الجمعة، 2 أبريل 2021

المسخ

 تأليف : امل شانوحة

أسير الروح 


في آخر الليل .. عاد مايكل الى منزله ، لتستقبله امه مُعاتبة :

- لما تأخّرت كل هذا الوقت ؟! أقلقتني عليك .. ولما لا تردّ على جوالك ؟

- امي .. هذا هو اليوم الوحيد بالسنة أستطيع الخروج فيه من المنزل ، دون إخفاء وجهي بالقناع القماشيّ الذي صنعته لي 

- ولما انت حزينٌ هكذا ؟!

مايكل بقهر : لأن جارنا العجوز قال لي امام الأطفال : ألا تملك سوى هذا التنكّر المخيف ؟ إشتري زيّاً آخر غير وجه المسخ المقرف !! 

- ارجوك لا تبكي يا بنيّ


فمسح دموعه بعصبية : 

- هذه غلطتك امي !! كان عليك إجهاضي بعد أن أخبرك الطبيب إنني جنينٌ مشوّه ، لكنك أصرّيت على إنجابي .. وبسبب تمدّد جلد وجهي ، أصبحت أشبه الآيس كريم الذائب ! وطلقّك ابي ، وهجرتك عائلتك .. وانتقلنا الى هنا ، لأعيش طوال عمري مختبأً في المنزل .. وفي حال اضّطرت للخروج ، فأنا مُجبر على وضع قناعي السخيف الذي أخبرتِهم عنه : بأنه يحمي جلدي الرقيق من نور الشمس .. ولا يمكنني الظهور بشكلي الحقيقي الا في عيد الهالووين ،  لدرجة إن الأطفال اعتادوا وجهيّ القبيح الذي يرونه مرةً كل سنة ! 


الأم بحماس : هذا جيد !! أصبح لديك اصدقاء جدّد

- كفى يا امي !! لا تحاولي مواساتي .. فأنت درّستني في المنزل ، حتى لا أعاني من تنمّر التلاميذ .. وهآ انا حصلت على شهادة الماجستير في الآداب من الحاسوب ، دون أملٍ في توظفي في أيّ مكان .. حتى انت تعلّمتي التمريض ، كي لا نذهب للمستشفى .. أتذكرين كم مرة قطّبت جروحي ، وحقنتني بالإبر .. إن كنت أنتِ تشعرين بالعار بالخروج معي ، فكيف ألوم الناس ؟!

الأم بحزن : مايكل ارجوك ، لا تقسو على نفسك 

- الم تفكّري كيف سأعيش إن حصل لك مكروه ؟

- لا تقلق بهذا الشأن ، فكل معاشي التقاعديّ وضعته بحسابٍ بأسمك في البنك ..

مايكل مقاطعاً : وما الفائدة إن كنت لا أجرأ على الذهاب الى هناك ! أتمنى حقاً أن أموت قبلك ، لربما تعودين الى قريتك وعائلتك الذين هجرتِهم بسببي


وصعد السلّم متثاقلاً باتجاه غرفته ، فنادته :

- ألن تتعشّى معي ؟!!

مايكل بإحباط : جمعت الكثير من الحلوى .. سآكلها كلّها ، لربما رفعت معنوياتي المنخفضة ..

***


قبيل الفجر .. إستيقظت الأم بعد سماعها لشيءٍ يقع في الغرفة المجاورة ! فأسرعت الى هناك .. لتجد مايكل ينتفض بقوة ، بعد شنق نفسه بحلقة السقف 


فصعدت الى سريره ومعها المقصّ .. واستطاعت قصّ الحبل ، قبل ثوانيٍ من تسليمه الروح !  

وقامت بالتنفّس الإصطناعي ، وهي تصرخ عليه باكية :

- ماذا فعلت يا مجنون ؟! أتريد أن تقتلني ؟!! 


ورغم انه ظلّ فاقداً للوعيّ ساعتين ، الا انها لم تستطعّ أخذه على المستشفى .. وسهرت بجانبه طوال اليوم ، لحين إسترداد وعيه .. فهي المرة الثانية التي يحاول فيها الإنتحار ، بعد قصّ شراين يده بعمر المراهقة .. حينها قطّبت جروحه ، لكنه تسبّب بعطب أعصاب إصبعيه الصغيرين الذي لم يعدّ باستطاعته تحريكهما بعد تلك الحادثة !


اما محاولة الشنق ، فأدّت لفقده النطق عدة ايام ! 

وبعد دراسة امه حالته الصحيّة على الإنترنت وإحضارها الأدوية المناسبة له ، إستطاع تخطّى المرحلة الصعبة بإعجوبة ! 

ووعدها بعدم تكرار الأمر ثانيةً ..

***


واستمرّت حياته بروتينٍ مملّ بضعة سنوات ، كان قليلاً ما يخرج فيها من منزله ، مع إلتزامه التامّ بوضع قناعه القماشيّ (بخياطته الرديئة) المعروف لدى اهل منطقته : أنه ضروري لوقايته من حروق الشمس ! 

وقد حاول الناس التقرّب منه .. لكنه قليل الكلام ، وعادةً ما يهرب منهم سريعاً !

***


في الآونة الأخيرة .. إزداد خروجه من المنزل لإحضار الأدوية والتسوّق من السوبرماركت ، بعد مرض امه المفاجىء .. 

ليأتي اليوم الذي تحقّق فيه اسوء مخاوفه ، حين وجدها في فراشها دون حراك ! 

***


في جنازتها ..وقف مايكل المقنّع بعيداً عن الناس اثناء دفنها ..

وبدورهم قدّموا التعازي من بعيد : برفع اصواتهم كيّ لا يضايقوه  

وهو شكرهم بهزّ رأسه ، إمتناناً على وقوفهم معه في هذه المحنة .

***


مضت اسابيع بعدها ، إنتهت فيها مؤونة منزله .. فبحث مايكل عن المال في غرفة امه ، لكنها لم يجد شيئاً في حقيبتها وأدراجها .. 


فعلم إن عليه الذهاب للبنك لسحب المال .. ولأنه لا يوجد بنك في منطقته الفقيرة ، كان عليه الذهاب الى وسط البلد ..وهو لم يخرج من الحيّ الذي يسكنه من قبل ، مما أخافه جداً .. فالناس هناك لا تعلم شيئاً عن حالته المرضيّة ، وعن قناعه القماشيّ الذي سيخيفهم حتماً .. لكن لابد من المجازفة .. 


فركب سيارة امه (التي علّمته على قيادتها امام شاطى ، في لياليٍ متتالية بعمر المراهقة) ليقودها أول مرة وحده ، والى مكانٍ خارج منطقته الشعبيّة 

***


وخرج من بيته فجراً ، ليصل ظهراً الى وسط البلد .. وكما توقع ! تجمّد ناس في الطرقات ، فور خروجه من السيارة بقناعه الغريب (الذي يغطي معظم وجهه : ماعدا عينيه ، وفتحتين صغيرتين للتنفّس) 


وفور دخوله البنك ، أوقفه الحارس .. فأخبره انه قادم لسحب المال فقط .. لكن الحارس رفع مسدسه في وجهه ، وسط ترقّب وخوف العملاء والموظفين ..وأمره بإزالة قناعه فوراً !! 

فحاول مايكل التبرير له :

- أعاني من مشكلةٍ جلديّة ، وأتأذّى كثيراً من نور الشمس

الحارس : لا يوجد شمسٌ داخل البنك .. هيا إخلع القناع !!


وبعد إصراره على طلبه ، لم يجد مايكل حلاً : الا بأخذ العجوز التي بجانبه رهينة ، بعد دسّ يده في جيبه ..وغرز أصبعه في ظهرها ، لإيهام الجميع إنه يحمل مسدساً ! طالباً منهم الإنبطاح أرضاً ، فامتثلوا لأوامره وهم يرتجفون خوفاً .. بينما ظلّ الحارس يهدّده بالإستسلام ، وترك العجوز في حال سبيلها.. 


مايكل بغضب : لا اريد سوى مالي من حسابي الخاص ، الا تفهم !!

الحارس وهو مازال يوجّه مسدسه نحوه ، صارخاً بحزم : 

- دعّ السيدة ، واخرج يدك من جيبك .. وأزلّ القناع عن وجهك ، لن أكرر كلامي ثانيةً !!


ففكّر مايكل بإبقاء العجوز رهينة ، لحين وصوله الى سيارته والعودة الى منطقته .. 

لكن فور خروجه من باب البنك ، شعر بشيءٍ حارق يخترق ظهره .. ليخرّ على الأرض صريعاً .. وتعلو معها صرخات الذعر ممّن شهد الحادثة ! 

  

بعد هدوء الوضع .. تجمّع الناس حول الجثة المتواجدة خارج ابواب البنك .. وحين أزال الحارس قناع مايكل ، تراجعوا للخلف برعب من منظر وجهه المشوّه ! 


ليتفاجؤا بولدٍ صغير برفقة امه ، يشير اليه باكياً :

- لما قتلتم صديقي ؟!! هذا مايكل ، صاحب زيّ الآيس كريم الذائب الذي يلبسه كل عام في الهالووين .. هو طيبٌ جداً ، وجميع أصدقائي يحبونه 


وكانت أم الصبي جارةً لوالدة مايكل ، فقالت بحزن :

- يا الهي ! قديماً سألت امه عن سبب طلاقها .. فأخبرتني انها أنجبت أخاً أصغر لمايكل ، وُلد مسخاً .. ورغم توفيه رضيعاً ، الا ان زوجها وعائلتها قاطعوها ، فانتقلت الى منطقتنا .. لم أكن أعرف انها تقصد مايكل المسكين !

***


وسرعان ما انشر الخبر في منطقته : بأن صاحب القناع القماشيّ ، قُتل ظلماً ..خاصة انهم لم يجدوا سلاحاً في جيبه ، وكان هناك حساباً مليئاً بالمال بإسمه في البنك !

وبدأت الناس تتناقل الأخبار والحكايات عنه .. 

***


وفي يوم التأبين .. أخبرتهم سيدة : إنه أنقذها من متحرّشٍ بعد خروجها مساءً من عملها ، برميه الأحجار على المعتدي لحين هروبه 

وقالت الأخرى : إنه أنقذ طفلها من الموت برداً عند خروجه ليلاً ، بعد نسيانها قفل الباب الخارجيّ لمنزلها .. وأعاده اليها .. مع استغرابها لبسه القناع (الحامي من الشمس) رغم تأخّر الوقت !

وأخبرتهم العجوز الفقيرة : إنه داوم على شراء الطعام لها كل شهر ، لخمس سنواتٍ متتالية ! 


وأقاموا له جنازةً حاشدة ، ودُفن بجانب قبر امه ..

***


وحين دخلوا غرفته في منزل امه.. وجدوا دفاتر بها أشعاره الأدبيّة ، حيث كان موهوباً بكتابة الشعر ! واعتاد التوقيع أسفل قصائده بإسم : ((أسير الروح))

فتعّهد رئيس البلدية بنشر كتابه ، بذات الإسم الذي لقّب به نفسه ! 


واصطفّت الناس طوابير لاستلام النسخة الأولى من كتابه الأدبيّ ، الذي طُبع على غلافه : صورة قناعه القماشيّ الذي عاش فيه 40 سنة من حياته البائسة ! 

*******


ملاحظة :

إستوحيت قصتي بعد مشاهدتي لهذا الفيديو المؤثّر :

الرابط :

https://www.youtube.com/watch?v=an0T_SiQPOM

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...