الخميس، 18 يوليو 2019

الموهبة الدفينة

تأليف : امل شانوحة

لا تتخلّى عن احلامك

اثناء إنشغال فؤاد ببيع الخردة مع عمّاله , سلّمه ساعي البريد دعوة لحضور حفل لمّ شمل طلّاب الثانوية القدامى في مدرسته القديمة 
وبعد قراءته البطاقة , أحسّ بغصّة في قلبه بعد استعادته لذكرى مؤلمة حصلت له منذ ثلاثين سنة..

فقال فؤاد في نفسه بحزن :
- أكيد اصدقائي أصبح منهم الطبيب والمهندس , وانا كل ما فعلته هو إدارة محل والدي .. ياله من إنجاز !
ومزّق الدعوة وهو يحبس دموعه ..
***

في المساء .. قادته رجلاه بغفلةٍ منه الى مدرسته القديمة التي وجد بابها مفتوحاً , حيث كان البوّاب وابنه يقومان بتزين المدرسة إستعداداً للحفل الذي سيُقام بنهاية الأسبوع .. وحين أخبر الحارس بأنه أحد الطلاّب القدامى , أذن له بالدخول ..

فصعد فؤاد الى صفّه القديم وجلس على طاولته , لتعود ذاكرته الى الوراء , وتتوقف عند اليوم الذي تغيّر فيه حياته , حين طلب منه الأستاذ أحمد قراءة موضوع التعبير .. 

فوقف فؤاد (المراهق) امام اصدقائه , قائلاً بثقة :
- أعذرني استاذ , لكني فضّلت كتابة الواجب بطريقة شعرٍ ألّفته بنفسي 
الأستاذ احمد باندهاش : أحقاً ! .. إذاً إسمعنا إيّاه
وبعد إلقائه القصيدة , قال أحدهم ساخراً :
- أتسمي كلماتك المبعثرة شعراً , ليتك لم تحلّ الواجب اصلاً
وضحك التلاميذ عليه .. 

فنظر فؤاد الى استاذه بنظرات استغاثة , لكنه تفاجأ به يبتسم لتعليقاتهم الساخرة ! وكانت صدمة كبيرة له , فهو قدوته واستاذه المفضّل 

فأعاد فؤاد كرّاسته الى حقيبته غاضباً , وخرج من الصفّ قائلاً :
- لن أعود الى هنا مجدداً !! فشكراً لتدميركم مستقبلي 
وقد حاول الإستاذ اللحاق به , لكنه ركض هارباً من المدرسة ..
***

قبل وصول فؤاد الى منزله , وجد محل والده مغلقاً ! 
فسأل جاره الذي أخبره بشفقة : 
- امك صدمتها سيارة , وهي في المستشفى بحالةٍ حرجة ..فاذهب لتطمئن عليها يا بنيّ

فرمى فؤاد حقيبته بالشارع , وركض مسرعاً باتجاه المستشفى ..
وهناك أخبرهم الطبيب انها بحاجة الى عدّة عمليات للنجاة بحياتها .. لهذا رضخ فؤاد لاقتراح والده بالعمل معه لتوفير المال .. وقرّر ترك المدرسة نهائياً رغم انه من اوائل الطلاّب , وأكثرهم تميزاً بمواد اللغة العربية ..
***

الا ان امه توفيت في العناية المشدّدة .. وأكمل فؤاد حياته بالعمل مع والده في تجارة الخردة .. 

وحين أصبح شاباً توفي والده , واستلم عنه إدارة المحل ..
ومع الأيام .. إكتسب قساوة والده مع العمّال , وأصبح تاجراً معروفاً في المنطقة .. وكانت حياته تسير على ما يرام , الى ان وصلته تلك الدعوة التي أعادت الغصّة الى قلبه ..

واثناء سرحانه في ذكريات الماضي (وهو يجلس على طاولته في صفّه القديم) إقترب منه ابن البوّاب قائلاً :
- آسف استاذ , لكن الوقت تأخّر وعلينا إغلاق المدرسة
فؤاد : آه فهمت , سأخرج حالاً
- هل ستأتي الى الحفلة ؟
فتنهّد فؤاد بضيق : لا أظن ذلك 
المراهق : لماذا ! الا تريد رؤية زملائك واساتذتك ؟
- ليس حقاً ..فأنا تركت المدرسة قبل التخرّج
المراهق بحزن : وانا ايضاً أفكّر بترك المدرسة , فأصدقائي يعايرونني دائماً بأني ابن البوّاب

فؤاد بحزم : إيّاك ان تفعل , أسمعت !! ستندم كثيراً .. فأنا مثلاً لوّ أكملت دراستي , لكنت أصبحت شاعراً مهمّاً .. ربما رجلاً فقيراً , لكني سأكون أسعد من الآن .. لهذا لا تهتم بأقوال الآخرين , فعدم حصولك على شهادة ستبقى غصّة في قلبك للأبد
المراهق : أهذا يعني انك ستحضر الحفل ؟
ففكّر فؤاد قليلاً , قبل ان يقول :
- لا ادري ... ربما أفعل  
وخرج من المدرسة وهو مشوّش التفكير
***

في يوم الحفلة .. حاول فؤاد تجنّب الجميع الذين حضروا بأطقمهم الرسمية الفخمة التي تُظهر بأنهم حصلوا على أعلى الشهادات والوظائف .. وترك الجُموع , ليذهب الى صفّه القديم .. 
وبعد ان جلس هناك , أسند رأسه على طاولته وهو يقول بيأس :
- لما أتيت الى هنا اصلاً ؟!

بعد قليل .. سمع صوت عكّاز يقترب منه ! 
وحين رفع رأسه , وجد رجلاً عجوزاً يقف قربه ويقول :
- تلميذي النجيب ... فؤاد ! عرفتك من وحمة يدك .. 
فؤاد بدهشة : من ! الأستاذ احمد ؟ .. يا الهي ! لم اكن اعرف انك.. (وسكت)
فأكمل الأستاذ بابتسامة : انني مازلت حياً 
- لم أقصد ذلك , أطال الله عمرك
وقام وقبّل رأسه .. 

فأخرج الأستاذ من حقيبته دفتراً قديماً , وأعطاه لفؤاد : 
- أتدري انني اقترحت على المدير فكرة الحفلة لكيّ أراك وأعيد كرّاستك اليك 
وحين تصفّح فؤاد الدفتر , قال باستغراب : 
- آه ! هذا دفتري الذي كنت أكتب فيه الشعر وانا طالب
الأستاذ : نعم , نسيته في درجك حين هربت من المدرسة .. 
- كنت جمعت فيه أجمل اشعاري , ونويت إهدائه لك بعد ان تمدحني امامهم , لكنك ... (وسكت)
الأستاذ بنبرةٍ حزينة : خذلتك
فؤاد بقهر : كنت أنوي الغياب ليومين .. لكن عدم مساندتك لي ذلك اليوم , أفقدني حماسي للدراسة .. فأنت كنت مثلي الأعلى في الحياة 

الأستاذ : وقتها تردّدت في مدحك لوجود أخطاء أدبية وإعرابية في شعرك , لكنه كان مميزاً بالنسبة لعمرك , كما بقيّة اشعارك التي قرأتها لاحقاً .. ولم ادرك انك تركت المدرسة نهائياً الا متأخراً , فقد أسرع والدك بسحب ملفك , لهذا لم استطع الوصول اليك .. ومازلت الى اليوم أشعر بالذنب حيالك .. وأرغب حقاً في سماع إنك سامحتني , ليرتاح ضميري !
فسكت فؤاد بقهر , وهو يشيح بنظره بعيداً .. 

فقال الأستاذ :
- على الأقل لا تترك الشعر , فهي موهبتك الحقيقية .. وحاول الكتابة مجدّداً , كيّ لا تبقى حسرة في قلبي يا بنيّ .. 
فأومأ فؤاد برأسه إيجاباً , وقبّل رأس استاذه .. 
ثم خرج من المدرسة وهو يكتم دموعه ..
***

في تلك الليلة .. أعاد فؤاد قراءة اشعاره القديمة مراراً , مُتعجباً من فصاحته في عمر المراهقة ! ممّا شجّعه على المحاولة من جديد 
وسهر حتى الصباح في كتابة ابياتٍ شعريّة , لكنه لم يستطع تنظيم بيتين متتاليين .. 

وبعد ان تملّكه اليأس والتعب , مزّق اوراقه وهو يقول بقهر : 
- يبدو ان موهبتي ضاعت ذلك اليوم , ولن تعود ثانيةً
ثم نظر لساعته : اللعنة ! لقد تأخّر الوقت , ولديّ غداً إجتماعاً مهم مع تجّار الخردة..
فوضع دفتره القديم في الدرج وهو يقول : كانت موهبةً جميلة , لكن الدنيا تصرّ على هدم احلامي .. وهذا هو قدري 

ثم ذهب لينام , محاولاً تجاهل كلمات استاذه التي أثّرت به كثيراً .. ومسح دمعته بعد ان أيقن عجزه عن تحقيق حلم إستاذه بقراءة قصيدة جديدة له , كما وعده !
***

خلال الأسابيع التالية .. حاول الأستاذ احمد الإتصال به اكثر من مرة , لكن فؤاد لم يجيبه لأنه يعرف مُسبقاً ما سيطلبه منه 

وفي آخر إتصالٍ منه , أطفأ فؤاد جوّاله بغضب وهو يقول : 
- يالا عنادك يا استاذ ! ثلاثة شهور وانت تلاحقني , متى ستستلم وتتركني وشأني , فطالبك اللعين لم يعد شاعراً !!!
***

في اليوم التالي .. وصله إتصال من رقمٍ لا يعرفه ! وحين ردّ عليه , كان ابن الأستاذ احمد يخبره بوفاة والده .. 

وانهار فؤاد باكياً بعد معرفته بأن استاذه إتصل عليه قبل دخوله العملية التي توفي فيها !
***

في الصباح الباكر , ذهب الى المقبرة .. وبعد دفن الأستاذ احمد , جلس في صالة العزاء التي اكتظت بطلاّبه القدامى من اصدقاء فؤاد الذين تعرّفوا عليه ..

وبعد ساعة .. لم يجد نفسه الا وهو يقف امامهم , لتتفتّق قريحته بأبيات رثاءٍ عن معلمه , لاقت صدى طيباً عند المستمعين 
فتوجّه اليه ابن الأستاذ أحمد والدموع تترقرق في عينيه , وقبّل رأسه وهو يقول :
- كانت ثقة ابي في مكانها حين قال عنك : بأنك تلميذه الموهوب الذي سيرفع رأسه بين الناس 

فخرج فؤاد مسرعاً من العزاء وقد اختلطت عليه المشاعر .. 
وعاد الى بيته وكلّه تصميم على تطوير موهبته التي استعادها أخيراً , بعد إلقائه لتلك القصيدة المؤثرة التي لم ينظّمها مُسبقاً !  
***

مع بداية السنة .. شارك صديقه بتجارة الخردة كي يتفرّغ للكتابة .. وفتح مدونة على الإنترنت لكتابة قصائده , التي سرعان ما حصلت على الكثير من التعليقات المؤيدة لمحبيّ الشعر

وبعد نشر ديوانه الأول الذي كان الأكثر مبيعاً بين كتب الأدب , حصل على مقابلته التلفزيونية الأولى التي لم ينسى فيها شكر الأستاذ احمد الذي اعاده الى جادة الصواب ..
***

وبعد المقابلة , توجّه مباشرةً الى المقبرة .. ووضع نسخة عن كتابه فوق قبر استاذه والدموع تسيل على وجنتيه.. 

وبعد قراءته الفاتحة , قال بصوتٍ متهدّج :
- هآقد بدأت مسيرتي الأدبية , ونشرت كتابي الأول الذي بإذن الله لن يكون الأخير .. وكتبت الإهداء لك كما وعدتك .. فارقد بسلام , فقد سامحتك دنيا وآخرة يا استاذي الفاضل 

هناك 3 تعليقات:

  1. تعبير جميل عن الشعر
    قصه وليس بها الا التصميم
    ابدعتي اسمو على اسمي

    ردحذف
  2. رواية رائعة كالعادة ...

    ردحذف
  3. القصة رائعة بحق و لا غبار عليها😊❤
    ابدعتي يا استاذتي💚
    و شكراً جزيلاً على هذه القصة
    ف أنا الان استاذ ربما يصادفني طالب ك فؤاد
    صدقيني يا استاذتي لن أخذله و لن اسكت لمن يسخر عليه😊

    ردحذف

الحب السرّي

كتابة : امل شانوحة  رئيس الخدم والخانم   شاهدت بالصدفة الخادمة وهي تخرج مُرتبكة من غرفة كبير الخدم بعد تنظيفها..  فسألتها حِراء (زوجة مالك ا...