما ظلّ الحارس يهدّده بالإستسلام ، وترك العجوز في حال سبيلها..
مايكل بغضب : لا اريد سوى مالي من حسابي الخاص ، الا تفهم !!
الحارس وهو مازال يوجّه مسدسه نحوه ، صارخاً بحزم :
- دعّ السيدة ، واخرج يدك من جيبك .. وأزلّ القناع عن وجهك ، لن أكرر كلامي ثانيةً !!
ففكّر مايكل بإبقاء العجوز رهينة ، لحين وصوله الى سيارته والعودة الى منطقته ..
لكن فور خروجه من باب البنك ، شعر بشيءٍ حارق يخترق ظهره .. ليخرّ على الأرض صريعاً .. وتعلو معها صرخات الذعر ممّن شهد الحادثة !
بعد هدوء الوضع .. تجمّع الناس حول الجثة المتواجدة خارج ابواب البنك .. وحين أزال الحارس قناع مايكل ، تراجعوا للخلف برعب من منظر وجهه المشوّه !
ليتفاجؤا بولدٍ صغير برفقة امه ، يشير اليه باكياً :
- لما قتلتم صديقي ؟!! هذا مايكل ، صاحب زيّ الآيس كريم الذائب الذي يلبسه كل عام في الهالووين .. هو طيبٌ جداً ، وجميع أصدقائي يحبونه
وكانت أم الصبي جارةً لوالدة مايكل ، فقالت بحزن :
- يا الهي ! قديماً سألت امه عن سبب طلاقها .. فأخبرتني انها أنجبت أخاً أصغر لمايكل ، وُلد مسخاً .. ورغم توفيه رضيعاً ، الا ان زوجها وعائلتها قاطعوها ، فانتقلت الى منطقتنا .. لم أكن أعرف انها تقصد مايكل المسكين !
***
وسرعان ما انشر الخبر في منطقته : بأن صاحب القناع القماشيّ ، قُتل ظلماً ..خاصة انهم لم يجدوا سلاحاً في جيبه ، وكان هناك حساباً مليئاً بالمال بإسمه في البنك !
وبدأت الناس تتناقل الأخبار والحكايات عنه ..
***
وفي يوم التأبين .. أخبرتهم سيدة : إنه أنقذها من متحرّشٍ بعد خروجها مساءً من عملها ، برميه الأحجار على المعتدي لحين هروبه
وقالت الأخرى : إنه أنقذ طفلها من الموت برداً عند خروجه ليلاً ، بعد نسيانها قفل الباب الخارجيّ لمنزلها .. وأعاده اليها .. مع استغرابها لبسه القناع (الحامي من الشمس) رغم تأخّر الوقت !
وأخبرتهم العجوز الفقيرة : إنه داوم على شراء الطعام لها كل شهر ، لخمس سنواتٍ متتالية !
وأقاموا له جنازةً حاشدة ، ودُفن بجانب قبر امه ..
***
وحين دخلوا غرفته في منزل امه.. وجدوا دفاتر بها أشعاره الأدبيّة ، حيث كان موهوباً بكتابة الشعر ! واعتاد التوقيع أسفل قصائده بإسم : ((أسير الروح))
فتعّهد رئيس البلدية بنشر كتابه ، بذات الإسم الذي لقّب به نفسه !
واصطفّت الناس طوابير لاستلام النسخة الأولى من كتابه الأدبيّ ، الذي طُبع على غلافه : صورة قناعه القماشيّ الذي عاش فيه 40 سنة من حياته البائسة !
*******
ملاحظة :
إستوحيت قصتي بعد مشاهدتي لهذا الفيديو المؤثّر :
الرابط :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق